الإثنين 24 رمضان 1446 هـ | 24-03-2025 م

A a

«‌من ‌قَطَعَ ‌سِدْرَةً، ‌صَوَّبَ الله رأسه في النار».
سُئل أبو داود عن معنى هذا الحديث؟ فقال: هذا الحديث مختصر، يعني: من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم؛ عبثًا وظلمًا بغير حق يكون له فيها، صوَّب الله رأسه في النار.


رواه أبو داود برقم: (5239)، من حديث عبد الله بن حبشي -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (6476)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (614).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«‌سِدْرَةً»:
هي: شجر النبق، وهي نوعان: ‌عبري ‌لا ‌شوك ‌له إلا ما لا يضر، وضال له شوك، ونبقه صغار. مجمع بحار الأنوار، للكجراتي (3/ 53).

«صوَّب»:
أي: نكسه. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (3/ 57).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
أي: ‌خفَّضه. لمعات التنقيح (5/ 638).


شرح الحديث


قوله: «‌من ‌قَطَعَ ‌سِدْرَةً، ‌صَوَّبَ الله رأسه في النار»:
قال المظهري -رحمه الله-:
وقال أبو داودَ: هذا الحديثُ مُختصرٌ، يعني: «منْ ‌قطعَ ‌سِدرةً ‌في ‌فَلاةٍ ‌يَسْتَظِلُّ ‌بها ‌ابن ‌السبيلِ ‌والبهائُم؛ عبثًا وظُلمًا بغيرِ حقِّ يكونُ لهُ فيها، صَوَّبَ الله رأسَهُ في النَّار».
قوله: «صوَّب الله رأسه» أي: ألقى الله رأسه.
«في فلاة»: أي: في بادية.
«غشمًا»: أي: بغير حق.
وهذا الحكم ليس مختصًا بالسدر، بل كلُّ شجرٍ يستفيد الناس بالجلوس تحته يَحْرُمُ قطعه. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 493-494).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«من قطع سدرةً» السدر: شجر النبق، وقيل: السمر من شجر الطلح، واحده سمرة، وهي: الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبية؛ ولأنها من شجر الجنة، قال اللَّه تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} الواقعة: 28، قال الأصمعي: السدر ما نبت منه في البر فهو الضال بتخفيف اللام، وما نبت في غيره فهو السدر.
سُئل المصنف أي: أبي داود عن هذا الحديث، فقال: هو حديث مختصر، ومعناه: «من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم؛ عبثًا وظلمًا بغير حق يكون له فيها، صَوَّبَ اللَّه رأسه في النار» أي: نكسه. انتهى.
وقيل: أوقع رأسه في النار يوم القيامة، ويدل على الأول حديث: «وصوب يده» أي: نكسها وخفضها. شرح سنن أبي داود (19/ 610-611).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«صوَّب الله» أي: ألقى رأسه في النار، التصويب: ضد الصعود.
قيل: المراد هنا: سدرة مكة؛ لأنه حَرَم، وقيل: سدرة المدينة، نهى عن قطعه؛ لئلا توحش، وليبقى شجرها؛ فيستأنس بذلك مَنْ هاجر إليها، ويستظل بها، وهذا غير مختص بالسِّدر، بل عامٌّ في شجر يستظل الناس والبهائم بالجلوس تحته.
قال أبو داود: هذا الحديث مختصر؛ يعني: «مَن قطع سدرة في فلاة -أي: بادية- يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثًا»، وهو: بفتح الغين، وسكون الشين المعجمة: الظلم.
«وظلمًا»: تفسير له.
«بغير حق يكون له فيها»، قيل: المراد بالحق: النفع، وربما يظلم أحد ظلمًا ويكون له نفعًا، وهذا بخلافه، كما قال الله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} المائدة: 33.
«صوَّب الله رأسه في النار» قيل: إيراد هذا الحديث في (باب الشفعة) غيرُ مناسب، وإنما المناسب في (باب الغَصْب). شرح المصابيح (3/ 478-479).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: روى النسائي من حديث عبد الله بن حبشي، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «‌من ‌قَطَعَ ‌سِدْرَةً، ‌صَوَّبَ الله رأسه في النار»، وعن عروة مرفوعًا نحوه مرسلًا.
قلتُ: كان عروة يقطعه من أرضه، ويحمل الحديث -على تقدير صحته-: أنه أراد سدر مكة، وقيل: سدر المدينة؛ لأنه أُنس وظل لمن جاءهما؛ ولهذا كان عروة يقطعه من أرضه، لا أنه كان يقطعه من الأماكن التي يستأنس بها، لا يستظل الغريب بها هو وبهيمته. عمدة القاري (12/ 162).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
فائدة: في الحديث: «‌من ‌قَطَعَ ‌سِدْرَةً، ‌صَوَّبَ الله رأسه في النار» الحديث، أراد به: سدر مكة؛ لأنها حرم، وقيل: سدر المدينة، نهى عن قطه؛ ليكون أُنسًا وظلًا لمن يهاجر إليها.
وقيل: أراد السدر الذي يكون في الفلاة يستظل به أبناء السبيل والحيوان، أو في ملك إنسان، فيتحامل عليه ظلمًا، فيقطعه بغير حق.
ومع هذا: فالحديث مضطرب الرواية؛ فإن أكثر ما يروى عن عروة بن الزبير، وكان هو يقطع السدر ويتخذ منه أبوابًا، وأهل العلم مجتمعون على إباحة قطعه، والله تعالى أعلم. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (15/ 12).
وقال محمد طاهر الكجراتي -رحمه الله-:
أي: سدر مكة؛ لأنها حرم، وقيل: سدر المدينة، نهى عنه؛ ليكون أُنسًا وظلًا لمن يهاجر إليها، وقيل: سدر الفلاة يستظل به أبناء السبيل والحيوان، وقيل: سدرًا مملوكًا يقطعه ظالم بغير حق. مجمع بحار الأنوار (3/ 53).
وقال المزني -رحمه الله-:
إنْ ثبت أنَّ النبي قاله، فيشبه أنْ يكون سُئل عمَنْ هجم على قطع سدرةٍ للرجل أو ليتيم، أو لمن حرم الله عليه أن يقطعها عليه، فتحامل عليها فقطعها، بعد نهي الله -عز وجل-، أو نهي رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو بدلالةٍ، فيستحق ما قال بهجومه على خلاف الله أو رسوله، فتكون المسألة سبقت السامع للجواب، فسمع الجواب ولم يسمع المسألة، فأدى ما سمع دون ما لم يسمع، نظير ما روى أسامة: أنَّ رسول الله قال: «إنما الربا في النسيئة»، فيحتمل مخرج ذلك: أن يكون رسول الله سُئل: هل في الذهب بالذهب مثلًا بمثل ربا؟ فقال: «إنما الرّبا في النسيئة»، فسمع الجواب ولم يسمع المسألة.
والدليل على ذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مَثلًا بمثل، يدًا بيد».
والدليل على جواز قطع السدر: أنَّ المرء أحق بماله، وأنه جائز له أن يجعل جِنانه دارًا يسكنها، فيقطع ما فيها من الشجر والسدر وغيره.
ولم أرَ أحدًا يمنع من ورق السدر، والورق من بعضها، كالغصن منها، وقد سوَّى رسول الله فيما حرم قطعه بينه وبين عضده؛ لقوله في شجر مكة: «لا يعضد شجرها»، وفي إجازة النبي أن يغسل الميت بالسدر دليل على أن قطعه من شجره مباح، ولو كان حرامًا لم يجز الانتفاع به. الأمر والنهي على معنى الإمام الشافعي - من مسائل المزني (2/ 110-111).
وقال جلال الدين السيوطي -رحمه الله-:
«‌من ‌قَطَعَ ‌سِدْرَةً، ‌صَوَّبَ الله رأسه في النار»، زاد الطبراني في الأوسط: يعني: من سِدر الحرم، قال في النهاية: سئل أبو داود السّجستاني عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث مختصر، ومعناه: «من قطع سدرة في فَلاة يستظلّ بها ابن السبيل؛ عَبثًا وظُلمًا بغير حقّ يكون له فيها، صوّب الله رأسه» أي: نكسه.
وقيل: أراد به: سدر مكة؛ لأنّها حرم، وقيل: سدر المدينة، نهى عن قطعه؛ ليكون أنسًا وظلًّا لمن يهاجر إليها.
وقال البيهقي في سننه: قال أبو ثور: سألتُ أبا عبد الله الشافعي عن قطع السدر؟ فقال: لا بأس به، قد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «اغسلوه بماء وسدر»، قال البيهقي: فيكون محمولًا على ما حمله عليه أبو داود.
قال: وروينا عن عروة: أنَّه كان يقطعه من أرضه، وهو أحد روّاة النهي، فيشبه أن يكون النهي خاصًّا، كما قال أبو داود.
قال: وقرأتُ في كتاب أبي سليمان الخطّابي: أنّ المزني سُئل عن هذا؟ فقال: وجهه: أن يكون -صلى الله عليه وسلم- سُئل عمّن هجم على قطع سِدر لقومٍ، أو ليتيم، أو لمن حرّم الله أن يقطع عليه، فتحامل عليه بقطعه، فاستحقّ ما قاله، فتكون المسألة سبقت السّامع، فسمع الجواب ولم يسمع المسألة، وجعل نظيره حديث أسامة: أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنّما الرّبا في النسيئة»، وقد قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلَّا مثلًا بمثل».
واحتجّ المزني بما احتجّ به الشافعي من إجازة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يغسل الميت بالسّدر، ولو كان حرامًا لم يجز الانتفاع به، قال: والورق من السدر كالغصن، وقد سوّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما حرّم قطعه من شجر الحرم بين ورقه وغيره، فلمّا لم يمنع من ورق السدر دلّ على جواز قطع السدر. انتهى. مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود (3/ 1327- 1328).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«من قطع»: بالتخفيف، «سدرة»: بكسر فسكون، أي: شجرة من شجر النبق: بفتح النون وكسر الموحدة، «‌صَوَّبَ الله»: بتشديد الواو، أي: نكّس وخفض «رأسه في النار».
قيل: المراد: سدرة مكة؛ لأنها حرم، وقيل: سدرة المدينة، نهى عن قطعها؛ ليستظل بها، ولئلا يتوحش من هاجر إلى المدينة، ولعل وجه تخصيصها: أن ظلها أبرد من ظل غيرها، وإلا فالحكم غير مختص بها، بل عام في كل شجر يستظل به الناس والبهائم بالجلوس تحته.
«رواه أبو داود»، وكذا الضياء، «وقال» أي: أبو داود، «هذا الحديث مختصر» أي: معنىً، فمعناه موجز أو مؤول؛ ولذا لم يقل مقتصرًا «يعني: من قطع سدرة في فلاة»: بفتح الفاء، أي: مفازة، «يستظل بها ابن السبيل» أي: ملازم الطريق، وهو: المسافر، «والبهائم» أي: في أوقات الاستراحة، «غشمًا»: بفتح فسكون، هو: الظلم، «وظلمًا»: عطف تفسير، وجمع بينهما تأكيدًا، «بغير حق يكون له فيها»: صفة حق، والمراد بالحق: النفع؛ لأنه ربما يظلم أحد ظلمًا ويكون له فيه نفع، وهنا بخلافه، كما قال تعالى: {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} الشورى: 42.
«‌صَوَّبَ الله» أي: ألقى «رأسه» أي: ابتدأه ، أو رماه برأسه، أو المراد به: بدنه جميعه «في النار». مرقاة المفاتيح (5/ 1985).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«من قطع سدرة»: شجرة نبق، زاد في رواية الطبراني: من سدر الحرم، «‌صَوَّبَ الله رأسه في النار» أي: نكسه، أو أوقع رأسه في جهنم يوم القيامة، والمراد: سدر الحرم، كما صرح به في رواية الطبراني، أو السدر الذي بفلاة يستظل به ابن السبيل والحيوان، أو في ملك إنسان، فيقطعه ظلمًا، ذكره الزمخشري. فيض القدير (6/ 206).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«من قطع سدرة» هي: شجر النبق، «‌صوب ‌الله ‌رأسه في النار» أي: نكسه، أو أوقع رأسه في النار يوم القيامة، والمراد به: سدرة الحرم، كما صرح به في رواية الطبراني، أو السدر التي في الفلاة يستظل به ابن السبيل والحيوان، أو ما كان في ملك إنسان فيقطعه ظالم، ذكره الزمخشري.
قلتُ: وعلى التقادير كلها فذكر السدر مثلًا، وإلا فغيرها من الأشجار مثلها، وقيل: يختص بالسدرة؛ لحديث قال في المطامح: إنه سمعه من بعض شيوخه مسندًا، وهو: «إن سدرة المنتهى قالت للمصطفى ليلة الإسراء: استوص بإخواني في الأرض خيرًا». التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 365).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قلتُ: ويحتمل: أن يكون نهيه أو لعنه لقاطع السدرة لسبب تقدمه، وهو: أنه نزل في سفرة تحت شجرة، فأعجبه ظلها، وكثرة نفعها في تلك الفلاة مع شدة الحر للمسافرين، فتذكر سدرة المنتهى التي ينتهي إليها علم الخلائق، والتي في الجنة، فقال: «لعن اللَّه من قطع السدر» يعني: التي ينتفع بها الناس مثل هذِه، وإكرامًا لسدرة المنتهى، كما أنه نظر إلى جبل جمدان –بضم الجيم– منفردًا عن الجبال، فذكر المنفردين عن الناس، فقال: «سبق المفردون».
وعلى قول من قال: إنَّ السدرة: السمرة، فيحتمل: أنه لما كان تحت شجرة السمرة التي كانت البيعة تحتها، وذكرها اللَّه تعالى في القرآن، وما حصل من الخير الكثير تحتها، وكان تحت سمرة في الطريق انتفع بظلها، قال: «لعن اللَّه من قطع السدر» يعني: التي مثل هذِه في النفع. شرح سنن أبي داود (19/ 614).
وقال جمال الدين الملطي -رحمه الله-:
عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الذين يَقْطَعُونَ السِّدْرَ يُصَبُّونَ في النار على رؤوسهم صَبًّا».
وعن عمرو بن أوس قال: أدركت شيخًا من ثقيف قد أفسد السدر زرعه، فقلتُ: ألا تقطعه، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إلا من زرع»، قال: إني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من قطع سدرًا إلا من زرع صبَّ الله -عز وجل- عليه العذاب صَبًّا»، فأنا أكره أن أقطعه من الزرع، ومن غيره.
اضطرب رواة الحديثين في الإسناد، وأوقفه بعضهم على عروة بن الزبير، لم يتجاوز به إياه إلى عائشة وإلى من سواها، وقد روى هشام بن عروة عن أبيه: «أنه كان يقطع السدر يجعله أبوابًا»، فإن صحا فقد لحقهما نسخ؛ لأن عروة مع جلالة قدره لا يدع شيئًا قد ثبت عنده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ضده، إلا لما يوجب ذلك، وقد كان سفيان ينكره، ويأمر بالعمل بضده، مع أن سائر الفقهاء على إباحة قطعه. المعتصر من المختصر من مشكل الآثار (2/ 317).
وقال السخاوي -رحمه الله-:
حديث: قطع السدر، أبو داود والبيهقي في سننيهما، من حديث سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن حبشي -رضي الله عنه-، رفعه: «‌من ‌قَطَعَ ‌سِدْرَةً، ‌صَوَّبَ الله رأسه في النار»، وفي الباب من المرفوع عن جابر بلفظه، وعن عائشة بلفظ: «إن الذين يَقْطَعُونَ السِّدْرَ يُصَبُّونَ في النار على رؤوسهم صَبًّا»، وعن علي بلفظ: «لعن الله قاطع السدر»، وعن عمر بن أوس الثقفي بلفظ: «من قطع السدر إلا من زرع، صب الله عليه العذاب صَبًّا».
وعن عروة بن الزبير مرسلًا بلفظ عائشة، أخرجها كلها البيهقي، وقال عقبها: وكله منقطع وضعيف إلا الأول، مع أني لا أدري سمعه سعيد من ابن حبشي أم لا؟ قال: وروي بإسناد آخر موصولًا، ثم ساقه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رفعه: «قاطع السدر يُصوِّب الله رأسه في النار».
ولأبي داود في سننه من حديث حسان بن إبراهيم: «سألتُ هشام بن عروة عن قطع السدر وهو مستند إلى قصر عروة؟ فقال: ترى هذه الأبواب والمصاريع، إنما هي من سدر عروة، كان عروة يقطعه من أرضه، وقال: لا بأس به»، زاد في رواية: «يا عراقي! جئتني ببدعة، قال: فقلتُ: إنما البدعة من قِبَلِكُم، سمعتُ من يقول بمكة: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قطع السدر»، وأشار البيهقي إلى اختصاصها إن صحت، وقال: قال أبو داود: يعني: «من قطع سدرة في فلاة، يستظل بها ابن السبيل والبهائم؛ عبثًا وظلمًا بغير حق يكون له فيها»، ونحوه قول المزني: وجهه أن يكون -صلى الله عليه وسلم- سُئل عمن هجم على قطع سدرة لقوم، أو ليتيم، أو لمن حرّم الله عليه أن يقطع عليه، فتحامل عليه فقطعه، يعني: فأجاب بما قاله، فسمع بعض من حضر الجواب ولم يسمع المسألة، ويتأيد الحمل بكون عروة –أحد رواة النهي– كان يقطعه من أرضه.
وقد قال أبو ثور: سألتُ الشافعي عن قطع السدر؟ فقال: لا بأس به، قد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «اغسله بماء وسدر»، وكذا احتج المزني بما احتج به الشافعي من إجازة النبي -صلى الله عليه وسلم- غسل الميت بالسدر، وأنه لو كان حرامًا لم يجز الانتفاع به، والورق من السدر كالغصن، فقد سوَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما حرم قطعه من شجر الحرم بين ورقه وغيره، فلما لم أر أحدًا يمنع من ورق السدر دل على جواز قطع السدر.
قلتُ: وقد ثبت من حديث جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه: «مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق، فقال: لأنحيِّن هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة».
ومن حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رفعه: «لقد رأيتُ رجلًا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس».
ومن حديث أبي رافع، عن أبي هريرة رفعه: «إن شجرة كانت تؤذي المسلمين، فجاء رجل فقطعها، فدخل الجنة» إلى غيرها مما ورد في عزل الأذى عن طريق المسلمين، مما يتأيد به التأويل، والله الموفق. المقاصد الحسنة (ص: 490-491).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
إذا ثبت الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد أشكل على بعض العلماء، فتأوله أبو داود بقوله: «هذا الحديث مختصر، يعني: من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم؛ عبثًا وظلمًا بغير حق يكون له فيها، صوَّب الله رأسه في
النار»
.
وذهب الطحاوي إلى: أنه منسوخ، واحتج بأن عروة بن الزبير -وهو أحد رواة الحديث- قد ‌ورد ‌عنه: ‌أنه ‌قطع ‌السدر، ثم روى ذلك بإسناده عنه.
وأخرجه أبو داود (5241) بأتم منه، من طريق حسان بن إبراهيم قال: «سألتُ هشام بن عروة عن قطع السدر وهو مستند إلى قصر عروة؟ فقال: أترى هذه الأبواب والمصاريع؟ إنما هي من سدر عروة، كان عروة يقطعه من أرضه، وقال: لا بأس به»، زاد في روايته: «فقال: هي يا عراقي! جئتني ببدعة! قال: قلتُ: إنما البدعة من قِبَلِكُم، سمعتُ من يقول بمكة: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قطع السدر».
قلتُ: وإسناده جيد، وهو صريح في أن عروة كان يرى جواز قطع السدر.
قال الطحاوي: عروة مع عدالته وعلمه وجلالة منزلته في العلم لا يدع شيئًا قد ثبت عنده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ضده، إلا لما يوجب ذلك له، فثبت بما ذكرنا نسخ الحديث.
قلتُ: وأولى من ذلك كله عندي: أن الحديث محمول على قطع سدر الحرم، كما أفادته زيادة الطبراني في حديث عبد الله بن حبشي، وبذلك يزول الإشكال، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 177).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
سائر أهل العلم من فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتيا على إباحة قطعه، وفي ذلك ما قد دل على أن الأولى فيه إباحة قطعه، لا المنع منه. بيان مشكل الآثار (7/ 149).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وكره أحمد قطع السدر خاصة؛ لحديث مرسل ورد فيه، وقال: قلَّ إنسان فعله إلا رأى ما يكره في الدنيا، ورخص في قطعه آخرون، والله أعلم. فتح الباري (3/ 214).
وقال أبو يعلى الفراء -رحمه الله-:
وقال في رواية أبي طالب -أي: عن الإمام أحمد-: ليس في النَّبِق السدر حديث صحيح، ما يعجبني قطعه؛ لأنه على حال قد جاء فيه كراهة. العدة في أصول الفقه (4/1179- 1181).
وقال الكوسج -رحمه الله-:
قلتُ -أي لأحمد-: قطع السدر؟
قال: إني أحب أن أتوقاه، قلتُ: الحديث في الحرم، أو الحرم وغير الحرم؟
قال: الحرم وغير الحرم.
قلتُ: الرجل يريد أن يبني في مكانه كيف يصنع؟
قال: إذا كان في موضع الضرورة، فهو أهون من أن يقطعه في غير شيء.
قال إسحاق: كما قال، ومعنى ذلك في الأصل في الحرم، إلا أن التوقي في غير الحرم حسن أيضًا. مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه (9/4865- 4867).
وقال حرب الكرماني -رحمه الله-:
سُئلَ أحمد عن قطع السدر، فكرهه كراهة شديدة، وذهب إلى حديث النبي -عليه السلام-، وقال أحمد: قلَّ إنسان فعله إلا رأى ما يكره في الدنيا، يعني: قطع السدر. مسائل حرب الكرماني (2/ 920).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وقال ابن نافع: سُئل مالك عن قطع السدر، وما جاء فيه من النهي؟ فقال: إنما نُهي عن قطع سِدر المدينة؛ لئلا تُوْحَش، وليبقى فيها شجرها؛ فيستأنس بذلك، ويستظل بها من هاجر إليها. معالم السنن (2/ 223).

وينظر للاستفادة الرواية الأخرى من (هنا)


ابلاغ عن خطا