الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«إنَّ نَفَرًا مِنْ أصحابِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مَرُّوا بماءٍ، فيهم لَدِيغٌ أو سَلِيمٌ، فَعَرَضَ لهم رجلٌ مِنْ أهلِ الماءِ، فقال: هل فيكم مِنْ رَاقٍ؟ إنَّ في الماءِ رجلًا لَدِيغًا أو سَلِيمًا، فانطَلَقَ رجلٌ منهم، فَقَرَأَ بفاتحةِ الكتابِ على شَاءٍ، فَبَرَأَ، فجاء بالشَّاءِ إلى أصحابِهِ، فَكَرِهُوا ذلك، وقالوا: أخذْتَ على كتابِ اللَّهِ أَجْرًا؟! حتَّى قَدِمُوا المدينةَ، فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، أَخَذَ على كتابِ اللَّهِ أَجْرًا! فقال رسولُ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إنَّ أحقَّ ما أخذتُمْ عليه أَجْرًا كتابُ اللَّهِ».


رواه البخاري برقم: (5737)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«بماءٍ»:
أي: بقومٍ نُزُولٍ على ماءٍ. فتح الباري، لابن حجر (10/ 199).

«لَدِيغٌ»:
بدال مهملة، وغين معجمة: رجلٌ ضربته العقرب. إرشاد الساري، القسطلاني (8/ 389).

«سَلِيمٌ»:
لَدِيغٌ، يقال: لأنه أسلم لِمَا به، وقيل: تفاؤلًا له بالسلامة. تفسير غريب ما في الصحيحين، الحميدي (ص: 98).

«رَاقٍ»:
أي: قارئَ رُقية. شرح المصابيح، لابن الملك (3/ 486).

«شَاءٍ»:
جمع شاة، وهي الغنم. شرح المصابيح، لابن الملك (3/ 486).


شرح الحديث


قوله: «أن نفرًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مروا بماء»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
أراد بالماء: الحي النازلة عليه فاختصره، وتقدير الكلام: بأهل ماء. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 710).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
يريد بالماء أهل الماء، يعني: الحي النازلين عليه، والضمير للمضاف المحذوف. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 291).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «مروا بماء» أي: مروا بقبيلة نازلة عند عين ماء. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 500).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
أي: بأهل ماء، والمراد به: الحي النازلون عليه؛ ولذا جمع الضمير في قوله: «‌فيهم ‌لديغ». شرح المصابيح (3/ 486).

قوله: «فيهم لديغ أو سليم»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لديغ أو سليم» شك من الراوي، واللديغ الملدوغ، وأكثر ما يُستعمل فيمن لدغه العقرب، والسليم فيمن لسعته الحية تفاؤلًا. مرقاة المفاتيح (5/ 1992).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
السليم: اللديغ، وفي تسميته سليمًا قولان:
أحدهما: أن يكون ذلك منه على مذهب التفاؤل ليسلم، كما قيل للفلاة: مفازة وهي مهلكة، أي: ليفوز صاحبها، وينجو من الهلكة فيها، والقول الآخر: أنه أسلم وترك للإياس من بُرئه. أعلام الحديث (3/ 2133).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والسليم هو اللديغ، سمي بذلك تفاؤلًا من السلامة؛ لكون غالب من يلدغ يعطب، وقيل: سليم فعيل بمعنى مفعول؛ لأنه أسلم للعطب. فتح الباري (10/ 199).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
ويظهر من هذا اتحاد السليم واللديغ في المعنى، فيكون «أو» للشك من الراوي. لمعات التنقيح (5/ 649-650).

قوله: «فعرض لهم رجل من أهل الماء»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«فعرض لهم» أي: فاستقبلهم رجل من تلك القبيلة. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 500).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فعرض» أي: ظهر «لهم رجل من أهل الماء». مرقاة المفاتيح (5/ 1992).

قوله: «فقال: هل فيكم من راقٍ؟»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«راقٍ»: اسم فاعل من رقى يرقي: إذا قرأ رقية. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 500).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
اسم فاعل من رقى يرقي؛ بالفتح في الماضي والكسر في المضارع، من يدعو بالرقية. مرقاة المفاتيح (5/ 1992).

قوله: «فانطلق رجل منهم»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«انطلق» أي: ذهب. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 500).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«انطلق رجل» أي: أبو سعيد الخدري. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (21/ 21).

قوله: «فقرأ بفاتحة الكتاب على شاءٍ»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«فقرأ بفاتحة الكتاب على شاءٍ» الشاء: جمع شاة، وهي الغنم؛ يعني: قال ذلك الرجل لهم: أرقي هذا اللديغ بشرط أن تعطوني كذا رأسًا من الغنم، فاشترطوا هذا الشرط. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 500).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«على شاء» أجرًا له. إرشاد الساري (8/ 390).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وقوله: «على شاءٍ» جمع شاة، أي: بمقابلتها وشرط أجرتها. لمعات التنقيح (5/ 650).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «على شاءٍ» أي: قرأ مشروطًا على شاءٍ، أو مقررًا، أو مصالحًا عليه. عمدة القاري (31/ 360).

قوله: «فبرأ»:
قال المظهري -رحمه الله-:
أي: صح من ذلك الوجع. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 500).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
ببركة كلام الله. شرح المصابيح (3/ 486).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فبرأ» الملدوغ. إرشاد الساري (8/ 390).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
فقرأ عليه فاتحة الكتاب بناءً على ما ورد، وفاتحة الكتاب شفاء من السم، فبرأ ببركة كلام الله، قيل: كانت ثلاثين غنمًا، وهم ثلاثون نفرًا. مرقاة المفاتيح (5/ 1992).

قوله: «فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذتَ على كتاب الله أجرًا، حتى قدموا المدينة»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فجاء» الذي رقى «بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا» أخذ «ذلك» الأجر «وقالوا: أخذتَ على كتاب الله أجرًا! حتى قدموا المدينة». إرشاد الساري (8/ 390).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فكرهوا ذلك» أي: أخذه «وقالوا: أخذتَ على كتاب الله أجرًا؟!» أي: وكانوا ينكرون عليه في الطريق «حتى قدموا المدينة». مرقاة المفاتيح (5/ 1992).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «حتى قدموا المدينة» متعلق بقوله: «قالوا: أخذتَ على كتاب الله» معناه: لم يزالوا ينكرون عليه في الطريق «حتى قدموا المدينة». الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2211).

قوله: «فقالوا: يا رسول اللَّه، أَخَذَ على كتابِ اللَّهِ أَجْرًا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أخذ» أي: الرَّجل. مرقاة المفاتيح (5/ 1992).

قوله: «فقال رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ أحقَّ ما أخذتُمْ عليه أَجْرًا كتابُ اللَّهِ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
فيه حذف، أي: تعليم كتاب الله، أو الرقية بكتاب الله، أو تلاوة، ولا يصح الأول بحديث أُبي بن كعب: «علَّمتُ رجلًا القرآن، فأهدى لي قوسًا، فذكرتُ ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إن أخذتها أخذت قوسًا من نار» فرددتها، رواه ابن ماجه؛ ولأبي داود نحوه من حديث عُبادة بن الصامت، ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم- لعثمان بن أبي العاص: «لا تتخذ مؤذنًا يأخذ على أذانه أجرًا»؛ ووجه ذلك أنَّ التبليغ واجب للقرآن والسنة، والواجب إنَّما يفعله لوجوبه، فأخذه المال لا في مقابلة شيء، فهو أكل لمال الغير بالباطل، فيتعيَّن أنَّ المقدَّر الثاني؛ لأن الرقية ليست بواجبة، أو الثالث؛ لأن هذا ثواب التلاوة ليس بواجب على القول بصحة التأجير للتلاوة، وقيل: بل يُقدَّر الأول، ويدل لصحته حديث تزويجه -صلى الله عليه وسلم- لبعض الصحابة بما معه من القرآن على أنْ يعلِّمها؛ لأنا نقول: فيه احتمالات:
أحدها: الخصوصية له، وهو بعيد.
ثانيها: أنها صورة فعل لا ظاهر لها.
ثالثها: أنه لم يذكر المهر، كعقده -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه بامرأة ولم يفرض لها صداقًا، فلما مات الزوج أوصى لها عند موته بسهمه من خيبر، فهذه الاحتمالات تضعف معارضته لحديث أُبي، إلا أنه قد قيل: إنَّ في حديث أُبي مقالات من قبل الإسناد، وقد حققنا في رسالة مستقلة جواز أخذ الأجرة على القرآن تعليمًا وتلاوة ورقيةً، وبسطنا أدلة ذلك هنالك، أو بأنَّ المُعلِّم يعني أُبي بن كعب تبرع بتعليمه، فلم يستحق شيئًا، ثم أهدى إليه على سبيل العوض، فلم يجز له العوض، والخلاف فيمن يعقد معه الإجازة. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 566-567).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
في قوله: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله» ما يقطع الشُّبهة في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وجواز كونه مهرًا في النكاح، وعلى جواز بيع المصحف الذي فيه القرآن، والإجارة عقد معاوضة كالبيع. أعلام الحديث (3/ 2134).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث جواز أخذ الأجرة على القربات من الأذان والصلاة وتعليم القرآن وغير ذلك. الإفصاح عن معاني الصحاح (3/ 115).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وهذا الحديث يحتج به من يرى جواز أخذ الأجرة على القُرَب كالأذان والصلاة وتعليم القرآن وغير ذلك، وهو مذهب مالك والشافعي، وعند أبي حنيفة لا يجوز ذلك، وهو المنصور من الروايتين عن أحمد. كشف المشكل (2/ 390).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
والمقصود من الحديث في هذا الباب: أنهم قرؤوا فاتحة الكتاب على شاء، فإنه يدل على جواز الاستئجار لقراءة القرآن والرقية به، وجواز أخذ الأجرة عليه، ومنه تُعْلَمُ إباحة أجرة الطبيب والمعالج. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 291).
وقال البغوي -رحمه الله-:
فيه دليل على جواز الرقية بالقرآن، وبذكر الله، وأخذ الأجرة عليه؛ لأن القراءة والفقه من الأفعال المباحة، وفيه إباحة أجر الطبيب والمعالج، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنَّ أخذ الأجرة والعوض على تعليم القرآن غير مباح، وهو قول الزهري وأبي حنيفة وإسحاق، وقال منصور عن إبراهيم (النخعي): أنَّه كره أجر المعلم، وقال جابر بن زيد: لا بأس به ما لم يشترط.
واحتجوا بما روي عن عُبادة بن الصامت قال: قلتُ: يا رسول الله، رجل أهدى إليَّ قوسًا ممن كنتُ أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، فأرمي عليها في سبيل الله؟ قال: «إنْ كنتَ تحب أنْ تطوق طوقًا من نار فاقبلها».
ومن أباحه تأول الحديث على أنَّه كان تبرع به، ونوى الاحتساب فيه، ولم يكن قصده وقت التعليم إلى طلب عوض ونفع، فحذَّره النبي -صلى الله عليه وسلم- إبطال أجره وحسبته، كما لو ردَّ ضالة إنسانٍ حسبةً لم يكن له أن يأخذ عليه عوضًا، فأما إذا لم يحتسب، وطلب عليه الأجرة، فجائز بدليل حديث ابن عباس.
وذهب قوم إلى أنه لا بأس بأخذ المال ما لم يشترط، وهو قول الحسن وابن سيرين والشعبي.
وقال بعض أهل العلم: أخذ الأجرة على تعليم القرآن له حالان: فإذا كان في المسلمين غيره ممن يقوم به، حلَّ له أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ لأنه غير متعين عليه، وإنْ كان في حال أو موضع لا يقوم به غيره لم يحل له أخذ الأجرة عليه، وتأول على هذا اختلاف الأخبار فيه، ويستدل بحديث ابن عباس من يرى بيع المصاحف، وأخذ الأجرة على كتبتها. شرح السنة (8/268- 269).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله» فيه حجة على أبي حنيفة في منعه أخذ الأجرة على تعليمه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (27/ 483).
وقال العيني -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
قلتُ: مَن له ذوق من معاني الأحاديث لا يتلفظ بهذا الكلام الذي ليس له معنى، وليس معنى هذا ما فهمه هو حتى يورده على الإمام (أبي حنفية)، وإنما معناه في أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة أو غيرها من القرآن، فالإمام لا يمنع هذا، وإنَّما الذي يمنعه عن أخذ تعليم القرآن، وتعليم القرآن غير الرقية به، ومع هذا أبو حنيفة ما انفرد بهذا، وهو مذهب عبد الله بن شقيق والأسود بن ثعلبة وإبراهيم النخعي، وعبد الله بن يزيد، وشريح القاضي، والحسن بن حيي، وتعيين هذا المعترض الإمام من بين هؤلاء من أريحة التعصب البارد. عمدة القاري (21/ 264).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
اختلف العلماء في جواز الأجر على الرقي بكتاب الله وعلى تعليمه، فأجاز ذلك عطاء وأبو قلابة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور...
وكره تعليم القرآن بالأجر الزهري، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز على تعليم القرآن أجر. شرح صحيح البخاري (6/ 405).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
لا بأس بالاستئجار على الرقى والعلاجات كلها، وإن كنا نعلم أن المستأجر على ذلك قد يدخل فيما يرقي به بعض القرآن؛ لأنه ليس على الناس أن يرقي بعضهم بعضًا، فإذا استؤجروا فيه على أن يعملوا ما ليس عليهم أن يعملوه جاز ذلك. وتعليم القرآن على الناس واجب أن يعلمه بعضهم بعضًا؛ لأن في ذلك ‌التبليغ ‌عن ‌الله تعالى، إلا أن من علمه منهم أجزى ذلك عن بقيتهم كالصلاة على الجنائز، إنما هي فرض على الناس جميعا إلا أن من فعل ذلك منهم أجزى عن بقيتهم. شرح معاني الآثار (4/ 127).
وقال ابن بطال تعليقًا على كلام الطحاوي -رحمهما الله-:
وأما قول الطحاوي: إنَّ تعليم الناس القرآن بعضهم بعضًا فرض، فغلط؛ لأن تعلم القرآن ليس بفرض، فكيف تعليمه؟! وإنما الفرض المتعين منه على كل أحد ما تقوم به الصلاة، وغير ذلك فضيلة ونافلة، وكذلك تعليم الناس بعضهم بعضًا الصلاة ليس بفرض متعين عليهم، وإنما هو على الكفاية، ولا فرق بين الأجرة على الرقي وعلى تعليم القرآن؛ لأن ذلك كله منفعة. شرح صحيح البخاري (6/ 405).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
واختلف أهل العلم في أجور المعلمين وكسبهم، فرخص فيه قوم، وكره آخرون، فممن رخص فيه عطاء بن أبي رباح، وأبو قلابة ومالك والشافعي وأبو ثور.
وقالت طائفة: لا بأس به ما لم يشترط، وكرهت الشرط، فممن كره الشرط: الحسن البصري وابن سيرين والشعبي.
وكرهت طائفة تعليم القرآن بالأجرة، وفي ذلك: الزهري وإسحاق والنعمان أبو حنيفة وقال النعمان: لا يحل ولا يصلح، وقال عبد الله بن شقيق: هذه ‌الرُّغُفُ (جمع رغيف) التي يأخذها المعلمون من السحت.
والقول الأول أصح؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أجاز أن يأخذ الرجل على تعليم القرآن عوضًا في باب النكاح، ويقوم ذلك مقام المهر، جاز أن يأخذ المعلم على تعليم القرآن الأجر.
والنعمان يجيز أن يستأجر الرجلُ، الرجل على أَنْ يكتب له نَوْحًا أو شعرًا أو غناء معلومًا، بأجر معلوم، فيجيز الإجارة على ما هو معصية، ويبطلها فيما هو طاعة لله، ومما قد دلت السنة على إجازته. الإشراف على مذاهب العلماء (6/ 294).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وما يروونه: «أَحق ما أخذتم عليه أجرة كتاب الله» نعم، ثبت ذلك أنه قال: «أَحقّ ما أَخذتم عليه أُجرة كتاب الله» لكنه في حديث الرقية، وكان الجُعْل على عافية مريض القوم، لا على التلاوة. مجموع الفتاوى (18/ 128).
وقال ابن تيمية -رحمه الله- أيضًا:
فإنَّ الجُعْل كان على الشفاء لا على القراءة، ولو استأجر طبيبًا إجارة لازمة على الشفاء لم يجز؛ لأن الشفاء غير مقدور له، فقد يشفيه الله، وقد لا يشفيه، فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجعالة، دون الإجارة اللازمة. مجموع الفتاوى (20/ 507).
وقال ابن تيمية -رحمه الله- أيضًا:
فأما الاستئجار على القراءة وإهدائها فهذا لم ينقل عن أحد من الأئمة، ولا أذن في ذلك؛ فإن القراءة إذا كانت بأجرة كانت معاوضة، فلا يكون فيها أجر، ولا يصل إلى الميت شيء، وإنما يصل إليه العمل الصالح.
والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة، وإنما تكلموا في الاستئجار على التعليم. مجموع الفتاوى (31/ 316).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قال الشافعي ومالك: يجوز ‌أخذ ‌الأجرة ‌على ‌تعليم ‌القرآن والرقية إذا كانت الرقية بكلام الله وباسمه تعالى، والدعوات.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز ‌أخذ ‌الأجرة ‌على ‌تعليم ‌القرآن والرقية. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 500).
وقال ابن عادل -رحمه الله-:
وقد اختلف العلماء في أخذ الأُجْرة على تعليم القرآن والعلم، فمنع ذلك الزُّهري وأصحاب الرأي، وقالوا: لا يجوز أخذ الأُجْرة على تعليم القُرْآن؛ لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نِيَّةِ التقرب، فلا يؤخذ عليها أجرة كالصَّلاة والصيام...
وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وأكثر العلماء. اللباب في علوم الكتاب (2/ 18).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
واختلف الفقهاء أيضًا في حكم المصلي بأجرة؛ فروى أشهب، عن مالك، أنه سئل عن الصلاة خلف من استؤجر في رمضان يقوم بالناس، فقال: أرجو ألا يكون به بأس، إن كان به بأس فعليه.
وروى عنه ابن القاسم: أنه كرهه، وهو أشد كراهية له في الفريضة.
وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور: لا بأس بذلك، ولا بأس بالصلاة خلفه.
وذكر الوليد بن مزيد، عن الأوزاعي، أنه سئل عن رجل أمَّ قومًا فأخذ عليه أجرًا، فقال: لا صلاة له.
وكرهه أبو حنيفة وأصحابه. التمهيد (13/ 277).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
الحديث دليل على جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن كما تؤخذ الأَجرة على العلاج بالأدوية الأخرى، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، وهذا الأخذ ليس على مجرد التلاوة، وإنَّما هو على المعالجة والمداواة؛ لأن القراءة والنفث على المريض من الأفعال المباحة، فيكون المأخوذ على المعالجة لا على مجرد التلاوة. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (6/ 455).
وقال الشيخ عبدالله الفوزان -حفظه الله- أيضًا:
الحديث دليل على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهذا قول المالكية، والشَّافعية، وأحمد في رواية عنه، والمتأخرين من الحنفية، وابن حزم الظاهري.
والقول الثاني: أنَّه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهذا قول متقدمي الحنفية، ورواية عن أحمد أخذ بها أكثر أصحابه، وكذا قالوا في تعليم العلم من تفسير وحديث وغيرهما، وكذا الإمامة والأذان. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (6/ 456).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
(و) إذا جاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، فمن باب أولى أن يجوز أخذ الأجرة على تعليم الحديث، على أن الإمام أحمد والحميدي وجمع من أهل التحري يمنعون أخذ الأجرة على الحديث، لكن جمهور أهل العلم على جواز أخذ الأجرة على التحديث؛ لا سيما إذا أفضى إلى انقطاع هذا المعلم من الكسب له ومن تحت يده، بعضهم يفرق بين العلوم الشرعية التي هي عبادات وبين العلوم -علوم الدنيا- أو علوم الوسائل: كالعربية مثلًا يجيز أخذ الأجرة على ذلك، وقد عُرف من أهل العلم من يأخذ الأجرة على التحديث، وعُرف من يأخذ أجرة على تعليم العربية، حتى ذُكِرَ عن بعضهم أنه لا يُعلِّم ألفية ابن مالك إلا كل بيت بدرهم، كل بيت بدرهم، على كل حال الورع شيء، والحكم بالمنع والتحريم شيء آخر. شرح بلوغ المرام (18/ 13).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله- أيضًا:
فأخذ الأجرة على الرقية شرعي من هذا الحديث، إلا أنه لا يُعرف في صدر الأمة وأئمة الإسلام من الصحابة والتابعين فمَنْ بعدهم أنه جعل الرقية مِهنة. شرح الموطأ (173/ 9).


ابلاغ عن خطا