عنِ ابنِ جُرَيْجٍ، قال: أخبرني عُمَرُ بنُ عطاءِ بنِ أبي الْخُوَارِ، أنَّ نَافِعَ بنَ جُبَيْرٍ أرسلَهُ إلى السَّائِبِ -ابنِ أُخْتِ نَمِرٍ- يسألُهُ عنْ شيءٍ رآه منه معاوِية في الصلاة، فقال: نعم، صلَّيتُ معه الجمعة في المقصورَةِ، فلمَّا سلَّمَ الإمامُ قُمْتُ في مقَامِي فصلَّيْتُ، فلمَّا دخل أرسل إليَّ فقال: «لا تَعُدْ لما فَعَلْتَ، إذا صلَّيْتَ الجمعة فلا تَصِلْهَا بصلاةٍ حتَّى تَكَلَّمَ أو تَخْرُجَ، فإنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بذلك، أنْ لا تُوصَلَ صلاةٌ بصلاةٍ حتَّى نَتَكَلَّمَ أو نَخْرُجَ».
رواه مسلم برقم: (883).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«المقصورَةِ»:
موضع مُعَيَّن في الجامع مقصور للسلاطين. مرقاة المفاتيح (3/ 900).
يُقال: قصرتُه قصرًا: حبسْتُهُ، ومنه: {حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الخِيامِ} الرحمن: 72، ومقصورة الدار: الحُجرة منها، ومقصورة المسجد أيضًا، وبعضهم يقول: هي مُحَوَّلَةٌ عن اسم الفاعل، والأصل: قاصرة؛ لأنها حابسة، كما قيل: حجابًا مستورًا، أي: ساترًا. المصباح المنير، للفيومي (2/ 505).
«في مَقَامِي»:
المَقام: المَكَان، والمُقام: من الإقامة. غريب الحديث، للقاسم بن سلام (4/ 214).
قال العسكري -رحمه الله-:
والمَقَام -بِالْفَتْح-: مصدر قَامَ يقوم مقَامًا، والمقَام أَيضًا: مَوضِع القيام. الفروق اللغوية (ص:307).
«فلا تَصِلْهَا»:
مِن الوصل، أي: لا توصلها. مرقاة المفاتيح (3/ 900).
شرح الحديث
قوله: «يسألُهُ عن شيءٍ رآه منه مُعاوِيَةُ في الصَّلاةِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يسأله» أي: يسأل عُمرُ السائبَ «عن شيء رآه» أي: ذلك الشيء، «منه» أي: من السائب «معاويةُ في الصلاة». مرقاة المفاتيح (3/ 899-900).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«يسأله» جملة حالية من المفعول، «عن شيء رآه منه» أي: من السائب، «معاوية» بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، «في الصلاة» والمعنى: أنَّ نافعًا أرسل عُمرَ بن عطاء، يسأل السائبَ بن يزيد، عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة، فأنكره عليه. البحر المحيط الثجاج (17/ 406).
قوله: «فقال: نعم، صلَّيتُ معه الجمعة في المقصورَةِ»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «نعم» إيجاب وتقرير لما سأله نافع من قوله: «هل رأى منك معاوية شيئًا في الصلاة فأنكر عليك؟»، والمذكور معناه. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1179).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فقال» السائب: «نعم» المناسب من معانيها هنا الوعد، كأنَّه يَعِدُهُ بالإخبار، ثم أخبره، فقال: «صليتُ معه» أي: مع معاوية -رضي الله عنه-، «الجمعة» أي: صلاتها، «في المقصورة» اسم مفعول من قَصَرَ الشيء: إذا حَبَسَهُ. البحر المحيط الثجاج (17/ 406).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «صليتُ معه الجمعة في المقصورة» فيه دليل على جواز اتخاذها في المسجد إذا رآها ولي الأمر مصلحة، قالوا: وأول مَن عملها معاوية بن أبي سفيان حين ضربه الخارجي. شرح صحيح مسلم (6/ 170).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «صليتُ معه الجمعة في المقصورة» فيه عملها في الجوامع، وأوَّلَ مَن عملها -فيما قيل:- معاوية مَن الخلفاء، حين ضربه الخارجي، فاستمرَّ العملُ عليها لهذه العلة من التحصين على الأمراء، وأما بغير ذلك فلا ينبغي فعلها، وإنْ كان بعض المتأخرين أجازها، وذلك خطأ؛ لتفريقها الصفوف، وسترها الإمام عمن خلفه، وإنما استُحِبَّ للعلة المتقدمة.
واختلف الناس في الصلاة فيها، فأجازه كثير من السلف، وصلوا فيها، منهم: الحسن والقاسم بن محمد وسالم وغيرهم، وأباه آخرون وكرهوه، وروي عن ابن عمر أنه إذا حضرت الصلاة وهو في المقصورة خرج عنها إلى المسجد، وهو قول الشعبي وأحمد وإسحاق، إلا أنَّ إسحاق قال: فإنْ صلى أجزأته، وقيل: هذا إذا كانت مباحةً، فإن كانت مُحجَّرةً (أي: ممنوعة) إلا على آحاد من الناس لم يَجُزْ فيها صلاة الجمعة؛ لأنها بتحجيرها خرجت عن حكم الجامع المشترط في الجمعة. إكمال المعلم (3/ 288).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا القاضي:
القول بعدم صحة الجمعة إذا كانت ممنوعة على الناس: مما لا دليل عليه، وأيضًا إنَّ الإذن للكل يُخْرِجُها عما وُضِعَتْ له؛ لأنها ما وضعوها إلا اتقاء عن الأشرار، فلو سُوْمِح لكل أحد لفات الغرض، والحاصل: أنَّها إذا اتُخِذَتْ لغرض صحيح، فجواز الصلاة لمن فيها هو الأرجح لما ذُكِرَ، فَتَبَصَّرْ. البحر المحيط الثجاج (17/ 409).
قوله: «فلمَّا سلَّمَ الإمامُ قُمْتُ في مَقَامِي فَصَلَّيْتُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «فلما سلَّم الإمام قمتُ في مقامي» أي: الذي صليتُ فيه الجمعة، «فصليتُ» أي: سُنة الجمعة من غير أنْ أفصل بينهما بشيء. مرقاة المفاتيح (3/ 900).
قوله: «فلمَّا دخلَ أرسلَ إليَّ فقالَ: لا تَعُدْ لما فَعَلْتَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فلما دخل» أي: معاوية بيته «أرسل إليَّ» لئلا تكون النصيحة على وجه الفضيحة، «فقال: لا تَعُدْ» من العود، «لما فعلتَ» من إتيان السُّنة في مكان فعل الجمعة بلا فصل. مرقاة المفاتيح (3/ 900).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقال» لي معاوية «لا تَعُدْ» نهيٌ من العَوْد، بمعنى: الرجوع، أي: لا ترجع لما فعلتـه آنفًا من صلاة الراتبة في مكان الفريضة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 383).
قوله: «إذا صلَّيْتَ الجمعة فلا تَصِلْهَا بصلاةٍ حتَّى تَكَلَّمَ أو تَخْرُجَ»:
قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «إذا صَلَّيْتَ الجُمُعةَ» هي مثال؛ إذ غيرها كذلك، ويؤيده ما يأتي من حكمة ذلك «فلا تصلها بصلاة حتى تكلَّم» أي: تتكلم، «أو تخرج من المسجد» أي: أو تتحوَّل إلى مكان آخر. فتح الإله في شرح المشكاة (5/22).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ويُحتمل: أنَّ ذِكْر الجمعة بعد خصوص الواقعة للتأكيد الزائد في حقها، لا سِيَّما ويوهم أنه يصلي أربعًا، وأنه الظهر، وهذا في مجتمع عامٍّ سبب للإيهام.
«فلا تَصِلْها» من الوصل، أي: لا توصلها، «بصلاة» أي: نافلة أو قضاء، «حتى تكلَّم» بحذف إحدى التاءين، وفي نسخة: «حتى تُكَلِّم» من التكليم، أي: أحدًا من الناس، فإن به يحصل الفصل لا بالتكلُّم بذكر الله، «أو تخرج» أي: حقيقةً أو حكمًا، بأنْ تتأخر عن ذلك المكان. مرقاة المفاتيح (3/ 900).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إذا صلَّيتَ الجمعة فلا تَصِلْها» -بفتح فكسر وسكون اللام المخففة-، من الوصل، أي: لا تَصِلِ الجمعة «بصلاة» أخرى، «حتى تكلَّم» -بفتح اللام المشددة-، من باب: تَفَعَّل الخماسي، حُذِفَتْ منه إحدى التاءين، أي: حتى تتكلَّم بكلام آدمي، «أو» حتى «تخرج» وتتحول من مكان صلاتك، أي: تنتقل منه بالخروج من المسجد، أو إلى مكان آخر من المسجد؛ لإكثار مواضع السجود. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 383).
قوله: «فإنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بذلك»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك» معلوم أن المشار إليه مُبْهَمٌ حتى يتبين الكلام سابق أو لاحق، وهُنا بينه بقوله: «ألا نوصل صلاة بصلاة»، «ألا نوصل» هذه عطف بيان بالنسبة لاسم الإشارة. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (2/ 356).
قوله: «أنْ لا تُوصَلَ صلاةٌ بصلاةٍ حتَّى نَتَكَلَّمَ أو نَخْرُجَ»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «أن لا تُوصَل بصلاةٍ» هكذا في إحدى الروايتين، وقد رُوِيَ: «أن لا نُوصِل صلاةً» فالأولى تُوصل بالتاء مبنيٌّ لِمَا لم يُسَمَّ فاعله، وفيه ضمير هو المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعله، و«بصلاة» متعلِّق به، فعلى هذا يكون النهي مخصوصًا بالجمعة لفظًا.
والرواية الأخرى: «نُوصل» بالنون، مبني للفاعل، و«صلاة» مفعول، وهذا اللفظ يعم جميع الصلوات، ومقصود هذا الحديث: منع ما يُؤدي إلى الزيادة على الصلوات المحدودات -والله تعالى أعلم-. المفهم (2/ 520).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «أن لا نوصل» أي: الجمعة أو صلاة، أيَّ صلاة من المكتوبات، «بصلاة حتى نتكلَّم أو نخرج» والمقصود بهما: الفصل بين الصلاتين؛ لئلا يُوْهِمَ الوصل، فالأمر للاستحباب، والنهي للتنزيه. مرقاة المفاتيح (3/ 900).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه دليل لما قاله أصحابنا (الشافعية): إن النافلة الراتبة وغيرها يُستحب أنْ يتحول لها عن موضع الفريضة إلى موضع آخر، وأفضله التَّحوُّل إلى بيته، وإلا فموضع آخر من المسجد، أو غيره؛ ليكثر مواضع سجوده؛ ولتنفصل صورة النافلة عن صورة الفريضة.
وقوله: «حتى نتكلَّم» دليل على أنَّ الفصل بينهما يحصل بالكلام أيضًا، ولكن بالانتقال أفضل؛ لما ذكرناه -والله أعلم-. شرح صحيح مسلم (6/ 170-171).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
لفظ: «أنْ لا نوصل صلاةً بصلاةٍ» ليس في مسلم، وإنما الذي فيه «أن لا تُوصَل صلاةٌ» وعموم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أن لا توصل صلاة» يعم صلاة الجمعة وغيرها من الفرائض. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (2/ 181).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قال العلماء: يُسنُّ الفصل بين الفرض وسنته بكلام أو انتقال من موضعه، والحكمة من ذلك: ألا يُوْصَلَ الفرض بالنفل، فليكن الفرض وحده، والنفل وحده، حتى لا يختلط، هكذا قال أهل العلم -رحمهم الله-، والله الموفق. شرح رياض الصالحين (5/ 142).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ما يفيده الحديث:
1. استحباب فصل النافلة عن الفريضة بفاصل من ذِكْرٍ أو خروج من المسجد.
2. كراهية صلاة النافلة بعد السلام من الفريضة مباشرة دون فاصل. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (2/ 181-182).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
جواز اتخاذ المقصورة في المسجد إذا رآها ولي الأمر مصلحة.البحر المحيط الثجاج (17/ 408).
وقال الشيخ فيصل بن المبارك -رحمه الله-:
وفيه: لزوم الأدب مع أهل الفضل، وحُسن الإنكار، قال الشافعي: مَن وعَظ أَخاهُ سرًّا فقد نصحه وزانه، ومن وعَظه جهرًا فقد فضَحَه وشَانه. تطريز رياض الصالحين (ص: 648).