«مَنْ أفطرَ في رمضانَ ناسيًا، فلا قضاءَ عليه ولا كفَّارةَ».
رواه ابن حبان برقم: (3521)، والحاكم برقم: (1569)، وابن خزيمة برقم: (1990)، والبيهقي في الكبرى برقم: (8074)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وبنحوه رواه البخاري برقم: (1933)، ومسلم برقم: (1155)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضًا.
صحيح الجامع برقم: (6070)، إرواء الغليل برقم: (938).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«ولا كفَّارةَ»:
الكَفَّارَةُ: ما يُغَطِّي الإثم، ومنه كفارة اليمين...، وكذلك كفارة غيرهِ من الآثام، ككفارة القتل والظِّهار...، والتكفير: سِتْرُهُ وتَغْطِيَتُهُ؛ حتى يصير بمنزلة ما لم يُعمَل.المفردات في غريب القرآن (ص: 435).
شرح الحديث
قوله: «مَنْ أفطرَ في رمضانَ ناسيًا»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«مَن أَفْطَرَ في رمضان ناسيًا»؛ لكونه صائمًا. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 130).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«مَن أَفْطَرَ في رمضان ناسيًا» للصَّوْم. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 403).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وللحاكم: «مَن أَفْطَرَ في رمضان ناسيًا» قلنا: فائدة هذه الرواية: أنَّ فيها العموم دون التخصيص بالأكل والشرب.
«مَن أَفْطَرَ» بأي: شيء يُفْطَرُ به «ناسيًا». فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/ 225).
قوله: «فلا قضاءَ عليه ولا كفَّارةَ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«فلا قضاء عليه» في الحياة.
«ولا كفارة» بعد الممات، فإنَّ الله أَطْعَمَهُ وسقاه، كما ثبت بهذا اللفظ في حديث آخر، وبه أخذ الشافعي وغيره، وخالَفَ فيه جماعة، والمسألة معروفة في الفروع. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 130).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
والحديث دليل على أنَّ مَن أكل أو شرب أو جامَعَ ناسيًا لصومه، فإنه لا يُفطره ذلك...، وهذا قول الجمهور، وزَيْد بن علي والباقر وأحمد بن عيسى والإمام يحيى.
وذهب غيرهم إلى أنه يُفْطِر، قالوا: لأن الإمساك عن المفطرات ركن الصوم، فحكمه حكم من نسي ركنًا من الصلاة، فإنها تجب عليه الإعادة، وإنْ كان ناسيًا، وتأوَّلوا قوله: «فليتم صومه» بأنَّ المراد: فليُتِمَّ إمساكَه عن المفطرات.
وأُجيب: بأنَّ قوله: «فلا قضاء عليه ولا كفارة» صريح في صحة صومه، وعدم قضائه له. سبل السلام (1/ 572).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «فلا قضاء عليه ولا كفَّارة» وبه أخذ الشَّافعي، وفيه ردٌّ على مالِكٍ في إبطاله بالأكل ناسيًا. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 403).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «فلا قضاء عليه ولا كفارة» وبه أخذ الشافعي، وقال مالك وأحمد: مَن أكل أو جامَعَ ناسيًا لَزِمَهُ قضاء وكفارة، وأنه عبادة تَفْسُدُ بأكل وجماع عمدًا، فوجب أنْ يَفْسُدَ بنسيانٍ كالحج والحدث؛ ولأنهما لو وقعا في ابتداء الصوم أَفْسَدَا، كما لو أكل أو جامَع، ثم بَانَ طلوع الفجر عند أكْلِه أو جِمَاعِه، فكذا وقوعهما في أثنائه.
ورُدَّ الأول بالفَرْق؛ لأن المنهي في الصوم نوعٌ واحد ففرْقٌ بين عَمْدِهِ وسَهْوِهِ، وفي الحج قسمان:
أحدهما: ما استوى عَمْدُهُ وسَهْوُهُ، كحَلْقٍ، وقتل صيد.
والثاني: ما فيه فرْقٌ، كتطيُّب ولَبْس، فأُلحِق الجماع بالأول؛ لأنه إتلاف، والثاني: لأنه مخطئ في الفعل، وبينهما فرْقٌ؛ ولهذا لو أخطأ في وقت الصلاة لَزِمَهُ القضاء، أو في عدد الركعات بنى على صلاته.
ثم دليلنا هذا الخبر، وخبر: «مَن أكل أو شرب ناسيًا وهو صائم فليس عليه بأس»، وخبر: «رُفِعَ عن أُمَّتِي الخَطَأ والنسيان».
فإن قيل: لو كان النسيان عذرًا كان في النيَّة، رُدَّ بأنَّ الجماع وأخواته من قبيل المناهي، والنية من قبيل الأفعال؛ لأنها قَصْدٌ، وما كان من قبيل الأفعال لا يسقط بالسهو، دون المناهي فقد تسقط؛ ولأن النص فرَّق بينهما، فلا تصح التسوية، ولا بالشروع في العبادة، والشروع فيها ألْيَق بالتغليظ؛ ولأن النيَّة مأمور بها للفعل والامتثال، بخلاف المنهي عنه؛ فإنه للاتباع والكَفِّ، والنسيان فيه غالب.
فإنْ قيل: لا يَبطل الصوم إلا بدخول عينٍ بقَصْدِ أكله وشربه ولو تداويًا؛ لوُرود النص بالأكل والشرب، رُدَّ بأنه أُلْحِقَ بها الغير قياسًا وإجماعًا.
فإن قيل: السهو كالجهل عُذْرٌ بالنسبة لكل مُفْطر مطلقًا؛ لعموم النص، رُدَّ بأنه عُذْرٌ فيما قلَّ، لا فيما كثُر؛ لِنُدُورِ كثرة السهو. فيض القدير (6/ 78).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«فلا قضاء عليه ولا كفارة»، كلمة: «ولا كفارة» تدل دلالة ظاهرة على أنَّ الجماع داخل؛ لأنه لا كفارة إلا في الجماع، وعليه: فإذا كان جَامَع ناسيًا فلا يَفْسُد صومُه، ولا كفارة عليه. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/ 225).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
الجمهور من العلماء على أنَّ الأكل والشرب من الناسي لا يُفسد الصيام، والخلاف بينهم في الجماع: هل له حكم الأكل والشرب بعدم الإفساد أم لا؟
فذهب الإمام أحمد وأتباعه إلى أنَّ الجماع مُفْسِدٌ للصيام، ولو كان من الجاهل أو الناسي.
وإذا كان في نهار رمضان فهو مُوجِب للكفارة، وهو من مفردات مذهب أحمد.
ودليلهم على ذلك: مفهوم الحديث الذي اقْتَصَر على الأكل والشرب دون الجماع، مما يدل على مخالفته لهما؛ ولأن النسيان في الجماع بعيد، بخلاف الأكل والشرب.
وذهب الأئمة: أبو حنيفة والشافعي وداود وابن تيمية وغيرهم إلى أنه لا يُفْسِدُ الصيام، واستدلوا على ذلك بما يأتي:
أولًا: لما رَوَى الحاكم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «مَن أفطر في رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ولا كفارة»...، والإفطار عام في الجماع وغيره.
ثانيًا: العمومات الواردة في مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} البقرة: 286، «وعُفِي لِأُمَّتِي الخطأ والنسيان، وما استُكْرِهُوا عليه».
ثالثًا: أنَّ المخالفين في صحة الصوم يُوافِقون على سقوط الإثم عنه، وإذا كان معذورًا فإنَّ العذر شامل، ولا وجه للتفريق.
وأجابوا عن دليل الحنابلة بأنَّ تعليق الحُكْم في الأكل والشرب من باب تعليق الحُكْم باللَّقب، فلا يدل على نفيه عما عداه. تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (ص: 320).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما الْمُجَامِع ناسيًا فلا يُفطِر، ولا كفارة عليه، هذا هو الصحيح من مذهبنا، وبه قال جمهور العلماء، ولأصحاب مالك خلافٌ في وجوبها عليه.
وقال أحمد: يُفْطِرُ، وتجب به الكفارة، وقال عطاء وربيعة والأوزاعي والليث والثوري: يجب القضاء، ولا كفارة.
دليلنا: أنَّ الحديث صحَّ أنَّ أكْلَ الناسي لا يُفطر، والجماع في معناه، وأما الأحاديث الواردة في الكفارة في الجماع فإنما هي في جماع العامد؛ ولهذا قال في بعضها: «هَلَكْتُ»، وفي بعضها: «احْتَرَقْتُ، احْتَرَقْتُ»، وهذا لا يكون إلا في عامِد، فإنَّ الناسي لا إثم عليه بالإجماع. شرح النووي على مسلم (7/ 225).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
تبيَّن حالُه (المجَامِع في نهار رمضان) بقوله: «هَلَكْتُ واحْتَرَقْتُ»، فدل على أنَّه كان عامِدًا، عارِفًا بالتحريم، وأيضًا: فدخول النسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية البُعْد. فتح الباري (4/ 164).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
اختلف الفقهاء في أكل الناسي للصوم، هل يوجب الفساد أم لا؟ فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يُوجِب، وذهب مالك إلى إيجاب القضاء وهو القياس؛ فإنَّ الصوم قد فات رُكْنُه، وهو من باب المأمورات، والقاعدة تقتضي أنَّ النسيان لا يُؤثِّر في طلب المأمورات. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (ص: 270).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قد ذهب إلى هذا الجمهور، فقالوا: مَن أكل ناسيًا فلا يَفْسُد صومه، ولا قضاء عليه، ولا كفارة.
وقال مالك وابن أبي ليلى والقاسمية: إنَّ مَن أكل ناسيًا فقد بَطَلَ صومه، ولزمه القضاء.
واعْتَذَر بعض المالكية عن الحديث بأنه خبر واحد، مخالف للقاعدة، وهو اعتذار باطل، والحديث قاعدة مستقِلَّة في الصيام، ولو فُتح باب ردِّ الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل، ولرَدَّ مَن شاء ما شاء.
وأجاب بعضهم أيضًا: بحمل الحديث على التطوع، حكاه ابن التين عن ابن شعبان، وكذا قاله ابن القصار، واعتذر بأنه لم يقع في الحديث تعيين رمضان، وهو حَمْلٌ غير صحيح، واعتذار فاسد يردُّه ما وقع في حديث الباب من التصريح بالقضاء.
ومن الغرائب تمسُّك بعض المتأخرين في فساد الصوم، ووجوب القضاء بما وقع في حديث الْمُجامِع بلفظ: «واقضِ يومًا مَكَانَه» قال: ولم يسأله هل جامَع عامِدًا أو ناسيًا؟ وهذا يردُّه ما وقع في أول الحديث، فإنه عند سعيد بن منصور بلفظ: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تُبْ إلى الله، واستغفِرْهُ، وتصدَّق، واقضِ يومًا مكانه»، والتوبة والاستغفار إنما يكونان عن العمد لا عن الخطأ، وأيضًا بعد تسليم تنزيل ترك الاستفصال منزلة العموم، يكون حديث الباب مُخصِّصًا له، فلم يبقَ ما يُوجِب ترك العمل بالحديث.
وأما اعتذار ابن دقيق العيد عن الحديث بأنَّ الصوم قد فات ركْنُه، وهو من باب المأمورات، والقاعدة أنَّ النسيان لا يُؤثِّر في المأمورات، فيُجاب عنه: بأنَّ غاية هذه القاعدة المدَّعَاة أنْ تكون بمنزلة الدليل، فيكون حديث الباب مُخصِّصًا لها. نيل الأوطار (4/ 245).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
قَاسَ الفقهاء على الأكل والشرب بقية المفطرات؛ لقوله في الرواية الثانية: «مَن أفطر في شهر رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ولا كفارة».
وتخصيص الأكل والشرب في الحديث إنما هو باعتبار الغالب، والتخصيص بالغالب لا يقتضي مفهومًا، فلا يدل ذلك على نفي الحُكْم عما عداه، وهذا الحُكْم في الصائم فردٌ من أفراد القاعدة العظيمة التي دل عليها قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} البقرة: 286، وقد صحَّ أنَّ الله تعالى قال إجابة لهذا الدعاء: «قد فَعَلْتُ»، وفي رواية: قال: «نعم»، وهذا من رحمة الله تعالى ولطفه بعباده، وتيسيره عليهم، ورفع الحرج والمشقة عنهم.
ومثل ذلك: ما لو اغتسل الصائم أو تمضمض أو استنشق، فدخل الماء إلى حلقه بلا قصد، لم يفسد صومه، وكذا لو طار إلى حَلْقِه ذباب أو غبار من طريق أو دقيق، أو نحو ذلك؛ أنه لا يفسد صومه؛ لأنه كالناسي في ترك العمد، وسَلْبِ الاختيار.
ومَن رأى صائمًا يأكل أو يشرب في نهار رمضان ناسيًا وجب عليه إعْلامُه وتذكيره؛ لأن هذا من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأكل والشرب في نهار رمضان منكر، والناسي معذور، فوَجَبَ إعلامه في الحال، والله تعالى أعلم. منحة العلام شرح بلوغ المرام (ص: 38).
وينظر للاستفادة الرواية الأخرى من (هنا)
ومن (هنا)