الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخُن من خانك».


رواه أحمد برقم: (15424)، وأبو داود برقم: (3534) من حديث رجلٍ من الصحابة.
ورواه أبو داود برقم: (3535)، والترمذي برقم: (1264) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (423)، صحيح سنن أبي داود برقم: (3534).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«أدِّ»:
أَدَّاهُ تَأْدِيَةً: ‌أَوْصَلَهُ وقَضاهُ، والاسمُ: الأداءُ وهو آدَى للأمانةِ مِن غيرِهِ. القاموس المحيط (ص: 1258).

«الأمانة»:
هي ‌كُل ‌حق ‌لزمك ‌أداؤه وحفظه. فيض القدير (1/ 223).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الأمانة: تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان. النهاية في غريب الحديث والأثر(1/ 71).
وقال أبو البقاء الكفوي -رحمه الله-:
كل ما افْتُرِضَ على العباد فهو أمانة، كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها: الودائع، ‌وأوكد ‌الودائع: ‌كتْمُ ‌الأسرار. الكليات (ص: 187).

«تخُن»:
الخيانة: ‌مخالفة ‌الحقّ ‌بنقض العهد في السِّرِّ. المفردات في غريب القرآن (ص: 305).
وقال ابن عاشور -رحمه الله-:
حقيقة الخيانة: ‌عمل ‌من ‌اؤْتُمِنَ على شيء بضد ما اؤْتُمِنَ لأجله بدون علم صاحب الأمانة. التحرير والتنوير (24/ 116).


شرح الحديث


قوله: «أدِّ الأمانة إلى من ائْتَمَنَكَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «أَدِّ الأمانة»: أَمرٌ، من أدَّى يُؤدَّي تأْدِيَةً، أي: أوصِلْها «إلى من ائْتَمَنَك» أي: جعلك أمينًا وحفيظًا على ماله، وغيره. مرقاة المفاتيح (5/ 1967).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أَدِّ» من أدَّاه تأدية: أوصله، كما في القاموس.
«الأمانة» في النهاية: الأمانة تقع على الطاعات في العبادة والوديعة والثقة والأمان، وقد جاء في كُلٍّ منها حديث.
«إلى من ائْتَمَنك»، والحديث مأخوذ من الآية الكريمة: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} النساء: 58. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 463).
وقال المناوي -رحمه الله-:
الأمانة: صفة كريمة عظيمة من علامة السعادة؛ ‌فمن ‌أخذ ‌درهمًا أو أَقل من مال غيره فهو خائن، وكذا من نظر إلى غير أهله بسوء، وكذا جميع الجوارح إذا تعدَّت إلى متاع غيره فقد خان غيره في ذلك، والخيانة كلها مذمومة مُجَانِبَة للإيمان. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 52).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «أَدِّ الأمانة» هي كل شيء لزمك أداؤه، والأمر للوجوب، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} النساء: 58.
«إلى من ائْتَمَنَك» أي: عليها. تحفة الأحوذي (4/ 400).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أَدِّ» وجوبًا من: الأداء. قال الرّاغب: وهو دفع ما يحق دفعه وتأديته، «الأمانة» هي كل حق لزمك أداؤه وحفظه، وقَصْر جمعٍ لها على حق الحق، وآخرين على حق الخلق: قصورٌ. قال القرطبي: والأمانة تشمل أعدادًا كثيرة، لكن أمهاتها: الوديعة والُّلقطة والرهن والعارية.
قال القاضي: وحفظ الأمانة أَثَرُ كمال الإيمان؛ فإذا نقص الإيمان نقصت الأمانة في الناس، وإذا زاد زادت.
«إلى من ‌ائْتَمَنَك» عليها، وهذا لا مفهوم له، بل غالِبِيٌّ، والخيانة: التفريط في الأمانة. فيض القدير (1/ 223).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«الأمانة» أصله المصدر، من: أَمِنَ -بالكسر- أمانةً، ثم استُعْمِل منقولًا إلى الأعيان مجازًا، فقيل: الوديعة أمانة.
«إلى من ‌ائْتَمَنَك» عليها، ويدخل في عموم الأمانة: العارية والمرهون والعين المؤَجَّرة والوديعة، وقال البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس: الأمانة في كل شيء: في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن. شرح سنن أبي داود (14/ 525-526).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أَدِّ الأمانة إلى من ‌ائْتَمَنَك» عامٌّ لكل أمانة في الأموال، والأقوال، والأفعال، ولكل مُؤْتَمَنٍ من مسلم وغيره. التحبير لإيضاح معاني التيسير (1/ 319).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
اختلف العلماء في الذي يجحد وديعة غيره، ثم يجد المودَع له مالًا، هل يأخذه عوضًا من حقِّه أم لا؟
اختلف قول مالك في ذلك، فروى ابن القاسم عن مالك: أنه لا يفعل، واحتج بما روى عن النبي أنه قال: «أَدِّ الأمانة إلى من ‌ائْتَمَنَك، ولا تَخُنْ من خانك».
وروى زياد عن مالك: أن له أن يأخذ حقه إذا وجده من ماله إذا لم يكن فيه شيء من الزيادة، وهو قول الشافعي، واحتج بحديث هند.
وروى ابن وهب عن مالك: أنه إذا لم يكن على الجاحد للمال دين فله أن يأخذ مما يظفر له أي: الجاحد به من المال حقه، فإن كان عليه دين فليس له أن يأخذ إلا بمقدار ما يكون فيه أسوة الغرماء.
وقال أبو حنيفة: يأخذ من الذهب الذهب، ومن الفضة الفضة، ومن المكيل المكيل ومن الموزون الموزون، ولا يأخذ غير ذلك.
وقال زفر: له أن يأخذ العَرَضَ بالقيمة.
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك: قول من أجاز الانتصاف من حقه إذا وجد مال من ظلمه بدلالة الآية، ودلالة حديث هند، ألا ترى أن النبي -عليه السلام- أجاز لها أن تُطْعِمَ عيلة زوجها من ماله بالمعروف، عوض ما قصَّر فيه من إطعامهم، فدخل في معنى ذلك: كل من وجب عليه حق ولم يُوَفِّه، أو جحده: أنه يجوز له الاقتصاص منه، وليس قوله -عليه السلام-: «أَدِّ الأمانة إلى من ائْتَمَنَك، ولا تَخُنْ من خانك» بمخالف لهذا المعنى؛ لأن من أخذ حقه، فلا يُسمى خائنًا.
وقوله: «أَدِّ الأمانة إلى من ائْتَمَنَك» معناه الخصوص، فكأنه قال: أَدِّ الأمانة إلى من ائْتَمَنَك إذا لم يكن غاصبًا لمالك، ولا جاحدًا له، وأما من غصبك حقك وجحدك فليس يدخل فيمن أُمِرَ بأداء الأمانة إليه؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} النحل: 126، ولدلالة حديث هند، وهذا التأويل ينفي التضاد عن الآثار ودليل القرآن. شرح صحيح البخاري (6/584).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
هذا معناهُ عِندَ أهلِ العِلم: لا تَخُن من خانكَ، بعدَ أنِ انتصرتَ منهُ في خِيانَتِه لك. التمهيد (12/ 532).

قوله: «ولا تَخُنْ من خانك»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا تَخُنْ من خانك» الخيانة: ضد الأمانة، وهو أن يُؤْتَمَنَ الإنسان فلا ينصح، وهو نهي عن خيانة الإنسان لمن خانه، وأنه لا يقابل الإساءة بالإساءة، فبالأولى أن يحرم عليه خيانة من لم يَخُنْهُ. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 463).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
أي: لا تعامل الخائن بمعاملته، ولا تقابل خيانته بالخيانة فتكون مثله، ولا يدخل فيه: أن يأخذ الرجل مثل حقه من مال الجاحد، فإنه استيفاء، وليس بعدوان، والخيانة عدوان. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 272).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
أي: لا تقابله بخيانة مثل خيانته، والذي يُجْحَدُ حقه فوجد مثل حقه من مال الجاحد، فله أن يأخذه بما له عليه، ولا يُعَدُّ ذلك خيانة؛ لأن الخائن هو الذي يأخذ مال غيره ظلمًا وعدوانًا، وهذا لم يأخذه ظلمًا، وإنما أخذه قصاصًا، أو استدراكًا لظُلَامَتِه. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 696).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: مَن أودع عندك وديعةً، سلِّم تلك الوديعة إليه من غير نقصٍ وتصرُّف، ولا تَخُنْ فيه وإن خانك صاحبه، يعني: لا تفعل بالناس بمثل ما يفعلون بك من السوء، بل أَحْسِنْ إلى مَن أساء إليك. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 476).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ولا تَخُنْ من خانك» بأن تقابله بمثل خيانته، فمن ظَفِرَ بمال لمن له عنده مال وعجز عن أخذه منه، وأخذه بماله، واستدرك ظلامته منه، فهذا لم يَخُنْه؛ لأنه مُقْتَضٍ حقًّا لنفسه، والأول مغتصب حقًّا لغيره، وكان مالك بن أنس يقول: إذا أودع الرجل رجلًا ألف درهم، فجحده الألف، وأودعه الجاحد ألفًا لم يَجُزْ له أن يجحده.
قال ابن القاسم صاحبه: أظنه ذهب إلى هذا الحديث، وظاهر حديث يوسف بن ماهك المذكور، ويدل على أنه يذهب إلى هذا، وذهب الشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم: إلى أنه يجوز له أن يأخذ الألف قصاصًا عن حقه؛ لحديث هند المذكور قبله. شرح سنن أبي داود (14/ 526).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا تَخُنْ من خانك» أي: لا تُكافِئْ بالخيانة الخيانة، وتقول: فلان خانني فيما أَمِنْتُه عليه، فَأُكَافِئُهُ بالخيانة فيما أَمِنَنِي عليه، لا سيما مع عموم قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الشورى: 40، و{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} البقرة: 194، فيكون هذا الحديث مُخَصِّصًا للآيات. التحبير لإيضاح معاني التيسير (1/ 319).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
الأولى أن يُنَزَّل هذا الحديث على معنى قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فصلت: 34، يعني: إذا خانك صاحبك فلا تقابله بجزاء خيانته، وإن كان ذاك حسنًا، بل قابله بالأحسن الذي هو عدم المكافأة والإحسان إليه، ويجوز أن يكون من باب الكناية، أي: لا تعامل من خانك فتجازيه. شرح المشكاة (7/ 2185-2186).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ولا تَخُنْ من خانك» دليل على أنه لا يُجَازي بالإساءة من أساء، وحمله الجمهور على أنه مستحب؛ لدلالة قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِئةً سَيئةٌ مِثْلها} الشورى: 40، {وَإِنْ عَاقَبْتُم فَعَاقِبُوا بِمثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} النحل: 126، على الجواز، وهذه هي المعروفة بمسألة الظفر، وفيها أقوال للعلماء: هذا القول الأول وهو الأشهر من أقوال الشافعي، وسواء كان من جنس ما أخذ عليه، أو من غير جنسه.
والثاني: يجوز إذا كان من جنس ما أخذ عليه، لا من غيره؛ لظاهر قوله: {بِمثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} النحل: 126، وقوله: {مِثْلُها}، وهو رأي الحنفية والمؤيد.
والثالث: لا يجوز ذلك إلا بحكم الحاكم؛ لظاهر النهي في الحديث، ولقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ} النساء: 29، وأُجِيْبَ: أنه ليس أكلًا بالباطل، والحديث يُحمل فيه النهي على التنزيه.
الرابع -لابن حزم-: أنه يجب عليه أن يأخذ بقدر حقه، سواء كان من نوع ما هو له، أو من غيره، ويبيعه ويستوفي حقه، فإن فَضُلَ على ما هو له ردَّه له، أو لورثته، وإن نقص بقي في ذِمَّة من عليه الحق، فإن لم يفعل ذلك فهو عاصٍ لله -عز وجل-؛ إلا أن يُحَلِّلَه ويُبْرِئَه فهو مأجور، فإن كان الحق الذي له لا بينة له عليه، وظفر بشيء من مال من عنده له الحق أخذه، فإن طُوْلِبَ أنكر، فإن استُحْلِفَ حلف، وهو مأجور في ذلك، قال: وهذا قول الشافعي، وأبي سليمان، وأصحابهما، وكذلك عندنا كل من ظفر لظالم بمال، ففرضٌ عليه أخذه، وإنصاف المظلوم منه، واستدل بالآيتين، وبقوله تعالى: {وَلَمَن انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِن سَبِيْلٍ} الشورى: 41، وبقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} الشورى: 39، وبقوله تعالى: {وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} البقرة: 194، وبقوله تعالى: {فَمَن اعْتَدَىْ عَلَيْكُم فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} البقرة: 194، وبقوله -صلى الله عليه وسلم- لهند امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» لَمَّا ذكرت له أن أبا سفيان رجل شحيح، وأنه لا يعطيني ما يكفيني وبَنِيَّ، فهل علي من جُناح أن آخذ من ماله شيئًا؟ ولحديث البخاري: «إن نزلتم بقوم فَأَمَرُوا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف».
واستدل لكونه إذا لم يفعل يكون عاصيًا بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الِإثْمِ وَالعُدْوَانِ} المائدة: 2، قال: فمن ظفر بمثل ما ظلم فيه هو، أو مسلم أو ذِمِّيٌّ، فلم يزله عن يد الظالم، ويرد إلى المظلوم حقه، فهو أحد الظالمين، ولم يُعِنْ على البر والتقوى، بل أعان على الإثم والعدوان، وكذلك أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من رأى منكرًا أن يغيره بيده إن استطاع، فمن قدر على قطع الظلم وكفه، وإعطاء كل ذي حق حقه، فلم يفعل، فقد قدر على إنكار المنكر ولم يفعل، فقد عصى الله ورسوله.
ثم ذكر حديث أبي هريرة فقال: هو من رواية طلق بن غنام عن شريك وقيس بن الربيع، وكلهم ضعيف.
قال: ولئن صح فلا حجة فيه؛ لأنه ليس انتصاف المرء من حقه خيانة، بل هو حق واجب، وإنكار منكر، وإنما الخيانة أن يخون بالظلم والباطل من لا حق له عنده. قلتُ: ويؤيد ما ذهب إليه حديث: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»؛ فإن الأمر ظاهر في الإيجاب، ونصر الظالم بإخراجه عن الظلم، وذلك بأخذ ما في يده لغيره ظلمًا، وعن يعلى بن أمية -رضي الله عنه- قال: «قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعًا، قلتُ: يا رسول الله، أعارية مضمونة أو عارية مُؤَدَّاة؟ قال: بل عارية مؤداة». سبل السلام (2/97- 99).
وقال المغربي -رحمه الله-:
في قوله: «لا تَخُنْ من خانك» المراد به: ألَّا تُجَازِي بالإساءة، وهو محمول على الندب عند جماعة من أهل العلم، وهو من يجيز استيفاء ما هو له من الغير ولو من غير جنس ما أخذ عليه بقدر ما أخذ عليه، ويدل عليه قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الشورى: 40، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} النحل: 126، وهو الأشهر من قولَي الشافعي، وسواء كان من جنس ما أُخِذَ عليه، أو من غير جنسه بقدره.
والظاهر: أنَّه يملكه ويتصرف فيه، وقال أصحاب الشافعي: لا يملكه بمجرد الأخذ، بل يبيعه الحاكم على قول، أو يبيعه الآخذ على قول، فيملك ثمنه، وإذا أمكنه المحاكمة لم يَجُزْ ذلك وفاقًا.
وذهب أبو حنيفة والمؤيد بالله: إلى أنَّه لا يجوز له أن يأخذ إلا من جنس ما أخذ عليه، وهو ظاهر قوله: {بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} النحل: 126، وقوله: {مِثْلُهَا} الشورى: 40، وإن كان ذلك يحتمل صدق المماثلة إذا كان بقدر ما أخذ عليه لا أزْيد.
وذهب الهادي: إلى أن ذلك لا يجوز إلا بحكم حاكم؛ لظاهر قوله: «ولا تَخُنْ من خانك»، وظاهر النهي التحريم، ولقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} النساء: 29. البدر التمام شرح بلوغ المرام (6/ 312).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
اختُلِفَ فيما إذا ائْتَمَنَه الغَريم على مال، فهل يأخذ منه حقَّه أم لا؟ على قولين:
حكاهما الداودي عن مالك، ومشهور مذهبه: المنع، وبه قال أبو حنيفة؛ تمسُّكًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أَدِّ الأمانة إلى من ائْتَمَنَك، ولا تَخُنْ من خانك»، وإلى الإجازة ذهب الشافعي، وابن المنذر؛ بناءً على أن ذلك ليس بخيانة، وإنَّما هو وصول إلى حقٍّ. المفهم(5/161- 162).
وقال ابن عبد البر-رحمه الله-:
وقد اختلف الفقهاء في الذي يجحد حقًا عليه لأحدٍ، ويمنعه منه، ثم يظفرُ المجحُودُ له بمال للجاحد، قد ائتَمَنه عليه، أو نحو ذلك.
فقال منهم قائلون: ليس له أَنْ يأخذ حقَّه مِن ذلك، ولا يجحدهُ إياه. واحتجوا بظاهر قوله: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ مَن خانك».
وقال آخرون: ‌له ‌أَن ‌ينتصف منه، ويأخذ حقَّه مِن تحت يَدهِ، واحتجوا بحديث عائشة في قصة هند مع أبي سفيان. وللفُقهاءِ في هذه المسألةِ وُجُوهٌ واعتِلالاتٌ...
والذي يصِحُّ في النَّظرِ، ويثبُتُ في الأُصُولِ: أنه ليس لأحدٍ أن يضُرَّ بأحدٍ، سواءٌ أضرَّ به قبلُ أم لا، إلّا أنَّ لهُ أن ينتصِرَ ويُعاقِبَ إن قدرَ، بما أُبِيحُ له من السلطانِ، والاعتداءِ بالحقِّ الذي هُو مِثلُ ما اعتُدِيَ به عليه.التمهيد(12/٥٣٣)
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«أَدِّ الأمانة إلى من ‌ائْتَمَنَك، ولا تَخُنْ من خانك» ... معناه: لا تخن من خانك بعد أن انتصرت منه في خيانته لك؛ إذ من عاقب بمثل ما عُوقب به، وأخذ حقه ليس بخائن، وإنما الخائن مَنْ أخذ ما ليس له، أو أكثر مما له.الفتح المبين بشرح الأربعين (ص: 521).
وقال المناوي -رحمه الله-:
ولما كانت النفوس نزَّاعة إلى الخيانة، روَّاغة عند مضايق الأمانة، وربما تأولت جوازها مع من لم يلتزمها؛ أعقبه بقوله: «ولا تَخُنْ من خانك».
قال ابن العربي: وهذه مسألة متكررة على ألسنة الفقهاء، ولهم فيها أقوال:
الأول: لا تَخُنْ من خانك مطلقًا.
الثاني: خُنْ من خانك، قاله الشافعي.
الثالث: إن كان مما ‌ائْتَمَنَك عليه من خانك فلا تَخُنْه، وإن كان ليس في يدك فخذ حقك منه، قاله مالك.
الرابع: إن كان من جنس حقك فخذه وإلا فلا، قاله أبو حنيفة.
قال: والصحيح منها: جواز الاعتداء بأن تأخذ مثل مالك من جنسه، أو غير جنسه إذا عدلت؛ لأن ما للحاكم فعله إذا قدرت تفعله إذا اضطررت. فيض القدير (1/ 223).


ابلاغ عن خطا