سمعتُ رجلًا قرأ آية، وسمعتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ خِلَافها، فجِئْتُ به النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخْبَرتُه، فعَرَفْتُ في وَجْهِهِ الكَرَاهِيَّة، وقال: «كِلَاكُما مُحْسِن، ولا تَخْتَلِفُوا، فإن من كان قَبْلَكُم اخْتَلَفوا فَهَلَكُوا».
رواه البخاري برقم: (3476)، ورقم: (2410)، ورقم: (5062) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «قال: سمعتُ رجلًا قرأ آية»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أنه سمع رجلًا يقرأ آية سمع النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قرأ خِلَافَهَا» هذا الرَّجُل يحتمل أن يكون هو أُبَي بن كعب -رضي الله عنه-، فقد أخرج الطبري من حديث أُبَي بن كعب -رضي الله عنه- أنه سمع ابن مسعود -رضي الله عنه- يقرأ آية قرأ خلافها.فتح الباري (9/102).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قوله: «أنه سمع رجلًا» قيل: إنه أُبيّ بن كعب.إرشاد الساري (7/ 488).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«سمعتُ رجلًا يقرأ» المسموع على الحقيقة صوتُ الرَّجُل لا الرَّجُل، ولكنهم تسامحوا، فأوقعوا السماع على صاحب الصوت؛ اعتمادًا على المقام، وجُمْلَة «يقرأ» صفة لِرَجُل.المنهل الحديث في شرح الحديث (2/ 310).
قوله: «وسمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقرأ خِلَافَها»:
قال الكَوْرَاني -رحمه الله-:
قوله: «سمعت رجلًا يقرأ آية سمعتُ من النبي -صلى الله عليه وسلم- خلافها» أي: خلاف تلك القراءة في هذه الآية. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (6/339).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قوله: «يقرأ آية سمع النبيَّ -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- خلافها» أي: يقرأ خلافها، وكان اختلافُهما في سورةٍ من آل حم. إرشاد الساري (7/ 488).
قوله: «فَجِئْتُ به النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-»:
قال المباركفوري -رحمه الله-:
«فجئتُ به» أي: أحْضَرْتُه، وفي رواية: «فأخَذْتُ بيده فأتيتُ به».مرعاة المفاتيح (7/ 306).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «فجِئْتُ به» أي: أحضرته «النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-.مرقاة المفاتيح (4/1509).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فإنَّ من الإنكار على أهل الباطل أن يُشْخَصُوا ويُرْفَعُوا، كما فعل ابن مسعود بالرَّجل، وكما فعل عمر بهشام بن حكيم، حين تأوَّل عليه أنه يُخْطِئ.شرح صحيح البخاري (6/ 534).
قوله: «فأخبرته، فعرفتُ في وجهه الكَرَاهِيَّة»:
قال المباركفوري -رحمه الله-:
«فأخبرته» أي: بما سمعتُ من الخلاف.مرعاة المفاتيح (7/ 306).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «فعَرَفْتُ في وجْهِهِ الكراهيَة» بتخفيف الياء: أي: آثار الكراهية؛ خوفًا من الاختلاف المتشابِهِ باختلاف أهل الكتاب؛ لأن الصحابة عُدُول، ونقْلُهم صحيح، فلا وجه للخلاف.مرقاة المفاتيح (4/1509).
وقال المظهري -رحمه الله-:
إنما كَرِهَ رسول الله -عليه السلام- اختلافَ ابن مسعود مع ذلك الرجل؛ لأن الاختلافَ في القرآن غيرُ جائز؛ لأنَّ كلَّ لفظ من القرآن إذا جاء قراءته على وجهين أو أكثر، فلو أنكر أحدٌ واحدًا من ذَيْنِكَ الوجهين أو الوجوه فقد أنكر القرآن، وإنكارُ القرآن غيرُ جائز، فإذا اختلف اثنان في لفظ أنه يُقرأ هكذا، فلا يجوزُ اختلافهما فيه، ولا القول فيه بالرَّأي والاجتهاد؛ لأن قراءةَ القرآن سُنةٌ متَّبَعةٌ، بل طريقُهما أن يَسْأَلا عن ذلك اللفظ مَنْ هو عالمٌ بالقراءات.المفاتيح في شرح المصابيح (3/109).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
إنما كَرِهَ -صلى الله عليه وسلم- اختلاف ابن مسعود مع ذلك الرجل في القرآن؛ لأن قراءته على وجوه مختلفة جائزة؛ فإنكار بعض تلك الوجوه إنكار للقرآن، وهو غير جائز.شرح مصابيح السنة (3/59).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
الكراهة راجعة إلى جِدَاله مع ذلك الرّجل، كما فعل عمر -رضي الله عنه- بهشام، كما سيأتي قريبًا -إن شاء الله تعالى-؛ لأن ذلك مسبوق بالاختلاف، وكان الواجب عليه أن يُقِرَّهُ على قراءته، ثم يسأل عن وجهها.شرح المشكاة (5/1694).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وإنما ظهرت الكراهة في وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع قوله: «كلاكما محسن» لأنهما تجَادَلَا، ويُخشى من هذا الجدال إنكار شيء من القرآن.
وكان الواجب على ابن مسعود أن يُقِرَّهُ على قراءته، ثم يَسْأل عن وجْهِهَا، وهذا الذي أهْلَكَ مَن قبلهم، فقد أنكر كلُّ واحد منهم قراءة الآخر، وغيَّرُوا وبدَّلُوا، فلم يُعْرَف الأصيل من الدخيل.المنهل الحديث في شرح الحديث (2/ 311).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
والكراهية راجعة إلى جِدَالِهِ مع ذلك الرجل، كما فعل عمر -رضي الله عنه- بهشام؛ لأن ذلك مسبوق بالاختلاف، وكان الواجب عليه أن يُقِرَّهُ على قراءته، ثم يسأله عن وجهها.شرح المشكاة (5/1694).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قلتُ: هذا وقع من ابن مسعود -رضي الله عنه- قبل العلم بجواز الوجوه المختلفة، وإلا فحاشاه أن يُنْكِرَ بعد العلم ما يُوجب إنكار القرآن، وهو من أجلِّ الصحابة بعلم القرآن، وأفْقَهِهِم بأحكام الفرقان، وهذا منه يؤيِّد ما قدمناه في تأويل قراءته: (أَمْهِلُونَا) و(أَخِّرُونَا) بدل {انْظُرُونَا} الحديد: 13.
ولعل وجه ظهور الكراهية في وجهه -عليه الصلاة والسلام-: إحضاره الرَّجُل؛ فإنه كان حقّه أن يُحسِن الظن به، ويَسْأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عمّا وقع له، ويُمكن أنه ظهرت الكراهية في وجهه -عليه الصلاة والسلام- عندما صنع عمر -رضي الله عنه- أيضًا، لكن عمر -رضي الله عنه- لِشِدَّةِ غَضَبِه ما شَعَرَ، أو حَلَمَ -عليه الصلاة والسلام- لِمَا رأى به من الشدة، أو تعظيمًا له؛ لأنه مِن أَجِلَّةِ أصحابه، وهذا من جملة خَدَمَتهِ على بابه، وهذا أولى مما ذكره ابن حجر على وجه الاحتمال، واعْتُرض على الطيبي في قوله: إن الكراهة راجعة إلى الجدال، والله أعلم بالحال.مرقاة المفاتيح (4/1509).
قوله: «كِلَاكُمَا مُحْسِن»:
قال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
أي: فيما قرأه.منحة الباري بشرح صحيح البخاري (8/322).
وقال البِرْماوي -رحمه الله-:
قوله: «كلاكما مُحْسِن» أي: في القِراءة، وأُفرد باعتبار لفظ «كِلا».اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (7/400).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «كلاكما مُحْسِن» أي: في القِراءة، وقيل: الإِحْسان راجعٌ إلى ذلك الرجُل بقِراءَته، وإلى ابن مَسعودٍ -رضي الله عنه- بسَماعه مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتَحرِّيه في الاحتِياط.الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (19/53).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله: «كلاكما مُحْسِن»، دلَّ أنه لم يَنْهَهُ عمَّا جعَلَه فيه محسنًا، وإنما نهاه عن الاختلاف المؤَدِّي إلى الهلاك بالفُرْقَةِ في الدِّين.شرح صحيح البخاري (10/285).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «كِلَاكما مُحْسِن» فإن قلتَ: كيف يستقيم هذا القول مع إظهار الكراهية؟
أجيب: بأن معنى الإحسان راجع إلى ذلك الرجل لقراءته، وإلى ابن مسعود -رضي الله عنه- لسماعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم تحرّيه في الاحتياط.شرح المشكاة (5/1694).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «فقال: كِلَاكما مُحْسِن» أي: في رواية القراءة.مرقاة المفاتيح (4/1509).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أنَّ كل من قرأ برواية مما اشتهر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قرأ به من الأحرف السبعة، فإنه لا يجوز إنكاره، ولا ردُّه، بل يجب قبوله، والإيمان به؛ فإنَّ كلًّا من ذلك شافٍ كافٍ.الإفصاح عن معاني الصحاح (2/79).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث والذي قبله: الحضُّ على الجماعة والأُلْفَة، والتحذير من الفُرْقَة والاختلاف، والنهي عن الـمِراء في القرآن بغير حق، ومِن شر ذلك أن تَظْهَرَ دلالة الآية على شيء يخالف الرأي، فيُتَوَسَّلُ بالنَّظر وتدقيقه إلى تأويلها، وحَمْلِهَا على ذلك الرّأي، ويقع اللَّجَاجُ في ذلك، والمناضَلَةُ عليه.فتح الباري (9/102-103).
قوله: «ولا تَخْتَلِفُوا»:
قال البرماوي -رحمه الله-:
أي: اختِلافًا يؤدِّي إلى الكُفر، أو البِدْعة، كالاختلاف في نفْس القُرآن، وفيما جاز قراءتُه على وجهَين مثلًا، وفيما يُوقع في الفتْنة أو الشُّبْهَة.
وأما الاختلاف في الفُروع ومناظرات العُلماء لإظهار الحقِّ فمأمورٌ به.اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (10/67).
وقال الكَوْرَاني -رحمه الله-:
قوله: «لا تختلفوا» أي: في القرآن على وجهٍ يُؤدِّي إلى تكذيب بعض القرآن مما يتعلق بالقراءات.الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (6/339).
وقال الكَوْرَاني -رحمه الله-:
كان اختلافهم في إثبات البعض ونفي البعض على طريقة التناقض، واختلاف القراءة ليس من ذلك، بل اختلاف ألفاظٍ باعتبار اللغات.الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (5/94).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
واعلم أن المراد بالاختلاف المنهيِّ عنه: ما كان خارِجًا عن المُتواتِر، لا في نحو: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} الأنبياء: 104، بالجَمْع والإفْراد، و{لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} الأنبياء: 80، بالتأْنيث أو التذْكير، ونحو: {كِذَّابًا} النبأ: 35 بالتَّثْقيل أو بالتَّخفيف، {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ} البقرة: 102 بتشديد النون وتخفيفها، والإمالة والتَّفخيم، ونحو ذلك من المتواتِر، بل فَسَّر بعضُهم: «أُنزِلَ القُرآنُ على سَبْعة أَحرُفٍ» بهذه الوُجوه.الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (19/53).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «فلا تختلفوا» أي: أيها الصحابة، أو أيتها الأُمَّةُ، وصَدِّقُوا بعضكم بعضًا في الرواية بشروطها المعتبرة عند أَرْبَاب الدِّراية.مرقاة المفاتيح (4/1509).
قوله: «فإن من كان قَبْلَكُم اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فإنَّ مَن كان قبلكم» وهم بنو إسرائيل «اختلفوا فهلكوا»، نعم إذا كان الاختلاف في الفروع ومناظرات العلماء لإظهار الحق فهو مأمور به.إرشاد الساري (5/435).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإنَّ مَن كان قبلكم» أي: من اليهود والنصارى، «اختلفوا» بتكذيب بعضهم بعضًا، «فهلكوا» بتضييع كتابهم، وإهمال خطابهم.مرقاة المفاتيح (4/ 1509).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
ووجه الهلاك في الاختلاف: أن هذا يَكْفُرُ بما يقرأ هذا، ويزعم أنه ليس من كلام الله.
فأما الاختلاف في حركات الحروف المنقولة عن القُرَّاءِ، فإنه لا يضره.كشف المشكل (1/310).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فائدة: قال مُحيي السُّنَّة: جمَع الصَّحابة -رضي الله عنهم- بالاتِّفاق القرآنَ بين الدُّفَّتَيْنِ مُتواترًا من غير أن زادوا فيه، أو نقصوا منه، وكتبوه كما سَمعوه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- من غير أنْ قدَّموا شيئًا أو أخَّروه، وكان -صلى الله عليه وسلم- يُعلِّم أصحابَه التَّرتيب الذي هو الآن في مَصاحفِنا بتَوقيفِ جِبْريل -عليه السلام- إيَّاه عليه، وإعلامِه عند نُزول الآية أنَّ هذه تُكتب عَقِبَ كذا، في سُورة كذا، والله أعلم. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (19/53).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
فيه: ذم الاختلاف، بل بالتفاهم والكلام الحسن، لا الافتراق والنزاع.الحلل الإبريزية (2/320).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله- أيضًا:
وفيه: الحذر من أسباب الخلاف.الحلل الإبريزية (3/104).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ووقع عند عبد الله بن أحمد في زيادات المسْنَد في هذا الحديث: أن اختلافهم كان في عددها، هل هي خمس وثلاثون آية، أو ست وثلاثون؟ فتح الباري (9/102).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
ويرجع اختلافها (أي الأحرف السبعة) إلى الحركات، أو الحروف مع تغيير في المعنى، أو بدون تغيير، وقيل: يرجع إلى التقديم والتأخير، أو الزيادة والنقص، وليس من الاختلاف: الإظهار والإدغام، ونحوهما؛ لأن هذه الصفات المتنوعة لا تُخْرِجُ اللفظ عن كونه لفظًا واحدًا.المنهل الحديث في شرح الحديث (2/ 311).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وفيه: نهي عن الاختلاف في الكتاب، والتحذير من ذلك، بذكر ما جرى لأهل الكتاب قبْلَنا من الاختلاف في كتابهم. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 80).