«لَعَنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- المُخَنَّثين من الرجال، والمُتَرَجِّلَاتِ من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم، قال: فأخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فلانًا، وأخرج عُمر فلانًا».
رواه البخاري برقم: (5886)، و(6834)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«لَعَنَ»:
اللعن: الإبعاد والطرد من الخير، وقيل: الطَّرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السب والدعاء، واللعنة الاسم، والجمع: لِعَان ولعنات، ولعنه يلعنه لعنًا: طرده وأبعده. لسان العرب (13/ 387).
قال ابن تيمية -رحمه الله-:
اللعن: الإبعاد عن الرحمة. الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 41).
«المُخَنِّثينَ»:
الْخَنْثُ في اللغة: بمعنى اللين والانكسار والعطف والَّليُّ، ومنه: «نهى عن اخْتِنَاث الأسقية»، وهو ثَنْيَةُ فمها إلى خارج، والشرب منها، كما أن القَبْعُ ثنْيُهُ إلى داخل.
والْمُخَنَّث -بفتح النون وهو المشهور، وقد يكسر وهو القياس-، والمراد منه: من يتكلَّف التشبه بالنساء في الحركات والسكنات وفي اللباس وأمثاله. لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (7/ 409).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
الْمُخَنَّثِين: جمعُ مُخَنَّث، وهم المتشبهون بالنساء في التكسير والانعطاف وغيرهما ممّا يختصُّ بهنَّ. مصابيح الجامع (9/ 540).
«المُتَرَجِّلَاتِ»:
هُنَّ المتَشَبَّهات بالرجال في كلامهم، وهيئتهم، وما يختصُّ بهم. مصابيح الجامع (9/ 540).
شرح الحديث
قوله: «لعن النبي -صلى الله عليه وسلم-»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» أي: إنشاء منه، أو إخبار بأن الله لعنهم. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 665).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «لعن» اللعن من النبي -صلى الله عليه وسلم- يقع على ضربين:
أحدهما: يراد به الزجر عن الشيء الذي وقع اللعن بسببه، وهو يدل على قبح ذلك الشيء، فإنه من علامات الكبائر.
وقد يقع للزجر عن الشيء في حال الحرج والغضب؛ وذلك يكون رحمة لمن لعنه إذا كان غير مستحق للعن. البدر التمام شرح بلوغ المرام (9/ 65).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
اللعن منه -صلى الله عليه وسلم- على مرتكب المعصية دليل على كبرها، وهو يحتمل: الإخبار والإنشاء. سبل السلام (7/ 124).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد قيل: إنَّ لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل المعاصي كان تحذيرًا لهم عنها قبل وقوعها، فإذا فعلوها استغفر لهم، ودعا لهم بالتوبة.
وأما من أغلظ له، ولعنه تأديبًا على فعل فعله، فقد دخل في عموم شرطه، حيث قال: «سألت ربي أن يجعل لعني له كفارة ورحمة». فتح الباري(12/ 82).
قوله: «المُخَنَّثين من الرجال»:
قال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ليس الْمُخنَّثُ الذي تُعرفُ فيه الفاحشةُ خاصَّةً، وتُنسبُ إليه، وإنما الْمُخنَّثُ شدَّةُ التأنيثِ في الخِلْقةِ، حتى يُشبِهَ المرأةَ في اللِّين والكلام والنظَر والنَّغَمة، وفي العَقْل والفِعْل، وسواءٌ كانت فيه عاهةُ الفاحشةِ، أو لم تكن. التمهيد (14/ 276).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
فإذا كان الرجل الذي يتشبه بالنساء في لباسهن وزيهن وزينتهن ملعونًا قد لعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكيف بمن يتشبه بهن في مباشرة الرجال له فيما يتمتع الرجال به، بتمكينه من ذلك لغرض يأخذه أو لمحبته لذلك، فكلما كثرت مشابهته لهن كان أعظم للعنه، وكان ملعونًا من وجهين:
من جهة الفاحشة المحرمة، فإنه يلعن على ذلك، ولو كان هو الفاعل.
ومن جهة تخنثه؛ لكونه من جنس المفعول بهن، فمن جعل شيئًا من التخنث دينًا، أو طلب ذلك من الصبيان مثل تحسين الصبي صورته أو لباسه؛ لأجل نظر الرجال واستمتاعهم بذلك في سماع وغير سماع، أليس يكون مبَدِّلًا لدين الله؟ ... ، والمخنث قد يكون مقصودهِ معاشرة النساء ومباشرتهن، وقد يكون تَخَنُّثُهُ بمباشرة الرجال ونظرهم ومحبتهم، وقد يجمع الأمرين، وفي المتنسكين من الأقسام الثلاثة خلق كثير، وهؤلاء شر ممن يفعل هذه الأمور على غير وجه التدين، فإن يوجد في الأمم الجاهلية من الترك ونحوهم من يتشبه فيهم من النساء بالرجال، ومن يتشبه من الرجال بالنساء خلق عظيم، حتى يكون لنسائهم من الإمرة والملك والطاعة والبروز للناس، وغير ذلك مما هو من خصائص الرجال ما ليس لنساء غيرهم، وحتى أن المرأة تختار لنفسها من شاءت من مماليكها وغيرهم لقهرها للزوج، وحكمها، ويكون في كثير من صبيانهم من التخنث وتقريب الرجال له وإكرامه لذلك أمر عظيم، حتى قد يغار بعض صبيانهم من النساء وحتى يتخذهم الرجال كالسراري، لكن هم لا يفعلون ذلك تديُّنًا، فالذين يفعلون ذلك تديُّنًا شر منهم، فإنهم جعلوه دينًا، والفاحشة حسنة لا لما في ذلك من ميل الطباع. الاستقامة (1/370- 371).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«المخنثين من الرجال» في الزي واللباس والخضاب والصوت والصورة والتكلم، وسائر الحركات والسكنات، من خَنَثَ يَخْنُثُ كـ: علم يعلم، إذا لان وتكسر، فهذا الفعل منهي؛ لأنه تغيير لخلق الله. مرقاة المفاتيح (7/ 2818).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال الطبري: إن قال قائل: ما وجه لعن النبي -عليه السلام- المخنثين من الرجال، والخنث خلق الله لم يكتسبه العبد، ولا له فيه صنع، وإنما يُذَمُّ العبد على ما يكسبه مما له السبيل إلى فعله وتركه، ولو جاز ذمه على غير فعله لجاز ذمه على لونه وعرقه وسائر أجزاء جسمه؟
قيل: وجه لعن النبي إياه إنما هو لغير صورته التي لا يقدر على تغييرها، وإنما لعنه لتأنيثه وتشبهه في ذلك بخلق النساء، وقد خلقه الله بخلاف ذلك، ومحاولته تغيير الهيئة التي خلقه الله عليها من خلق الرجال إلى خلق النساء، وله سبيل إلى اكتساب خلق الرجال، واجتلاب منه إلى نفسه.
ولفعله من الأفعال ما يكره الله، ونهى عنه رسول الله من التشبه بالنساء في اللباس والزينة؛ وذلك أن رسول الله إذ رأى المخنث لم ينكر الخنث منه، وقد رأى خضاب يديه ورجليه بالحناء، حتى سمعه يصف من أمر النساء ما كَرِهَ سماعه؛ وذلك وصفه للرجال نساءَ من يدخل منزله؛ وذلك مما كان النبي -عليه السلام- ينهى عنه النساء فكيف الرجال؟ فأمر بنفيه، وتقدم إليها بمنعه من دخوله عليها، ولو كان ما عليه المخنث من الهيئة والصورة التي هي له خلقة موجبة اللعن والنفي لكان -عليه السلام- إذ رآه قد أمر بطرده من بيت زوجه ونفيه، قال ما سمعه أو لم يقله، وإنما وجب ذَمُّه، إذ أتى من محارم الله ما يستحق عليه الذم. شرح صحيح البخاري (9/ 141.
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «لعن النبي -صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال»: كل رجل شبه نفسه بالنساء في اللباس وخضاب اليدين والرجلين، وفي الصوت والتكلم والحركات والسكنات، وهذا الفعل منهي عنه؛ لأنه تغيير لخلق الله، وتغيير خلق الله مضادة الله.
ومن ليس له شهوة من الرجال، ولم يشبه نفسه بالنساء فهو عِنِّيْنٌ، وليس عليه حرج؛ لأن انتفاء الشهوة عنه ليس بفعله، وانتفاء الشهوة ليس بعيب منهي، بل المنهي أن يشبه الرجل نفسه بالنساء. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 41).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
المخنث ضربان:
أحدهما: من خلق كذلك، ولم يتكلف التخلُّق بأخلاق النساء، وزيهن وكلامهن وحركاتهن، وهذا لا ذم عليه، ولا إثم، ولا عتب، ولا عقوبة؛ لأنه معذور.
والثاني -من المخنث-: من تكلف أخلاق النساء وحركاتهن وهيأتهن وكلامهن وزيهن، فهذا هو المذموم الذي جاء في الحديث لعنه. شرح المشكاة (9/ 2926).
وقال العيني -رحمه الله-:
قلتُ: وأما في هذا الزمان فالمخنث هو الذي يؤتى، ويلاط به. عمدة القاري(22/ 42).
وقال النووي -رحمه الله-:
المخنث بكسر النون وفتحها، والكسر أفصح، والفتح أشهر، وهو الذي خلقه كخلق النساء في حركاته وهيأته، وكلامه، ونحو ذلك، وتارة يكون خِلْقَة له فلا يأثم به، وتارة يتصنعه فهو مأثوم مذموم ملعون. المجموع شرح المهذب (12/ 317).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «المخنثين» وهو -بكسر النون وبفتحها-: من تشبه بخلقة النساء في حركاته وكلامه وغير ذلك من الأمور المختصة بالنساء.
وأما هيئة اللباس فهو يختلف باختلاف عادات الناس؛ فإن كان من عادة أهل بلدة الاستواء في اللباس، فلا محذور في ذلك، وهذا الذم في حق من تعمَّد ذلك باختياره، وأما من كان ذلك من أصل خلقته فيؤمر بتكلف تركه، والإدمان على ذلك بالتدريج، وهذا يؤخذ من الحديث الآخر وهو: «لعن الله المتشبهين».
فهو يدل على قصد التشبه، وأطلق النووي أنه لا يجب على المخنث الخلقي تكلف خلاف ما هو عليه، ويحمل كلامه على أنه إذا لم يقدر على التغيير.
وظاهر اللفظ تحريم تشبه الرجال بالنساء، وكذا العكس من حديث آخر، إلا أنه مبني على أن اللعن لقبح الفعل، وهو محتمل، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأذن للمخنثين بالدخول على النساء، وإنما نفى من سمع منه وصف المرأة بما لا يفطن له إلا من كان له إِرْبَة، فهو لأجل تتبع أوصاف الأجنبية، وكذلك من خضب كفيه بالحناء لخشية الفتنة، وكذلك من نفاهم عمر إنما هو لخشية الفتنة، كما يدل عليه القصص، وقد استوفى تعداد المغرَّبين أبو الحسن المدائني في (كتاب المغرَّبين) فلا يدل اللعن على التحريم. البدر التمام شرح بلوغ المرام (9/ 67).
قوله: «والمُتَرَجِّلَاتِ من النساء»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«والمترجلات» بكسر الجيم المشددة أي: المتشبهات بالرجال «من النساء» زيًّا وهيئةً ومشيةً، ورفع صوت ونحوها، لا رأيًا وعلمًا، فإنَّ التشبه بهم محمود، كما روي أن عائشة -رضي الله عنها- كانت رجلة الرأي أي: رأيها كرأي الرجال على ما في النهاية. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 2818).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
المراد بالمترجلات من النساء: المتشبهات بالرجال، هكذا ورد تفسيره في حديث آخر أخرجه أبو داود، وهذا دليل على تحريم التشبه بالنساء وبالعكس.
وقيل: لا دلالة في اللعن على التحريم؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأذن للمتخنثين بالدخول على النساء، وإنما نفى من سمع منه وصف المرأة بما لا يفطن له إلا من كان له إِرْبَة، فهو لأجل تتبع أوصاف الأجنبية.
قلتُ: يحتمل أن من أذن له كان ذلك صفة له خِلْقَة لا تَخَلُّقًا، هذا وقال ابن التين: أما من انتهى في التشبه بالنساء من الرجال إلى أن يؤتى في دبره، وبالرجال من النساء إلى أن يتعاطى السحق، فإن لهذين الوصفين من اللوم والعقوبة أشد ممن لم يصل إلى ذلك. سبل السلام (7/ 124).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وفي بعض طرق هذا الحديث: «والرَّجُلَة من النساء»، وهي التي تَشَبَّهُ بهم في زيهم. وهذه الرواية أشبه بالصواب؛ لأن الرَّجِل لم يستعمل في هذا المعنى فيما وجدناه من كتب أهل اللغة.
ويلحق بالمكروه من تشبههن بالرجال في زَيِّهم: رفع الصوت والمشي، وما يضاهي ذلك، مما لا يحمد منهن.
وأما التشبه في العلم والرأي فمحمود، ومن ذلك قولهم: «كانت عائشة -رضي الله عنها- رَجُلَة الرأي» أي: كان رأيها رأي الرجال. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 990).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «والمترجلات من النساء»: الترجل: تشبيه الشخص نفسه بالرجل، وكل امرأة شبهت نفسها بالرجال في اللباس، واستعمال السلاح فهي ملعونة. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 42).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«والمترجلات» يعني بالمترجلات من النساء: المتشبهات منهن بالرجال في زيهم وهيأتهم، أما في العلم والرأي فمحمود، كما روي «أن عائشة -رضي الله عنها- كانت رَجُلَة الرأي»، أي: كان رأيها كرأي الرجال. شرح المشكاة (9/ 2926).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
المترجلات من النساء تتشبه بالرجال إذا حملت سيفًا أو رمحًا، وما كان فوق ذلك فمن السحق فهو كثير. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (28/ 103-104).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «والمترجلات من النساء» المراد: المتشبهات بالرجال، وقد جاء في حديث أبي داود عن عكرمة: «فقلت له: ما المترجلات من النساء؟ قال: المتشبهات بالرجال».
قال ابن التين: المراد باللعن في هذا الحديث: من تشبه من الرجال بالنساء في الزي، ومن تشبه من النساء بالرجال كذلك، فأما من انتهى في التشبه بالنساء من الرجال إلى أن يؤتى في دبره، وبالرجال من النساء إلى أن تتعاطى السحق، فإن لهذين الصنفين من اللوم والعقوبة أشد ممن لم يصل إلى ذلك.
قال: وإنما أمر بإخراج من تعاطى ذلك من البيوت؛ لئلا يُفْضِي الأمر بالتشبه إلى تعاطي ذلك الأمر المنكر. البدر التمام شرح بلوغ المرام (9/ 65- 67).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-:
أما تحريم الشارع تشبُّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، فهو عام في اللباس، والكلام، وجميع الأحوال.
فالأمور ثلاثة أقسام:
قسم مشترك بين الرجال والنساء من أصناف اللباس وغيره، فهذا جائز للنوعين؛ لأن الأصل الإباحة ولا تشبه فيه.
وقسم مختص بالرجال، فلا يحل للنساء.
وقسم مختص بالنساء، فلا يحل للرجال.
ومن الحكمة في النهي عن التشبه: أن الله تعالى جعل للرجال على النساء درجة، وجعلهم قَوّامين على النساء، وميزهم بأمور قَدَرِيَّة، وأمور شرعية، فقيام هذا التمييز، وثبوت فضيلة الرجال على النساء، مقصود شرعًا وعقلًا، فتشبُّه الرجال بالنساء يَهْبُطُ بهم عن هذه الدرجة الرفيعة، وتشبه النساء بالرجال يبطل التمييز.
وأيضًا فتشبه الرجال بالنساء بالكلام واللباس ونحو ذلك: من أسباب التخَنُّث، وسقوط الأخلاق، ورغبة المتشبه بالنساء في الاختلاط بهن، الذي يخشى منه المحذور. وكذلك بالعكس، وهذه المعاني الشرعية، وحفظ مراتب الرجال ومراتب النساء، وتنزيل كل منهم منزلته التي أنزله الله بها، مستحسن عقلًا، كما أنه مستحسن شرعًا.
وإذا أردت أن تعرف ضرر التشبه التام، وعدم اعتبار المنازل، فانظر في هذا العصر إلى الاختلاط الساقط الذي ذهبت معه الغيرة الدينية، والمروءة الإنسانية، والأخلاق الحميدة، وحَلَّ محله ضد ذلك من كل خلق رذيل.
ويشبه هذا -أو هو أشد منه-: تشبه المسلمين بالكفار في أمورهم المختصة بهم؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «من تشبه بقوم فهو منهم»؛ فإن التشبه الظاهر يدعو إلى التشبه الباطن، والوسائل والذرائع إلى الشرور قصد الشارع حَسْمها من كل وجه. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 145-146).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يحرم تشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال؛ وذلك أن الله -سبحانه وتعالى- خلق الذكور والإناث، وجعل لكل منهما مزية، الرجال يختلفون عن النساء في الخلقة والخلق والقوة والدين، وغير ذلك، والنساء كذلك يختلفن عن الرجال، فمن حاول أن يجعل الرجال مثل النساء، أو أن يجعل النساء مثل الرجال، فقد حادَّ الله في قدره وشرعه؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- له حكمة فيما خلق وشرع؛ ولهذا جاءت النصوص بالوعيد الشديد باللعن، وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله لتشبه الرجل بالمرأة، أو المرأة بالرجل، فمن تشبه بالنساء فهو ملعون على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن تشبهت بالرجال فهي ملعونة على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم-. شرح رياض الصالحين (6/ 371).
وقوله: «أخرجوهم من بيوتكم»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وقال» أي: خطابًا عامًا.مرقاة المفاتيح (7/2818).
وقال العيني -رحمه الله-:
«أخرجوهم» مِنَ الإخراج، وإنما أَمَرَنا بإخراجهم؛ لأنه قد يؤدي فعلهم إلى ما يفعله شرار النساء من السحق، وهو عظيم. عمدة القاري(22/ 42).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«أخرجوهم» الظاهر أن الضمير للمخنثين، ولو جعل للمجموع المذكور من المخنثين والمترجلات تغليبًا، أو لكونهن في حكم الرجال لم يبعد -واللَّه أعلم-. لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (7/ 409).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أخرجوهم» الظاهر أن الضمير للأول، وأما النساء؛ فإنه منهي عن إخراجهن لعظم المفسدة التي تترتب عليه، ولما تقدم من الأمر بإخراج المخنثين. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 666).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أخرجوهم من بيوتكم» أي: من مساكنكم ومن بلدكم، ففي شرح السنة: روي عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «أُتِيَ بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فأمر به فنُفِيَ إلى النقيع».
ففي شرعة الإسلام: الحناء سنة للنساء، ويكره لغيرهن من الرجال إلا أن يكون لعذر؛ لأنه تشبه بهن. ا. هـ.
ومفهومه: أن تخلية النساء عن الحناء مطلقًا مكروه أيضًا لتشبههن بالرجال وهو مكروه. ا. هـ. وسيأتي في الأصل، والعجب من أهل اليمن في أن رجالهم يتحنون مع أن هذا شعار الرافضة أيضًا. مرقاة المفاتيح (7/ 2818-2819).
وقال القنازعي -رحمه الله-:
يعني: المخنثين من الرجال؛ لئلا يفسد عليكم النساء. تفسير الموطأ (2/ 543).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«أخرجوهم من بيوتكم» وهذا خطاب للرجال بمنعهم المخنثين من دخول بيوتهِم، فيه دليل على أنه لا يجوزُ دخولُهم على النساء. شرح المصابيح (5/ 55).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«أخرجوهم من بيوتكم»؛ لأن أخلاقهم تسري، ومصاحبتهم تؤثر. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (9/ 358).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وأمره بإخراجهم يدل على أنه يُنْفَى كل من خُشِيَتْ منه فتنة على الناس في دين أو دنيا، وهذا الحديث أصل لذلك. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (31/ 238).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قال العلماء: إخراجهم ونفيهم كان لثلاثة معانٍ:
أحدها: أنه كان يظن أنهم من غير ذوي الإربة، وهم منهم، ويكتمون ذلك.
الثاني: وصفه النساء ومحاسنهن وعوراتهن بحضرة الرجال، وقد نُهِيَ أن تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها، فكيف إذا وصفها الرجل للرجال.
الثالث: أنه ظهر له منهم أنهم كانوا يطلعون على النساء وأجسامهن وعوراتهن ما لا يطلع عليه كثير من النساء، فكيف بالرجال، لا سيما أنه جاء أنهم وصفوا ما بين رجلي النساء. شرح سنن أبي داود (19/ 9).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
في الحديث: دليل على مشروعية نفي من أتى معصية لا حدَّ فيها، وهو يدل على نفي من أتى ما فيه حدٌّ من باب أولى، والنهي عن دخول المخنثين في البيوت من الطرق والتدابير الواقية من الزنا، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن دخول المخنث على النساء لَمَّا سمعه يصف المرأة بأوصاف تُهَيِّج قلوب الرجال -والله تعالى أعلم-. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (8/ 430).
قوله: «فأخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فلانًا، وأخرج عمر فلانًا»:
قال البرماوي -رحمه الله-:
«فلانًا» الذي أخرجَه النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، قال البخاريُّ: هِيت، وقيل: ماتع، وقيل: بنونٍ مُشددةٍ، والذي أخرجَه عمرُ -رضي الله عنه- ماتع بمثناة، وقيل: هِدْم.
ووقع في رواية أبي ذَرٍّ الهَرَوي: «فأخرَج النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فلانةً»، وفي (الطبَراني) من حديث واثلة نحو حديث ابن عباس، وفيه: «أنه -صلى الله عليه وسلم- أَخرَجَ أَنجشَةَ»، وهو في فوائد تمام أيضًا. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (14/ 477).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«فأخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فلانًا، وأخرج عمر فلانة» كذا في رواية أبي ذر: «فلانة» بالتأنيث، وكذا وقع في شرح ابن بطال، وللباقين «فلانًا» بالتذكير، وكذا عند أحمد.
وقد أخرج الطبراني وتمام الرازي في فوائده من حديث وائلة مثل حديث ابن عباس هذا بتمامه، وقال فيه: «وأخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنجشة، وأخرج عمر فلانًا»، وأنجشة هو العبد الأسود الذي كان يحدو بالنساء...
وقد تقدم ذكر أسامي من كان في العهد النبوي من المخنثين، ولم أقف في شيء من الروايات على تسمية الذي أخرجه عمر، إلى أن ظفرت بكتاب لأبي الحسن المدايني سماه كتاب (المغرَّبين) بمعجمة وراء مفتوحة ثقيلة، فوجدت فيه عدة قصص لمن غرَّبهم عمر عن المدينة. فتح الباري (10/ 334).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«وأخرج عمر فلانًا» سقط لفظ عمر من رواية غير أبي ذر، وقد أخرج أبو داود الحديث عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري فيه بعد قوله: «وقال: أخرجوهم من بيوتكم، وأخرجوا فلانًا وفلانًا» يعني: المخنثين، وتقدم في اللباس عن معاذ بن فضالة، عن هشام كرواية أبي ذر هنا، وكذا عند أحمد، عن يزيد بن هارون وغيره عن هشام، وذكرت هناك اسم من نفاه النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة، ولم أذكر اسم الذي نفاه عمر.
ثم وقفت في كتاب (المغرَّبين) لأبي الحسن المدايني من طريق الوليد بن سعيد قال: سمع عمر قومًا يقولون: أبو ذؤيب أحسن أهل المدينة، فدعا به، فقال: أنت لعمري، فاخرج عن المدينة، فقال: إن كنت تخرجني فإلى البصرة، حيث أخرجت يا عمر نصر بن حجاج، وذكر قصة نصر بن حجاج، وهي مشهورة، وساق قصة جعدة السلمي وأنه كان يخرج مع النساء إلى البقيع، ويتحدث إليهن حتى كتب بعض الغزاة إلى عمر يشكو ذلك فأخرجه.
وعن مسلمة بن محارب، عن إسماعيل بن مسلم: أن أمية بن يزيد الأسدي ومولى مزينة كانا يحتكران الطعام بالمدينة، فأخرجهما عمر، ثم ذكر عدة قصص لمبهم ومعين، فيمكن التفسير في هذه القصة ببعض هؤلاء. فتح الباري (12/ 159 -160).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فأخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فلانًا» هو أنجشة العبد الأسود الذي كان يتشبه بالنساء. أخرجه الإمام أحمد والطبراني وتمام في فوائده من حديث واثلة، ولأبوي ذر والوقت: «فلانة» بالتأنيث.
قال الحافظ ابن حجر: فإن كان محفوظًا فيكشف عن اسمها، ثم قال: وأما المرأة فهي بادية بنت غيلان.
وأخرج عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فلانًا، قال في المقدمة: هو ماتع، بفوقية وقيل هدم. إرشاد الساري(8/460).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث: ما يدل على تحريم التخنيث، وأن يدخل المخنث على النساء؛ وذلك أن الله -سبحانه وتعالى- جعل الخلق زوجين اثنين: ذكرًا وأنثى، فجعل الذكر حالة البروز والسعي والحرب، وجعل النسوان ذوات قرار في بيوتهن، ونهاهن عن التبرج؛ وذلك لأن شغلهن البيوت، فهن يخلفن الرجال في ذلك، كما يقوم الرجال عليهن في الكسب والحرب، وحماية الذمار، وغير ذلك، فإذا أخلف أحد الرجال في التشبه بالنسوان كان ذلك مخالفًا لما خلقه الله له، وكذلك المرأة. الإفصاح عن معاني الصحاح (3/ 187).