«أعذرَ الله إلى امرِئٍ أخَّرَ أجلَهُ، حتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً».
رواه البخاري برقم (6419)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
غريب الحديث
«أعذرَ»:
أي: سلب عُذر ذلك الإنسان، فلم يُبْقِ له عذرًا يعتذرُ به. التيسير، للمناوي (1/ 169).
قال ابن الأثير-رحمه الله-:
يُقال: أَعذر الرجل إِذا بلغ أَقصى الغاية من العُذر، وقد يكون أَعذر بمعنى: عَذَرَ. النهاية، لابن الأثير (3/196- 197).
شرح الحديث
قوله: «أعذر الله إلى امرئ»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
أي: أعذر إليه غاية الإعذار، الذي لا إعذار بعده. شرح صحيح البخاري (10/ 152، 153).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«أعذر» أي: أقام العذر في تطويل التعمير. كشف المشكل (3/ 532).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
أي: لَمْ يُبْقِ فيه موضعًا للاعتذار حيث أَمهله طول هذه المُدة ولم يعتذر. النهاية (3/ 196، 197).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
المعنى: أنه أفضى بعذره إليه، فلم يُبْقِ له عذرًا، يقال: أعذر الرجل إلى فلان، أي: بلغ به أقصى العذر، ومنه قولهم: أعذر من أنذر، أي: أتى بالعذر أو أظهره، وهذا مجاز من القول، فإن العذر لا يتوجه على الله تعالى، وإنما يتوجه له على العبيد.
وحقيقة المعنى فيه: أن الله لم يترك له شيئًا في الاعتذار يتمسك به. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 1112).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال العلماء: معناه: لم يترك له عذرًا؛ إذ أمهله هذه المدة، يقال: أعذر الرجل إذا بلغ الغاية في العذر. رياض الصالحين (ص: 57).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
أي: أفضى بعذره إليه، فلم يُبْقِ له عذرًا، ولم يترك له ما يتشبث به للاعتذار. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (3/ 299).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أعذر الله إلى امرئ» الهمزة هنا همزة الإزالة والسلب؛ يعني: أزال الله عذر من بلغ في العمر إلى ستين سنة. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 301).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
أي: أزال الله عذره، فلا ينبغي له حينئذٍ إلا الاستغفار والطاعة، والإقبال إلى الآخرة بالكلية، ولا يكون له على الله بعد ذلك حجة، فالهمزة للسلب، وقيل: معناه: أقام الله تعالى عذره في تطويل عمره، وتمكينه من الطاعة مدة مديدة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (22/ 196).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
أي: أعذر الله إليه غاية الإعذار الذي لا إعذار بعده، أي: أقام العذر في تطويل العمر، وأبانه له، فلم يبق له عذر، ولا حجة. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/ 413).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
الإعذار إزالة العُذر، والمعنى: أنه لم يبق له اعتذار، كأن يقول: لو مُدَّ لي في الأجل لفعلت ما أُمرت به، يقال: أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العُذر ومكَّنه منه، وإذا لم يكن له عُذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعُمر الذي حصل له، فلا ينبغي له حينئذٍ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية. ونسبة الإعذار إلى الله مجازية، والمعنى: أن الله لم يترك للعبد سببًا في الاعتذار يتمسك به.
والحاصل: أنه لا يُعاقب إلا بعد حُجّة. فتح الباري (11/ 240).
وقال السندي -رحمه الله-:
وبالجملة: فالمقصود: أنَّ مَن بلغ ستين إذا لم يتب، ومات على المعصية، فلو عذَّبه الله تعالى لكان تطويله العمر وتقريبه إلى الموت مع إصرار ذلك الرجل على المعصية يصير بمنزلة العذر لله في عذابه، فصار كأنَّه أتى إليه بالعذر إنْ عذبه لإصراره على المعصية، فلم يبقَ للعبد عذر، بل العذر قد قام لله تعالى، والله تعالى أعلم. حاشية السندي على مسند أحمد (2/409).
وقال يحيى العامري الحرضي -رحمه الله-:
«أعذر الله إلى امرئ» أي: بلغه سنًا لا يكون له عند الله عذرًا لم يعمل بطاعته. قال أهل اللغة: يقال: أعذر في الأمر إذا بالغ فيه، أي: أعذر غاية الإعذار الذي لا إعذار بعده. بهجة المحافل وبغية الأماثل (1/ 283).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«أعذر الله» من الإعذار، وهو: إزالة العذر، والمعنى: لم يبق له اعتذار كأن يقول: لو مُدَّ لي في الأجل لأطعت وعبدت.
يقال: أعذر إليه إذا بلَّغه أقصى الغاية في العذر، ومكَّنه منه. التوشيح شرح الجامع الصحيح (8/ 3822).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
أزال عذره، فلم يُبْقِ له اعتذارًا حيث أمهله هذه المدة ولم يعتذر، فالهمزة للسلب. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (9/ 425).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: بسط عذره، ودلَّه على موضع التملق له، كما يقال لمن فعل ما نُهي عنه: ما حملك على هذا؟ فيقول: خدعني فلان، وغرني كذا، فيقال له: عذرناك وتجاوزنا عنك، فاذا لم يرجع العبد مع بلوغه هذا العمر فقد خلع عذره. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 386).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
أي: لم يُبْقِ له عذرًا في الرجوع إليه بالطاعة لما أرسل إليه من الإنذار. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 432).
قوله: «أخَّر أجله»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أخَّر أجله» يعني: أطاله حتى بلغه ستين سنة. فتح الباري (11/ 240).
قال العيني -رحمه الله-:
«أخَّر أجله» أي: أطال الله حياته. عمدة القاري (23/ 36).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أخَّر أجله» أي: منتهاه، وفي رواية: «عمره». مرقاة المفاتيح (8/ 3298).
قوله: «حتى بلغه ستين سنة»:
قال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
والمعنى: أن من عمَّره الله ستين سنة لم يبق له عذر؛ لأن الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى، ففيه إعذار بعد إعذار. الجامع لأحكام القرآن (14/ 353).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: إذا بلغ الرجل ستين سنة ولم يتب عن المعاصي، ولم يصلح حاله، لم يبق له عذر؛ يعني: الشاب يقول في العرف: أنا شاب، إذا صرت أشيب أتوب، والأشيب إذا لم يتب فماذا ينتظر؟ المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 301).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«حتى بلَّغه ستين سنة» أي: لم يُبْقِ فيه موضعًا للاعتذار حيث أمهله إلى طول هذه المدة ولم يعتذر. إرشاد الساري (9/ 241).
وقال العيني -رحمه الله-:
«حتى بلغ ستين سنة» قال الأطباء: الأسنان أربعة: سن الطفولة وسن الشباب وسن الكهولة وسن الشيخوخة، فإذا بلغ الستين وهو آخر الأسنان، فقد ظهر فيه ضعف القوة، وتبين فيه النقص والانحطاط، وجاء نذير الموت، فهو وقت الإنابة إلى الله -عز وجل-. عمدة القاري (23/ 36).
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«حتى بلغ ستين سنة» أي: ولم يتب عن ذنوبه، ولم يقم بإصلاح عيوبه، ولم يَغلِب خيره شره، فيكون ممن لم يُبْقِ الله له عذرًا في ترك الطاعة، وفيما ضيع عمره، وحاصله: أنه من بلغ ستين سنة، وقيل: أربعين، ولم يَغلِب خيره شره فالموت خير له. مرقاة المفاتيح (8/ 3298).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
والمعنى: أن الله -عز وجل- إذا عمَّر الإنسان حتى بلغ ستين سنة فقد أقام عليه الحجة، ونفى عنه العذر؛ لأن ستين سنة يبقي الله الإنسان إليها؛ يعرف من آيات الله ما يعرف، ولا سيما إذا كان ناشئًا في بلد إسلامي، لا شك أن هذا يؤدي إلى قطع حجته إذا لاقى الله -عز وجل-؛ لأنه لا عذر له، فلو أنه مثلًا قصَّر في عُمره إلى خمس عشرة سنة، أو عشرين سنة، لكان قد يكون له عُذر في أنه لم يتمهل، ولم يتدبر الآيات، ولكنه إذا أبقاهُ إلى ستين سنة، فإنه لا عُذر له، قد قامت عليه الحجة، مع أنّ الحجة تقوم على الإنسان من حين أن يبلغ، فإنه يدخل في التكليف، ولا يعذر بالجهل، فإن الواجب على المرء أن يتعلم من شريعة الله ما يحتاج إليه. شرح رياض الصالحين (2/ 141).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
إِنما كانت الستون حدًا لهذا؛ لأن الستين قريب من مُعترك العباد، وهو سِن الإنابة والخشوع والاستسلام لله تعالى، وترقُّب المنية ولقاء الله تعالى، فهذا إعذار بعد إعذار في عُمر ابن آدم، لُطفًا من الله لعباده حين نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، وأعذر إليهم مَرة بعد أخرى، ولم يعاقبهم إلا بعد الحجج اللائحة المبكتة لهم، وإن كانوا قد فطرهم الله تعالى على حبّ الدنيا وطول الأمل، فلم يتركهم مهملين دون إعذار لهم وتنبيه. شرح صحيح البخاري (10/ 152، 153).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
ولعل سرّ تعيين ستين ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجاوز ذلك»، رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، فإذا بلغ الستين وجاوزها كانت السبعون آخر زمان التذكُّر؛ لأن ما بعدها زمان الهرم. تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (23/ 441).
وقال المناوي -رحمه الله-:
لأنها قريبة من المعترك، وهو سن الإنابة والرجوع وترقب المنية، ومظنة انقضاء الأجل، فلا ينبغي له حينئذٍ إلا الاستغفار ولزوم الطاعات والإقبال على الآخرة بكليته. فيض القدير (1/ 557).
وقال ابن كثير -رحمه الله-:
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله إلى عباده به، ويزيح به عنهم العلل، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث. تفسير القرآن العظيم (6/ 555).
وقال الكلاباذي -رحمه الله-:
فيه دلالة أن من دون ذلك في العُمر يتجاوز له ما لا يتجاوزه لمن أَعذر إليه؛ لأن الإنسان يرجو الحياة، ويضمر التوبة، فإذا بلغ العُمر منتهاه، فلا عذر له. بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخبار (ص: 239).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
وذكر الستين ليس له مفهوم، فلا يدل على أنه من بلغ دون ذلك بأنَّ له العذر. الحلل الإبريزية (4/ 225).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن العُمر القصد الذي يتجاوز عن أم الشبيبة، ويسلم من توهين الهم، هو سن الكهول، ما بين الأربعين والستين، فإذا أمهل الله عبده حتى جاوز زمن الصبا والحداثة، وسن الشبيبة، ودخل في الكهولة، فقد أعذر إليه؛ لأنه لا يبقى بعد هذا من العمر إلا ما لا يؤثر فيه النقص، ويستولي عليه الضعف، فلا يكون تركه ما يترك عن قدرة عليه، بل عن عجز عنه، ولا يأخذ ما يأخذ إلا إضرارًا به. الإفصاح عن معاني الصحاح (7/ 327، 328).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل. فتح الباري (11/ 240).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وقد استنبط منه بعض الشافعية أنه من استكمل الستين، ولم يحج أنه يكون مُقصِّرًا آثمًا، قلتُ: بل يجب أمره بالحج وإلزامه، وبغير ذلك مما يجب عليه. التحبير لإيضاح معاني التيسير (1/ 426).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
فقه الحديث: دلَّ هذا الحديث على ما يأتي:
أولًا: أن الشيخوخة نذير الموت والرحيل عن الدنيا؛ ولهذا ينبغي لمن بلغ الستين الاستعداد للقاء الله...
ثانيًا: قال الحافظ: في الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة انقضاء الأجل، وأصرح من ذلك ما أخرجه الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- رفعه: «أَعمار أُمّتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك». منار القاري (5/ 293).