«اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها، فمن ألَمَّ، فليستتر بستر الله، ولْيَتُبْ إلى الله، فإنه من يُبْدِ لنا صَفْحَتَهُ، نُقِمْ عليه كتاب الله -عزَّ وجلَّ-».
رواه الحاكم في المستدرك برقم: (7615)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم: (9226)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (149)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (663).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«القاذورة»:
القاذورة هاهنا: الفعل القبيح، والقول السَّيِّء. النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 28).
«ألَمَّ»:
بفتح الهمزة واللام، وتشديد الميم، أي: قارف. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 45).
«من يُبْدِ لنا صَفْحَتَهُ»:
أي: من يظهر لنا فعله الذي كان يخفيه، أقمنا عليه الحد. النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 109).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«صَفْحَتَهُ» -بالصاد والحاء المهملتين- الوجه، وصفحة كل شيء: وجهه وناحيته، والمعنى: من أظهر لنا ما أتاه من القبيح، عُبِّر عنه بإبداء الوجه؛ لأنه لا يظهر إلا بإبدائه. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 368).
«كتاب الله»:
جمعه: كُتُب -بضم العين وسكونها-، وهو مصدر سُمِّيَ به المكتوب؛ لجمعه أحكام الله، والمراد هنا: حكم الله الذي لا يخالف التنزيل. توضيح الأحكام من بلوغ المرام (6/ 250).
شرح الحديث
قوله: «اجتنبوا هذه القاذورة»:
قال المغربي -رحمه الله-:
«اجتنبوا» الأمر للوجوب؛ فإن القاذورة المراد بها: الفعل القبيح، والقول السيء مما نهى الله -سبحانه وتعالى- عنه، مما يجب عليه حدٌّ كالزنا وشرب الخمر. البدر التمام شرح بلوغ المرام (9/70-71).
وقال المناوي -رحمه الله-:
هي كل قول أو فعل يُسْتَفْحَش أو يُسْتَقْبَح، لكن المراد هنا: الفاحشة، يعني: الزنا؛ لأنه لما رجم ماعزًا ذكره.
سُمِّيَتْ قاذورة؛ لأن حقها أن تُتَقَذَّر فوُصِفَت بما يُوْصف به صاحبها، أفاده الزمخشري. فيض القدير (1/ 155).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
القاذورات هي: جمع قاذورة، وهي كل ما يُستَقذر ويُستَقبح، ولا شك أن المعاصي عند أرباب العقول السليمة والإيمان القوي لا شك مُستقذرة؛ ولهذا سُمِّي الزنا خبثًا، واللواط خبثًا، فقال الله -تبارك وتعالى- في لوط: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} الأنبياء: 74. مع أن هذه الخبيثة عند قوم طيبة لا يستنكرونها -والعياذ بالله-؛ كذلك الزنا يُسمى خبيثًا، ومنه حديث الرويجل الذي خبث في جارية، ومنه قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} النور: 26.
فهذه قاذورات مُستقذرة عند كل ذي طبع سليم، ودين قويم. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/ 370).
قوله «التي نهى الله عنها»:
قال المناوي -رحمه الله-:
أي: حرَّمها. فيض القدير (1/ 155).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«التي نهي الله عنها» هذه الصفة بيان للواقع، وليست صفة مقيدة؛ لأن القاذورات كلها نهى الله عنها، فليست القاذورات قسمين منهي عنه، وغير منهي، بل كلها منهي عنها، إذن فالصفة هنا بيان للواقع. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/370).
قوله: «فمن ألَمَّ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فمن ألَمَّ» -بالتشديد-، أي: نزل به، والإلمام -كما في الصحاح-: مقاربة المعصية من غير مواقعة، وهذا المعنى له لُطْفٌ هنا يُدْرَكُ بالذوق. فيض القدير (1/ 155).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«فمن ألم» بالتشديد «بشيء منها» أي: قارب مواقعته. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 35).
قال العزيزي -رحمه الله-:
«فمن ألم» قال العلقمي: -بفتح الهمزة واللام، وتشديد الميم-، أي: قارف -بالقاف والراء والفاء-، قال في الدر: قارف الذنب واقترفه: عمله. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 45)
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«ألَمَّ» أي: أصاب منها؛ لأن الَّلمم هو الشيء اليسير، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} النجم: 32. إما أنه يسير بممارسته بحيث لا يفعلون الكبيرة إلَّا مرة واحدة، أو {إِلَّا اللَّمَمَ} الذنب الصغير على خلاف بين العلماء.
الشاهد: «ألَمَّ بها» يعني: أصاب منها. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/ 370).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
«فمن ألمَّ بها» أي: فعلها وارتكبها. منحة العلام في شرح بلوغ المرام(8/ 436).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
«فمن ألَمَّ بها»: أي: فمن أصاب شيئًا من هذه المعاصي، وارتكب شيئًا من هذه المحرمات. فقه الإسلام، شرح بلوغ المرام (8/ 298).
قوله: «فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله»:
قال عثمان الكماخي -رحمه الله-:
«فليستتر بستر الله» -بفتح السين أو كسرها-، أي: بسبب ما ستر الله عليه فليتب إليه، ولا يظهر لنا. المهيأ في كشف أسرار الموطأ (3/ 320).
وقال المرتضى الزبيدي -رحمه الله-:
«فليستتر بستر الله» أي: لا يخبر بذلك الناس، وفي معناه قول العامة: إذا بُلِيْتُم فاستتروا. إتحاف السادة المتقين (2/ 23).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله» بالندم والإقلاع والعَزم على عدم العود. فيض القدير (1/ 155).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
وعُلم من الحديث: أن من واقع شيئًا من المعاصي ينبغي أن يستتر، وحينئذٍ فيمتنع التجسس عليه لأدائه إلى هتك الستر.
قال الغزالي: وحد الاستتار أن يغلق باب داره، ويستتر بحيطانه، قال: فلا يجوز استراق السمع على داره ليسمع صوت الأوتار، ولا الدخول عليه لرؤية المعصية، إلا أن يظهر عليه ظهورًا يعرفه من هو خارج الدار، كصوت آلة اللهو، والسكارى، ولا يجوز أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يستخبر جيرانه ليخبروه بما جرى في داره، وقد أنشد في معناه:
لا تلتمس من مساوي الناس مستترًا *** فيكشف الله سترًا عن مَساويكا. فيض القدير(1/١٥٥)
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فمن قصد إظهار المعصية والمُجَاهَرَةَ بها أَغضب رَبَّه فلَم يَسْتُرْهُ، ومَن قصد التَّسَتُّرَ بها حياء مِن رِبِّه ومِن الناس مَنَّ الله عليه بسترهِ إِياه.فتح الباري(10/٤٨٨)
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
مَن أتى ذنبًا واستتر به وتاب؛ كان ذلك أولى من إظهاره لإقامة الحد عليه؛ لأنه يفضح نفسه بالإقرار.
وقد نصَّ على هذا أحمد بن حنبل والشافعي، ويدل على هذا تنبيه الرسول ماعزًا على الرجوع بقوله: «ارجع»، وقوله: «لعلك قبَّلْتَ أو غمزت».
ولو كان الإقرار مستحبًا لما لَقَّنَه الرجوع عن المستحب.
وأوضح من هذا في الدليل: قوله -عليه السلام-: «من أتى شيئًا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله».
فأما إذا كانت الجريمة قد شاعت، ففيه وجهان عن أصحابنا:
أحدهما: أنه يستحب له أن يأتي الحاكم، ويقر له؛ ليقيم عليه الحد، قاله القاضي أبو يعلى.
والثاني: أنه لا يستحب؛ لأنه لو كان مستحبًا لما لقن النبي -صلى الله عليه وسلم- ماعزًا أن يرجع، قاله ابن عقيل، وهو الصحيح. كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 295).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
في ستر المؤمن على نفسه منافع:
منها: أنه إذا اختفى بالذّنب عن العباد لم يستخِفُّوا به، ولا استذَلُّوه؛ لأن المعاصي تُذِلُّ أهلها.
ومنها: أنه إن كان ذنبًا يُوجب الحد سقطت عنه المطالبة في الدنيا.
وفي المجاهرة بالمعاصي استخفاف بحق الله، وحق رسوله، وضرب من العناد لهما؛ فلذلك قال -عليه السلام-: «كل أمتي معافى إلا المجاهرون». شرح صحيح البخاري (9/ 263).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
فأمَّا حقوق الآدميين: فلا بدَّ مع التوبة من الخروج منها. المفهم (5/ 89).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث يدل على أنه يجب على من فعل معصية أن يستتر بستر الله تعالى، ولا يفضح نفسه بالإقرار بذلك الفعل، ويبادر إلى التوبة، وإن أخبر أحدًا بذلك نُدِبَ له أن يأمره بالتوبة، ويستره عن الناس، كما جرى لماعز مع أبي بكر، ثم عمر، فإنهما أمراه بالستر والتوبة. البدر التمام شرح بلوغ المرام (9/71).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«فليستتر بستر الله» فإن الله -سبحانه وتعالى- يستر على من شاء من عباده، ولكن إذا أصر الإنسان على المعصية كشفه الله -والعياذ بالله- لا بد أن تظهر على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، أما إذا فعلها مرة فقد يستر الله عليه.
ويُذْكَر أنَّ بني إسرائيل كان الواحد منهم إذا أصاب ذنبًا وجد هذا الذنب مكتوبًا على بابه، فضيحة -والعياذ بالله- لهم، ولكننا -ولله الحمد- لا يوجد هذا في هذه الأمة، فإذا كان الله قد ستر عليك فاستتر، لا تصبح تتحدث بأني فعلت كذا، وفعلت كذا، فإن هذه من المجاهرة، وكل هذه الأمة معافى إلَّا المجاهرين، فإنهم لن يعافوا.
كثير من الناس إذا فعل المعصية قام يتحدث بها؛ افتخارًا أو استهتارًا، وعدم مبالاة، أو دعوة للضلال، يريد من الناس أن يقتدوا به، ويعملوا بعمله، لكن المؤمن لا يفعل هذا، فنقول: استتر بستر الله.
«ولْيَتُب إلى الله» الحديث إذا صح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمره بأمرين: الاستتار، وعدم الإصرار، يؤخذ عدم الإصرار من قوله: «ولْيَتُب إلى الله» أي: ليرجع إلى الله من هذه المعصية، فيندم ويستغفر ويعزم على ألَّا يعود. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/ 370-371).
وقال ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
من فوائده: إرشاد من أَلَمَّ بشيء منها أن يستتر، ويتوب إلى الله؛ لقوله: «فمن ألمَّ بها فليستتر بستر الله»، ونحن نقول: إرشاد، ولا نقول: وجوب؛ لأنه لو كان واجبًا لمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من إقرار الذين أقروا عنده بالزنا، ولقال لهم: استتروا ولا تُقِرُّوا؛ لكن هذا من باب الإرشاد أن الإنسان يستتر بستر الله، وربما يكون الآن غضبان على نفسه، لكن فيما بعد تطمئن نفسه، ويتوب إلى الله، وتصلح حاله.
ومن فوائد الحديث: وجوب التوبة؛ لقوله: «وليتب»، ولعل قائلًا يقول: كيف تقول في اللام في قوله: «فليستتر»: إنها للإرشاد والاستحباب، وتقول في قوله: «وليتب»: إنها للوجوب؟ وهل هذا إلَّا تفريق بين كلمتين في نص على نسق واحد؟
الجواب: نعم، هو كذلك، لكن التفريق ليس مأخوذًا من هذا الحديث، وإنما هو من أدلة أخرى، فالتوبة من الذنب واجبة بالنص والإجماع: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} النور: 31. وعلى هذا فقوله: «فليتب» الأمر للوجوب. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/ 371).
وقال الشيخ ابن باديس الصنهاجي -رحمه الله-:
فليعمل المسلم على اجتناب المعاصي كلها، حتى إذا ألم بشيء منها فليجتهد في إخفائه وستره، وليضرع إلى الله تعالى في سجوده أن يتوب عليه من ذنبه، وليتوسل إليه تعالى بإيمانه به، وحيائه وخوفه منه، واحترامه لشرعه وعباده، فهو -جل جلاله- يحب التوابين، ويحب المتطهرين. مجالس التذكير من حديث البشير النذير (ص: 126).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
دلَّ الحديث: على رغبة الشارع الحكيم من المذنب أن يستر نفسه، ويتوب عن الذنب فيما بينه وبين ربه، والله سبحانه غفور رحيم: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} الشورى: 25. توضيح الأحكام من بلوغ المرام (6/ 250).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
الحديث: دليل على تحريم تعاطي ما حرم الله تعالى من المعاصي من الأقوال والأفعال، والمعاصي كلها قاذورات، فيجب البعد عنها، والحذر منها، ومن وقع في شيء منها فليستتر بستر الله تعالى، ولا يُظْهِر ما فعل، وعليه أن يبادر بالتوبة، والله تعالى يقبل توبة عبده متى تحقَّقَت شروطها.
وأصح الأقوال عند أهل العلم: أن الأفضل فيمن ارتكب معصية، أو ما يوجب الحدَّ أن يستر على نفسه، ويتوب فيما بينه وبين الله تعالى، وقد ثبت عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يستر الله على عبد في الدنيا إلَّا ستره الله يوم القيامة».
وعنه أيضًا -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «كل أمتي معافى إلَّا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه». منحة العلام في شرح بلوغ المرام (8/ 436-437).
وقال حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
يدل الحديث: على أن ارتكاب المعصية مع سترها أَهون وأخف من المجاهرة بها؛ لأن المعصية مع الستر تقبل العفو الإِلهي، أما مع المجاهرة فإنه لا يعفى عنها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كل أمتي معافى إلَّا المجاهرون»؛ وذلك لأن المجاهرة وقاحة وجُرْأة، وانتهاك لحدود الله، واستخفاف بالشريعة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «وإن من المجانة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا». منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/ 252).
قوله: «فإنه من يُبْدِ لنا صَفْحَتَهُ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فإنه» أي: الشأن «من يُبْدِ» بضم المثناة تحت وسكون الموحدة، «لنا صَفْحَتَهُ» أي: ظهر لنا فعله الذي حقُّه الإخفاء والستر، وصفحة كل شيء: جانبه ووجهه وناحيته، كَنَّى به عن ثبوت موجب الحدِّ عند الحاكم. فيض القدير (1/ 155).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإنه من يبدِ» من: أبدا أي: يظهر «لنا صفحته» -بالصاد والحاء المهملتين-: الوجه، وصفحة كل شيء: وجهه وناحيته.
والمعنى: من أظهر لنا ما أتاه من القبيح، عُبِّر عنه بإبداء الوجه؛ لأنه لا يظهر إلا بإبدائه. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 368).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
«فإنه من يبدي» بالياء للإشباع كقراءة: «من يتقي»، وفي رواية بحذفها، أي: يظهر «لنا» معاشر الحكام «صفحته» هي لغة: جانبه ووجهه وناحيته.
والمراد: من يظهر لنا ما سِتْرُه أفضل من حدٍّ أو تعزيزٍ. شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (4/ 180).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
«صَفْحَتَهُ» أي: من انكشف ولم يستتر، وأصله: من صفحة الوجه وصفح الجبل وغيره مثله، قال الأصمعي: وصفح العنق: موضع الرداء من الجانبين، يقال له: العاتق، قاله عياض. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (10/ 269).
وقال اليفرني -رحمه الله-:
«من يُبْدِ لنا صَفْحَتَهُ» أي: ما انكشف ولم يستتر، وأصله: من صفحة الوجه، وصفح الكف وصفحته: ما انبسط منه، وصفحتا السيف: وجهاه العريضان، وصفحة العنق وصفحه: جانبه. الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب (2/ 394).
وقال المغربي -رحمه الله-:
«من يُبْدِ لنا صَفْحَتَهُ» أي: يظهر لنا حقيقة أمره، استعار الصفحة التي هي جانب الوجه للأمر الْمُظْهَر؛ لإظهارها عند الإقرار بالشيء والمواجهة بالخطاب. البدر التمام شرح بلوغ المرام (9/ 71).
قوله: «نُقِمْ عليه كتاب الله -عز وجل-»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«نُقِمْ» نحن معشر الحكام، «عليه كتاب الله» أي: الحد الذي حدَّه الله في كتابه، والسنة من الكتاب، فيجب على المكلف إذا ارتكب ما يوجب لله حدًّا الستر على نفسه والتوبة، فإن أقرَّ عند حاكم أُقِيْم عليه الحدُّ أو التعزير. فيض القدير (1/ 155).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«نُقِمْ عليه كتاب الله» أي: حكمه الذي أُنْزِل في كتابه، أو كَتَبَه على عباده. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 368).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
فيه: أن السلطان إذا أقرَّ عنده الْمُقِرُّ بحدٍّ من حدود الله -عزَّ وجلَّ- ثم لم يرجع عنه لَزمه إقامة الحدِّ عليه، ولم يَجُزْ له العفو عنه. الاستذكار (7/ 498).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «نُقِمْ عليه كتاب الله» أي: الحَد الذي وجب بكتاب الله تعالى، وفيه: دلالة على أنه إذا ظهر عند الإمام أو الحاكم ما يُوْجِب الحد باستكمال شروطه وجب إقامته، وحرُم العفو، وهو في معنى قوله: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب»، ترجم له أبو داود: العفو عن الحَد ما لم يبلغ السلطان. البدر التمام شرح بلوغ المرام (9/ 71).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
قال العلقمي: والمعنى: اجتنبوا فعل الذنوب التي توجب الحَدّ، فمن عمل شيئًا منها فليستتر ولْيَتُب، ولا يظهر ذلك، فإن أظهره لنا أقمنا عليه الحد، ولا يسقط الحد بالتوبة في الظاهر، ويسقط فيما بينه وبين الله تعالى قطعًا؛ لأن التوبة تُسْقِط أثر المعصية. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 45).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
في الحديث: دليل على أنه يجب على من أَلَمَّ بمعصية أن يستتر، ولا يفضح نفسه بالإقرار، ويبادر إلى التوبة، فإن أبدى صفحته للإمام -والمراد بها هنا: حقيقة أمره- وجب على الإمام إقامة الحد. سبل السلام(7/ 127).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
من فوائد الحديث: أن من أقرَّ عند الحاكم بذنب وجب على الحاكم أن يقيم عليه ما يستحقه بهذا الذنب؛ لقوله في الحديث: «فإنه من يُبْدِ لنا صَفْحَتَهُ، نُقِمْ عليه كتاب الله».
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يربط الوقائع والأحكام بكتاب الله؛ حتى يألف الناس الرجوع إلى كتاب الله -عز وجل-، فإن لم يكن في كتاب الله، فليربطهم بالسُّنة، ولا مانع أن يضُمَّ إلى ذلك الدليل العقلي الذي نُسميه الدليل النظري؛ لأن الدليل العقلي حجة على الشَّاكِّ بالأدلة الشرعية، وزيادة طمأنينة فيمن آمن بالنصوص الشرعية، وكثير من الناس لا يقبل الحكم الشرعي ولو قيل له: قال الله ورسوله، إلَّا إذا قيل: بأنه كذا وكذا، ثم ذكر له التعليل، ولا سيما إذا كان ناقص الإيمان... فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/ 371-372).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
وكان -صلى الله عليه وسلم- يُعرِض عن الْمُقِرذِين، والمعترفين عنده بذنوبهم؛ كقصة ماعز بن مالك؛ يريد بَذلك -صلى الله عليه وسلم- أن تكون توبتهم فيما بينهم وبين ربهم، فيقول: «لعلَّك قبَّلْت، لعلَّك غمزت، لعلَّك نظرت»، أما إذا رُفِع أمر من أتى بفاحشة، وأبان عن حقيقة حاله إلى ولي أمره، فإنَّه حينئذٍ يجب على ولي الأمر إقامة ذلك الحد؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «من يُبْدِ لنا صفحته نُقِمْ عليه كتاب الله -عز وجل-».
وكما قال -صلى الله عليه وسلم- لصفوان بن أمية حينما شفع للسارق الذي سرق رداءه: «هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟».
وقال -صلى الله عليه وسلم- منكرًا على أسامة بن زيد: «أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟».
أما حديث: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم»؛ فقد قال الإمام الشافعي: سمعت مَنْ يُفَسِّر هذا الحديث، فيقول: يُتَجَاوز للرجل من ذوي الهيئات عثرته ما لم تكن حدًّا.
قال الماوردي في تفسير العثرات: فيها وجهان:
أحدهما: الصغائر.
الثاني: أول معصية زلَّ فيها مطيع.
والمتعارف عند الناس أنَّ ذوي الهيئات هم أصحاب الخصال الحميدة، وذوو المروءات، وكرائم الأخلاق.
والمراد بقوله: «إلَّا الحدود» أي: فإنَّها لا تُقَالُ، بل تقام على ذي الهيئة، وغيره بعد الرفع إلى الإمام. توضيح الأحكام من بلوغ المرام(6/ 250-251).