الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«والذي نفسي بِيَدِهِ لو لم تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بكم، ولَجَاءَ بقومٍ يُذْنِبُون، فيستغفرون اللهَ فَيَغْفِرُ لهم».


رواه مسلم برقم: (2749)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«فَيغفر لهم»:
أصل الغَفْر: الستر، وغفرت المتاع: سترته، والمغفر: وقاية تستر الرأس في الحرب، وغَفْرُ الذنب: ستره، ومحو أثره، وأمن عاقبته. التعيين في شرح الأربعين، للطوفي(1/ 189).


شرح الحديث


قوله: «والذي نفسي بيده»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«والذي نفسي بيده» المقدّسة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (25/ 196).
قال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
«والذي نفسي بيده» الواو واو القسم، و«والذي» صفة لمحذوف تقديره: والله الذي نفسي بيده خَلْقًا ومُلكًا وتصرفًا وتدبيرًا. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (1/ 92).
وقال محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «والذي نفسي بيده» الواو: للقسم، و«الذي» في الأصل صفة لموصوف محذوف استعملت استعماله حتى كأن الأصل مَنْسِي فيها؛ إذ التقدير: والله الذي نفسي بيده.
والنفس هي: الروح، والمراد: إظهار عظمته، أي: الذي يَقْدِر على قبض روحي متى شاء، وهذه الصيغة كانت غالب يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية (5/ 1744).
وقال الشيخ محمَّد الخَضِر الشنقيطي -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «والذي نفسي بيده» وفي رواية «فوَ الذي نفسي بيده» أي: بقدرته، أو هو من المتشابه المفوَّض عِلمه إلى الله تعالى، وقال أبو حنيفة: يلزَمُ من تأويلها بالقُدرة عين التعطيل، فالسبيل فيه كأمثاله، الإِيمان به على ما أراد، ونَكُفُّ عن الخوض في تأويله، فنقول: له يَد على ما أراد، لا كَيَدِ المخلوق. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (1/ 504).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» هو الله -جلَّ وَعَلا-.
وفيه: إثبات اليد لله -جلَّ وعَلا- على ما يليق بجلاله وعظمته...، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يَحْلِفُ على الأمور المهمة من غير استحلاف، وهو الصادق المصدوقشرح المحرر في الحديث (32/ 19).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
تصدير الحديث بالقسم رَدٌّ لمن ينكر صدور الذّنب عن العباد، ويعده نقصًا فيهم مطلقًا، وأن الله تعالى لم يُرِدْ من العباد صدوره، كالمعتزلة ومن سلك مسلكهم، فنظروا إلى ظاهره، وأنه مفسدة صِرفة، ولم يقفوا على سِرِّهِ أنه مُسْتَجْلِب للتوبة والاستغفار الذي هو موقع محبة الله، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} البقرة: 222، و «أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار»، و«لله أشد فرحًا بتوبة عبده» الحديث.
ولعله السِّر في إظهار صفة الكرم والحلم والغفران، ولو لم يوجد لا نثلم طرف من صفات الألوهية، والإنسان إنما هو خليفة الله في أرضه، يتجلى له بصفات الجلال والإكرام والقهر واللطف، والملائكة لَمَّا نظروا إلى الجلال والقهر قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} البقرة: 30، والله تعالى حين نظر إلى صفة الإكرام واللطف قال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} البقرة: 30، وإلى هذا الموضوع يلمح قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لذهب الله بكم»، ولم يكتف بقوله: «لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون» -والله أعلم-. شرح المشكاة (6/ 1841).

قوله: «لو لم تذنبوا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«لو لم تذنبوا» أيها النَّاس. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (25/ 196).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لو لم تذنبوا» أي: أيها المكلَّفون، أو أيها المؤمنون. مرقاة المفاتيح (4/ 1615).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
«لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون فيغفر لهم»؛ فلو لم يُقدِّر الذنوب والمعاصي فَلِمَنْ يغفر، وعلى من يتوب، وعمن يعفو ويسقط حقه، ويظهر فضله وجوده وحلمه وكرمه، وهو واسع المغفرة؛ فكيف يعطل هذه الصفة؟ أم كيف تتحقق بدون ما يغفر؟ ومن يغفر له؟ ومن يتوب؟ وما يتاب عنه؟ فلو لم يكن في تقدير الذنوب والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده لكفى به حكمة وغاية محمودة، والحكم والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر بالبال. شفاء العليل (ص:223).

قوله: «لذهب الله بكم»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ» أي: لأذهبكم وأعدمكم من الأرض. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (25/ 196).
وقال المُظْهِري -رحمه الله-:
الباء في «بكم» للتعدية، و«بقوم» للتعدية. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 177).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «لذهب اللهُ بِكُمْ» أي: لأذهبكم وأفناكم، وأظهر قومًا آخرين من جنسكم، أو من غيركم. مرعاة المفاتيح (8/ 23).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنكم لو كنتم مجبولين على ما جُبِلَتْ عليه الملائكة؛ لجاء الله بقوم يتأتى منهم الذنب، فيتجلى عليهم بتلك الصفات على مقتضى الحكمة، فإن الغفار يستدعي مغفورًا، كما أن الرزاق يستدعي مرزوقًا. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1840 ـ 1841).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «لو لم تذنبوا لذهب الله بِكُمْ»... الحديث، المقصد: بيان عفو اللَّه ومغفرته للذنوب؛ إظهارًا لمقتضى اسم العفو والغفار، وليعظِّموا الرغبة في التوبة والاستغفار، لا الحث على الذنوب، وعدم الاحتفال بالذنوب؛ فإن اللَّه تعالى قد نهى عن الذنوب، وبعث الأنبياء ليردعوا عنها، فافهم -وباللَّه التوفيق-. لمعات التنقيح (5/ 152).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
إنه سبحانه إذا كان يحب أمورًا، وتلك الأمور المحبوبة لها لوازم يمتنع وجودها بدونها- كان وجود تلك الأمور مستلزمًا للوازمها التي لا تُوجد بدونها، مثاله: محبته للعفو والمغفرة والتوبة، وهذه المحبوبات تستلزم وجود ما يعفو عنه، ويغفره، ويتوب إليه العبد منه، ووجود الملزوم بدون لازمه محال، فلا يمكن حصول محبوباته سبحانه من التوبة والمغفرة والعفو بدون الذي يتاب منه ويغفره، ويعفو عن صاحبه؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون، فيغفر لهم»، وهذا هو الذي وردت الأحاديث الصحيحة بالفرح به، وهذا المفروح به يمتنع وجوده قبل الذنب فضلًا عن أن يكون قديمًا، فهذا المفروح به يجب تأخره قطعًا. الصواعق المرسلة (4/ 1467).

قوله: «ولجاء بقوم يذنبون»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ» أي: آخرين من جنسكم، أو من غيركم. مرقاة المفاتيح (4/ 1615).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«لأتى الله بقوم يذنبون» وليس الحكمة في الإتيان بهم: أن يذنبوا؛ بل «ليغفر لهم» ليظهر أنه متصف بالعفو والغفران، وأن رحمته سبقت غضبه. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 148).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«لجاء الله تعالى بقوم يذنبون» ثم يستغفرونه كما في رواية أخرى، «فيغفر لهم»؛ فالذنب من بني آدم قد سبق من الله العلم أنهم يأتونه، فلو فرض أنكم أيها المخاطبون لم توقعوا ذنبًا لجاء قوم آخرون فأتوا ذنبًا يستغفرون الله منه، فالإتيان بالقوم المذنبين لحكمة أنه يظهر كرم الله وعفوه وغفرانه، فالغرض هو مغفرة الله لا ذنبهم؛ كما أشعر به قوله: «فيغفر لهم»؛ فالذنوب بها تنكسر القلوب، ويقبل المحب على المحبوب، إن تاب منها واستغفر. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 175).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«يُذْنِبُونَ» بضم أوله، من الإذناب. البحر المحيط الثجاج (42/ 594).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ويحمل قوله: «يذنبون» على ذنب يغفره الله لمن شاء، وهو ما عدا الشرك. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 194).
وقال حسن أبو الأشبال -حفظه الله-:
قوله: «يُذْنِبُونَ» كلام عامٌّ يشمل كبائر الذنوب وصغائرها. شرح صحيح مسلم (63/ 4).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يُذْنِبُونَ» أي: يمكن وقوع الذنب منهم، ويقع بالفعل عن بعضهم. مرقاة المفاتيح (4/ 1615).
وقال الشيخ أحمد حطيبة -حفظه الله -:
«وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ» وليس معنى هذا: أنهم يذنبون فقط، بل يستغفرون، والمعنى: يتوبون. شرح الترغيب والترهيب (43/ 3).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
«لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»؛ فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته؛ اقتضى حمده وحكمته: أن يخلق خلقًا يظهر فيهم أحكامها وآثارها، فالمحبة للعفو خلق من يحسن العفو عنه؛ ولمحبته للمغفرة خلق من يغفر له، ويحلم عنه، ويصبر عليه، ولا يعاجله، بل يكون يحب أمانه وإمهاله، ولمحبته لعدله وحكمته: خلق من يظهر فيهم عدله وحكمته، ولمحبته للجود والإحسان والبر: خلق من يعامله بالإساءة والعصيان، وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان، فلولا خَلْقُ من يُجْرِيْ على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات؛ لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها -فتبارك الله رب العالمين، وأحكم الحاكمين-. شفاء العليل (ص: 239).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فتقدير الذنوب وإن كانت شرًّا ليست لكونها مقصودة لنفسها، بل لغيرها، وهو السلامة من العُجب، التي هي خير عظيم...، وفيه -كالذي قبله-: دلالة على أن العبد لا تبعده الخطيئة عن الله، وإنما يبعده الإصرار والاستكبار والإعراض عن مولاه، بل قد يكون الذنب سببًا للوصلة بينه وبين ربه. فيض القدير (5/ 422).

قوله: «فيستغفرون الله»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي-رحمه الله-:
أي: فيتوبون إلى الله -تعالى-، ويطلبون منه مغفرته. البحر المحيط الثجاج (42/ 594).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ» أي: فيتوبون، أو يطلبون المغفرة مطلقًا. مرقاة المفاتيح (4/ 1615).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم» فيه تحريض على استيلاء الرجاء على الخوف. شرح المصابيح (3/ 137).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«فيستغفرون الله، فيغفر لهم» فعبر عن التوبة بالاستغفار، والاستغفار الذي هو طلب المغفرة يعتبر توبة -والله أعلم-. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 305).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
والتوبة إلى الله تعالى هي: الرجوع إليه -عزّ وجلّ- من معصيته إلى طاعته، ومن الإشراك به إلى توحيده، ومن البدعة إلى اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أن يرجع الإنسان إلى ربه، فيندم على ما فعل، ويعزم على ألا يعود، ويستغفر الله. شرح رياض الصالحين (6/ 605).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يُذنبون، ثم يستغفرون، فيغفر لهم»، وقد يقال على هذا الوجه:
الاستغفار هو مع التوبة، كما جاء في حديث: «ما أصرَّ من استغفر، وإن عاد في اليوم مائة مرة».
وقد يقال: بل الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع، وبسط هذا له موضع آخر، فإن هذا الاستغفار: إذا كان مع التوبة مما يحكم به عام في كل تائب.
وإن لم يكن مع التوبة، فيكون في حق بعض المستغفرين، الذين قد يحصل لهم عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الذنوب، كما في حديث البطاقة بأن قول: لا إله إلا الله ثقلت بتلك السيئات؛ لَمَّا قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، وكما غفر للبغي بسقي الكلب لَمَّا حصل في قلبها إذ ذاك من الإيمان، وأمثال ذلك كثير. مجموع الفتاوى (7/ 488 ـ489).

قوله: «فيغفر لهم»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فيغفر لهم» على مقتضى وعْدِهِ السابق {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} الفرقان: 70، وقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الزمر: 53. البحر المحيط الثجاج (42/ 594).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فيغفر لهم» فيتوب عليهم، وينيلهم جنته، وإنما يخلِّي الله بين العبد والذنب؛ لتبلغه هذه الدرجة. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 305).
وقال المباركفوري-رحمه الله-:
«فَيَغْفِرُ لَهُمْ» لاقتضاء صفة الغفار، والغفور ذلك؛ ولذا قال الله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} نوح: 10، ولاستلزام هذه الصفة الإلهية وجود المعصية في الأفراد البشرية، والمعنى: لو كنتم معصومين كالملائكة لذهب بكم، وجاء بمن يأتي منهم الذنوب؛ لئلا تتعطل صفات الغفران والعفو، فلا تجرِئَةَ فيه على الانهماك في الذنوب. مرعاة المفاتيح (8/ 23).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
قال -صلى الله عليه وسلم-: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون، فيغفر لهم» فلمن كانت تكون مغفرته لو لم يخلق الأسباب التي يعفو عنها ويغفرها؟ والعبد الذي له يغفر؟ فخلق العبد المغفور له، وتقدير الذنب الذي يغفر، والتوبة التي يغفر بها- هو نفس مقتضى العزة والحكمة، وموجب الأسماء الحسنى، والصفات العلى، ليس من التلبيس في شيء، فتعليق الكوائن بالأسباب كتعليق الثواب والعقاب بالأسباب؛ ولهذا سوَّى صاحب المنازل (أي: صاحب كتاب منازل السائرين، الذي شرحه ابن القيم في مدارج السالكين) بين الأمرين، وهو محض الحكمة، وموجب الكمال الإلهي، ومقتضى الحمد التام، ومظهر صفة العزة، والقدرة والملك، والشرائع كلها من أولها إلى آخرها مبنية على تعليق الأحكام بالعلل، والقضايا بالحجج، والثواب بالطاعة، والعقوبات بالجرائم، فهل يقال: إن الشرائع كلها تلبيس، بأي معنى فُسِّر التلبيس؟. مدارج السالكين (3/ 370).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
هذا دليل على أن المراد من العبد: الذل؛ فإن المذنب منكسر لذنبه، مُنَكَّسُ الرأس لجرمه، وبهذا يبين ذل العبودية، ويظهر عز الربوبية، وفيه تقوية لرجاء المذنب في العفو. كشف المشكل (3/ 590).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «والذي نفسي بِيَدِهِ لو لم تُذْنِبُوا..» هذا خبر من الله تعالى عن ممكنٍ مقدورِ الوقوع؛ مع علم الله تعالى بأنه لا يقع، فحصل منه أن الله تعالى يعلم حال المقدر الوقوع، كما يعلم حال المحقق الوقوع، ونحو من هذا قول الله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} الأنعام: 28، وقد عبر بعض العلماء عن هذا بأن قال: إن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لو كان كيف كان يكون.
وحاصل هذا الحديث: أن الله تعالى سبق في علمه أنه يخلق من يعصيه فيتوب، فيغفر له، فلو قدر ألا عاصي يظهر في الوجود لذهب الله تعالى بالطائعين إلى جنته، ولخلق من يعصيه فيغفر له، حتى يوجد ما سبق في علمه، ويظهر من مغفرته ما تضمنه اسمه الغفار، ففيه من الفوائد: رجاء مغفرته والطماعية في سعة رحمته. المفهم (7/ 81).
وقال المظهري -رحمه الله-:
لا يَظنَّنَّ قوم أن هذا الحديث يُحَرِّضُ الناس على الإذناب، ويُجوِّز الإذناب، بل سبب صدور هذا الحديث من رسول الله -عليه السلام-: أن الصحابة -رضي الله عنهم- كان قد غَلب عليهم خوف الله، واستولى على قلوبهم تعظيم الله تعالى، بحيث اشتغلوا بالكلية بالعبادة والتقوى، حتى قال جماعة: نحن نفر من بين الناس إلى رؤوس الجبال؛ كي لا يشغلنا الناس عن عبادة الله، ولا يحدثوننا فيحصل لنا إثم بالمحادثة، وقال جماعة: نحن نخصي أنفسنا، وقال جماعة: نحن نعتزل النساء، وقال جماعة: نحن لا نأكل الأطعمة اللذيذة، ولا نلبس الثياب الجديدة، وقال بعضهم: أنا أصلي الليل، ولا أرقد، وقال بعضهم: أنا أصوم النهار ولا أفطر، فزجرهم رسول الله -عليه السلام- عن هذه الأشياء بقوله -عليه السلام-: «ليس منا من خصى ولا من اختصى».
وبقوله: «من رَغِبَ عن سنتي فليس مني»، وبقوله: «لا تشددوا على أنفسكم»، ثم قال لهم هذا الحديث -أعني: «لو لم تذنبوا»-؛ تسلية لخواطرهم؛ وإزالة لشدة الخوف عن صدورهم، ومنعهم عن اليأس من رحمة الله، وتحريضهم على الرجاء إلى رحمة الله تعالى، وإظهار كرم الله ورحمته، وتعليمهم أن الله تعالى يحب الاستغفار والتوبة. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 177).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
قوله: «لو لم تذنبوا» لم يورد هذا الحديث مورد تسلية المنهمكين في الذنوب، وقلة الاحتفال منهم بِمُوَاقَعَةِ الذنوب، على ما يتوهم الغرَّة، فإن الأنبياء -صلوات الله عليهم- إنما بعثوا ليردعوا الناس عن غشيان الذنوب؛ بل ورد مورد البيان لعفو الله عن المذنبين، وحسن التجاوز عنهم؛ ليعظموا الرغبة في التوبة والاستغفار.
والمعنى المراد من الحديث: هو أنّ الله تعالى كما أَحبّ أن يُحسن إلى المحسن، أحب أن يتجاوز عن المسيء، وقد دل على ذلك غير واحد من أسمائه: الغفار، الحليم، التواب، العفو، لم يكن ليجعل العباد شأنًا واحدًا كالملائكة مجبولين على التَّنزُّه من الذنوب، بل يخلق فيهم من يكون بطبعه مَيَّالًا إلى الهوى، مُفْتَتِنًا بما يقتضيه، ثم يكلفه التوقي عنه، ويحذره من مُداناته، ويُعَرِّفُه التوبة بعد الابتلاء، فإن وفَّى فأجره على الله، وإن أخطأ الطريق فالتوبة بين يديه، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنكم لو كنتم مجبولين على ما جُبِلَتْ عليه الملائكة؛ لجاء الله بقوم يتأتى منهم الذنب، فيتجلَّى عليهم بتلك الصفات على مقتضى الحكمة، فإن الغفار يستدعي مغفورًا، كما أن الرزاق يستدعي مرزوقًا. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 541).
وقال المناوي -رحمه الله-:
والمعنى -والله أعلم-: أن الله -سبحانه وتعالى- يخبرنا: أنَّ الذنب للعبد المؤمن خير له من العجب، ولولا ذلك لما خلَّى الله -جل ذكره- بين عبده المؤمن وبين الذنب، بأنْ كَفَّه وأمسكه، وحفظه عن اقتراف ذنب ما؛ لأن العبد إذا أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا، يشعر بأنه عمل عملًا سيئًا، وخالف سيده، وأغضب خالقه، واقترف ما يستحق الذم واللوم عليه من مولاه، فيتراجع، ويصغر في نفسه، وينقبض، ويرى نفسه مخطئة، فيعالج طرق الرضا، ويطرق باب الصلح، ويتذلل، ويتواضع لمولاه؛ ليقبل، ولا يؤاخذ بذنبه، ويعفو عن ذلك، ويسامح، فمن هذا ما رواه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا؛ لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم».
وأما إذا لم يقترف ذنبًا، ولم يقدم على معصية، وداوم على البر والتقوى، فينظر إلى غيره ممن غرق في بحار المعاصي، أو أتى مخالفة، أو ارتكب محظورًا؛ فإنه يرى نفسه خالية من كل ذلك، فيدخله العجب، فلا يلجأ إلى بارئه، ويستفتح بابه، ويسأله، ويتواضع له، ويتذلل، فلا تظهر عظمة الربِّ وجلاله، ويخفى سرُّ الألوهية. الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية (ص: 159).
وقال الشيخ فيصل آل مبارك -رحمه الله-:
فيه: أن الله تعالى يحب التوبة والإنابة؛ ولهذا ابتلى آدم بالذنب ليتوب وينيب وينكسر، قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} طه: 121 ـ 122. تطريز رياض الصالحين (ص: 1069).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يعرض الله -عزّ وجلّ- المذنبين أن يستغفروا ربهم، حتى يغفر لهم، ولو شاء لأهلكهم، ولم يرغبهم في التوبة {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} فاطر: 45؛ ولهذا قال في الحديث الذي رواه مسلم: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم».
وهذا ترغيب في أن الإنسان إذا أذنب، فليستغفر الله، فإنه إذا استغفر الله -عز وجل- بنية صادقة، وقلب موقن، فإن الله تعالى يغفر له، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الزمر: 53. شرح رياض الصالحين (3/ 319).
وقال الشيخ ابن عثيمين- رحمه الله- أيضًا:
وكذلك أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن من نعمة الله على العباد أنه إذا ابتلاهم بالذنوب فاستغفروا الله غفر لهم، وأنه لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم، ثم جاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم، وهذا: حثٌّ على أن يستغفر الإنسان ربه، ويكثر من الاستغفار؛ لأنه ينال بذلك درجة المستغفرين. شرح رياض الصالحين (6/ 715).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ثم جاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم»؛ فلا بد للإنسان من ذَنب، ولكن ماذا يصنع؟ يجب عليه إذا أذنب ذنبًا أن يرجع إلى الله، ويتوب إليه، ويندم ويستغفر حتى ينمحي عنه ذلك الذنب. شرح رياض الصالحين (6/ 604).
قال الشوكاني -رحمه الله-:
في ‌الحديث ‌دليلٌ ‌على ‌كَثْرَة وُقُوع الذُّنُوب مِن بني آدم وأنّ مَن حاول أنْ لا يقع مِنه ذَنْب الْبَتَّةَ فقد حاول ما لا يكون لأَنّ هذا -أعني- وقوع الذَّنبِ مِن هذا النوع الإنساني هو الذي جُبلوا عليه وقد خلقهم الله تعالى وأمرهم بالخير والكَفّ عن الشَرّ ولكن ما في جِبِلّتِهم يأَبى أن لا يقع منهم ذَنبٌ؛ لأنّ العِصمة لا تكون إِلا لمن أُعْطي النُّبوةَ مِن بني آدم فلو أرادوا أَنهم لا يذنبون أصلًا راموا ما ليس لهم. تحفة الذاكرين (ص: ٣٧٩).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
والذَّنْبُ لِلْعَبْدِ كأنه أَمْرٌ حَتْمٌ. فالكَيِّسُ هو الذي ‌لا ‌يزال ‌يأتي ‌مِن ‌الحَسنات بما يمحو السيئات.مجموع الفتاوى(10/٦٥٥)
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
هذا الحديث مما انفرد به الإِمام مسلم -رحمه الله تعالى- عن أصحاب الأمهات. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (25/ 196).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
هذا الحديث يدل على: أن المراد من العبد الذُّل وإظهار العبودية، وبذلك يبين عزّ الربوبية.
وفيه من الفقه: تقديم القَسَمِ قبل ذِكرهِ الحديث؛ توطئة لكمال التصديق. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 187).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فيه: جواز الحلف على الأمر المهم توكيدًا، وإن لم يكن هناك مُسْتَحْلِفٌ. فتح الباري (1/ 58).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي - رحمه الله-:
«والذي نفسي بيده» فيه: مشروعية الحلف من غير استحلاف؛ إذا اقتضى المقام ذلك، وفيه: إثبات اليد لله -سبحانه وتعالى- على ما يليق بجلاله، من غير تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل. البحر المحيط الثجاج (42/ 594).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا


ابلاغ عن خطا