«مَن قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذنبِهِ».
رواه البخاري برقم (37)، ومسلم برقم (759)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«قَامَ رمضانَ»:
أي: أحْيَا لياليه بالعبادة. شرح المصابيح، لابن الملك (2/ 194).
«إيمانًا»:
أي: طلبًا لوجه الله وثوابه. النهاية في غريب الحديث (1/382).
«احتسابًا»:
أي: طلبًا للأجر، لا لقَصْدٍ آخر من رياء أو نحوه. فتح الباري (4/251).
شرح الحديث
قوله: «مَن قامَ رمضانَ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«مَن قامَ رمضانَ»، «مَن» شَرطية. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (17/283).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أي: قام لياليه مصلِّيًا، والمراد مِن قيام الليل: ما يحصل به مطلق القيام. فتح الباري (4/251).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«مَن قامَ رمضانَ» أي: قام بالطاعة في لياليه؛ مِن تلاوة، أو صلاة، أو علم شرعي، أو ذكر الله. التنوير شرح الجامع الصغير (10/336).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
يُحتمل: أنَّه يريد قيام جميع لياليه، وأنَّ مَن قام بعضها لا يحصل له ما ذكره من المغفرة، وهو الظاهر. سبل السلام (1/ 592).
وقال النووي -رحمه الله-:
«مَن قام رمضان» وهذه الصيغة تقتضي الترغيب والندب، دون الإيجاب، واجتمعت الأُمَّة على أن قيام رمضان ليس بواجب، بل هو مندوب. شرح النووي على مسلم (6/ 40).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
والمراد بقيام رمضان: صلاة التراويح.
واتفق العلماء على استحبابها.
واختلفوا في أن الأفضل صلاتها منفردًا في بيته، أم في جماعة في المسجد.
فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم: الأفضل صلاتها جماعة كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة -رضي الله عنهم-، واستمر عمل المسلمين عليه؛ لأنه من الشعائر الظاهرة، فأشْبَهَ صلاة العيد.
وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل فرادى في البيت؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة». شرح صحيح مسلم ¬(6/39).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
المُراد بالقيام في الحديث: صلاة التراويح، كذا قاله أصحابنا وغيرهم من العلماء، والتحقيق -كما نبَّه عليه النووي- أن يُقال: التراويح محصِّلة لفضيلة قيام رمضان، ولكن لا تنحصر الفضيلة فيها، ولا المراد بها، بل في أي وقت من الليل صلى تطوعًا حصل هذا الغرض. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (3/ 76).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
قال الشافعي: إن صلى رجل لنفسه في بيته في رمضان فهو أحب إليَّ، وإن صلى في جماعة فحَسَنٌ، وأَحَبُّ إليَّ إذا كانوا جماعة أن يصلوا عشرين ركعة ويوتروا بثلاث.
قال: ورأيت الناس يقومون بالمدينة تسعًا وثلاثين ركعة، وأَحَبُّ إليَّ عشرون.
قال: وليس في شيء من هذا ضيق، ولا حدٌّ ينتهي إليه؛ لأنه نافلة، فإن أطالوا القيام وأَقَلُّوا السجود فحسن، وهو أحبُّ إليَّ، وإن كثَّروا الركوع والسجود فحسن. الشافي في شرح مسند الشافعي (2/ 266).
وقال المازري -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ...»، ما الأفضل في قيام رمضان لمن قَوِيَ عليه: هل إخفاؤه في بيته، أم صلاته في المسجد؟
استَحَبَّ مالكٌ أنْ يقوم في بيته، واستَحب غيره قيامه في المسجد، يُحْتَجُّ لمالك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أفْضَلُ الصَّلاَةِ مَا كَانَ فِي بُيُوتِكُم إلاَّ الصَّلاَةَ المَكْتوبَة»، وللمخالف بفعله -صلى الله عليه وسلم-، وبأنَّ عمر -رضي الله عنه- استحسن ذلك من الناس لَمَّا رأى قيامهم في المسجد.
ومن جهة المعنى: أنَّ مالكًا احتاط للنية، وآثر المنفعة النفسية، والمخالف رأى الإِظهار أدعى إلى القلوب الآبية، وأبقى للمعالم الشرعية. المعلم بفوائد مسلم (1/ 455).
وقال القاضي عياض- رحمه الله-:
اختَلَفَ اختيار مالك فيه، فذكر في المدونة: أنه كان يقوم أولًا معهم، ثم ترك ذلك، ورأى القيام في البيت أفضل، وقال الليث: لو قام الناس في بيوتهم، ولم يُقَمْ في المسجد لانْبَغَى أنْ يخرجوا من بيوتهم إليه؛ لأن قيام رمضان من الأمر الذي لا ينبغي تركه، وقد رأى ابن عبد الحكم من أصحابنا أنَّ حضور الجماعة أفضل، كما قال أحمد وأصحاب أبي حنيفة، واختَلف فيها أصحاب الشافعي، وقال أبو يوسف بقول مالك. إكمال المعلم (3/ 112).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قال العراقيون والصيدلاني وغيرهم: هذا الخلاف فيمن يحفظ القرآن ولا يُخَالِفُ الكسلَ عنها، ولا يخْتَلُّ الجماعة في المسجد بتخَلُّفِهِ، فإن فُقِد بعض هذا فالجماعة أفضل قطعًا، وأَطْلَق جماعة من أصحابنا ثلاثة أوجه، ثالثها هذا الفَرْقُ، والله أعلم. طرح التثريب في شرح التقريب (4/ 162).
وقال العراقي -رحمه الله- أيضًا:
ليس المراد بقيام رمضان قيام جميع لَيْلِهِ، بل يحصل ذلك بقيامٍ يسيرٍ من الليل، كما في مطلق التهجُّد، وبصلاة التراويح وراء الإمام كالمعتاد في ذلك. طرح التثريب (4/161).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
وفيه (أي: الحديث): جواز قول: رمضان بغير إضافة شهرٍ إليه. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/158).
قوله: «إيمانًا»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
«إيمانًا» يعنى: مُصَدِّقًا بما وَعَد الله من الثواب عليه. شرح صحيح البخاري (4/146).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وقوله: «إيمانًا» أي: تصديقًا بالمعبود، الآمر له، وعِلْمًا بفضيلة القيام، ووجوب الصيام، وخوفًا من عِقاب ترْكِه. كشف المشكل (3/ 376).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«إيمانا» أي: تصديقًا بأنه حق وطاعة لله تعالى.
وقيل: أي يَحْمِلُه على ذلك الإيمان بالله، أو بفضل رمضان. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (17/283).
وقال ابن العربي-رحمه الله-:
يريد بقوله: «إيمانًا»: أنَّ فَرْضَهُ من عند الله، وأن عبادته فيه إنما هي لله تعالى؛ إذ الأعمال كلها تحتمل أن تكون لله ولغيره، ولا عبرة بها إلا أن تكون لله على نية امتثال أمره والتقرب إليه، كمَن توضأ تَبَرُّدًا لا يُعتد به عبادة، وكذلك مَن صام إِجْمَامًا لمعدته لا يُعد عبادة؛ ولذلك قال علماء الحقائق: إنّ الرجل إذا قال: أصوم غدًا، يقصد بذلك التَّطَبُّبَ إنه لا يجزئه وكذلك لو قَصَد بالصلاة رياضة أعضائه لم يجزئ -أيضًا- حتى ينوي بذلك الخدمة لمن تجب له القُرْبة. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 277).
قوله: «واحتسابًا»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
«احتسابًا» يعني: يفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى. شرح صحيح البخاري (4/146).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«واحتسابًا»: محتسبًا جَزِيلَ أجره، وهذه صفة المؤمن. كشف المشكل (3/ 376).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«واحتسابًا» اعتدادًا بأن ذلك مَرْقُومٌ عند الله تعالى. التنوير شرح الجامع الصغير (10/336).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الاحتساب: مِن الحَسَبِ، كالاعتداد من العَدِّ، وإنما قيل لمن يَنْوِي بعَمَلِهِ وجه الله: احْتَسَبَهُ؛ لأنَّ له حينئذٍ أن يَعْتَدَّ عمله، فجُعِلَ في حالِ مباشرة الفعل كأنه مُعْتَدٌّ به. النهاية (1/ 382).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«واحتسابًا» أي: إرادة وجه الله تعالى، لا لرياء ونحوه، فقد يفعل الإنسان الشيء الذي يعتقد أنه صدق، لكن لا يفعله مخلصًا، بل لرياء أو خوف ونحو ذلك.
وانتصابهما على المفعول لأجله، أو على الحال، أو التمييز. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (17/283).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وأما قوله: «احتسابًا» فمذهب الـمُنْقَطِعِين إلى الله تعالى أن معناه: يصومه لامتثال الأمر لا لطلب الأجر.
ومن مذهبهم: أن الإخلاص في العبادات إنما يكون بأن يُطِيع الرَّجُل ربَّه محبة فيه، لا يستجلب بذلك جَنَّةً، ولا يدفع بذلك نارًا.
ويُرْوَى في ذلك عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كان يقول إذا نظر إلى صهيب: «نِعْمَ العبد صهيب؛ لو لم يَخَف الله لم يَعْصِهِ»، وآثارًا في ذلك سواه.
وأنكر ذلك الفقهاء، وقالوا: إنه لولا رجاء الجنة وخوف النار ما عَبَدَ الله تعالى أحدٌ.
وهو الصحيح عندي؛ لأن العبادة حظُّ النفس، وخالصة منفعتها، لا يبالي الباري عنها؛ إذ العبادة وترْكها بالإضافة إلى جلاله واحدة، ولكنه بحكمته البالغة، ومشيئته النافذة، جعل الدنيا دار عمل، وجعل الآخرة دار جزاء، وقد صرَّح النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك في الحديث المتقدم: «مَثَلُكُمْ ومَثَلُ أهل الكتاب مِن قبْلِكُم كَمَثَلِ رَجُلٍ استأجر أُجراء...» الحديث إلى آخره، فصرَّح أنها أُجْرة، ويكون معنى قوله: «احتسابًا»: أنه يَعْتَدُّ الأُجْرَة عند الله مُدَّخَرة إلى الآخرة، لا يريد أن يستعجل شيئًا منها في الدنيا؛ لأن ما يَفتح الله تعالى على العبد في الدنيا مِن أَمَلٍ، ونَالَهُ فيها مِن لَذَّةٍ محسوب من أَجْرِهِ، مُحاسَب يوم القيامة به، فعلى العبد أن ينفي ذلك عن قلبه، وأن ينوي بعمله الدار الآخرة، خاصة بأن يسَّر الله تعالى له في هذه الدار أملًا، فذلك فضله يؤتيه من يشاء. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 277-279).
قوله: «غُفر له ما تقدَّم من ذنبه»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«غُفر له» بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله: «ما تقدَّم».
وقوله: «مِن ذنبه» بيان لـ«ما»، وهو اسم جنس مضاف، فيتناول جميع الذنوب، إلا أنه مخصوص عند الجمهور بالصغائر؛ للأدلة الأخرى. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/46).
وقال الباجي -رحمه الله-:
وهذا من أعظم الترغيب، وأَوْلَى ما يجب أن يُسَارَع إليه إذا كان فيه تكفير السيئات التي تقدمت له، واعلم أنَّ الوجه الذي يكون التكفير به هو أن يَقُومَه إيمانًا بصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في ترغيبه فيه، وعلمًا بأنَّ ما وَعَدَ به مَن قامَهُ على ما وَعَدَهُ به، واحتسابًا عند الله تعالى، وأنه يقومه رجاءَ ثواب الله تعالى، لا رياءً ولا سُمعة، ولا غير ذلك مما يُفْسِد العمل. المنتقى شرح الموطأ (1/ 206).
وقال العيني -رحمه الله-:
ظاهر الحديث: غُفْران الصغائر والكبائر، وفضل الله واسع، ولكن المشهور من مذاهب العلماء في هذا الحديث وشِبْهِهِ كحديث غُفران الخطايا بالوضوء، وبصوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء، ونحوه: أنَّ المراد غُفران الصغائر فقط، كما في حديث الوضوء: «ما لم يُؤتَ كبيرة»، «ما اجْتُنِبَت الكبائر». عمدة القاري (1/233- 234).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» المعروف عند الفقهاء أن هذا مُخْتص بغفران الصغائر دون الكبائر.
قال بعضهم: ويجوز أن يُخَفِّفَ مِن الكبائر ما لم يُصادف صغيرة. شرح صحيح مسلم ¬(6/40).
قال العيني -رحمه الله-:
قلتُ: اللفظ عام، ينبغي أن يشمل الصغيرة والكبيرة، والتخصيص بلا مُخَصِّصٍ باطل. شرح أبي داود (5/ 275).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وإطلاق الذّنب شامل للكبائر والصغائر، وقال النووي: المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين، ونَسَبَهُ عياض لأهل السُّنة، وهو مبني على أنها لا تُغْفَرُ الكبائر إلا بالتوبة. سبل السلام (1/ 592).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
ظاهر الحديث: غُفران الصغائر والكبائر، وفضل الله واسع...، لكن قام الإجماع على أنَّ الكبائر لا تسقط إلا بالتوبة، أو بالحَدِّ. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (3/ 77).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قيل: قد ثبت هذا الحديث في قيام رمضان، والآخر في صيامه، وثبت «صوم عرفة كفارة سنتين»، «ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما»، «والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما»، «ومن وافق تَأْمِيْنُهُ تأمين الملائكة غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه» ونحوه، فهذه الأحاديث هل هي مُتَدَاخِلة، أم كيف يقال فيها؟
فالجواب: أن كل واحدة من هذه الخصال صالحة لتكفير الصغائر، فإنْ صادَفَتْهَا كفَّرَتْها، وإن لم تُصَادِفْهَا فإن كان فاعِلُها سالـمًا من الصغائر لكونه غير مكلَّف كالصغير، أو موفقًا لم يفعل صغيرة، أو فَعَلَها وتابَ، أو فَعَلَهَا وعقَّبَها بِحَسَنَةٍ أذْهَبَتْهَا {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} هود:114، فهذا يُرفع له بها درجات، ويُكتب له بها حسنات.
وقال بعض العلماء: ويُرجَى أن يُخَفَّفَ عنه بعض الكبائر إن كان لفاعلها. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/158).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه¬» هذا مع الحديث... «من قام رمضان» قد يقال: إن أحدهما يغني عن الآخر.
وجوابه: أن يقال: قيام رمضان من غير مُوافقة ليلة القدر ومعرفتها سببٌ لغُفران الذنوب، وقيام ليلة القدر لمن وافَقَها وعَرَفَها سبب للغفران، وإن لم يقم غيرها. شرح النووي على مسلم (6/41).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
دلَّ هذا الحديث: على غُفْران ما تقدَّم من الذنوب بقيام رمضان، ودلَّ الحديث الماضي على غُفرانها بقيام ليلة القدر، ولا تعارض بينهما، فإنَّ كل واحد منهما صالح للتكفير، وقد يقتصر الشخص على قيام ليلة القدر بتوفيق الله له، فيحصل له ذَلِكَ. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (3/ 76).
وقال العراقي -رحمه الله-:
الأحسن عندي الجواب بأنه -صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ للغفران طريقين:
أحدهما: يمكن تحصيلها يقينًا إلا أنها طويلة شاقة، وهي قيام شهر رمضان بكماله.
الثاني: لا سبيل إلى اليقين فيها، إنما هو الظن والتخمين؛ إلا أنها مختصر قصيرة، وهي قيام ليلة القدر خاصة، ولا يتوقف حصول المغفرة بقيام ليلة القدر على معرفتها، بل لو قامها غير عارف بها غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، لكن بشرط أن يكون إنما قام بقصد ابتغائها، وقد ورد اعتبار ذلك في حديث عُبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عند أحمد والطبراني مرفوعًا: «فمَن قامها ابتغاءها إيمانًا واحتسابًا، ثم وُفِّقَتْ له غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر». طرح التثريب (4/ 164).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «ما تقدَّم من ذنبه» وعند النسائي بزيادة: «وما تأخر»، وقد أخرج هذه الزيادة جماعةٌ من حديث سفيان بن عيينة، وأخرجها أحمد من طريق أخرى، وأُخْرِجَتْ من طريق مالكٍ تفرَّد بها بحْرُ بن نصر، عن ابن وهب عن مالك، ولم يتابعه عليها أحد من أصحاب ابن وهب، ولا من أصحاب مالك.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (ابن حجر): وقد ورد في غفران ما تقدَّم وما تأخر من الذنوب عدة أحاديث جَمَعْتُهَا في كتابٍ مُفْرَد.
وقد أُوْرِدَ على هذا: بأن غفران ما تقدَّم معقول، ولا يُعقل غفران ما تأخر؛ فإن المغفرة تستدعي سَبْقَ شيء.
ويُجاب عنه: بأن ذلك كناية عن عدم وقوع الذنب منهم في المستقبل، وأجاب الماوردي بأنها تقع منهم الذنوب مغفورة، والله أعلم. البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/ 136).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وقد استُشْكِلَت هذه الزيادة («وما تأخر»)؛ من حيث إنّ المغفرة تستدعي سَبْقَ شيء يُغْفَر، والمتأخِّر من الذنوب لم يأتِ، فكيف يُغْفَر؟
وأُجيب: بأنه كناية عن حفظهم من الكبائر، فلا يقع منهم كبيرة بعد ذلك، نظير ما قيل في حديث أهل بدر: «اعملوا ما شئتم، فقد غَفَرْتُ لكم»، وبه أُجيب عن حديث صيام عرفة، وأنه يكفِّر السنة الماضية، والسنة الآتية. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/39- 40).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
والحديث دليل على فضيلة قيام رمضان، والذي يظهر أنه يحصل بصلاة الوتر إحدى عشرة ركعة، كما كان -صلى الله عليه وسلم- يفعله في رمضان وغيره كما سلف في حديث عائشة، وأما التراويح على ما اعتيد الآن فلم تقع في عصره -صلى الله عليه وسلم-، إنما كان ابتدعها إطلاق الابتداع هنا من حيث اللغة عُمَرُ في خلافته، وأَمَرَ أُبيًّا أنْ يجمع الناس، واختُلف في القَدْرِ الذي كان يُصلي به أُبَي، فقيل: كان يصلي بهم إحدى عشرة ركعة، ورُوي إحدى وعشرون، ورُوي عشرون ركعة، وقيل: ثلاث وعشرون، وقيل غير ذلك. سبل السلام (1/ 592-593).
وقال النووي -رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا» وغير ذلك، فكُل هذه الفضائل تحصل، سواء تمَّ عددُ رمضان أَم نقص. شرح النووي على مسلم (7/ 199).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)