الأربعاء 26 رمضان 1446 هـ | 26-03-2025 م

A a

صلَّى معاذ بن جبل الأنصاري لأصحابه العِشَاء، فطوَّل عليهم، فانصرف رجلٌ مِنَّا، فصَّلى فأُخْبِر معاذٌ عنه، فقال: إنه منافق، فلمَّا بلغ ذلك الرّجل دَخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره ما قال معاذ، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أتريد أن تكون فتَّانًا يا معاذ؟ إذا أَمَمْتَ الناس بـ "الشمس ‌وضحاها. ‌وسبح ‌اسم ‌ربِّك ‌الأعلى. ‌واقرأ ‌باسم ‌ربِّك. ‌والليل إذا يغشى».


رواه البخاري برقم (701)، ومسلم برقم (465) واللفظ له، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.
وفي رواية عند مسلم: «قالوا له: ‌أَنافقت يا فلان؟»


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«فتَّانًا»:
أي: مُوقِعًا للناس في الفِتنة والمعصية؛ بترك الجماعة والتفرُّق بينهم. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 312).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أي: مُعذِّب؛ لأنه عذبهم بالتَّطويل، ومنه قوله تعالى: {إنَّ الذيْنَ فَتَنُوا المُؤمِنِيْنَ والمُؤْمِنَاتِ} البروج: 10، قيل: معناه: عذبوهم. فتح الباري (2/195).

«مُنافق»:
النفاق وما تصرف منه اسمًا وفعلًا، وهو اسم إسلامي، لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يسْتُر كُفرهُ ويظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفًا. النهاية في غريب الحديث والأثر(5/98).

«أَمَمْتَ»:
بالتخفيف، أي: صِرْتَ إمامًا لهم في الصلاة. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 873).


شرح الحديث


قوله: «صلَّى معاذ بن جبل الأنصاري»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«صلى معاذ بن جبل الأنصاري» أي: إمامًا. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (7/ 323).

قوله: «لأصحابه»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «لأصحابه» أي: لقومه بني سَلَمَة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (7/323).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
اللام بمعنى الباء «صلى معاذ بأصحابه»، وهنا يتَّجه أن يقال: إنه صلَّى لأجلهم، وإلا فقد كان صلَّى خلف النبي -عليه الصلاة والسلام-، يعني: إبدال الباء باللام هنا له وجه؛ لأنه صلَّى لأصحابه، هو صلى بهم بلا شك إمامًا، وصلى أيضًا من أجلهم، وإلا فقد كان صلَّى خلف النبي -عليه الصلاة والسلام-، فقد كان معاذ يصلَّي العشاء مع النبي -عليه الصلاة والسلام- في مسجده، ثم يأتي إلى أصحابه فيؤمُّهم ويصلي بهم. شرح المحرر في الحديث (35/8).

قوله: «العِشَاء»:
قال السفاريني -رحمه الله-:
زاد مسلم من رواية منصور عن عمرو بن دينار عن جابر: «عِشَاء الآخرة»، فكأنَّ العِشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرتين.
وقال -رحمه الله- أيضًا:
وفي رواية: «فصلى ليلة مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- العِشاء، ثم أتى قومه فأَمَّهم»، وفي رواية الشافعي: «ثم يرجع، فيصليها بقومه في بني سلمة»، وفي رواية الإمام أحمد: «ثم يرجع فيَؤُمُّنا».
«فصلى ليلة مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- العِشاء» كذا في معظم الروايات، وفي لفظ عند أبي عوانة والطحاوي: «فصلى بأصحابه المغرب»، وكذا لعبد الرزاق. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (2/542).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فصلى العِشاء» كذا في معظم الروايات، ووقع في رواية لأبي عَوَانة والطَّحاوي من طريق مُحارب «صلى بأصحابه المغرب»، وكذا لعبد الرزاق من رواية أبي الزبير، فإن حُمل على تعدد القصة كما سيأتي، أو على أن المراد بالمغرب العشاء مجازًا تمَّ، وإلا فما في الصحيح أصح. فتح الباري (2/193).
وقال العيني -رحمه الله-:
وقال بعضهم: فإن حُمل على تعدد القضية، أو على أن المغرب أُريد به العِشاء مجازًا، وإلا فما في الصحيح أصح.
قلت: رجال الطحاوي في روايته رجال الصحيح، فمن أين تأتي الأصَحِّية في رواية العِشاء؟ عمدة القاري(5/237).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
اختلفت الروايات في تعيين تلك الصلاة، ومعظم الروايات أنها العِشاء، ووقع من رواية محارب بن دثار الآتية أنها المغرب، وظاهر صنيع المصنف يميل إلى الجَمْع بالحَمْلِ على تَعَدُّد القِصَّة، فإنه بوَّب للقراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى، فأورد الحديث من طريق سفيان عن محارب، ثم بوَّب للقراءة في العِشاء الآخِرة بسبح اسم ربك الأعلى، فأورد الحديث من طريق الأعمش عن محارب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى(10/400).

قوله: «فطوَّل عليهم»:
قال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
«فطَوَّلَ عليهم»: أي: قرأ في صلاته قراءة طويلة، فطالت بها الصلاة. فقه الإسلام = شرح بلوغ المرام (2/ 102).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي رواية محارب «فقرأ بسورة البقرة أو النساء» على الشك، وللسرَّاج من رواية مِسْعَر عن مُحارب: «فقرأ بالبقرة والنساء» كذا رأيته بخط الزَّكِيِّ البَرْزَالي «بالواو»، فإن كان ضبَطَه احتمل أن يكون قرأ في الأولى بالبقرة وفي الثانية بالنساء، ووقع عند أحمد من حديث بُريدة بإسناد قوي: «فقرأ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} القمر: 1»، وهي شاذة، إلا إِنْ حُمل على التَّعدد. فتح الباري (2/ 193.
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فطَوَّلَ» معاذ الصلاة «عليهم» أي: على قومه؛ بقراءة سورة البقرة. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (5/ 447).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فطَوَّل بهم» أي: طوَّل القراءة، ففي الرواية الأخرى من طريق سفيان عن محارب: «فافتتح بسورة البقرة». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/399-400).

قوله: «فانصرف رجلٌ منَّا فصَّلى»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
ولم يقع في شيء من الطُّرق المتقدمة تسمية هذا الرَّجُل، لكن روى أبو داود الطيالسي في مسنده، والبزار من طريقه عن طالب بن حَبْيب عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه قال: «مرَّ حَزم بن أُبَي بن كعب بمعاذ بن جبل وهو يُصلِّي بقومه صلاة العَتَمَة، فافتتح بسورة طويلة، ومع حَزْم نَاضِح له» الحديث، قال البزار: لا نعلم أحدًا سماه عن جابر إلا ابن جابر. اهـ.
وقد رواه أبو داود في السنن من وجه آخر عن طالب، فجعله عن ابن جابر عن حزم صاحب القصة، وابن جابر لم يدرك حزمًا، ووقع عنده صلاة المغرب وهو نحو ما تقدم من الاختلاف في رواية مُحارب، ورواه ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر فسماه حازمًا، وكأنه صَحَّفه، أخرجه ابن شاهين من طريقه، ورواه أحمد والنسائي وأبو يعلى وابن السكن بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: «كان معاذ يَؤُمُّ قومه، فدخل حَرَام وهو يريد أن يسقي نخله» الحديث، كذا فيه بـ(راء) بعدها (ألف)، وظن بعضهم أنه حَرَام بن مِلْحَان خال أنس، وبذلك جزم الخطيب في المبهمات، لكن لم أره منسوبًا في الرواية.
ويحتمل: أن يكون تصحيفًا من حزم، فتجتمع هذه الروايات، وإلى ذلك يُومئ صنيع ابن عبد البر، فإنه ذكر في الصحابة حرام بن أُبي بن كعب، وذكر له هذه القصة، وعزا تسميته لرواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس، ولم أقف في رواية عبد العزيز على تسمية أبيه، وكأنه بَنَى على أن اسمه تصَحَّف، والأب واحد سماه جابر ولم يُسمِّه أنس.
وجاء في تسميته قول آخر: أخرجه أحمد أيضًا من رواية معاذ بن رفاعة عن رجل من بني سَلمة يُقال له: سُلَيْمٌ أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا نبيّ الله، إنَّا نَظَلّ في أعمالنا فنَأتي حين نُمْسِي فَنُصلي، فيأتي معاذ بن جبل فينادي بالصلاة، فنأتيه فيُطوِّل علينا» الحديث، وفيه أنه اسْتُشْهِد بأُحُد، وهذا مرسل؛ لأن معاذ بن رفاعة لم يدركه، وقد رواه الطحاوي والطبراني من هذا الوجه عن معاذ بن رفاعة أن رجلًا من بني سلمة، فذكره مرسلًا، ورواه البزار من وجه آخر عن جابر، وسماه سُلَيْمًا أيضًا، لكن وقع عند ابن حَزم من هذا الوجه أن اسمه سَلْم بفتح أوله وسكون اللام، وكأنه تصحيف، والله أعلم. فتح الباري (2/193 -194).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
لَمْ يظهر لي وجه التقوية على تسميته سُلَيْمًا، فلا مناسبة بين كونه من بني سَلِمة وتسميته سُليمًا، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (11/13).

قوله: «فانصرف الرَّجل»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
أي: فانحرف رَجل من قومه بني سَلمة من الصف، فسلَّم سلامَ القطع لصلاته، لا سلام الفراغ من الصلاة، ثم أحرم بالصلاة، فصلى وحده، وسلَّم سلام الفراغ من صلاته، وانصرف أي: ذهب وانطلق إلى جهة حاجته، والقوم في الصلاة. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (6/ 312).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي رواية سُليم بن حيان عند البخاري: «فتَجَوَّز رجل، فصلى صلاة خفيفة»، ولابن عُيَيْنَة عند مسلم: «فانحرف رَجل فسلَّم، فصلى وحْدَه»، وهو ظاهر في أنه قطَع الصلاة...، فيدل على جواز قطع الصلاة وإبطالها لعذر. فتح الباري (2/194).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فانصرف الرّجل»، إما أن يراد به الجنس، والمُعَرَّفُ تعريف الجنس كالنكرة في مُؤدَّاه، فكأنه قال: رَجُل، أو يراد المعهود من رَجُل مُعَين.
ووقع في رواية الإسماعيلي: «فقام رَجل وانصرف»، وفي رواية سليم بن حيّان: «فتحوَّل رَجل فصلى صلاة خفيفة»، وفي رواية مسلم عن ابن عُيَيْنَة: «فانحرف رَجل فسلَّم، ثم صلى وحْدَه». عمدة القاري (5/237).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فانصرف رَجل» أي: ذهب رَجل «مِنّا» أي: من الأنصار، «فصلَّى» وحده، فسلَّم وذهب.
قال ابن حجر: أي: قَطَع صلاته، لا أنه قصَد قطْعها بالسلام كما يفعله بعض العوام؛ لأن محل السلام آخرها، فلا يجوز تقديمه على محله، وإنما يفعله الخواص من العلماء؛ تبعًا لما فعله ذلك الصحابي -رضي الله تعالى عنه-، وإن اختلفوا في أنَّ مُريد القطع هل يُسَلِّم قائمًا بتسليمة واحدة أو تسليمتين، أو يعود إلى القعدة ثم يُسَلِّم؟ فالتسليم بما ورد أسلم، والله أعلم. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (6/ 312).
قال الشيخ عبد الكريم الخضير-حفظه الله-:
قوله: «فانصرف» لا شك أن مثل هذا التصرف إذا لم يُعرف سببه قطع العمل، {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} محمد: 33، هذا لا يجوز بدون سبب ولا مُبرِّر، يعني من دَخَل في التطوع يقال له: المتطوع أمير نفسه، أو يُقال له: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} محمد: 33، يعني: إذا صام يوم تطوع هل يقال له: أنت حرٌّ، لأدنى سبب تفطر ولو من غير سبب، المتطوع أمير نفسه، أو نقول: لا، ما دام شرَعْت في العبادة لا يجوز لك أن تقطعها؛ للنهي عن إبطال العمل؟
هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، وهذا باستثناء الحج والعمرة إذا دخل فيهما لزمه الإتمام، {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} البقرة: 196، وما عداهما يدخل فيه هذا الخلاف. شرح المحرر في الحديث (35/11).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
وقوله (في الرواية الأخرى): «فتنحَّى رَجل من قومه فصلّى وحدهُ» يُحتمل من جهة اللفظ أن يريد أنه قَطَع الصلاة وتَنَحى عن موضع صلاته واستأنفها لنفسه، لكنه غير محمول عليه؛ فإن الفرض لا يُقطع بعد الشروع فيه، ولو كان المراد ذلك لأنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه، ولكنه محمول على أنه قطع القدوة، وأتمّ الصلاة لنفسه.
واحتُجّ به على أن للمُقْتَدي قطع القُدوة في صلاته، وعلى هذا فالتَّنحي المذكور كان بحيث لا تبطل الصلاة لكثرة الأفعال. شرح مسند الشافعي (1/445).
وقال البيهقي -رحمه الله-:
قوله: «فانحرف رجل فسلَّم، ثم صلى وحدَه وانصرف» أخرجه مسلم في الصحيح، عن محمد بن عَبّاد، ولا أدري هل حفظ هذه الزيادة؛ لكثرة من رواه عن سفيان دونها، والله أعلم. معرفة السنن والآثار (4/198).
وقال -رحمه الله- أيضًا:
لم يقل أحد في هذا الحديث: «وسلَّم» إلا محمد بن عَبّاد. السنن الكبرى (5/590).
وقال النووي -رحمه الله-:
واستدل أصحابنا وغيرهم بهذا الحديث على أَنه يجوز للمأموم أنْ يقطع القُدوة ويتم صلاته منفردًا، وإن لم يخرج منها، وفي هذه المسألة ثلاثة أوجه لأصحابنا:
أصحها: أنه يجوز لعذر ولغير عذر.
والثاني: لا يجوز مطلقًا.
والثالث: يجوز لعذر ولا يجوز لغيره.
وعلى هذا العذر هو ما يسقط به عنه الجماعة ابتداء، ويعذر في التخلف عنها بسببه، وتطويل القراءة عذر على الأصح؛ لقصة معاذ -رضي الله عنه-.
وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأنه ليس في الحديث أنه فارقه وبنى على صلاته، بل في الرواية الأولى أنه «سلَّم» وقطع الصلاة من أصلها، ثم استأنفها، وهذا لا دليل فيه للمسألة المذكورة، وإنما يدل على جواز قطع الصلاة، وإبطالها لعذر، والله أعلم. شرح النووي على صحيح مسلم (4/182).
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ما قاله النووي -رحمه الله- من كون الحديث يدل على جواز قطع الصلاة واستئنافها، لا على قطع الاقتداء هو الظاهر، وهو الذي مال إليه المصنف -رحمه الله-، حيث عبَّر بقوله: "خروج الرَّجل من صلاة الإمام، وفراغه من صلاته في ناحية المسجد".
والرواية التي أوردها هنا واضحة في ذلك؛ إذ قوله: «فانصرف الرَّجل، فصلى في ناحية المسجد» صريح في كونه قطع الصلاة، واستأنفها، وأصرح منها رواية مسلم: «فانحرف رجل، فسلَّم، ثم صلى وحده، وانصرف»، لكن لا يبعد أن يقال: إذا جاز قطع الصلاة فجواز قطع الاقتداء أولى؛ لأنه أخف، والله تعالى أعلم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/403).
وقال العيني -رحمه الله-:
قلتُ: أصحابنا لا يجوِّزون شيئًا من ذلك -أي قطع الصلاة والخروج منها- وهو مشهور مذهب مالك، وعن أحمد روايتان؛ لأن فيه إبطال العمل، والقرآن قد منع عن ذلك. عمدة القاري (5/240).
وقال محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
لا أعلم قولًا عند المالكية بجواز قطع المأموم الاقتداء، والإتمام لنفسه منفردًا لغير عذر؛ لأنه ألْزَم نفسه بحكم الاقتداء، وعندهم قولان؛ لأنه إذا طوَّل الإمام في القراءة طُولًا خاف المأموم بسببه فوات ما يلحقه بفوته ضرر شديد، هل يجوز له أن يخرج عنه بالنية، ويتم لنفسه، أو لا يجوز؟ كوثر المعاني الدراري في شرح خبايا صحيح البخاري (9/37).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
عندي الأرجح: أنه يجوز قطع الاقتداء، والصلاة وحْدَهُ لعذر؛ لحديث قصّة معاذ -رضي اللَّه عنه-، حيث أقرّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الرجل الذي قطع الاقتداء به، وصلّى وحده، وأما إذا لَمْ يكن لعذر فلا؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أصلاتان معًا؟» وهو حديث صحيح، أخرجه مالك، وأبو داود، فقد أنكر -صلى اللَّه عليه وسلم- على من يُصلِّي صلاةً وحده بعد أن تقام الصلاة.
والحاصل: أن قطع الاقتداء لعذر جائز، وأما لغير عذر فلا، واللَّه تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (11/19).

قوله: «فأُخْبِر معاذٌ عنه فقال: إنه منافق»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
في رواية لمسلم: «فأُخبِر معاذٌ عنه فقال: إنه منافق»، وفي رواية له: «فقالوا له»، والقائل كلهم، فمرة نَسب القول إلى معاذ، ومرة نَسبه إلى القوم، ومرة أبهمه. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (4/ 182).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «منافق» أي: فاعلٌ فعل المنافقين. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (7/323).
قال الشيخ موسى شاهين-رحمه الله-:
وفي رواية: أنَّ معاذًا قال: «إنه منافق»، فكأنَّ القوم بلَّغوه على لسانهم، لا على لِسان معاذ؛ ابتعادًا عن النميمة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/22).

قوله: «أنَافَقْتَ؟»
قال الطيبي -رحمه الله-:
أي: فعلتَ ما يفعله المنافق، من الميل والانحراف عن الجماعة، والتخفيف في الصلاة، كما وصفهم الله تعالى بقوله: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} النساء: 142، قال تشديدًا وتغليظًا. شرح المشكاة (3/1003).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
وفي رواية مسلم: «أنَافَقْتَ يا فلان؟» والمراد فعلتَ ما يفعله المنافق من الميل والانحراف عن الجماعة في الصلاة، فقال: ما عملتُ ذلك نفاقًا، وإنما هو للعذر، ورواية مسلم: «لا والله ما نافقتُ». المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود (5/213).
قال المغربي -رحمه الله-:
وفي رواية قال: «أنافقتَ يا فلان؟ قال: لا واللَّه، ولآتين رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فلأخْبِرَنَّه»، وفي هذه الرواية أن الرَّجل هو الذي اشتكى من معاذ. البدر التمام شرح بلوغ المرام (3/323).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وفي رواية: «فقالوا له: أنَافَقْتَ يا فلان؟» «فلان» كِنَاية عن اسم الرَّجل، وقد نُودي فعلًا باسمه، ولكن الراوي كنَّى عنه كعادتهم في السِّتر، كأنَّه صَان اسمه عن أن يُتَّهم بالنفاق. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/22).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي رواية النسائي فقال معاذ: «لئن أصبحت لأذكرن ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فأرسل إليه، فقال: «ما حملك على الذي صنعت؟ فقال: يا رسول الله، عملتُ على ناضح لي...» فذكر الحديث، وكأنَّ معاذًا سبقه بالشكوى، فلما أرسل إليه جاء فاشتكى من معاذ. فتح الباري (2/195).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
في رواية «فكان معاذ ينال منه»، وللمستملي: «تناول منه»، وللكشميهني «فكأن» بهمزة ونون مشددة «معاذًا تناول منه».
والأُولى: تدل على كثرة ذلك منه بخلاف الثانية، ومعنى «ينال منه» أو «تناوله» ذكره بسوء، وقد فسَّره في رواية سليم بن حيان ولفظه: «فبلغ ذلك معاذًا فقال: إنه منافق»، وكذا لأبي الزبير ولابن عُيَيْنَة: «فقالوا له: أنَافَقْتَ يا فلان؟ قال: لا، والله لآتين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلأُخْبرنه». فتح الباري (2/195).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وفيه: أنَّ الخلاف على الأئمة شَدِيد ونِفَاق؛ لقوله: «أنافقت؟»، وإنَّ قائل هذا لأخيه على وجه التَّأويل لا يَكفُر، وقد ترجم عليه البخاري كذلك. إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/382).
قوله: «فلمَّا بلغَ ذلك الرَّجل دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره ما قال معاذ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فأتى معاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له»، وفي رواية عمرو: أن الذي جاء فاشتكى من معاذ هو الرَّجل، لكن يُجمع بين الروايتين بأن معاذًا سبقه بالشكوى، فلما أرسل إليه، جاء فاشتكى من معاذ. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/404).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «فلمّا بلغ» ووصل «ذلك» الكلام الذي قاله معاذ «الرجل» الذي فارقهم، «دخل» ذلك الرجل «على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره» -صلى الله عليه وسلم- «ما قال» فيه «معاذ» من قوله: إنه منافق. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (7/323).

قوله: «أتريد أن تكون فتَّانًا يا معاذ؟»:
قال النووي -رحمه الله-:
«فتَّانًا» أي: مُنَفِّرٌ عن الدِّين، وصادٌّ عنه.
ففيه: الإنكار على من ارتكب ما ينهى عنه، وإن كان مكروهًا غير محرم.
وفيه: جواز الاكتفاء في التعزير بالكلام.
وفيه: الأمر بتخفيف الصلاة، والتعزير على إطالتها إذا لم يرض المأمومون. شرح صحيح مسلم(4/ 182-183).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ومعنى الفتنة هُنا: أن التَّطويل يكون مسببًا لخروجهم من الصلاة، وللتَّكرُّهِ للصلاة في الجماعة.
وروى البَيْهَقِيّ في الشُّعَب بإسناد صحيح عن عمر قال: "لا تبغِّضوا إلى الله عبادَه، يكون أحدكم إمامًا فيطوِّل على القوم الصلاةَ حتى يُبِّغض إليهم ما هم فيه".
وقال الداوديّ: يحتمل أن يريد بقوله: (فتّان) أي: مُعذِّب؛ لأنه عذبهم بالتطويل، ومنه قوله تعالى: {إنَّ الذيْنَ فَتَنُوا المُؤمِنِيْنَ والمُؤْمِنَاتِ} البروج: 10، قيل: معناه عذبوهم. فتح الباري (2/195).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
المراد بـ(فتَّان) أي: أَتُعَذِّبُ أصحابك بالتطويل؟ وحمل ذلك على كراهة المأمومين للإطالة، وإلا فإنه -صلى الله عليه وسلم- قرأ الأعراف في المغرب وغيرها، وكان مقدار قيامه في الظُّهر بالستين آية، وقرأ بأقصر من ذلك، والحاصل: أنه يختلف ذلك باختلاف الأوقات في الإمام، والمأمومين. سبل السلام (1/ 367).
قال المغربي -رحمه الله-:
وقوله: «فتَّان؟»: مبالغة في الزّجر له؛ لما يلزم منه من ترك الناس السُّنَن، وتَنْفِيرهم عن الانضمام في الجماعات؛ ولذلك صرَّح في قصة من شكا منه تطويل صلاة الصبح بقوله: «إنَّ منكم مُنَفِّرينَ». البدر التمام شرح بلوغ المرام (3/319-320).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
قوله في رواية مسلم: «أتريد أن تكون فتَّانًا يا معاذ؟» ألْطف خطابًا من قوله: «أفتَّان أنت؟» وأرْفَق، وإن كان أرسخ في باب الفتنة وأثبت.
أما وجه لطفها ورفقها: فإنه قال في الأولى: «أفتَّان أنت؟» فأثبت له وصف الفتنة مصرحًا به، ومقررًا أن هذا الفعل الذي فعلته حتى نفَّر هذا المصلي؛ فِعْل الفتَّانِين الذين أنت منهم.
وأما قوله: «تريد أن تكون فتَّانًا؟» فإن هذا الفعل لا يصدر إلا عن الفتَّانين، فقال: كنت تريد ذلك فعرفني.
والفرق الظاهر بينهما: أن همزة الاستفهام دخلت في الأولى على الفتنة نفسها، وفي هذا دخلت على إرادة الفتنة فكانت ألطف.
وأما بيان أن قوله: «أتريد أن تكون فتانًا؟» أثبت في باب الافتنان وأَرْسَخ: أن الإنسان قد يفعل الفعل ولا يريده؛ لأسباب تدعوه إليه من إكراه أو سهو أو جهل به أو ظن جوازه، وغير ذلك من الأسباب التي تبعث على إيجاد الفعل والقول من غير إيثارٍ له، وكثير من هذه الحالات لا يؤاخذ العبد بها، ولا يتوجه إليه النكير.
فأما مع كون الفعل والقول الصَّادِرَين عن الفاعل والقائل مرادين له فلا عذر له فيه، وهو مؤاخذ به، وكذلك هاهنا؛ فإن قوله: «أفتَّان أنت؟» يجوز أن يكون فتَّانًا وهو لا يريد الفتنة؛ أو يجهلها أو يسهو عنها، أو يظن أنها جائزة، فأما مع إرادته لها فلا؛ ولأنا قد قلنا: إن همزة الاستفهام دخلت في الأول على الفتنة فكان الشك فيها، وفي الثانية دخلت على الإرادة فكانت الفتنة معها مسلمة ثابتة، وإنما الشك وقع في إرادتها، فكان هذا القول أدل على وجود الفتنة وأثبت. الشافي في شرح مسند الشافعي (2/32-33).

قوله: «إذا أَمَمْتَ النَّاس فاقرأ بالشَّمْسِ وَضُحَاهَا...»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
أي: إذا صرت إمامًا للناس فيما يُستقبل. «فاقرأ بـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وسورة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، أي: أو نحوها من قِصار المفصَّل، كما في بعض الروايات.
وقِصَار المفصَّل مِن الضحى إلى آخر القرآن، وأوساطه من النَّبأ إلى الضحى، وطواله من الحجرات إلى النبأ، زاد في رواية البخاري: «فإنَّه يُصلِّي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة»
. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (7/ 323).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الحديث أفاد أنه يخفِّف الإمام في قراءته وصلاته، وقد عيَّن -صلى الله عليه وسلم- مقدار القراءة، ويأتي حديث: «إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفِّف». سبل السلام (1/ 368).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فيه: دليل على أن الصحابة لم يكن من عادتهم قراءة بعض سورة في الفرض، فإن معاذًا لما افتتح سورة البقرة عَلِم الرجل أَنه يكملها في صلاته، فلذلك انصرف. فتح الباري (6/211).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي حديث الباب من الفوائد أيضًا: استحباب تخفيف الصلاة؛ مراعاة لحال المأمومين.
وأما من قال: لا يكره التطويل إذا عَلم رضاء المأمومين، فيُشكل عليه أن الإمام قد لا يعلم حال من يأتي فيأتم به بعد دخوله في الصلاة، كما في حديث الباب، فعلى هذا يُكره التطويل مطلقًا، إلا إذا فرض في مصلٍّ بقوم محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم.
وفيه: أن الحاجة من أمور الدنيا عذر في تخفيف الصلاة.
وجواز إعادة الصلاة الواحدة في اليوم الواحد مرتين.
وجواز خروج المأموم من الصلاة لعذر، وأما بغير عذر فاستدل به بعضهم، وتُعقِّب.
وقال ابن المنير -رحمه الله-: لو كان كذلك لم يكن لأمر الأئمة بالتخفيف فائدة، وفيه نظر؛ لأن فائدة الأمر بالتخفيف المحافظة على صلاة الجماعة، ولا ينافي ذلك جواز الصلاة منفردًا، وهذا كما استدل بعضهم بالقصة على وجوب صلاة الجماعة، وفيه نحو هذا النظر.
وفيه: جواز صلاة المنفرد في المسجد الذي يصلي فيه بالجماعة إذا كان بعذر.
وفيه: الإنكار بلطف؛ لوقوعه بصورة الاستفهام.
ويؤخذ منه: تعزير كل أحد بحسبه، والاكتفاء في التعزير بالقول والإنكار في المكروهات.
وأما تكراره ثلاثًا فللتأكيد، وقد تقدم في العلم أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعيد الكلمة ثلاثًا؛ لتُفهم عنه.
وفيه: اعتذار من وقع منه خطأ في الظاهر.
وجواز الوقوع في حق من وقع في محذور ظاهر، وإن كان له عذر باطن للتنفير عن فعل ذلك، وأنه لا لوم على من فعل ذلك متأولًا، وأن التخلف عن الجماعة من صفة المنافق. فتح الباري (2/197).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ومنها: جواز إعادة الصلاة الواحدة في اليوم الواحد مرتين.
هكذا قالوا، ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل إذا كان هناك سبب، كمن صلّى وحده، أو في جماعة، ثم أدرك جماعة أخرى، فيصلّي معهم، أو كان إمامًا فصلّى مع جماعة، ثم ذهب إلى مسجده، فيصلّي بقومه أيضًا، كما فعل معاذ -رضي اللَّه عنه-، ونحو ذلك، وأما تكرار الصلاة الواحدة بدون سبب فيحتاج إلى دليل، واللَّه تعالى أعلم.
وفيه: جواز خروج الرجل عن صلاة الإمام، وصلاته منفردًا لحاجة. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/410).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
يستدل بهذا (يعني: الحديث): على أنّ الإمام إذا طوَّل على المأموم وشَقَّ عليه إتمام الصلاة معه؛ لِتعبِه أو غلبه النّعاس عليه أنّ له أنْ يقطع صلاته معه، ويكون ذلك عُذرًا في قطع الصلاة المفروضة، وفي سقوط الجماعة في هذه الحال، وأَنّه يجوز أنْ يصلي لنفسه منفردًا في المسجد ثم يذهب، وإنْ كان الإمام يُصلي فيه بالناس...، ولو طَوَّل الإمام تطويلًا فاحشًا، أو حدث للمأموم عُذرٌ، مثل حدوث مَرض، أو سماع حريق وقع في دَاره، أو خاف فساد طعامٍ له على النار، أو ذهاب دابة له على باب المسجد ونحو ذلك، فنوى مفارقة إمامه، وأَتَمَّ صلاته منفردًا، وانصرف جاز ذلك عند أصحابنا -أيضًا- وحَكوهُ عن الشافعي وأبي يوسف ومحمد. فتح الباري (6/212).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: الصلاة الواحدة في جماعتين، وصلاة المفترض خلف مَن صلى فرضه وخلف المتنفل، وأن على الإمام تخفيف الصلاة، وأن المصلي في جماعة إذا أراد أن ينفرد عن الجماعة ويتم لنفسه جاز له ذلك.
وفيه: بيان ما يقرأ في الصلاة من السور، وقدر ما يقرأ. الشافي في شرح مسند الشافعي (2/33).
قال محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
واستدل بهذا الحديث على صحة اقتداء المفترِض بالمتنفل، على أن معاذًا كان ينوي بالأُولى الفرض وبالثانية النفل، وهو مذهب الشافعية، وبه قال أحمد في رواية، واختاره ابن المُنذر، وهو قول عَطاء وطاوس وسُلَيمان بن حَرْب وداود.
وقالت الحَنَفية والمالكية: لا يصح، وهو رواية أبي الحارث عن أحمد.
قال ابن قُدامة -رحمه الله-: اختار هذه الرواية أكثر أصحابنا، وهو قول الزُّهْريّ والحَسَنْ البَصريّ وسعيد بن المُسَيِّب وغيرهم.
قال في الفتح محتجًا لمذهبه: يدل عليه ما رواه عبد الرَّزَّاق والشافعيّ والطّحاويّ والدارَقُطنيّ وغيرهم، عن ابن جُرَيْج عن عَمرْو بن دِينار عن جابر في حديث الباب، زاد «هي له تَطَوُّع، ولهم فريضة»، وهو حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح، وقد صرح ابن جُرَيج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه، فانتفت تهمة تدليسه، واعتماد القائلين بصحة الاقتداء على تلك الزيادة المذكورة.
وتكلم القائلون بعدم صحة الاقتداء فيها بأوجه عديدة، منها: ما رُوي عن الإمام أحمد أنه ضعّف هذه الزيادة، وقال: أخشى ألا تكون محفوظة؛ لأن ابن عُيَيْنَة يزيد فيها كلامًا لا يقوله أحد.
وقال ابن الجَوْزِيّ -رحمه الله-: هذه الزيادة لا تصح، ولو صحت لكانت ظنًا من جابر، وبنحوه قال ابن العَرَبيّ في العارضة، ومنها قول الطَّحَاوِيّ -رحمه الله-: إنّ ابن عُيينة ساقه عن عمرو بأتم من سياق ابن جُرَيْج، ولم يذكر هذه الزيادة، ومنها ما قاله ابن حَزْم -رحمه الله- من أن المخالفين لا يجيزون لمن عليه فرض إذا أقيم أن يصليه متطوعًا، فكيف ينسبون إلى معاذ ما لا يجوز عندهم؟
ومنها: قول الطَّحَاويّ -رحمه الله-: لا حجة فيها؛ لأنها لم تكن بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا تقريره.
ومنها: ما قاله الطَّحَاويّ -رحمه الله- من احتمال أن تكون مُدْرجة، وهي جائز أن تكون من ابن جُرَيْج، وأن تكون من عمرو، وأن تكون من جابر، ومن أي هؤلاء كانت لم يكن فيها دليل على حقيقة ما كان يفعل مُعاذ، ولو ثبت أنه عن مُعاذ لم يكن فيه دليل على أنه بأمره -عليه الصلاة والسلام-.
ومنها: ما قاله الطَّحاويّ -رحمه الله-: لو سلَّمنا جميع ذلك لم يكن فيه حجة؛ لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة تُصلى فيه مرتين، أي: فيكون منسوخًا.
واستدل على ذلك بما أخرجه عن ابن عمر رفعه: «لا تُصَلُّوا الصلاة في اليوم مرتين»، ومن وجه آخر مرسل: «أن أهل العالية كانوا يصلون في بيوتهم، ثم يصلون مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبلغه ذلك فنهاهم».
ومنها: ما قاله بعضهم من كونه منسوخًا، مستدلًا بأن صلاة الخوف وقعت مرارًا على صفة فيها مخالفة ظاهرة بالأفعال المنافية في حال الأمن، فلو جازت صلاة المفترِض خلف المتنفل لصلّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم مرتين على وجه لا تقع فيه منافاة، فلما لم يفعل دل ذلك على المنع، وجواب هذا: أنه ثبت أنه -صلى الله تعالى عليه وسلم- صلى بهم صلاة الخوف مرتين، كما أخرجه أبو داود عن أبي بَكْرة صريحًا، ولمسلم عن جابر نحوه. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (9/36-37).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأسلم الأجوبة التمسك بالزيادة المتقدمة.
وأما قول الطحاوي -رحمه الله-: لا حجة فيها؛ لأنها لم تكن بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا تقريره، فجوابه: أَنهم لا يختلفون في أنَّ رأي الصحابي إِذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة، وفيهم ثلاثون عقبيًا، وأربعون بدريًا، قاله ابن حزم، قال -رحمه الله-: ولا يُحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر وابن عمر وأبو الدرداء وأنس وغيرهم.
وأما قول الطحاوي -رحمه الله- لو سلمنا جميع ذلك لم يَكن فيه حُجة؛ لاحتمال أنَّ ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تُصلَّى مرتين، أي فيكون منسوخًا، فقد تعقبه ابن دقيق العيد بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال، وهو لا يَسُوغ، وبأنه يلزمه إقامة الدليل على ما ادعاه من إعادة الفريضة. اهـ.
وكأنه لم يقف على كتابه، فإنه قد ساق فيه دليل ذلك، وهو حديث ابن عمر رفعه: «لا تصلُّوا الصلاة في اليوم مرتين»، ومن وجه آخر مرسل: «إن أهل العالية كانوا يصلون في بيوتهم، ثم يصلون مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبلغه ذلك فنهاهم».
ففي الاستدلال بذلك على تقدير صحته نظر؛ لاحتمال أن يكون النهي عن أن يصلُّوها مرتين على أنها فريضة؛ وبذلك جزم البيهقي؛ جمعًا بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ لم يكن بعيدًا، ولا يقال: القصة قديمة؛ لأن صاحبها استشهد بأُحُد؛ لأنا نقول: كانت أُحُد في أواخر الثالثة، فلا مانع أن يكون النهي في الأولى، والإذن في الثالثة مثلًا، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- للرَّجلين اللذين لم يصليا معه: «إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصلِّيا معهم؛ فإنها لكما نافلة» أخرجه أصحاب السنن من حديث يزيد بن الأسود العامري، وصححه ابن خزيمة وغيره، وكان ذلك في حجة الوداع في أواخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ويدل على الجواز أيضًا: أمره -صلى الله عليه وسلم- لمن أدرك الأئمة الذين يأتون بعده، ويؤخِّرون الصلاة عن ميقاتها أن صلُّوها في بيوتكم في الوقت، ثم اجعلوها معهم نافلة.
وأما استدلال الطحاوي أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى معاذًا عن ذلك بقوله في حديث سليم بن الحارث: «إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف بقومك»، ودعواه: أنَّ معناه: إِما أنْ تصلي معي ولا تصلِّ بقومك، وإما أن تخفف بقومك، ولا تصلِّ معي، ففيه نظر؛ لأن لِمُخالفه أن يقول: بل التقدير: إما أن تصلي معي فقط إذا لم تخفف، وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي، وهو أولى من تقديره؛ لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف؛ لأنه هو المسؤول عنه المتنازع فيه.
وأما تقوية بعضهم بكونه منسوخًا بأن صلاة الخوف وقعت مرارًا على صفة فيها مخالفة ظاهرة بالأفعال المنافية في حال الأمن، فلو جازت صلاة المُفترض خلف المُتنفل لصلَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم مرتين على وجه لا تقع فيه مُنافاة، فلما لم يفعل دل ذلك على المنع.
فجوابه: أنه ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- «صلّى بهم صلاة الخوف مرتين» كما أخرجه أبو داود عن أبي بكرة صريحًا، ولمسلم عن جابر نحوه.
وأما صلاته بهم على نوع من المخالفة فلِبيان الجواز.
وأما قول بعضهم: كان فعل معاذ للضرورة؛ لقلَّة القُراء في ذلك الوقت فهو ضعيف، كما قال ابن دقيق العيد؛ لأن القَدْر المجزئ من القراءة في الصلاة كان حافظوه كثيرًا، وما زاد لا يكون سببًا لارتكاب أمر ممنوع منه شرعًا في الصلاة. فتح الباري (2/ 195).
وقال النوويّ -رحمه الله-:
وكلُّ هذه التأويلات دعاوى، لا أصل لها، فلا يُتْرَك ظاهر الحديث بها. شرح صحيح مسلم(4/181).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الذي قاله النوويّ -رحمه اللَّه- هو الحقّ. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (11/18).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
قد تبيّن من عرض الأقوال وأدلّتها أن الأرجح قول من قال بجواز اقتداء المفترض بالمتنفّل، وبالعكس؛ لحديث الباب وغيره مما سبق بيانه، والذين منعوا من ذلك لَمْ يأتوا بحجة مقنعة تقاوم حجج المجيزين؛ ولذا قال السنديّ الحنفيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في (شرح النسائيّ): فدلالة حديث قصّة معاذ -رضي اللَّه عنه- على جواز اقتداء المفترض بالمتنفّل واضحة، والجواب عنه مشكلٌ جدًّا، وأجابوا بما لا يتمّ، وقد بسطتُ الكلام فيه في (حاشية ابن الهُمَام) انتهى.
وهذا من إنصافه -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وهكذا ينبغي لكلّ متمذهب أن يكون مع الأدلّة، وإن خالف مذهبه، بل ومذاهب الجلّ؛ لأن الحقَّ أحقُّ أن يُتبع، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} الآية النساء: 59.
والحاصل: أنه يجوز اقتداء المفترض بالمتنفّل والعكس؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (11/25).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
قال الإمام المجد -رحمه الله في المنتقى-: وقد احتج به بعض من منع اقتداء المفترض بالمتنفل، قال: لأنه يدل على أنه متى صلى معه امتنعت إمامته، وبالإجماع لا يمتنع بصلاة النفل معه، فعلم أنه أراد بهذا القول: صلاةَ الفرض، وأن الذي كان يصلي معه كان ينويه نفلًا، كذا قال.
فإنه يبعد من معاذ أن يصلي مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نافلة، ويصلي بقومه فريضة، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة». كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (2/544-545).
وقال العيني -رحمه الله-:
قال بعضهم: وفي هذا ردٌّ على من زعم أن المراد: إن الصلاة التي كان يصليها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- غير الصلاة التي كان يصليها بقومه؟
قلت: الجواب عنه من وجوه:
الأول: أن الاحتجاج به من باب ترك الإنكار من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وشرط ذلك علمه بالواقعة، وجاز ألا يكون علم بها.
الثاني: أن النية أمر مُبطن لا يُطَّلع عليه إلا بإخبار الناوي، ومن الجائز أن يكون معاذ كان يجعل صلاته معه -صلى الله عليه وسلم- بنية النفل؛ ليتعلم سنة القراءة منه، وأفعال الصلاة، ثم يأتي قومه فيصلي بهم صلاة الفرض.
فإن قلتَ: يستبعد من معاذ أن يترك فضيلة الفرض خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويأتي به مع قومه، وكيف يُظن بمعاذ بعد سماعه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة»، ولعل صلاة واحدة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- خير له من كل صلاة صلاها في عمره، ولا سيما في مسجده التي هي خير من ألف صلاة فيما سواه؟
قلتُ: أليس تفوت الفضيلة معه -صلى الله عليه وسلم- في سائر أئمة مساجد المدينة؟ وفضيلة النافلة خلفه من أداء الفرض مع قومه يقوم مقام أداء الفريضة خلفه، وامتثال أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في إمامة قومه زيادة طاعة.
الثالث: قال المهلب: يحتمل أن يكون حديث معاذ كان أول الإسلام وقت عدم القراء، أو وقت لا عوض للقوم من معاذ، فكانت حالة ضرورة فلا تجعل أصلًا يقاس عليه.
قلت: هذا كان قبل أُحد، فلا حاجة إلى ذكر الاحتمال.
الرابع: أنه يحتمل أن يكون كان معاذ يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة النهار، ومع قومه صلاة الليل؛ لأنهم كانوا أهل خدمة لا يحضرون صلاة النهار في منازلهم، فأخبر الراوي عن حال معاذ في وقتين لا في وقت واحد.
الخامس: أنه حديث منسوخ على ما نذكره -إن شاء الله تعالى-. عمدة القاري (5/236-237).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
لو فارق المأموم لغير عذر، لم يجز في أصح الروايتين عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة ومالك. والثانية: يجوز، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وللشافعي قولان.
واستدلوا على أنه لا يجوز، وأن الصلاة تبطل به بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّما الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه»، ومفارقته مِن غير عذر من الاختلاف عليه.
وأيضًا: فقد سبق الاستدلال على وجوب الجماعة، والواجب إِذا ما شُرع فيه لم يجز إِبطاله وقطعه لغير عذر، كأصل الصلاة. فتح الباري (6/215-216).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)  


ابلاغ عن خطا