الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«أقيموا صفوفكم، فإني أراكم من وراء ظهري»، «وكان أحَدُنا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صاحبه، وقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ».


رواه البخاري برقم: (725) واللفظ له. ومسلم برقم: (434)، من حديث أنس -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«أقيموا»:
الإقامة التسوية والتراصُّ، الْتِزَاق بعضهم إلى بعض. التنوير شرح الجامع الصغير، الصنعاني (3/ 27).

«يُلْزِقُ»:
الإِلْزَاق هو الإلصاق. الكواكب الدراري للكرماني (5/97).
وقال بدر الدين العيني -رحمه الله-: ‌
يُلزِقُ ‌مَنْكِبَه -بضم الياء- مِن أَلْزَقَ أي: يُلصق، يقال: لَزقَ به لُزُوقًا أي: لَصَقَ به، وأَلْزَقَه به غيره. شرح سنن أبي داود (3/ 211).

«مَنْكِبَهُ»:
بفتح الميم وكسر الكاف: هو مُجتمع رأس العَضُد والكَتِف. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، ابن علان (6/ 570).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
الْمَنْكِبُ ما بين الكَتِفِ والعُنق. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (2/ 358).


شرح الحديث


قوله: «أقيموا صفوفكم»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «أقيموا» أي: عدِّلوا، يقال: أقام العُود، أي: عدَّله وسوَّاه. عمدة القاري (8/454).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
«أقيموا صفوفكم»: الخطاب للجماعة الحاضرين لأداء الصلاة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإقامة الصفوف: تسويتها. عمدة القاري (5/255).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
فيه: الأمر بتسوية الصفوف، وهي من سُنة الصلاة عند أبي حنيفة والشافعي ومالك، وزعم ابن حزم: أنه فرض؛ لأن إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض، قال: فإن تسوية الصف من تمام الصلاة، فإن قلتَ: الأصل في الأمر الوجوب، ولا سيما فيه الوعيد على ترك تسوية الصفوف، فدل على أنها واجبة، قلتُ: هذا الوعيد من باب التغليظ والتشديد تأكيدًا وتحريضًا على فعلها، كذا قاله الكرماني، وليس بسديد؛ لأن الأمر المقرون بالوعيد يدل على الوجوب، بل الصواب أن يقول: فلتكُن التسوية واجبة بمقتضى الأمر، ولكنها ليست من واجبات الصلاة، بحيث إنه إذا تركها فسدت صلاته، أو نقصتها، غاية ما في الباب إذا تركها يأثم. عمدة القاري (8/455).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
فإن قيل: قوله -عليه السلام-: «أقيموا صفوفكم» أمرٌ قارَنَه التكرار، وذكر معه الوعيد على تركه، فينبغي أن تكون إقامة الصفوف واجبًا.
قلتُ: فليكن واجبًا، ولكنه ليس منْ واجبات الصلاة، بحيث إنه إذا تركها أفسَد صلاته أو نقصها، ولكنه إذا تركها يأثم. شرح سنن أبي داود(3/ 212).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
تسوية الصفوف من سُنة الصلاة عند العلماء، وأنه ينبغي للإمام تعاهد ذلك من الناس، وينبغي للناس تعاهد ذلك من أنفسهم، وقد كان لعمر وعثمان رجال يُوكِلونهم بتسوية الصفوف، فإذا استوت كبَّرا، إلا أنه إن لم يقيموا صفوفهم لم تبطل بذلك صلاتهم.
وفيه: الوعيد على ترك التسوية. شرح صحيح البخاري (2/ 344).
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
أمره بتسوية الصفوف يقتضي من جهة اللفظ أمرين:
أحدهما: أن يأمر أهل الصفوف بذلك.
والثاني: أن يُوكِل بذلك من يسوِّي الناس في الصفوف...
وتسوية الصفوف مما كان يأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويندب إليه.
وقد روى أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «سَوُّوا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة»، حتى توعد عليها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «لَتُسَوُّنَّ صفوفكم، أو ليُخَالِفن الله بوجوهكم». المنتقى شرح الموطأ (1/ 279).
وقال العراقي -رحمه الله-:
ذكر العلماء في معنى إقامة الصف أمورًا:
أحدها: حصول الاستقامة والاعتدال ظاهرًا كما هو المطلوب باطنًا.
ثانيها: لئلا يتخللهم الشيطان، فيُفسد صلاتهم بالوسوسة، كما جاء في ذلك الحديث.
ثالثها: ما في ذلك من حُسن الهيئة.
رابعها: أن في ذلك تمكُّنهم من صلاتهم، مع كثرة جَمْعِهم؛ فإذا تراصُّوا وَسِعَ جميعهم المسجد، وإذا لم يفعلوا ذلك ضاق عنهم.
خامسها: أن لا يشغل بعضهم بعضًا بالنظر إلى ما يشغله منه إذا كانوا مختلفين، وإذا اصطفوا غابت وجوه بعضهم عن بعض، وكثير من حركاتهم، وإنما يلي بعضهم من بعض ظهورهم. طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 326).
وقال محمود خطاب السبكي -رحمه الله-:
وظاهره: أن تسوية الصفوف في الصلاة واجبة؛ للأمر، والوعيد الشديد المؤكَّد بالقسم على تركها، وإلى ذلك ذهب ابن حزم مستدلًا بحديث الباب.
وبما رُوي عن عمر أنه ضرب قَدَمَ أبي عثمان النهدي لإقامة الصفّ، وبما صح عن سويد بن غفلة قال: كان بلال يسوِّي مَناكِبنا، ويضرب أقدامنا في الصلاة، وقال: ما كان عمر وبلال يضربان على ترك غير واجب.
وذهب الجمهور: إلى أن إقامة الصفوف في الصلاة سُنة، بل ادعى بعضهم الإجماع على ذلك، وقالوا: إن الأمر والوعيد المذكُورَين من باب التغليظ والتشديد، تأكيدًا وتحريضًا على تسوية الصفوف وتعديلها.
وأما ضرب عمر وبلال الناس على تركه: فلا يدلّ على الوجوب؛ لجواز أنهما كانا يريان التعزير على ترك السُّنة.
ورُوي عن عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يُوكِّل رجالًا بإقامة الصفوف، فلا يكَبِّر حتى يُخبَر أن الصفوف قد استوت.
ورُوي عن علي وعثمان أنهما كانا يتعهدان ذلك، ويقولان: استووا.
وكان علي -رضي الله تعالى عنه- يقول: تقدَّم يا فلان، وتأخر يا فلان. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (5/ 52).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
واعلم أن صفوفَ المصلِّين لمَّا كانت على صفوف الملائكة عند ربهم -كما هو عند أبي داود-، بولِغَ في الأمر بالتسوية والتَّرَاصِّ؛ لتكون الحكاية على شاكلة المَحْكِيِّ عنه؛ ولكونها أكمل طريق لأداء العبادة؛ ولذا امتازت به الأمَّةُ المرحومةُ، حتى قيل: إن عبادةَ بني إسرائيل كانت على طريق الحَلَقَة، ولم يكن الصف فيهم. فيض الباري على صحيح البخاري (2/ 300).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قالوا: ومن خصائص نبينا -صلى الله عليه وسلم-: الصف في الصلاة، كصفوف الملائكة. فيض القدير شرح الجامع الصغير (2/ 98).

قوله: «فإني أراكم من وراء ظهري»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: وقوله: «فإني أراكم من وراء ظهري»:
يحتمل أن يراهم بما يُوحَى إليه من أفعالهم وهيئاتهم في الصلاة؛ لأن الرؤية قد يعبَّر بها عن العلم والاعتقاد.
ويحتمل أن يكون يراهم بما خُصَّ به؛ أن زِيدَ في قوة بصره حتى يرى من ورائه، وقال أحمد بن حنبل في هذا الحديث: إنه كان يرى مَن وراءَه كما يرى بعينه، فالله أعلم بما أراد من ذلك. شرح صحيح البخاري (2/ 71).
وقال المازري -رحمه الله-:
قال بعض المتكلمين: يمكن أن يكون خلَق الباري إدراكًا في قفاه -صلى الله عليه وسلم- أبصر به مَن وراءه، وقد انخرقت العادة له -صلى الله عليه وسلم- بأكثر من هذا، فلا يُستنكر هذا، وإنما يَستنكر هذا المعتزلة؛ لأنها تشترط في خلق الإِدراك هيئة مخصوصة، والرد عليهم مستقصى في كتاب علم الكلام. المعلم بفوائد مسلم (1/ 399).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وقد تأوَّل قوم أنَّ (أرى) هنا بمعنى (أعلم)، كما قال -عز وجل- حاكيًا عن شعيب -عليه السلام- وكان أعمى: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} هود: 84، و(أرى) بمعنى (أعلم) معلوم في لسان العرب، فأراد بقوله: «أراكم» أعْلَم خشوعكم، وتمام ركوعكم بما يخفى عنكم، ويُلقي الله في قلبي معرفة أحوالكم.
قال أبو عمر: هذه دعوى فيها تحديد لمخالفة الظاهر، وغير نَكِير أن يكون ذلك برؤية العين كسائر ما أُعْطِيه من خرق العادة، وأعلام النبوة، فيكون ذلك في آخر أمره، فيكون قولنا على ظاهر ما قاله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان لا سبيل إلى كيفيته، وهو عَلَم من أعلام نبوته -صلى الله عليه وسلم-.
قال أبو بكر الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: قول النبي -عليه السلام-: «أراكم من وراء ظهري»، فقال: كان يرى مِن خلفه كما يرى مِن بين يديه.
قلتُ له: إنَّ إنسانًا قال لي: هو في ذلك كغيره، وإنما كان يراهم كما ينظر الإمام من عن يمينه وشماله، فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا.
قال أبو عمر: وصحيح قول أحمد: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان لا يلتفت في صلاته.
وقد روى سفيان بن عيينة عن داود وحميد وابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} الشعراء: 219، قال: كان النبي -عليه السلام- يرى مِن خلفه في الصلاة، كما يرى مِن بين يديه.
وروى وكيع عن سفيان عن الليث عن مجاهد قال: كان يرى مِن خلفه كما يرى مِن أمامه، وخالف مجاهد في تأويل هذه الآية عكرمة وقتادة. الاستذكار (2/ 329- 330).
وقال أبو إسحاق ابن قرقول -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي لأَرَاكُمْ ‌مِنْ ‌وَرَاءِ ‌ظَهْرِي» أي: من خلفي، قيل: هو على ظاهره، وأن الله تعالى قوَّى بصرَه وإدراكَه، كما قال: «إِنِّي أُبْصِرُ مَنْ وَرَائِي كَمَا أُبْصِرُ مَنْ بَيْنَ يَدَيَّ». وقيل: معناه: أعْلَم ذلك، ولا يخفى عني؛ لعلمٍ أعْلَمه الله به.
وقيل: معناه: الْتِفَاتَه يسيرًا لذلك.
وقيل: معناه: أَسْتَدِلُّ على ما ورائي بما أرى أمامي. والأول أظهر وأصح. مطالع الأنوار على صحاح الآثار (6/ 195).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
إن قال قائل: إذا كان يرى من وراء ظهره فما الفائدة في أنه أجلس الشاب من وفد عبد القيس وراء ظهره؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه سَنَّ للناس، والسُّنة إنما هي فعل ظاهر.
والثاني: أن رؤيته مِن بين يديه أمر طبعي، يُزاحم فيه الهوى، ومِن وراء ظهره محض إنعام، قد زُوي فيه عن تصرفه بمقتضى الهوى. كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/234).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«إني لأبصر مِن ورائي كما أبصر بين يدي»، مذهب أهل السنة من الأشعرية وغيرهم أن هذا الإبصار يجوز أن يكون إدراكًا خاصًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- محققًا، انخرقت له فيه العادة، وخُلق له وراءه، أو يكون الإدراك العيني انخرقت له العادة، فكان يرى به من غير مقابلة؛ فإن أهل السنة لا يشترطون في الرؤية عقلًا هيئة مخصوصة، ولا مقابلة، ولا قُربًا، ولا شيئًا مما يشترطه المعتزلة وأهل البدع، وأن تلك الأمور إنما هي شروط عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها؛ ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة مع إحالة تلك الأمور كلها؛ ولما ذهب أهل البدع إلى أن تلك الشروط عقلية استحال عندهم رؤية الله تعالى فأنكروها، وخالفوا قواطع الشريعة التي وردت بإثبات الرؤية، وخالفوا ما أجمع عليه الصحابة والتابعون، ويؤيد هذا قول عائشة -رضي الله عنها-: «في هذا زيادة زاده الله إياها في حُجَّته».
وقال بقي بن مخلد: كان -عليه الصلاة والسلام- يرى في الظلام كما يرى في الضوء.
وقال مجاهد: كان -عليه الصلاة والسلام- يرى مِن خلفه كما يرى مِن بين يديه.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله: «إني لأُبصر من ورائي» راجع إلى العلم، وأن معناه إني لأعلم، وهذا تأويل لا حاجة إليه، بل حَمْل ذلك على ظاهره أولى، ويكون ذلك زيادة في كرامات النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي فضائله؛ لأن ذلك جارٍ على أصول أهل الحق كما قدمناه، والله تعالى أعلم. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/57- 58).
وقال الأصبهاني -رحمه الله-:
فيه من الفقه: أنه ينبغي للإمام إذا رأى أحدًا مقصرًا في شيء من أمور دينه أن ينهاه عن فعله، ويَحُضُّه على ما له فيه جزيل الحضِّ.
وفي قوله: «إني أراكم ‌مِن ‌وراء ‌ظهري» ما يدل على أنه كان مخصوصًا بذلك، زِيْدَ في قوة بصره حتى يرى من ورائه كما يرى بعينه. شرح صحيح البخاري (2/ 386).
وقال المُظْهِري -رحمه الله-:
قوله: «فإني أراكم ‌من ‌وراء ‌ظهري» يعني: لا تقفوا متفرقين؛ يعني: كونوا مُسْتَوِين في الصف، ولا تظنوا أني لم أركم، بل أراكم ‌من ‌وراء ‌ظهري كما أرى من قُدَّامي؛ وهذه من المعجزة. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 224).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«مِن وراء» مِن خلف، فإن قلت: ما الفرق في المعنى بين وجود (من) وعدمه كما في الباب السابق؟
قلت: إذا وُجِد يكون تصريحًا بأن مبدأ الرؤية ومنشأها من الخلف؛ بأن يخلق الله تعالى حاسَّة باصرة فيه، وإذا عُدم يحتمل أن يكون منشؤها هذه الحاسة المعهودة، وأن يكون غيرها مخلوق في الوراء، ولا يلزم رؤيتنا تلك الحاسة؛ إذ الرؤية إنما هي بخلق الله تعالى وإرادته.
وفي الحديث: جواز الكلام بين الإقامة والصلاة. وفيه معجزة له -صلى الله عليه وسلم-. الكواكب الدراري (5/ 94).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
هو فضيلة للنبي -صلى الله عليه وسلم- خَصَّه الله بها، فكان ينظر ببصيرته كما ينظر ببصره، فيرى مِن خلفه، كما يرى مِن بين يديه. فتح الباري (3/ 150).
وقال أيضًا: إعلام لهم بأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يخفى عليهِ حالهم في الصلاة؛ فإنه يرى مِن وراء ظهره كما يرى مِن بين يديه، ففي هذا حث لهم على إقامة الصفوف إذا صلوا خلفه. فتح الباري (6/ 268).
وقال أيضًا: وأما قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إني أراكم ‌من ‌وراء ‌ظهري» فليس المراد مِنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يلتفت ببصره فِي صلاته إلى مَن خلفه حَتَّى يرى صلاتهم، كما ظنه بعضهم، وقد رد الإمام أحمد عَلَى من زعم ذَلِكَ، وأثبت ذَلِكَ من خصائص النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- وآياته ومعجزاته. فتح الباري (6/ 371).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
الظاهر أن هذا من خصائصه، وأنه زِيْد في قوة بصره حتى يرى مِن ورائه، وفي صحيح مسلم: «إني والله لأُبْصِرُ مِن ورائي كما أُبْصِر مِن بين يديَّ»، ويبعد أن يراد بها العلم، وإن كان قد يعبر بها عنه؛ إذ لا فائدة إذن في التخصيص بوراء الظَّهر، وقد قيل: إنه كان بين كتفيه عينان مثل سَمِّ الخياط، فكان يبصر بهما، ولا تحجبهما الثياب، كما ذكرته في (الخصائص)، ونقلت فيها عن صاحب (الشامل): أن معنى الحديث الحِسُّ والتحفُّظ.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} الشعراء: 219، قال: كان يرى مِن خلفه في الصلاة، كما يرى بين يديه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (5/ 424).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فإني أراكم ‌من ‌وراء ‌ظَهْرِي»: وهذا لأن الله تعالى قادر أنْ يريه -عليه الصلاة والسلام- وراءه كما يريه قُدَّامه. شرح المصابيح (2/ 103).
وقال العيني -رحمه الله-:
ثم العلماء اختلفوا ههنا في موضعين:
الأول: في معنى هذه الرؤية، فقال قوم: المراد بها العلم، إما بطريق أنه كان يُوحَى إليه بيان كيفية فعلهم، وإما بطريق الإلهام، وهذا ليس بشيء؛ لأنه لو كان ذلك بطريق العلم ما كانت فائدة في التقييد بقوله: «‌مِن ‌وراء ‌ظهري»، وقال قوم: المراد به أنه يرى مَن عن يمينه ومَن عن يساره، ممن تدركه عينه، مع التفات يسير في بعض الأحوال، وهذا أيضًا ليس بشيء، وهو ظاهر.
وقال الجمهور، وهو الصواب: إنه من خصائصه -عليه الصلاة والسلام-، وإن إبصاره إدراك حقيقي انخرقت له فيه العادة؛ ولهذا أخرج البخاري هذا الحديث في علامات النبوة. وفيه: دلالة للأشاعرة؛ حيث لا يشترطون في الرؤية مواجهة، ولا مقابلة، وجوزوا إبصار أعمى الصين بَقَّة الأندلس، قلت: والحق عند أهل السنة: أنْ الرؤية لا يُشترط لها عقلًا عضوٌ مخصوص، ولا مقابلة، ولا قرب، فلذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، خلافًا للمعتزلة في الرؤية مطلقًا، وللمشبهة والكرامية في خلوها عن المواجهة والمكان، فإنهم إنما جوَّزوا رؤية الله تعالى لاعتقادهم كونه تعالى في الجهة والمكان، وأهل السنة أثبتوا رؤية الله تعالى بالنقل والعقل، كما ذكر في موضعه، وبيَّنوا بالبرهان على أن تلك الرؤية مبرأة عن الانطباع والمواجهة، واتصال الشعاع بالمرئي.
الموضع الثاني: اختلفوا في كيفية رؤية النبي -عليه الصلاة والسلام- مِن خلف ظهره، فقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها مِن ورائه دائمًا، وقيل: كانت له بين كتفيه عينان مثل سَمِّ الخِيَاط، يعني: مثل خَرْق الإبرة، يبصر بهما، لا يحجبهما ثوب ولا غيره. وقيل: بل كانت صُورُهم تنطبع في حائط قِبْلته، كما تنطبع في المرآة أمثلتهم فيها، فيشاهد بذلك أفعالهم. عمدة القاري (4/ 157).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«إني لأراكم ‌مِن ‌وراء ‌ظهري» جواب القسم، أكَّد الكلام بـ إن والقسم، مع أن كلامه مع الصحابة المعتَرفِين بأنه الصادق المصدوق؛ لغرابة الحُكم، وكونه خارقًا للعادة.
والمراد أنه يرى مِن ورائه؛ لأن الله تعالى كما جعل في العين -وهي قطعة لحم من أجزاء الجسم- قوةً حساسةً مُدْركة، له أن يجعل مثلها في سائر الأجزاء لتساوي نسبة القدرة والإمكان إلى الكل.
أو يرى مِن ورائه بعينيه الموجودتين؛ لأن المقابلة والمسافة ليستا بشرطِ للرؤية عند أهل الحق فلا إشكال، وعلى أي وجه كان فهو فعلٌ خارق معجزة من معجزاته. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (2/ 97).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قيل: المراد بها: العلم بالوحي، والصواب: أنه على ظاهره، وأنه إبصار حقيقي خاص به -صلى الله عليه وسلم-، انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا فقيل: هو بعيني وجهه؛ خرقًا للعادة أيضًا، فكان يرى بهما من غير مقابلة؛ لأن الحق عند أهل السُّنَّة: أن الرؤية لا يشترط لها المقابلة؛ ولهذا حكموا بجواز رؤية الله في الآخرة.
وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها دائمًا.
وقيل: كان بين كتفيه عينان كسَمِّ الخِياط يُبصر بهما، لا يحجبهما ثوب ولا غيره.
وقيل: بل كانت صورهم تنطبع في حائط قِبْلته كما تنطبع في المرآة، فيرى أمثلتهم فيها، ويشاهد أفعالهم. التوشيح شرح الجامع الصحيح (2/ 499).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«إني لأَراكم» بفتح الهمزة بدل من جواب القسم، وهو قوله: «ما يخفى...» إلخ، أو بيان له.
«‌مِن ‌وراء ‌ظهري» رؤية حقيقية أَخْتَصُّ بها عليكم، والرؤية لا يشترط لها مواجهة ولا مقابلة، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلًا، أو كانت له -عليه الصلاة والسلام- عينان بين كتفيه، مثل سَمِّ الخِيَاط، يبصر بهما، لا تحجبهما الثياب، أو غير ذلك مما ذكرته في المواهب اللدنية بالمنح المحمدية. إرشاد الساري (1/ 423).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: بالمكاشفة، ولا يلزم دوامها لينافيه خبر: «لا أعلم ما وراء جداري»، فيُخَصُّ هذا بحالة الصلاة، وعلمه بالمصلين. مرقاة المفاتيح (3/ 849).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
ولا ينافي هذا الحديثُ حديثَ: «لا أعلم ما وراء جداري»؛ لأن هذا خاص بحالة الصلاة؛ لأنه لما حصل له فيها قرة العين بما أُفِيضَ عليه فيها من غايات القُرب المختص بها التي لا يوازيه فيها غيره، صار بدَنُه الشريف كالمرآة الصافية التي لا تَحجب ما وراءها.
وقيل: كان له بين جنبيه عينان كسَمِّ الخِياط، لا تحجُبهما الثياب. دليل الفالحين (6/ 570).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«فإني أراكم ‌مِن ‌وراء ‌ظهري» فيه إشارة إلى سبب النهي، أي: إنما أَمَرت بذلك لأني تحققت منكم خلافه، والمختار حمل هذه الرؤية على الحقيقة، وأنها بعيني رأسه، بأن خلق الله له إدراكًا يُبصر به مِن ورائه، وقد انخرقت العادة له -صلى الله عليه وسلم- بأكثر من هذا. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 277).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-: (بل) هي خاصة به -صلى الله عليه وسلم- في حالة الصلاة، ‌ولا ‌دليل ‌على ‌العموم، ‌فتنبّه.صحيح الترغيب والترهيب(1/353).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وأخبر أنه يراهم مِن وراء ظهره، وهذا من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه في هذه الحالة المعينة يرى الناس مِن وراء ظهره، أما فيما سوى ذلك، فإنه لا يرى مِن وراء ظهره شيئًا. شرح رياض الصالحين (5/113).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
فيه بيان أن الله خصَّ نبيه بمنزلة عظيمة، وهو أنْ يرى مَن خَلفه كما يَرى من أَمامه في الصلاة...، وفيه شاهد لعظة الإمام. الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري (1/132).
قوله: «وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه»:
قال السيوطي -رحمه الله-:
قوله: «وكان أحدُنا»: هي من قول أنس، كما صرَّح به في رواية الإسماعيلي. التوشيح شرح الجامع الصحيح (2/ 727).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
رواه سعيد بن منصور عن هشيم، فصرَّح فيه بتحديث أنس لحُميد، وفيه الزيادة التي في آخره، وهي قوله: «وكان أحدنا... الخ»، وصرح بأنها من قول أنس، وأخرجه الإسماعيلي من رواية مَعْمَر عن حُميد بلفظ: «قال أنس: فلقد رأيتُ أحدَنا...» الخ. فتح الباري (2/ 211).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
حديث أنس هذا يدل على أنَّ تسوية الصفوف: محاذاة المناكب، والأقدام. فتح الباري (6/ 282).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«وكان أحَدُنا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صاحبه»، الْمَنْكِبُ ما بين الكَتِف والعُنق، والإلْزَاق والإلْصَاق من وادٍ واحد. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (2/ 358).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله:
«وكان أحدنا...» إلخ هو قول أنس، وأراد به المبالغة في تسوية الصف، وسَدُّ خلَلِه؛ ليمتنع الشيطان من دخوله الفُرَج. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (2/ 436).
وقال ابن سيد الناس -رحمه الله-:
فيه التنبيه على كيفية التسوية، وأن القدر اليسير من الاختلاف بها غير محتمل، وتسوية الصفوف عندهم: اعتدال القائمين بها على سمت واحد، وقد تدل تسويتها أيضًا على سدِّ الفُرج، وكلاهما مطلوب. النفح الشذي شرح جامع الترمذي (4/ 210).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف، وسدُّ خلَلِه، وقد ورد الأمر بسَدِّ خلَلِ الصف، والترغيب فيه في أحاديث كثيرة، أجمعها حديث ابن عمر عند أبي داود، وصححه ابن خزيمة والحاكم، ولفظه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المنَاكِب، وسُدُّوا الخلل، ولا تذروا فُرُجَات للشيطان، ومن وصَل صفًا وصله الله، ومن قطع صفًا قطعه الله». فتح الباري (2/ 211).
وقال ابن حجر أيضًا:
وأفاد هذا التصريح أنَّ الفعل المذكور كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته. فتح الباري (100/ 5).
قال الشيخ عبد المحسن العبَّاد -حفظه الله-:
يعني: أنَّ كل واحد يقرب من صاحبه، حتى يلتصق به، وحتى يكون متصلًا به، فلا يكون بين شخص وآخر فجوة، وإنما تكون الصفوف متراصَّة ومتقاربة، ويتصل بعضها ببعض، وكما ذكرت سابقًا: أنّ العبرة هي جهة الإمام، فيتقارب الناس إلى جهة الإمام، فإذا كان الإمام في جهة فلا يذهبون إلى جهة أخرى، ويبتعدون عن الإمام، وإنما يتقاربون إلى جهة الإمام، ويتراصُّون في جهته. شرح سنن أبي داود (ص: 2).
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
وكان السلف -رضوان الله تعالى عليهم- إذا قاموا في الصف حاذَوا، يقول أنس: «كان أحَدُنا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صاحبه، وقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ» فإذا كان الأمر كذلك فهذه حقيقة الرَّصِّ والمحاذاة.
ونحب أن ننبه إلى فعل بعض المصلين، حينما يكون هناك انفِراج في الصف، وهو يريد أن يحاذي ويقارب، فإذا به يُفَرِّجُ قدميه على شكل ثمانية، ويحاول أن يتكلف إلصاق قدمه بقدم مَن بجانبه، لكنه بهذا الفعل يكون قد أوجد فُرْجَةً في نفسه هو ما بين قدميه.
فحقيقةُ المحاذاة ليست بأطراف الأقدام، ولكن بالقدمين والركبتين والمنكبين، وقد جاء في بعض الآثار عن السلف: «أن أسرع ما كان يتآكل من قُمصهم الكتف»؛ لكثرة احتكاك مناكبهم في الصلاة.شرح بلوغ المرام (89/ 4).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
وقد أنكر بعض الكاتبين في العصر الحاضر هذا الإلزاق، وزعم أنه هيئة زائدة على الوارد، فيها إيغال في تطبيق السُّنة، وزعم أن المراد بالإلزاق الحث على سدِّ الخَلَل لا حقيقة الإلزاق، وهذا تعطيل للأحكام العملية، يشبه تمامًا تعطيل الصفات الإلهية، بل هذا أسوأ منه؛ لأن الراوي يتحدث عن أمر مشهودٍ رآه بعينه، وهو الإلزاق، ومع ذلك قال: ليس المراد حقيقة الإلزاق، فالله المستعان.سلسلة الأحاديث الصحيحة(6/ 77).

وينظر للاستفادة الروايات الأخرى من (هنا) و (هنا) و (هنا) و (هنا) و (هنا)


ابلاغ عن خطا