«مَن غَسَلَ يوم الجُمُعةِ واغْتَسَلَ، ثم بَكَّرَ وابْتَكَرَ، ومشى ولم يَرْكَبْ، ودَنَا مِن الإمامِ، فاسْتَمَعَ ولم يَلْغُ، كان له بكلِّ خُطْوَةٍ عملُ سنةٍ أجْرُ صيامِهَا وقيامِهَا».
رواه أحمد برقم: (16173) ورقم: (16175) ورقم: (16962)، وأبو داود برقم: (345)، والترمذي برقم: (496)، والنسائي برقم: (1384)، وابن ماجه برقم: (1087)، من حديث أَوْسِ بن أَوْسٍ الثَّقَفِي -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (6405)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (690).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«بَكَّرَ وابْتَكَرَ»:
مَن روى (بَكَر) بالتخفيف فمعناه: خروجه من بيته باكرًا، ومَن روى (بَكَّر) بالتشديد، فهو إتيان الصلاة لأول وقتها، والمبادرة إليها، وكل مَن أسرع إلى شيء فقد بكَّر إليه، وكذلك جاء في الحديث: «بكروا بصلاة المغرب» أي: صلوها عند غروب الشمس، وهو أول وقتها، وقيل لأول ما يُدْرَكُ من الفواكه: باكورة؛ لمجيئه في أول الوقت.
ومعنى: «ابتكر» أي: أدرك أول الخطبة، كما يُقال: ابتكر بِكْرًا، إذا نكحها في أول إدراكها، وكان أبا عذريتها. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، للأزهري (ص: 65-66).
«دَنَا»:
أي: قَرُب. مرقاة المفاتيح (3/ 1035).
قال الفيومي-رحمه الله-:
يُقال: دَنَا منه، ودَنَا إليه، يَدْنُو دُنُوًّا: قَرُبَ، فهو دَانٍ، وأَدْنَيْتُ السِّتْرَ: أَرْخَيْتُهُ، وَدَانَيْتُ بينَ الأَمْرَيْنِ: قَارَبْتُ بينهما. المصباح المنير(1/ 201).
«ولم يَلْغُ»:
اللغو: مصدر لغا يلغو لَغْوًا، إذا تكلم بشيءٍ من غير تَفكّر ورَوِيّة. الكتاب الفريد في إعراب القرآن المجيد(2/٤٨٥)
وقال الهروي-رحمه الله-:
إذا تكلّم وصوَّت.أسفار الفصيح(1/٢٣٣).
شرح الحديث
قوله: «من غَسَلَ يوم الجمعة واغتسل»:
قال النووي -رحمه الله-:
«غَسَل» بتخفيف السين و«غَسَّل» بتشديدها: روايتان مشهورتان، والأرجح عند المحققين: بالتخفيف، فعلى رواية التشديد في معناه ثلاثة أوجه:
أحدها: غَسَّل زوجته بأنْ جامعها، فألجأها إلى الغسل، واغتسل هو، قالوا: ويُستحب له الجماع في هذا اليوم؛ لأنه لا يأمن أنْ يرى في طريقه ما يشغل قلبه.
والثاني: أنَّ المراد: غسَّل أعضاءه في الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ثم اغتسل للجمعة.
والثالث: غسَّل ثيابه ورأسه، ثم اغتسل للجمعة.
وعلى رواية التخفيف في معناه هذه الأوجه الثلاثة:
أحدها: الجماع، قاله الأزهري، قال: ويُقال: غَسَل امرأته إذا جامعها.
والثاني: غَسَل رأسه وثيابه.
والثالث: توضأ، وذكر بعض الفقهاء (عَسَّل) بالعين المهملة، وتشديد السين، أي: جامع، شبَّه لذَّة الجماع بالعسل، وهذا غلط غير معروف في روايات الحديث، وإنما هو تصحيف.
والمختار: ما اختاره البيهقي وغيره من المحققين: أنَّه بالتخفيف، وأنَّ معناه: غَسَل رأسه، ويؤيِّدُهُ رواية لأبي داود في هذا الحديث: «مَن غَسَل رأسه يوم الجمعة واغتسل». المجموع شرح المهذب (4/ 543).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
قد اختَلَفَ أهلُ الرواية في قوله: «غَسَّل»؛ فمنهم مَن يرويه بالتشديد، وهم الأكثرون عددًا، ومنهم: من يرويه بالتخفيف، وهم الأعلام من أئمة الحديث، فأمَّا مَن شدَّد، فمنهم من يقول: على معنى التأكيد، ومنهم من يقول: غسل الرأس خاصة؛ لأن العرب لهم لِمَم (اللِّمة بالكسر: الشعر يجاوز شحمة الأذن) وشُعور، وفي غسلها كُلْفة؛ فأفرد ذكر غسل الرأس من أصل ذلك؛ وإليه ذهب مكحول، وبه قال أبو عبيد.
ومنهم مَن قال في معناه: يطأ صاحبته؛ منهم عبد الرحمن بن الأسود؛ وهلال بن يَساف، وهما من التابعين، وكأنَّهم ذهبوا إلى هذا المعنى؛ لما فيه من غض البصر، وصيانة النفس عن الخواطر التي تحجز بينه وبين التوجُّه إلى الله بالكلية.
وإذا خُفِّف، فمعناه: إما التأكيد، وإما غسل الرأس، والاغتسال للجمعة، وروينا عن أبي بكر بن الأثرم صاحب أحمد في سؤاله عنه عن هذا الحديث كلامًا زبدته: أنَّه فاوض أحمد في هذا الحديث، وراجعه كرَّة بعد أخرى؛ فقال: ما سمعنا إلا (غَسَّل) بالتشديد، وكان يذهب في معناه إلى ما ذكرناه من الوطء، قال: فذكرتُ له الحديث عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: «مَن غَسَل» مخففة، قال: وأي شيء معناه إذا خُفِّف؟ قلتُ: غسل رأسه واغتسل، قال: ليس بشيء، ثم قال لي بعد ذلك: نظرتُ في ذلك الحديث؛ فلم أجد (غَسَّل) يعني: بالتشديد، ولعله أنْ يكون في بعض الحديث، ولم أجده، وإنما أصبته (غَسَل) مخفَّفة من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قلتُ: عن حسين، أعني: الجعفر؟ قال: نعم؛ سمعته من الحسين، قال: ومن حديث المبارك عن الأوزاعي. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 337).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
رُوي «غسل» بالتشديد والتخفيف، فإنْ شُدِّد فمعناه: حمل غيره على الغسل، بأن يطأها، وبه قال عبد الرحمن بن الأسود وهلال وأحمد بن حنبل، وقيل: معناه: بالغ في الغسل، والتشديد فيه للمبالغة دون التَّعْدِيَةِ، كما في: قطَّع وكسَّر، و«اغتسل» تأكيد له، والعطف يأباه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 387).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «مَن غسل واغتسل» أنَّه جامع، يُروى «غَسل» بالتخفيف والتشديد، يقال: غَسَّل وغَسَل، إذا جامع، أو يكون أوجب الغسل على غيره، أو يكون غسَّل من الجنابة بالتشديد، وغسَل بالتخفيف للجمعة؛ لأنه إذا فعل ذلك كان أغض لبصره في سعيه للجمعة، وقيل: غَسَل هنا: أسبغ الوضوء، واغتسل: أي للجمعة، وقيل: غَسَل رأسه واغتسل في بقية جسمه، وقيل: غَسَّل بالتشديد: بالغ في دَلْكِ جسمه وتنظيفه، واغتسل بصبِّ الماء عليه. إكمال المعلم (3/ 238-239).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وعلى مثل هذا حَمَلَ طائفةٌ من العلماء. قوله: «مَن غسَّل واغتسل»؛ فقالوا: غسَّل رأسه، واغتسل في بدنه، وقالوا: كانت للقوم جُمَمٌ (جَمْع جُمَّة وهو الشعر الكثير). فتح الباري (8/ 150).
وقال ابن قتيبة -رحمه الله-:
فإنَّ أكثر النَّاس يذهبون في «غَسل» إلى أنَّه أراد مجامعة الرَّجل أهله قبل خروجه إلى الصَّلاة؛ لأنَّه لا يُؤمَن عليه أنْ يرى في طريقه ما يُحَرِّك منه، ويَشغل قلبه.
ويذهب آخرون: أنَّه أراد بقوله: «غَسل»: توضَّأ للصَّلاة فغسل جوارح الوضوء؛ وثُقِّل الفعْل لأنَّه أراد غُسْلًا بعد غسلٍ؛ لأنَّه إذا أسبغ وأكمل الطهور غسل كل عضو ثلاث مرَّات، ثم اغتسل بعد ذلك غُسْل الجمعة. غريب الحديث (1/289-290).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «غَسل واغتسل...» اختلف الناس في معناهما، فمنهم من ذهب إلى أنَّه من الكلام المظاهر الذي يُراد به التوكيد، ولم تقع المخالفة بين المعنيين لاختلاف اللفظين، وقال: ألا تراه يقول في هذا الحديث: «ومشى ولم يركب» ومعناهما واحد، وإلى هذا ذهب الأثرم صاحب أحمد.
وقال بعضهم: قوله: «غَسَّل» معناه: غسل الرأس خاصة؛ وذلك لأن العرب لهم لِمَمٌ وشُعور، وفي غسلها مؤونة، فأفرد ذكر غسل الرأس من أجل ذلك، وإلى هذا ذهب مكحول.
وقوله: «واغتسل» معناه: غسل سائر الجسد.
وزعم بعضهم أنَّ قوله: «غَسَّل» معناه: أصاب أهله قبل خروجه إلى الجمعة؛ ليكون أملك لنفسه، وأحفظ في طريقه لبصره، قال: ومن هذا قول العرب: فَحْلٌ غُسَلَةٌ، إذا كان كثير الضِّراب (وقوع البعير على الناقة كالنكاح من الرجل والمعنى واحدٌ). معالم السنن (1/ 108).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وأَنْسَبُ ما في هذه الأقوال: قول مَن قال: حَمَلَ غيره على الغُسْل بالحث والترغيب والتذكير -والله تعالى أعلم-. المفهم (2/ 484).
قوله: «ثم بَكَّرَ وابْتَكَرَ»:
قال أبو عبيد الهروي -رحمه الله-:
«بكَّر» يعني: إلى الصلاة، فأتاها لأول وقتها، وكل مَن أسرع إلى شيء فقد بكَّر إليه، يُقال: بكِّروا بصلاة المغرب، أي: صلوها عند سقوط القرص... وقوله: «وابتكر» أراد: أدرك أول الخطبة، وأولها بكورتها، كما يقال: ابتكر الرجل إذا أكل باكورة الفواكه، وابتكار الجارية: أخذ عذريتها. الغريبين (1/ 205-206).
وقال التوربشتي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
قلتُ: وأرى نقل أبي عبيد أولى بالتقديم؛ لمطابقته أصول اللغة؛ وذلك لأنهم يقولون لكل مَن بادر إلى الشيء: أبكر إليه وبكَّر أيَّ وقت كان، ومنه الحديث: «لا تزال أمتي على سنتي ما بكروا بصلاة المغرب» أي: صلوها عند سقوط القرص، وفي الحديث: «بكروا بالصلاة في يوم الغيم، فإنه مَن ترك العصر حبط عمله» أي: تقدموا وقدموها في أول وقتها، ويقولون: ابتكرت الشيء أي: استوليتُ على باكورته، ويشهد لصحة هذا القول نَسَقُ الكلام، فإنَّه حثٌّ على التبكير، ثم على الابتكار، وعلى هذا نَسَقُ العمل، فإنَّ توجُّه الإنسان إنما يغدو إلى المسجد أولًا، ثم يستمع الخطبة ثانيًا، ومن آداب الخطيب الْمِصْقَع (أي: البليغ) والبليغ المغرب أن يتوجَّهَ في الأمر بمقاله على ما هو الأول فالأول، ونبي الله -صلى الله عليه وسلم- أفصح من كل فصيح، وأبلغ من كل بليغ. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 338).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «بكَّر وابتكر» زعم بعضهم أنَّ معنى «بكَّر»: أدرك باكورة الخطبة، وهي أولها، ومعنى: «وابتكر» قَدِمَ في الوقت.
وقال ابن الأنباري (له كتاب فريد مفقود في غريب الحديث): معنى: «بكَّر» تصدَّق قبل خروجه، وتأوَّل في ذلك ما روي في الحديث من قوله: «باكروا بالصدقة، فإنَّ البلاء لا يتخطَّاها». معالم السنن (1/ 108).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وأما حمْلُهُ على مباكرة الصدقة، فأمر خارج عن النَّسق، وقول التوربشتي: لمطابقته أصول اللغة، أفاد أنَّ قول ابن الأنباري غير موافق لمواد اللغة وهو كذلك؛ لأن مادة (بكر) لم تجئ بمعنى: تصدَّق، وليس في الحديث الذي ذكره دلالة عليه بحسب اللفظ أصلًا، وإنَّما هو تقوية لأصل المعنى الذي أراده، فتأمَّل، فإنه لا يخلو عن خَطَل (اضطراب وفساد). مرقاة المفاتيح (3/ 1035).
وقال أبو عبيد الهروي -رحمه الله-:
قال ابن الأنباري: والذي نذهب إليه في تكريره بين اللفظين: أنَّ المراد منه: المبالغة والزيادة في التأكيد؛ لأن العرب إذا بالغت اشتقَّت من اللفظة الأولى لفظة على غير بنائها، ثم أتبعوها إعرابها، فيقولون: جادٌّ مُجِدٌّ، وليلٌ لائل، وشعرٌ شاعر، وقال الشاعر:
حَطَّامَةَ الصُّلب حَطومًا مِحْطَمًا.
فالحطوم والمحطم معناهما كمعنى الأول. الغريبين (1/ 205-206).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وأما ما قيل: هما بمعنى، جمع بينهما تأكيدًا، فهو استرواحٌ (أي: اطمئنان). مرقاة المفاتيح (3/ 1035).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
«وبكَّر وابتكر» تأكيدٌ مَحْضٌ. عارضة الأحوذي (2/235).
وقال النووي -رحمه الله-:
والمشهور «بكَّر» بالتشديد، ومعناه: بكَّر إلى صلاة الجمعة، وقيل: إلى الجامع، «وابتكر»: أدرك أول الخطبة، وقيل: هما بمعنى، جمع بينهما تأكيدًا...، وقيل: «بكَّر»: راح في الساعة الأولى، «وابتكر»: فَعَلَ فِعْلَ المبتكرين من الصلاة والقراءة وسائر وجوه الطاعة، وقيل: معنى: «ابتكر»: فَعَلَ فِعْلَ المبتكرين وهو الاشتغال بالصلاة والذِّكْر، حكاه الشيخ أبو حامد (الإسفراييني) والقاضي أبو الطيب (الطبري). المجموع شرح المهذب (4/ 543).
قوله: «ومشى ولم يَرْكَبْ»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
قوله: «ومشى» أي: إلى الجمعة على قدميه «ولم يركب» فعلى هذا: اللفظان بمعنىً واحد. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (2/ 559).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وأما الجمع بين قوله: «ومشى ولم يركب» فقيل: هما بمعنىً، جمع بينهما تأكيدًا. مرقاة المفاتيح (3/ 1035).
وقال محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
«ومشى ولم يركب» وذلك أنَّ المشي فيه كُلْفة ومشقة. شرح الترمذي كتاب الطهارة (24/ 21).
وقال النووي -رحمه الله-:
أما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ومشى ولم يركب» فقد قدَّمنا حكاية الخطابي عن الأثرم: أنَّه للتأكيد، وأنهما بمعنى، والمختار: أنَّه احتراز من شيئين:
أحدهما: نفي توهُّم حمل المشي على المضي والذهاب، وإن كان راكبًا.
والثاني: نفي الركوب بالكلية؛ لأنه لو اقتصر على «مشى» لاحتمل أنَّ المراد: وجود شيء من المشي، ولو في بعض الطريق، فنفى ذلك الاحتمال، وبيَّن أنَّ المراد: مشى جميع الطريق، ولم يركب في شيء منها. المجموع شرح المهذب (4/ 543-544).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ولم يركب» تأكيد لقوله: «مشى»، ويحتمل: أنْ لا يكون تأكيدًا، ويكون المعنى: ولم يركب بالكلية في الذهاب والإياب؛ لأنه إذا مشى في الذهاب فقط، أو في الإياب فقط، أو مشى شيئًا يسيرًا في الذهاب أو الإياب يَصْدُقُ عليه أنه مشى، ولم يَصْدُقْ عليه أنه لم يركب، فلا يكون قوله: «ولم يركب» تأكيدًا، فافهم. شرح أبي داود (2/ 168).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «ومشى» أي: حال ذهابه للصلاة؛ لأنه أقرب إلى الخشوع، إنْ لم يكن له عذر، أما حال رجوعه منها فلا يُطالب بالمشي؛ لانقضاء العبادة.
قوله: «ولم يركب» قيل: إنه تأكيد لقوله: «مشى»، والمختار: أنَّه تأسيسٌ. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (3/ 210).
قوله: «ودَنَا مِن الإمامِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «ودنا» أي: قَرُب «من الإمام» أي: الخطيب. مرقاة المفاتيح (3/ 1035).
وقال العيني -رحمه الله-:
ثم المراد بالدنو من الإمام هل هو حالة الخطبة أو حالة الصلاة إذا تباعد ما بين المنبر والمصلي مثلًا؟
الظاهر: أنَّ المراد حينئذٍ: الدنو منه في حالة الخطبة لسماعها، وفي حديث ابن عباس عند البزار والطبراني في الأوسط: «ثم دنا حيث يسمع خطبة الإمام»، والحديث ضعيف. عمدة القاري (6/ 176).
قوله: «فاسْتَمَعَ ولم يَلْغُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فاستمع» أي: ما يُلقى إليه من الكلام، «ولم يلغ» بضم الغين، أي: بالكلام مع الأنام، وبالفعل: العبث من أفعال العوام. مرقاة المفاتيح (3/ 1035).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «فَاسْتَمَعَ» هذِه الفاء السَّبَبيَّة، يَعني: أنَّ الدُنُوَّ مِنَ الإمَام سببٌ يُؤَدِّي إلى استماع الخُطبة التي يتَّعِظُ بها. شرح سنن أبي داود (2/ 669).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما قوله: «ودنا من الإمام، واستمع» فهما شيئان متخالفان؛ إذ قد يدنو، ولا يستمع، وقد يسمع، ولا يدنو، فندب إليهما معًا. الإيجاز في شرح سنن أبي داود (ص: 31).
وقال السندي -رحمه الله-:
وفيه: أنَّه لا بد من الأمرين جميعًا، فلو استمع وهو بعيد، أو قَرُبَ ولم يستمع، لم يحصل له هذا الأجر. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 338).
قوله: «كان له بكلِّ خُطْوَةٍ عملُ سنةٍ؛ أجْرُ صيامِهَا وقيامِهَا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«كان له بكل خطوة» بفتح الخاء وتُضَم، «عمل سنة» أي: ثواب أعمالها، «أجر صيامها وقيامها» بدل من «عمل سنة». مرقاة المفاتيح (3/ 1035).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «بكل خطوة عمل سنة» وجاء في المشي إلى مطلق الصلاة رفع درجة في كل خطوة، وكتابة حسنة، ومحو سيئة فيها، أما ثبوت أجر سنة؛ قيام ليلٍ، وصيام نهارٍ، فهو من خصائص الجمعة. لمعات التنقيح (3/ 509).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فالمشي إلى الجُمُعَات له مزيد فضل؛ لا سيما إنْ كان بعد الاغتسال، كما في السنن عن أبي أوس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلْغُ، كان له بكل خطوة أجر سنة: صيامها وقيامها»، وكلما بَعُدَ المكان الذي يمشي منه إلى المسجد- كان المشي منه أفضل لكثرة الخُطا...، ومع هذا فنفس الدار القريبة من المسجد أفضل من الدار البعيدة عنه، لكن المشي من الدار البعيدة أفضل...، والمشي إلى المسجد أفضل من الركوب، كما تقدَّم في حديث أوس في الجُمع؛ ولهذا جاء في حديث معاذ ذكر المشي على الأقدام، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يخرج إلى الصلاة إلا ماشيًا، حتى العيد يخرج إلى المصلى ماشيًا، فإنَّ الآتي للمسجد زائر لله، والزيارة على الأقدام أقرب إلى الخضوع والتذلل. اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى (ص: 6).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «بكل خطوة» أي: ذهابًا وإيابًا، أو ذهابًا فقط، أو بكل خطوة من خطوات ذلك اليوم، أو تمام العمر على بُعْد.
وقوله: «أجر صيامها» بدل من «عمل سنة»، والظاهر: أنَّ المراد أنْ يحصل له أجر من استوعب السَّنة بالصيام والقيام لو كان، ولا يتوقف ذلك على أنْ يتحقَّق الاستيعاب من أحد.
ثم الظاهر: أنَّ المراد في هذا وأمثاله: ثبوت أصل أجر الأعمال لا مع المضاعفات المعلومة بالنصوص، ويحتمل: أنْ يكون مع المضاعفات -والله تعالى أعلم-. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (1/236-237).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا السندي:
الاحتمال الثاني هو الظاهر، فلا ينبغي العدول عنه إلا بحجة. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (16/ 139).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
قوله: «وقيامِها» أي: قيام لياليها. شرح المصابيح (2/ 233).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
والحديث يدل على مشروعية الغسل يوم الجمعة، وقد تقدَّم الخلاف فيه.
وعلى مشروعية التبكير والمشي والدنو من الإمام، والاستماع وترك اللغو، وإنَّ الجَمْع بين هذه الأمور سببٌ لاستحقاق ذلك الثواب الجزيل. نيل الأوطار (1/ 296).
وقال السخاوي-رحمه الله-:
قال أبو زرعة العراقي: لا أَعلم حدِيثًا كثير الثَّوَاب مع قِلَّة العمل أَصحّ من حديث: «مَن بكّر وابتكر وغَسَل واغتسل ودَنا وأَنصت، كان له بِكُلّ خُطوة يمشيها كَفارة سَنة».الضوء اللامع لأهل القرن التاسع(1/٣٤٢)
وقال الملا علي القاري-رحمه الله-:
قال بعض الأئمة: لم نسمع من الشريعة حديثًا صحيحًا مشتملًا على مثل هذا الثواب. أي: فيتأكد العمل لينال الأَمل.مرقاة المفاتيح(3/١٠٣٥)
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
منها: ما بوَّب له المصنف (النسائي)، وهو بيان فضل غسل يوم الجمعة.
ومنها: فضل المبادرة لصلاة الجمعة.
ومنها: استحباب الدنُوِّ من الإمام، والاستماع لخطبته.
ومنها: عدم الكلام في استماع الخطبة، وعدم الاشتغال بما ينافي الاستماع.
ومنها: أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يعطي من الثواب على بعض الأعمال مع سهولتها، ما لا يعطيه على كثير من الأعمال الشاقة -والله تعالى أعلم-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (16/ 140).