«ليلةُ القَدْرِ ليلةُ سَبْعٍ وعشرِينَ».
رواه أبو داود برقم: (1386)، وابن حبان برقم: (3680)، والطبراني في الكبير برقم: (814)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم: (8555)، من حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-.
وأورده الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام برقم: (705) وقال: رواه أبو داود، والراجح وقفه (أي: على معاوية)، وقال الصنعاني في سبل السلام (2/ 176): وله حُكْم الرَّفع.
صحيح الجامع برقم: (5474)، صحيح سنن أبي داود برقم: (1254).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«ليلةُ القَدْرِ»:
هي الليلة التي تُقَدَّر فيها الأرزاقُ وتُقْضَى. النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 22).
وقال محمد اليفرني -رحمه الله-:
ليلة القَدْر قيل: سُمِّيت بذلك لعظم شأنها وفضلها، أي: ذات القَدْر العظيم...، كقولهم: لفلان قَدْر في الناس، أي: مزية وشرف، وقيل: القَدْر: الزيادة في المقدار...، وقيل: ليلة القَدْر: ليلة الحُكْم والتقدير؛ سُمِّيت بذلك لأن الله تعالى يُقدِّر فيها ويَفْصِل كل ما يكون من السَّنة إلى السَّنة القابلة. الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب (1/ 349-350).
شرح الحديث
قوله: «ليلةُ القَدْرِ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ليلةُ القَدْرِ» الوارد في القرآن ذكرها، وفي السُّنة عظيم أجرها. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 300).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«ليلة القَدْر» بسكون الدال، قيل: إنما سُكِّنت وإنْ كان الأكثر في القَدَر الذي هو قرين القضاء الفتح: إعلامًا بأنَّه لم يرد به هنا ذلك، فإنَّ القضاء سبق الزمان، وإنَّما أُريد به تفصيل ما جرى به القضاء وتبيينه. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 13).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال العلماء: وسُمِّيت ليلة القدر لما يُكتب فيها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في تلك السَّنة، كقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} الدخان: 4، وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} القدر: 4، ومعناه: يُظْهِر للملائكة ما سيكون فيها، ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به، وتقديره له، وقيل: سُمِّيت ليلة القدر: لعظم قدرها وشرفها. شرح النووي على مسلم (8/ 57).
وقال المظهري -رحمه الله-:
سُمِّيت ليلةُ القَدْر بهذا الاسم لأن معنى القَدْر: عظيمُ الشأن والمنزلة، هذه الليلةُ عظيمةُ القَدْرِ والمنزلةِ، وقيل: سُمِّيت هذه الليلةُ بليلة القَدْرِ؛ لِمَا يجري فيها من قضاء الله وقَدَره أكثر مما يجري سائرَ الليالي. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 52).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
ويُحتمل: أنها سُمِّيت ليلة القَدْر لتقدير الله ما كان ينزل فيها من القرآن أيام حياة النبي -عليه السلام- إلى مثلها من العام المقبل. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 480-481).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وقيل: لعظم قدرها وشرفها، أو لأن مَن أتى بقيامها صار ذا قَدْر. شرح سنن أبي داود (6/ 614).
وقال القاضي البيضاوي -رحمه الله-:
وسُمِّيت الليلة: ليلة القَدْر: إما لأنها ليلةُ تقدير الأمور، فإنَّه تعالى بيَّن فيها لملائكته ما يحدث إلى مثلها من العام القابل، كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} الدخان: 4، وإما لخَطَرِهَا وشرفها على سائر الليالي. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 511).
وقال العراقي -رحمه الله-:
ليلة القدر...، سُمِّيت بذلك لعظم قَدْرِها؛ لما لها من الفضائل، أي: ذات القدر العظيم، أو لما يحصل لِمُحْيِيْهَا بالعبادة من القَدْرِ العظيم، أو لأن الأشياء تُقدَّر فيها وتُقضى، أقوال، ويُؤيِّد الأَوَّلَيْن قوله تعالى: {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِن أَلْفِ شَهْرٍ} القدر: 3، ويُؤيِّد الأخير قوله: {تُنَزَّلُ المَلَائِكَةُ والرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمْرٍ} القدر: 4، وقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} الدخان: 4. طرح التثريب في شرح التقريب (4/ 149).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
اخْتَلَف العلماء لم سُمِّيت ليلةَ القَدْر؟
فقيل: المعنى: أنها ليلةُ الشَّرَف والمنزلة والفضيلة، فسمَّاها بهذا لنزول القرآن جُملةً إلى سماء الدنيا، وثباتِ خيرها ودَوَامِه، وهو معنى البركة في قوله تعالى: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} الدخان: 3، في الآية الأخرى.
وقيل: لأنها ليلةُ تقديرِ الأمور وقضائِها؛ من قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} الدخان: 4، وقيل: المراد بهذه الآية: ليلةُ النصف من شعبان.
ومعنى ذلك -واللَّه أعلم-: إظهارُ ما قَدَّره اللَّه تعالى في أَزَلهِ من ذلك لحَمَلةِ وحيه، وملائكةِ سمواته، ونفوذُ أمره بذلك لهم ووحيه، أو إظهارُ ما شاء من أفعاله الدالة على ذلك عندهم، وإلا فقَدَرُ اللَّه وسابقُ علمِه بالآجال والأرزاق، وقضاؤه بما كان، ويكونُ، لا أولَ له.
وقيل: سمَّاها ليلة القَدْر لأنها يتنزل فيها من فضل اللَّه، وخزائن مِنَنِهِ ما لا يُقْدَرُ قَدْرُه، قلتُ: وفي هذا التعليل الأخير عندي نظر.
ثم اختلفوا في سرِّ كونها خيرًا من ألف شهر، وتخصيصها بهذه المدة، فقيل: إنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَكَرَ رجلًا من بني إسرائيل حملَ السلاحَ في سبيل اللَّه ألفَ شهر، فعَجِبَ المؤمنون من ذلك، وتقاصَرَتْ إليهم أعمالُهم، فأُعْطُوا ليلةً هي خيرٌ من مدة ذلك الغازي.
وقيل: إنَّ الرَّجُل كان فيما مضى ما كان يقال له: عابدٌ حتى يعبد اللَّه ألفَ شهر، فأُعطوا ليلةً إنْ أَحْيَوها كانوا أحقَّ بأنْ يُسَمَّوا عابدين من أولئك العُبَّاد.
وروى مالك في مُوَطَّئِهِ أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أُري أعمالَ الناس قبله، أو ما شاء اللَّه من ذلك، فكأنَّه تقاصرَ أعمارَ أُمَّتِهِ أن لا يبلغوا من العمل مثلَ الذي بلغَ غيرُهم في طول العمر، فأعطاه اللَّه ليلةَ القدر خير من ألف شهر.
قلتُ: هذا أحدُ الأحاديث الأربعة الواقعة في الموطأ المطْعُونِ فيها، على ما نَقَلَهُ ابن بزيزة في شرح الأحكام لِعَبْدِ الحقِّ -رحمهما اللَّه-، وغيرُه. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (3/ 492-494).
وقال النووي -رحمه الله-:
ليلة القدر مختصة بهذه الأُمَّة، زادها الله شرفًا، فلم تكن لمن قبلها، وسُمِّيت ليلة القدر أي: ليلة الحُكْم والفَصْل، هذا هو الصحيح المشهور، قال الماوردي وابن الصباغ وآخرون: وقيل: لعظم قدرها. المجموع شرح المهذب (6/ 447).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
وأجمع مَن يُعتدُّ به على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر؛ للأحاديث الصحيحة المشهورة. شرح النووي على مسلم (8/ 57).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وشذَّ قومٌ فقالوا: إنها كانت خاصَّة للنبي -عليه السلام- ثم رُفِعَت، واحتجوا بالحديث الذي جاء فيه أنه أُعْلِمَهَا -عليه السلام- حتى تلاحَى تخاصم رجلان فرُفِعَت، ومعنى هذا عندنا: أنَّه رُفِعَ عنه عِلْمُ عينِها، كما قال في الحديث: «فأُنْسِيتُهَا». إكمال المعلم (4/ 146).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
واخْتَلَفَ الناس اختلافًا كثيرًا في ليلة القدر هل كانت مخصوصة بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو لا؟
فالجمهور: على أنها ليست مخصوصة، ثم اختَلفوا: هل هي مُتنقِّلة في الأعوام، أو ليست مُتنقِّلة؟ ثم الذين قالوا: إنها ليست مُتنقِّلة اختلفوا في تعيينها، فمِن مُعيِّنٍ ليلة النصف من شعبان، ومِن قائل: هي ليلة النصف من رمضان، ومِن قائل: هي ليلة سبع عشرة، ومِن قائل: هي ليلة تسع عشرة، ثم ما من ليلةٍ من ليالي العشر إلا وقد قال قائل بأنها ليلة القَدْر، وقيل: هي آخر ليلة منه، وقيل: هي مُعيَّنة عند الله تعالى، غير مُعيَّنة عندنا، وهذه الأقوال كلها للسَّلف والعلماء، وسبب اختلافهم اختلاف الأحاديث كما ترى.
قلتُ: والحاصل من مجموع الأحاديث، ومما استقر عليه أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طلبها: أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأنها مُتنقِّلة فيه، وبهذا يَجْتَمِعُ شتاتُ الأحاديث المختلفة الواردة في تعيينها، وهو قول مالك والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وغيرهم على ما حكاه أبو الفضل عياض، فاعتَمِد عليه، وتَمَسَّك به. المفهم (3/ 251).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد اخْتَلف العلماءُ في ليلة القَدْر اختلافًا كثيرًا، وتحصَّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولًا، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشترَكَتَا في إخفاء كل منهما؛ ليقع الجِدُّ في طلبهما (ثم سرد الأقوال). فتح الباري (4/262- 263).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ولا حاجة إلى سردها (هذه الأقوال)؛ لأن منها ما ليس في تعيينها، كالقول بأنها رُفعت، والقول بإنكارها من أصلها، فإنَّ هذه عدَّهَا المصنف ابن حجر من الأربعين، وفيها أقوال أُخَر لا دليل عليها، وأظْهَرُ الأقوال: أنها في السبع الأواخر. سبل السلام (1/ 596).
قوله: «ليلةُ سَبْعٍ وعشرِينَ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ليلةُ سبعٍ وعشرين» أي: من رمضان، وعليه الجماهير من الصحابة، وغيرهم. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 300).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ليلةُ سبع وعشرين» وبهذا أخذ الأكثر، وهو اختيار الصوفية. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 226).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«ليلةُ سبع وعشرين» من رمضان، وبه قال جمهور الصحابة والتابعين، وكان أُبي بن كعب يحلف عليه. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 333).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
إنها ليلة سبع وعشرين وهو القول الحادي والعشرون من الأقوال التي ذكرها وهو الجادة من مذهب أحمد، ورواية عن أبي حنيفة، وبه جزم أُبي بن كعب، وحَلَفَ عليه، كما أخرجه مسلم، وروى مسلم أيضًا من طريق أبي حازم عن أبي هريرة قال: «تذاكَرْنَا ليلة القدر، فقال -صلى الله عليه وسلم-: أيُّكُم يَذْكر حين طلع القمر كأنَّه شِقُّ جَفْنَةٍ؟» أي: نصف قَصْعَةٍ كبيرة؟ قال أبو الحسن الفارسي: أي ليلة سبع وعشرين؛ فإنَّ القمر يطلع فيها بتلك الصِّفة. فتح الباري (4/ 264).
وقال ابن حجر -رحمه الله- بعد أنْ سرد ستة وأربعين قولًا:
وأرجحها كلها: أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل كما يُفهم من أحاديث هذا الباب، وأرجاها: أوتار العَشْر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية: ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين على ما في حديث أبي سعيد، وعبد الله بن أُنيس.
وأرجاها عند الجمهور: ليلة سبع وعشرين، وقد تقدَّمت أدلة ذلك.
قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر: ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عُيِّنَتْ لها ليلة لاقْتُصِرَ عليها. فتح الباري (4/ 266).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
واختَلف أهلُ العلم في أرجى هذه الليالي، فقال أُبي بن كعب وعبد الله بن عباس: هي ليلة سبع وعشرين، قال زِرُّ بنُ حُبَيْش: قلتُ لأُبي بن كعب: أما علمتَ أبا المنذر أنها ليلة سبع وعشرين؟ قال: بلى، أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنها ليلة صبيحتها تطلع الشمس ليس لها شعاع، فَعَدَدْنَا وحَفِظْنَا، والله لقد عَلِمَ ابن مسعود أنها في رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين، ولكنه كَرِهَ أنْ يخبركم، فتَتَّكِلُوا. المغني (3/ 117).
وقال العيني -رحمه الله-:
«ليس لها شعاع» قيل: يُحتمل: أنَّ هذه الصِّفة اختصت بعلامةِ صبيحة الليلة التي أنْبَأَهُم النبي -عليه السلام- أنها ليلة القدر، وجعلها دليلًا لهم عليها في ذلك، لا أنَّ تلك الصِّفة مختصة بصبيحة كل ليلة قَدْر، كما أعْلَمَهُم -عليه السلام- أنه يسْجُد في صبيحتها في ماء وطين.
ويُحتمل: أنها صفة خاصة لها، وقيل في ذلك: إنَّه لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها، ونزولها إلى الأرض، وصعودها بما تنزَّلت به من عند الله، وبكل أمر حكيم، وبالثواب في الأجور، سترت أجسامها اللطيفة، وأجنحتها شعاعها، وحجبت نورها. شرح أبي داود (5/ 283).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
وفائدة كون هذا (ليس لها شعاع) علامة، مع أنَّه إنما يُوجَد بعد انقضاء الليلة؛ لأنه يُسن إحياء يومها، كما يُسن إحياء ليلها. فتح الإله في شرح المشكاة (7/54).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
والأظهر أنَّ فائدة العَلَامَة: أنْ يَشْكُرَ على حصول تلك النعمة إنْ قام بخدمة الليلة، وإلا فيَتَأَسَّف على ما فاته من الكرامة، ويَتَدَارَك في السَّنة الآتية، وإنما لم يَجْعَلْ علامة في أول ليلها: إبقاء لها على إبهامها، والله -سبحانه- أعلم. مرقاة المفاتيح (4/ 1440).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
هي ليلة سبع وعشرين، وهذا قول أُبي بن كعب -رضي الله عنه-، ولم يكن مُسْتنَدُه في ذلك حديثًا يُعيِّن هذه الليلة بعينها أنها ليلة القدر، بل مُسْتَنَده في ذلك: وجود أَمَارة -أي: علامة- ذكرت في الحديث أنها تُوجد في صبيحة ليلة القدر، وهي أنَّ الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها، وقد طَلَعَتْ كذلك في صبيحة سبع وعشرين، وبهذا يُعلم أنْ مستند أُبي بن كعب -رضي الله عنه- ليس من القوة بحيث يُبنى عليه هذا التعيين؛ لأن وقوع ليلة القدر ووجود علامتها في الليلة السابعة والعشرين في سَنة، لا يستلزم وقوعها في هذه الليلة في كل سَنة؛ لأنها تنتقل من ليلة إلى أخرى، في وترٍ من ليالي العشر الأواخر، وقد ثبت وجود علامة هذه الليلة صبيحة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (1/ 480).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله- أيضًا:
ووجه الاستدلال (من حديث أُبي): أنَّه رأى الشَّمس طلعت كذلك صبيحة ليلة سبع وعشرين، وفي هذا الاستدلال نظر من وجهين:
الأول: أنه ظني، وليس بقطعي مستنِد إلى قول صاحب الشريعة.
الثاني: أنَّ وجود هذه الأمارة ووقوع ليلة القدر في تلك الليلة في سَنة من السنوات لا يستلزم وقوعها في تلك الليلة في كل سَنة؛ إذ الصحيح أنها تتقدَّم وتتأخَّر، وتنتقل من ليلة إلى أخرى في وتر العشر الأواخر. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (2/ 208).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «ليلةُ سبع وعشرين» فيه: حُجَّة قوية على أنَّ ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، وحكاه صاحب الحلية القفال الشاشي من الشافعية عن أكثر العلماء، وقد تقدَّمت له أدلة، وقد استنبط طائفة من المتأخرين من القرآن أنها ليلة سبع وعشرين من موضعين:
أحدهما: أنَّ الله تعالى كرَّر ذِكْر ليلة القَدْر في سورة القَدْر في ثلاثة مواضع منها، وليلة القَدْر حروفها تسعة حروف، والتسعة إذا ضُربت في ثلاثة فهي سبعة وعشرون.
والثاني: أنه قال: {سَلَامٌ هِيَ} القدر: 5، فكلمة (هي) هي الكلمة السابعة والعشرون من السورة، فإنَّ كلماتها كلها ثلاثون كلمة. شرح سنن أبي داود (6/ 669-670).
وقال العراقي -رحمه الله-:
واستدل ابن عباس على ذلك (أي على أنها ليلة سبع وعشرين): بأنَّ الله تعالى خلق السماوات سبعًا، والأرضين سبعًا، والأيام سبعًا، وأن الإنسان خُلق من سبع، وجُعِلَ رزقُه في سبع، ويسجد على سبعة أعضاء، والطواف سبع، والجمار سبع، واستحسن ذلك عمر بن الخطاب.
واستدل بعضهم على ذلك: بأنَّ عدد كلمات السورة إلى قوله: {هِيَ} القدر: 5، سبع وعشرون، وفيه: إشارة إلى ذلك، وحُكي ذلك عن ابن عباس نفسه. طرح التثريب في شرح التقريب (4/ 155).
وقال ابن عطية -رحمه الله-:
وهذه (أي الاستدلال بعدد الكلمات) من مُلَحِ التفسير، وليست من مَتِيْنِ العلم. المحرر الوجيز (1/ 61).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وهو كما قال. لطائف المعارف (ص: 203).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
ومن طرائف الوسواس: احتجاج ابن بكير المالكي في أنها ليلة سبع وعشرين بقول الله تعالى: {سَلَامٌ هِي} القدر: 5، قال: فلفظة {هِي} هي السابعة وعشرون من السورة.
وحَقُّ مَن قام هذا في دماغه أنْ يُعاني بما يعاني به سكان المارِسْتَان، نعوذ بالله من البلاء، ولو لم يكن له من هذا أكثرُ من دعواه أنه وقف على ما غاب من ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يَنسَ مِن عِلْمِ الغيب ما أنساه الله -عز وجل- نبيَّه -عليه السلام-، ومَن بَلَغَ إلى هذا الحد فجزاؤه أن يَخْذُله الله تعالى مثل هذا الخذلان العاجل، ثم في الآخرة أشد تنكيلًا. المحلى بالآثار (4/ 459).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وحكاه ابن حزم عن ابن بكير المالكي، وبالَغَ في إنكاره، وقال: إنه من طرائف الوسواس، ولو لم يكن فيه أكثر من دعواه أنه وقف على ما غاب من ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.طرح التثريب في شرح التقريب (4/ 155).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
ومما استدل به مَن رجَّح ليلة سبع وعشرين بالآيات والعلامات التي رُئِيَتْ فيها قديمًا وحديثًا، وبما وقع فيها من إجابة الدعوات، فقد تقدَّم عن أُبي بن كعب أنه استدل على ذلك بطلوع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها، وكان عَبْدَة بن أبي لبابة يقول: هي ليلة سبع وعشرين، ويستدل على ذلك، فإنه قد جرَّب ذلك بأشياء، وبالنجوم، خرَّجه عبد الرزاق، ورُوي عن عَبْدَةَ أنه ذاق ماء البحر ليلة سبع وعشرين فإذا هو عَذْبٌ، ذكره الإمام أحمد بإسناده، وطاف بعض السلف ليلة سبع وعشرين بالبيت الحرام، فرأى الملائكة في الهواء طائفين فوق رؤوس الناس. (وذكر من ذلك أشياء كثيرة مما لا تصح أن تكون دليلًا). لطائف المعارف (ص: 203).
وقال النووي -رحمه الله-:
مذهب الشافعي: أنَّ أرجاها عنده ليلة إحدى وعشرين، وقال في القديم: ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، فهما أرجى لياليها عنده، وبعدهما ليلة سبع وعشرين، هذا هو المشهور في المذهب: أنها منحصِرة في العشر الأواخر من رمضان.
وقال إمامان جليلان من أصحابنا -وهما الْمُزَنِي وصاحبه أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة-: إنها مُنْتَقِلة في ليالي العشر، تنتقل في بعض السنين إلى ليلة، وفي بعضها إلى غيرها؛ جمعًا بين الأحاديث، وهذا هو الظاهر المختار؛ لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك. المجموع شرح المهذب (6/ 450).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
وأما قول صاحب الحلية (حلية العلماء للقفال الشاشي الشافعي): إنَّ أكثر العلماء قالوا: إنها ليلة سبع وعشرين، فمخالف لنقل الجمهور. المجموع شرح المهذب (6/ 461).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وكل ما ورد في هذا الباب من الأحاديث فإنَّ بعضها يعاضد بعضًا، على أَنها إِحدى ليالي أَوتار العشر الأواخر، ثم إنَّ الروايات قد اختَلَفَت في تفسير ذلك الوقت اختلافًا لا يرتفع معه الخفاء؛ إذ لم يثبت فيما يَقُول عليه من النقل عن أحد من الصحابة أنه قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُحدِّث بميقاتها مجزومًا به، وإنما ذهب كُل واحدٍ إلى ما ذهب مما تبيَّن له من مَعَاريض الكلام التي سمعها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والفَهم يبلغ تارةٌ، ويقصرُ أخرى، والمجتهد يصيب ويخطئ، اللهم إلا أنْ يكون في الرواة مَن أخبره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بميقاتها، ولم يرَ أنْ يزيل عنه الخفاء، ولم يُؤذن له، فعلى هذا تَنَوَّعَ اختيار كل فريق من أهل العلم، والذاهبون إلى سبع وعشرين هم الأكثرون، ولا تناقُضَ بين تلك الروايات على هذا التقدير.
ويُحتمل: أنَّ فريقًا منهم عَلِم بالتوقيف ولم يُؤْذَن له بالكشف عنه؛ لما كان في حِكمة الله البالغة في تعميتها على العموم.
ونرى أولى الروايات بذلك: رواية أُبي بن كعب؛ فإنه حَلَفَ ولم يستثنِ، والآخرون حدَّثوا بما وقع لهم مِن الفُهُوم. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 481).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
يُؤخذ من الحديث:
1. الحديث يدل على أنَّ ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين؛ فقد سِيْقَ مساق الجزم والحتم.
2. المؤلف ابن حجر ذكر فيها في فتح الباري أربعين قولًا، ويمكن تصنيف هذه الأقوال إلى أربع فئات:
الأولى: مرفوضة، كالقول بإنكارها في أصلها، أو رفعها.
الثانية: ضعيفة، كالقول بأنَّها ليلة النصف من شعبان.
الثالثة: مرجوحة، كالقول بأنَّها في رمضان في غير العشر الأخيرة منه.
الرابعة: هي الراجحة، وهي كونها في العشر الأخيرة من شهر رمضان، وأرجاها أوتارها، وأرجح الأوتار ليلة سبع وعشرين.
وهذه الأدلة تؤيدها:
أولًا: ما أخرجه الإمام أحمد (4577) عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن كان مُتَحَرِّيْهَا فَلْيَتَحَرَّهَا ليلة سبع وعشرين» وللحديث شواهد.
ثانيًا: كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الْمُحَدَّث المُلْهَم، وحذيفة ابن اليمان أمين السِّرِّ النبوي، وغيرهما من الصحابة لا يَشُكُّون أنَّها ليلة سبع وعشرين.
ثالثًا: ما رواه مسلم (1999) عن شيخ القرَّاء أُبي بن كعب، أنَّه كان يحلف أنَّها ليلة سبع وعشرين.
رابعًا: كونها ليلة سبع وعشرين هو مذهب واختيار إمام أهل السنة الإمام أحمد، وأصحابه من فقهاء المحدِّثين؛ كإسحاق بن راهويه.
خامسًا: قال ابن رجب -رحمه الله-: ومما استدل به من رجَّح أنَّها ليلة سبع وعشرين الآيات والعلامات التي رُئِيَتْ فيها قديمًا وحديثًا.
سادسًا: هذا الشعور العام الجماعي عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعبر قُرونها الطويلة أنَّها هذه الليلة، وإقبالهم على العبادة والاجتهاد فيها، ولا تجتمع أُمَّة محمَّد -صلى الله عليه وسلم- على ضلالة. توضيح الأحكام من بلوغ المرام (3/ 590-591).
وينظر للاستفادة الرواية الأخرى من (هنا)