«مِن الله -عز وجل- لا مِن رَسُوله، لَعَنَ الله قاطع السِّدْرِ».
رواه الطبراني في الكبير برقم: (1016) واللفظ له، والبيهقي في الكبرى برقم: (11768) بمعناه، عن معاوية بن حَيْدَة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (5909)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (615).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«لَعَنَ»:
اللَّعْنُ: الإبعاد والطَّرْدُ من الخير، وقيل: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخَلْق: السَّبُّ والدعاء، واللعنة الاسم، والجمع: لِعَانٌ ولَعَنَاتٌ، ولَعَنَهُ يَلْعَنُهُ لَعْنًا: طَرَدَهُ وأَبْعَدَهُ. لسان العرب، لابن منظور (13/ 387).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
اللعن: الإبعاد عن الرحمة. الصارم المسلول (ص: 41).
«السِّدْر»:
هي شجر النَّبْقِ، وهي نوعان: عُبري لا شوك له إلا ما لا يَضُر، وضالٌّ له شوك، ونَبَقُهُ صغار. مجمع بحار الأنوار، للكجراتي (3/ 53).
وقال الرُّباعي -رحمه الله-:
«السِّدْر» شجر النَّبْقِ، الواحدة: سِدْرَةٌ، وقيل: هو السَّمُر. فتح الغفار (4/ 2167).
شرح الحديث
قوله: «مِن الله -عز وجل- لا مِن رسوله»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«مِن الله تعالى» أي: هذا الذي يُذكر من الكلام واللعن، وفي تقديمه لهذه الجملة إبانة بعظَمة ما يأتي بعدها؛ ولِعَظَمة الحُكم؛ حيث هو من عند الرب تعالى.
«لا مِن» عند «رسوله»، وهو دليل على اجتهاده في بعض الأحكام، وهذا نظير قوله في الزكاة: «إنَّ الله تعالى تولَّى قِسْمَتَها بين أصنافها الثمانية بنفسه، لم يَكِلْهُ إلى نبي مرسل، ولا مَلَكٍ مقرَّب». التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 572- 573).
قوله: «لعَنَ الله قاطع السِّدْرِ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
أي: سِدر الحرم. فيض القدير (6/ 6).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
المراد: قاطع سدرٍ في فلاة، يَسْتَظِل به ابن سبيل وغيره بغير حق. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 182).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«لعن الله قاطع السدر» وهو شجر معروف، قيل: أراد السدر الذي نستظل به في الطريق؛ لأنه بقطعه يؤذي المؤمنين؛ إذ لا يجدون لهم ظلًا، وقيل: أراد سدر مكة، وقيل: المدينة؛ لأنه لا يُقطع شجرها، وقيل: إنه منسوخ، وقيل: إن هذا إخبار بوقوع اللعنة من الله على القاطع؛ لأنه دعاء منه -صلى الله عليه وسلم- كما في غيره من الأحاديث التي مرت، وذكرنا فيها الاحتمالين. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 573).
وقال السخاوي -رحمه الله-:
حديث: قطع السدر، أبو داود والبيهقي في سُنَنَيْهِما من حديث سعيد بن محمد بن جبير بن مُطْعِم عن عبد الله بن حُبْشِي -رضي الله عنه- رَفَعَه: «مَن قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ الله رأسه في النار»، وفي الباب من المرفوع عن جابر بلفظه، وعن عائشة بلفظ: «إن الذين يَقْطَعُونَ السِّدْرَ يُصَبُّونَ في النار على رؤوسهم صَبًّا»، وعن علي بلفظ: «لعن الله قاطع السدر»، وعن عمر بن أوس الثقفي بلفظ: «من قطع السدر إلا مِنْ زَرْعٍ صَبَّ الله عليه العذاب صَبًّا».
وعن عروة بن الزبير مُرسَلًا بلفظ عائشة، أخرجها كلها البيهقي، وقال عقبها: ومنقطع وضعيف إلا الأول، مع أني لا أدري سَمِعَهُ سعيدٌ من ابن حُبْشِي أم لا؟ قال: ورُوي بإسناد آخر موصولًا، ثم ساقه من حديث بَهْزِ بن حَكِيم عن أبيه عن جده رفَعَه: «مَن قطع السدر يُصَوِّبُ الله رأسه في النار».
ولأبي داود في سُننه من حديث حسان بن إبراهيم، سألتُ هشام بن عروة عن قَطْعِ السدر، وهو مُسْتَنِد إلى قَصْرِ عُروة، فقال: ترى هذه الأبواب والمصاريع، إنما هي مِن سِدْر عروة، كان عروة يَقْطَعُه من أرضه، وقال: لا بأس به، زاد في رواية: يا عراقي جئتني ببدعة، قال: فقلتُ: إنما البدعة مِن قِبَلِكُم، سمعتُ من يقول بمكة: «لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قطع السدر». وأشار البيهقي إلى اختصاصها إن صحت، وقال: قال أبو داود: "يعني: مَن قطع سدرة في فلاة، يستظل بها ابن السبيل، والبهائم؛ عبثًا وظلمًا بغير حقٍّ يكون له فيها". ونحوه قول المزني: وجْهُهُ: أن يكون -صلى الله عليه وسلم- سُئل عمَّن هَجَمَ على قَطْعِ سدرة لقومٍ أو ليتيم، أو لمن حرَّم اللهُ عليه أن يقطعها عليه، فتحامل عليها فقَطَعَها، يعني: فأجاب بما قاله، فسمع بعض من حضر الجواب ولم يسمع المسألة، ويَتَأَيَّد الحَمْلُ بكون عروة أحد رواة النهي كان يقطعه من أرضه.
وقد قال أبو ثور: سألتُ الشافعي عن قطع السدر، فقال: لا بأس به، قد رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «اغْسِلْهُ بماء وسدر»، وكذا احتج المزني بما احتج به الشافعي، من إجازة النبي -صلى الله عليه وسلم- غَسْل الميت بالسدر، وأنه لو كان حرامًا لم يجُز الانتفاع به، والورق من السدر كالغصن، فقد سوَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما حرم قطعه من شجرة الحرم بين وَرَقِه وغيره، فلما لم أرَ أحدًا يمنع من ورق السدر، دل على جواز قطع السدر.
قلتُ: وقد ثبت من حديث جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: «مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق، فقال: لأنحِّيَنَّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة».
ومن حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه: «لقد رأيتُ رجلًا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس».
ومن حديث أبي رافع عن أبي هريرة رفعه: «إن شجرة كانت تؤذي المسلمين، فجاء رجل فقطعها، فدخل الجنة»، إلى غيرها مما ورد في عزل الأذى عن طريق المسلمين، مما يَتَأَيَّدُ به التأويل، والله الموفق. المقاصد الحسنة (ص: 490-491).
وقال المزني -رحمه الله-:
إنْ ثبت أنَّ النبي قاله، فيُشْبِهُ أنْ يكون سُئل عمَنْ هجَم على قطع سدرةٍ لِرَجُلٍ أو ليتيم، أو لمن حرَّم الله عليه أن يقطعها عليه، فتحامل عليها فقطعها، بعد نهي الله -عز وجل-، أو نهي رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو بدلالةٍ، فيستحق ما قال بهجومِه على خلاف الله أو رسوله، فتكون المسألة سبقت السامع للجواب، فسمع الجواب ولم يسمع المسألة، فأدى ما سمع دون ما لم يسمع، نظير ما رَوى أسامة أنَّ رسول الله قال: «إنما الربا في النسيئة»، فيحتمل مَخْرَجُ ذلك: أن يكون رسول الله سُئل: هل في الذهب بالذهب مِثْلًا بِمِثْلٍ ربا؟ فقال: «إنما الرّبا في النسيئة»، فسَمِعَ الجواب ولم يسمع المسألة.
والدليل على ذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مِثْلًا بِمِثْلٍ، يدًا بيدٍ».
والدليل على جواز قطع السدر: أنَّ المرء أَحَقُّ بماله، وأنه جائز له أن يجعل جِنَانَه دارًا يسكنها، فيقطع ما فيها من الشجر والسدر وغيره.
ولم أرَ أحدًا يمنع من ورق السدر، والورق مِن بعضها كالغصن منها، وقد سوَّى رسول الله فيما حَرُمَ قطعُه بينه وبين عضده؛ لقوله في شجر مكة: «لا يُعْضَدُ شجرها»، وفي إجازة النبي أن يُغَسَّل الميت بالسدر دليل على أن قَطْعَه من شجره مباح، ولو كان حرامًا لم يجز الانتفاع به. الأمر والنهي على معنى الإمام الشافعي - من مسائل المزني (2/ 110-111).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
إذا ثبت الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد أشكل على بعض العلماء، فتأوَّله أبو داود بقوله: "هذا الحديث مختصر، يعني: مَن قطع سِدرة في فَلاةٍ يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثًا وظلمًا بغير حق يكون له فيها، صَوَّبَ الله رأسه في النار".
وذهب الطحاوي إلى أنه منسوخ، واحتجّ بأن عروة بن الزبير -وهو أحد رواة الحديث- قد ورد عنه أنه قطع السدر.
ثم روى ذلك بإسناده عنه، وأخرجه أبو داود (5241) بأتمَّ منه من طريق حسان بن إبراهيم، قال: سألتُ هشام بن عروة عن قطع السدر وهو مستنِد إلى قصر عروة، فقال: أترى هذه الأبواب والمصاريع؟ إنما هي من سدر عروة، كان عروة يقطعه من أرضه، وقال: لا بأس به.
زاد في روايته: فقال: هي يا عراقي جئتني ببدعة! قال: قلتُ: إنما البدعة من قِبَلِكُم، سمعتُ من يقول بمكة: «لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَن قطع السدر».
قلتُ: وإسناده جيد، وهو صريح في أن عروة كان يرى جواز قطع السدر.
قال الطحاوي: "عروة مع عدالته وعلمه وجلالة منزلته في العلم لا يدع شيئًا قد ثبت عنده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ضده، إلا لما يُوجِب ذلك له، فثبت بما ذكرنا نَسْخُ الحديث".
قلتُ: وأَوْلَى من ذلك كله عندي: أن الحديث محمول على قطع سدر الحَرَم، كما أفادَتْه زيادة الطبراني في حديث عبد الله بن حُبْشِي، وبذلك يزول الإشكال. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 177).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
قيل: أراد به سدر مكة؛ لأنها حَرَمٌ، وقيل: سدر المدينة؛ نهى عن قطعه ليكون أُنْسًا وظلًا لمن يهاجر إليها. وقيل: أراد السدر الذي يكون في الفلاة يستظل به أبناء السبيل والحيوان، أو في مِلْكِ إنسان، فيتحامل عليه ظالم فيقطعه بغير حق.
ومع هذا: فالحديث مضطرب الرواية؛ فإن أكثر ما يُروى عن عروة بن الزبير، وكان هو يقطع السّدر، ويتخذ منه أبوابًا.
قال هشام: وهذه أبواب من سدر قطعه أبي، وأهل العلم مجمعون على إباحة قَطْعِه. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/353- 354).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
لكن عند الأصوليين أنَّ تَرْك العمل بما رواه الصحابي، أو التابعي، ليس جَرحًا في روايته. شرح سنن أبي داود (19/ 611).
وقال ابن رسلان -رحمه الله- أيضًا:
«لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من قطع» أو قلع شيئًا من «السدر»، قيل: أراد به سدر مكة؛ لأنها حَرَمٌ.
وقيل: سدر المدينة، فقد نُهي عن قطعه؛ ليكون أُنْسًا وظلًا لمن يهاجر إليها؛ لئلا يستوحش.
وقيل: أراد به السدر الذي يكون بالفلاة.
قلتُ: ويحتمل: أن يكون نهْيُهُ أو لَعْنُهُ لقاطع السدرة لسبب تَقَدَّمَهُ، وهو أنه نزل في سَفْرَةٍ تحت شجرة، فأعجبه ظِلُّها، وكثرة نفعها في تلك الفلاة مع شدة الحرِّ للمسافرين، فتَذَكَّر سدرة المنتهى التي ينتهي إليها علم الخلائق، والتي في الجنة، فقال: «لعن اللَّه مَن قطع السدر»، يعني: التي ينتفع بها الناس مثل هذِه، وإكرامًا لسدرة المنتهى، كما أنه نظر إلى جبل جمدان -بضم الجيم- منفردًا عن الجبال، فذكر المنفردِين عن الناس، فقال: «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ».
وعلى قول من قال: إنَّ السدرة السَّمُرَة، فيحتمل: أنه لما كان تحت شجرة السَّمُرة التي كانت البيعة تحتها، وذكرها اللَّه تعالى في القرآن، وما حصل من الخير الكثير تحتها، وكان تحت سَمُرَة في الطريق انتفع بظلها، قال: «لعن اللَّه مَن قَطَعَ السدر»، يعني: التي مثل هذِه في النفع. شرح سنن أبي داود (19/ 614).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قلتُ: والأَوْلَى عندي في تأويل الحديث: أنه محمول على سِدْرِ الحرم، كما وقع في رواية الطبراني. الحاوي للفتاوي (2/ 68).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
سائر أهل العلم من فقهاء الأمصار الذين تَدُورُ عليهم الفُتْيَا على إباحة قطعه، وفي ذلك ما قد دل على أن الأَوْلَى فيه إباحة قطعه، لا المنع منه. بيان مشكل الآثار (7/ 149).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وكَرِهَ أحمد قطع السدر خاصة؛ لحديثٍ مُرْسَل ورَدَ فيه، وقال: قَلَّ إنسان فَعَلَهُ إلا رأى ما يكره في الدنيا، ورَخَّصَ في قطعه آخرون، والله أعلم. فتح الباري (3/ 214).
وقال أبو يعلى الفراء -رحمه الله-:
وقال في رواية أبي طالب -أي عن الإمام أحمد-: ليس في النَّبِق السدر حديث صحيح، ما يعجبني قَطْعُه؛ لأنه على حال قد جاء فيه كراهة. العدة في أصول الفقه (4/1179- 1181).
وقال الكَوْسَجُ -رحمه الله-:
قلتُ -أي لأحمد-: قطع السدر؟
قال: إني أحب أن أتوقَّاه، قلتُ: الحديث في الحَرم، أو الحرم وغير الحرم؟
قال: الحرم وغير الحرم.
قلتُ: الرَّجُل يريد أن يبني في مكانه كيف يصنع؟
قال: إذا كان في موضع الضرورة، فهو أهون من أن يقطعه في غير شيء.
قال إسحاق: كما قال، ومعنى ذلك في الأصل في الحرم، إلا أن التَّوقِّي في غير الحَرَم حَسَنٌ أيضًا. مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه (9/4865- 4867).
وقال حرب الكرماني -رحمه الله-:
سُئلَ أحمد عن قطع السدر، فكَرِهَهُ كراهة شديدة، وذهب إلى حديث النبي -عليه السلام-، وقال أحمد: قَلَّ إنسان فَعَلَه إلا رأى ما يكره في الدنيا. يعني: قطع السدر. مسائل حرب الكرماني (2/ 920).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وقال ابن نافع: سُئل مالك عن قطع السدر، وما جاء فيه من النهي، فقال: إنما نُهي عن قطع سدر المدينة؛ لئلا تُوْحَش؛ وليبقى فيها شجرُها، فيُستَأْنَس بذلك، ويَستظل بها مَن هاجر إليها. معالم السنن (2/ 223).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في إجابته عن حديث قطع السدر:
رواه كثيرون، وصحَّحه أيضًا في المختارة، والأحاديث فيه كثيرة، وهي مُؤَوَّلَةٌ عند العلماء؛ لإجماعهم على جواز قطعه.
قال بعض السلف: مَحَلُّها سِدْرُ الحرم، وقال أبو داود: وفي قطع سدرة في فلاةٍ يَسْتَظِلُّ بها ابن السبيل والبهائم عبثًا وظلمًا بغير حق. الإيمان والرد على أهل البدع (ص: 86).
وينظر للاستفادة الرواية الأخرى من (هنا)