«هَلْ تَرونَ قِبلَتي ها هنا، فو اللهِ ما يَخفَى عليَّ خُشُوعُكم، ولا ركُوعُكم، وإني لأراكم مِن وَرَاءِ ظَهْرِي».
رواه البخاري برقم: (418) واللفظ له، ومسلم برقم: (424)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الخشوع»:
رَميك ببصرك إلى الأرض. وتَخَاشَعْتُ: تَشَبَّهْتُ بالخاشعين، ورَجلٌ مُتخشِّع مُتضرِّع. والخشوع والتّخشع والتّضرع: واحد.العين، للفراهيدي(1/ ١١٢).
شرح الحديث
قوله: «هل تَرونَ قِبْلَتِي ها هُنَا؟»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«هل تَرون؟» بفتح التاء، والاستفهام إنكاري، أي: أتظنون؟ إرشاد الساري (2/ 76).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«هل تَرونَ قِبْلَتِي هَا هُنَا؟» الإشارة إلى القبلة، أي: هل ترون توجُّهي إلى جهة القبلة؟ فتظنوا أنني أرى ما في المواجهة فقط؟ والاستفهام إنكاري، أي: لا تظنوا قبلتي ورؤيتي على هذه الجهة فقط. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (2/ 584).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«قبلتي» أي: مقابلتي ومواجهتي، أو المعنى: لا ترون قصدي، ورؤيتي في طرف القبلة فقط، أو أنه من إرادة لازم التركيب؛ لأنه يلزم أن تكون جهة قبلته هي جهة رؤيته، والله لأراكم من غيرها. الَّلامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (4/ 85).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «هَلْ تَرونَ قِبْلَتِي؟» فإن قُلْتَ: ما فائدة هذا الاستفهام؟ قُلْتُ: إنكار ما يلزم منه، أي: أنتم تحسبون قبلتي ها هنا، وأني لا أرى إلا ما في هذه الجهة، فو الله إنَّ رؤيتي لا تختص بجهة قبلتي هذه. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (4/ 76).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «هَلْ تَرونَ قِبْلَتِي؟» هو استفهام إنكار لما يلزم منه، أي: أنتم تظنون أني لا أرى فعلكم لكون قبلتي في هذه الجهة؛ لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه، لكن بيَّنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ رؤيته لا تختص بجهة واحدة. فتح الباري (1/ 514).
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
«هل ترون قِبْلَتِي هَا هُنَا» يعني: حيث يستقبل بوجهه. المنتقى شرح الموطأ (1/ 297).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «هَلْ تَرونَ قِبْلَتِي؟» كأنَّ المرادَ إنكار لازم ذلك، وهو قصور النظر في تلك الجهة، وإلا فلا شك في كون القبلة في تلك الجهة -والله تعالى أعلم-. حاشية السندي على صحيح البخاري (1/ 130).
وقال العيني -رحمه الله-:
والجمهور على أنَّ المراد من الرؤية: الإبصار بالحاسة. عمدة القاري (5/ 281).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
فإن قيل: الخشوع أمر قلبي وشعور نفسي، فكيف يراه النبي -صلى الله عليه وسلم-(أي: بالعين)؟
فالجواب: أنَّه وإن كان من أعمال القلب إلا أنَّه تظهر آثاره على الجوارح، فمن خشع قلبه سكنت جوارحه. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (2/ 9).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
قال: «هل ترون قبلتي ها هنا؟» الاستفهام للتقرير، وليس هو الغرض، بل جعله مقدمة لقوله: «ما يخفى عليَّ خشوعكم ولا ركوعكم». الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (2/ 97).
وقال الكوراني -رحمه الله- أيضًا:
ملخص الكلام وَسِرِّ الحديث: أنَّه يراهم من ورائه، كما يرى قبلته في الصلاة؛ لا فرق بين الرؤيتين؛ وبذلك يحصل لهم الخوف والحذر من أن يوجد منهم شيء في الصلاة مما لا يليق. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (2/ 374).
قوله: «فَوَ اللَّهِ ما يَخْفَى عليَّ خُشُوعُكُمْ وَلَا رُكُوعُكُمْ»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فو الله» قَسَمٌ مِنْهُ -صلى الله عليه وسلم-. عمدة القاري (4/ 157).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
فأقسم بالله أنَّه يرى من غير جهة قبلته كما يرى منها، و«ما يخفى» هو جواب القسم. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (3/ 164-165).
وقال حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
«فو الله ما يخفى عليَّ خشوعكم ولا ركوعكم» أي: فأُقْسِم بالله أنني أرى من يخشع منكم في الصلاة، ومن لا يخشع فيها. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (2/ 9).
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
«فو الله ما يخفى عليَّ خشوعكم ولا ركوعكم» يعني -صلى الله عليه وسلم-: أنَّ ذلك ظاهر له، وإنما أراد بذلك حضَّهُم على الخشوع، وإتمام الركوع. المنتقى شرح الموطأ (1/ 297).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفيه: الأمر بإحسان الصلاة والخشوع، وإتمام الركوع والسجود، وجواز الحلف بالله -تعالى- من غير ضرورة، لكن المستحب تركه إلا لحاجة، كتأكيد أمر، وتفخيمه، والمبالغة في تحقيقه وتمكينه من النفوس، وعلى هذا يحمل ما جاء في الأحاديث من الحلف. شرح صحيح مسلم(4/ 150).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«والله ما» -ولأبي ذر عن الحموي: «لا»- «يخفى عليَّ ركوعكم ولا خشوعكم» تَنْبِيْهٌ لهم على التلبُّس بالخشوع في الصلاة؛ لأنَّه إنَّما قال لهم ذلك؛ لَمَّا رآهم يلتفتون غير ساكنين، وذلك ينافي كمال الصلاة، فيكون مستحبًا لا واجبًا؛ إذ لم يأمرهم هنا بالإعادة، وقد حكى النووي الإجماع على عدم وجوبه. إرشاد الساري (2/ 76).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فيه: أنَّه ينبغي للإمام إذا رأى أحدًا مقصرًا في شيء من أمر دينه، أو ناقصًا للكمال منه أنَّه ينهاه عن فعله، ويحضُّهُ على ما له فيه جزيل الحَظِّ؛ ألا ترى أن الرسول وَبَّخَ من نَقَّصَ كمال الركوع والسجود، وَوَعَظَهُم في ذلك بأنَّه يراهم، وقد أَخَذَ الله على المؤمنين ذلك إذا مكَّنهم في الأرض بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} الحج: 41. شرح صحيح البخاري (2/ 71).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
وفيه: النهي عن نقصان الركوع والسجود، وجواز الحلف لتأكيد القصة وتحقيقها. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (4/ 85).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«ما يخفى عليَّ خشوعكم ولا ركوعكم» الخشوع: فعل الجوارح؛ لأنَّه جُعِل مرئيًّا بالعين، وبعد جَعْلِهِ من المرئي بالبصر عطف عليه، وفي رواية مسلم لفظ: «السجود» بدل الركوع، وعلى الروايتين (فهو) من عطف جبريل وميكائيل على الملائكة، فإنَّ أكثر الناس لا يؤدي الركوع ولا السجود على نمطه. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (2/ 97).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «خشوعكم» إمَّا أنْ يُراد به السُّجود؛ لأنَّه غاية الخشوع، وإمَّا أعمَّ من ذلك. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (4/ 76).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ولا خشوعكم» أي: في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود؛ لأنَّ فيه غاية الخشوع، وقد صُرِّحَ بالسجود في رواية لمسلم. فتح الباري (1/ 515).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ولا خُشُوعُكم» أي: لا يخفى عليَّ خشوعكم. عمدة القاري (4/ 157).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ما يخفى عليَّ ركوعكم ولا سجودكم» ولا غيرهما من أفعال صلاتكم، أي: لا يخفى عليَّ إكمالكم إياها، وعدم إكمالكم. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (7/ 213).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«فو الله ما يخفى عليَّ خشوعكم» أي: في جميع الصلاة. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (2/ 119).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ولا» يخفى عليَّ «ركوعكم» إذا كُنْتُ في الصلاة مستدبرًا لكم، فرؤيتي لا تختص بجهة قبلتي هذه، وإذا قلنا: إنَّ الخشوع المراد به: الأعمُّ، فيكون ذكر الركوع بعده من باب ذكر الأخص بعد الأعم. إرشاد الساري (1/ 423).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «لا يخفى عليَّ ركوعكم، ولا خشوعكم» يعني: إذا كنتُ في الصلاة مستدبرًا لكم، ويجوز أن يكون المراد من الخشوع: السجود؛ لأنَّه غاية الخشوع، وقد صرح في رواية مسلم بالسجود، ويجوز أن يراد به: أعمُّ من ذلك، فيتناول جميع أفعالهم في صلاتهم. عمدة القاري (4/ 157).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«ولا ركوعكم» أي: ولا خشوع ركوعكم، فهو من عطفِ الخاصِّ على العام، وأفرده بالذكر اهتمامًا به؛ لكونه أعظم. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (2/ 119).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: إذا كان الخشوع بمعنى الأعم يتناول الركوع أيضًا، فما فائدة ذكره؟
قلتُ: لكونه من أكبر عمد الصلاة؛ وذلك لأنَّ الرجل ما دام في القيام لا يتحقق أنه في الصلاة، فإذا ركع تحقق أنه في الصلاة، ويكون فيه عطف العام على الخاص. عمدة القاري (4/ 157).
وقال النووي -رحمه الله-:
أجمع العلماء على استحباب الخشوع. المجموع شرح المهذب (3/ 314).
وقال العيني -رحمه الله-:
إِن فِي قوله: «ولا خشوعكم» تَنْبِيهًا إياهم على التلبس بالخشوع في الصلاة؛ لأنَّه لم يقل ذلك إلا وقد رأى أنَّ فيهم الالتفات، وعدم السكون اللذين ينافيان الخشوع، والمصلي لا يدخل في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} المؤمنون: 1-2، إلَّا بالخشوع، ولا شك أن ترك الخشوع ينافي كمال الصلاة، فيكون مستحبًا، وحكى النووي: أنَّ الإجماع على أنَّ الخشوع ليس بواجب، وأُوْرِدَ عليه قول القاضي حسين: إنَّ مدافعة الأخبثين إذا انتهت إلى حدٍّ يذهب معه الخشوع أبطلت الصلاة، وقاله أيضًا أبو بكر المروزي.
قلتُ: هذا ليس بوارد؛ لاحتمال كلامهما في مدافعة شديدة أفضت إلى خروج شيء، فإن قلتَ: البطلان حينئذٍ بالخروج لا بالمدافعة، قلتُ: المدافعة سبب للخروج، فذكر السبب وأراد المسبب للمبالغة، وأجاب بعضهم بجوابين غير طائلين:
أحدهما: قوله: لجواز أن يكون بعد الإجماع السابق.
والثاني: قوله: أو المراد بالإجماع أنَّه لم يصرح أحد بوجوبه. عمدة القاري (5/ 280 ـ 281).
وقال محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
وقد حكى النووي الإِجماع على أن الخشوع ليس بواجب، ولا يَردُ عليه قول القاضي حسين؛ لجواز أن يكون بعد الإجماع السابق، أو المراد بالإجماع: أنه لم يصرِّح أحد بوجوبه، وكلامهما في أمر يحصل من مجموع المدافعة، وترك الخشوع، وهذان الجوابان أحسن مما أجاب به العيني -رحمه الله-: من أنَّ المراد مدافعة شديدة أفضت إلى خروج شيء، فإن البطلان حينئذٍ بالخروج لا بالمدافعة، وما أجاب به عن هذا لا يُلْتَفَتُ إليه، وفي هذا تعقُّب على من نسب إلى القاضي وأبي زيد أنهما قالا: إنَّ الخشوع شرطٌ في صحة الصلاة.
وقد حكاه المحب الطبري، وقال: هو محمول على أن يحصل في الصلاة لا في جميعها، والخلاف في ذلك عند الحنابلة أيضًا. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (9/ 122).
وقال العراقي -رحمه الله-:
«والله ما يخفى عليَّ خشوعكم ولا ركوعكم؛ لأني أراكم من وراء ظهري» فيه فوائد:
الأولى: فيه الحضُّ على الخشوع في الصلاة، وقد مدح الله تعالى على ذلك، فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} المؤمنون: 1-2، وقد اختُلِف فيه: هل هو سنة أو واجب؟
فحكى النووي في (شرح المهذب) الاتفاق على أنَّه سُنَّة، وأنَّه ليس بواجب، وفيه نظر، فقد روينا في كتاب الزهد لابن المبارك عن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: «لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه»، وقد روي مرفوعًا -كما سيأتي-، وأيضًا ففي كلام غير واحد من العلماء ما يقتضي وجوبه.
فقد قال إمام الحرمين: إنَّ المريض إذا لحقه بالقيام مشقة تُذهِب خشوعه سقط عنه القيام، فلقائل أن يقول: لولا وجوب الخشوع لما جاز ترك القيام، وهو واجب لأجله؛ ولقائل أن يقول: إنما جعل الإمام ذلك حدًّا لما يسقط القيام من المرض، ولا يشترط في سقوط القيام عن المريض العجز عنه جملة، بل وجود المشقة كافية في سقوطه، فحدَّ الإمام المشقة بما يذهب معه الخشوع.
وذهب القاضي حسين: إلى أنه إذا صلى مع مدافعة الأخبثين، بحيث يذهب خشوعه أنَّ صلاته لا تصح.
مع اتفاق أصحاب الشافعي على أنَّ مدافعة الأخبثين ليست مُبطلة للصلاة، فإذا وصل ذلك إلى حد يذهب معه الخشوع بطلت، على ما قاله القاضي حسين، فيقتضي وجوب الخشوع أيضًا.
ومما يدل على وجوبه: ما رواه أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث عمار بن ياسر -رضي الله عنه-: أنَّه صلى ركعتين فخففهما، فقال له عبد الرحمن بن الحارث: يا أبا اليقظان، أراك خففتهما، فقال: إني بادرتُ بهما الوسواس، وإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنَّ الرجل ليصلي الصلاة ولعله لا يكون له منها إلا عُشْرُهَا أو تُسْعُها أو ثُمنُها أو سُبْعُها أو سُدْسُها» حتى أتى على العدد، وقال أحمد: «إني بادرتُ بها السهو».
وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب: تعظيم قدر الصلاة في حديث مرسل: «لا يقبل ممن عمل عملًا حتى يشهد قلبه مع بدنه»، ورواه أبو شجاع الديلمي في مسند الفردوس من حديث أُبي بن كعب -رضي الله عنه-، وقد ورد «أنَّ الصلاة الخالية من الخشوع والتمام يُضْرَبُ بها وجهُ المصلي» رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس -رضي الله عنه-، واسْتُدِلَّ على عدم وجوب الخشوع بحديث الباب؛ إذ لم يأمرهم بالإعادة، كما قال المهلب. طرح التثريب (2/ 332/ 333).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: وفي حديث هذا الباب: النهي عن نقصان الركوع والسجود؛ لتوعد الرسول لهم على ذلك، وفيه: دليل أن الطمأنينة والاعتدال في الركوع والسجود من سنن الصلاة وليس من فروضها؛ لأن الرسول لم يأمر هؤلاء الذين قال لهم: «لم يَخْفَ عليَّ ركوعكم ولا سجودكم» بالإعادة، ولو كان من فروض الصلاة ما سكت عن إعلامهم بذلك؛ لأن فرضًا عليه البيان لأمته. شرح صحيح البخاري (2/ 360).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قال المهلب بن أبي صفرة (القاضي المالكي): في هذا الحديث النهي عن نقصان الركوع والسجود؛ لتوعده -عليه السلام- لهم على ذلك.
وقال ابن بطال نقلًا عن المهلب أيضًا: فيه دليل أنَّ الطمأنينة والاعتدال في الركوع والسجود من سنن الصلاة، وليست من فروضه؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر هؤلاء الذين قال لهم: «ما يخفى عليَّ خشوعكم ولا ركوعكم» بالإعادة، ولو كان ذلك فرضًا ما سكت عن إعلامهم بذلك؛ لأنَّ فرضًا عليه البيان لأمته، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وهي رواية ابن القاسم عن مالك.
وذهب أكثر العلماء: إلى وجوب الطمأنينة والاعتدال، وهو قول سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأبي يوسف وأحمد وإسحاق وابن وهب وغيرهم.
وليس لمن استدل بالحديث حجة على قوله؛ لأنَّه ليس في الحديث أنَّهم لم يطمئنوا في الركوع والسجود، والذي ورد التصريح به إنَّما هو مسابقته بالركوع والسجود لا ترك الطمأنينة -كما تقدَّمَ عند مسلم ومسند أحمد-.
ولا يتصور منهم ترك الطمأنينة؛ لأنهم كانوا مأمومين وراءه، وكان -صلى الله عليه وسلم- يطمئن في صلاته قطعًا، فلو تركوا الطمأنينة وراءه للزم منه مفارقتهم له، وإنما كان بعضهم يسابقه، أو يبادره، فنهاهم عن ذلك.
وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المسيء صلاته بالإعادة بقوله: «صلِّ، فإنَّك لم تصلِّ»، وبيَّن له فرض الطمأنينة بقوله: «ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها»، وهو صحيح متفق عليه، وبوب عليه البخاري: باب أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لم يتم ركوعه بالإعادة.
وقول المهلب: إنه لم يأمره أن يعيد الصلاة التي نقصها إجراء على الصفة التي عليه، ولم يقل: لا يجزئك حتى تصلي هذه الصلاة على هذه الصفة، وإنما علَّمَه كيف يصلي فيما يستقبل- كلام مردود عليه، فقد أمره بالإعادة في آخر مَرَّةٍ بقوله: «صَلِّ»، ونفى صلاته بقوله: «فإنك لم تُصَلِّ»، ثم علَّمَه كيف يفعل ما أمره به، فلا يحتاج أن يقول له بعد التعليم: صلِّ هكذا، فإنَّ أمره بالصلاة لم يخرج عنه إلى الآن، ولا يحتاج أن يقول له: لا يجزئك حتى تصلي هذه الصلاة على هذه الصفة على أنه قد جاء في حديث رفاعة بن رافع في حديث المسيء صلاته: «لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك»، وروى أصحاب السنن من حديث أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- مرفوعًا: «لا يجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود»، وقال الترمذي حديث حسن صحيح. طرح التثريب (2/ 374 ـ 375).
قوله: «وإني لأراكم من وراء ظهري»:
قال العيني -رحمه الله-:
الهمزة في «لأراكم» مفتوحة، والَّلام للتأكيد. عمدة القاري (4/ 157).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«إني لأَرَاكم» بدل من جواب القسم، وهو قوله: «ما يخفى» إلخ، أو بيان له. إرشاد الساري (1/ 423).
وقال القسطلاني -رحمه الله- أيضًا:
«وإني لأراكم» أي: أبصركم. إرشاد الساري (2/ 76).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد سُئل عن الحكمة في تحذيرهم من النقص في الصلاة برؤيته إياهم دون تحذيرهم برؤية الله تعالى لهم، وهو مقام الإحسان المبَيَّن في سؤال جبريل، كما تقدم في كتاب الإيمان «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك»؟
فأُجيب: بأنَّ في التعليل برؤيته -صلى الله عليه وسلم- لهم تنبيهًا على رؤية الله تعالى لهم، فإنَّهم إذا أحسنوا الصلاة؛ لكون النبي -صلى الله عليه وسلم- يراهم أيقظهم ذلك إلى مراقبة الله تعالى، مع ما تضمنه الحديث من المعجزة له -صلى الله عليه وسلم- بذلك؛ ولكونه يبعث شهيدًا عليهم يوم القيامة، فإذا علموا أنَّه يراهم تحفَّظوا في عبادتهم؛ ليشهد لهم بحسن عبادتهم. فتح الباري (2/ 226).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«من وراء ظهري» رؤية حقيقية أختص بها عليكم. إرشاد الساري (1/ 423).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
«إني لأراكم من وراء ظهري» أي: وذلك لأنني أشاهدكم بعيني، وأنتم خلف ظهري. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (2/ 9).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«من وراء ظهري» أي: ببصره المعهود إبصارًا انخرقت له فيه العادة، أو بغيره. إرشاد الساري (2/ 76).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«وراء ظهري» أي: من خلفي، كما أراكم من قدامي، فأكملوا ركوعكم وسجودكم وغيرهما بآدابها وهيئاتها وشروطها. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (7/ 213).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
جاء في رواية: «وإني لَأَرَاكُمْ من بعدي» ذكرها في الخشوع في الصلاة، قال الداودي: يحتمل: أن يكون بعد وفاته، يريد أنَّ أعمال أمته تعرض عليه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (5/ 425).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «من بعد ظهري» أو «من بعدي» أي: من خلفي. المفهم (2/ 58).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «إني لَأَرَاكُمْ من بعدي» أي: من ورائي، كما في الروايات الباقية، قال القاضي عياض: وحمله بعضهم على بعد الوفاة، وهو بعيد عن سياق الحديث. شرح صحيح مسلم (4/ 150).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وأغرب من هذا كله ما نقل عن الداودي: أنَّه حَمَلَ البعديَّةَ هنا على ما بعد الوفاة؛ يعني: أن أعمال الأمة تعرض عليه، وكأنَّه لم يتأمل سياق حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، حيث بيَّن فيه سبب هذه المقالة -والله سبحانه وتعالى أعلم-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (13/ 173).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: وقوله: «إني أراكم من وراء ظهري»:
يحتمل: أن يراهم بما يُوحى إليه من أفعالهم وهيئاتهم في الصلاة؛ لأنَّ الرؤية قد يُعبر بها عن العلم والاعتقاد.
ويحتمل: أن يكون يراهم بما خُصَّ به أن زيد في قوة بصره حتى يرى من ورائه، وقال أحمد بن حنبل في هذا الحديث: إنه كان يرى من وراءه كما يرى بعينه، فالله أعلم بما أراد من ذلك. شرح صحيح البخاري (2/ 71).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
الجمهور على أنَّه من خصائصه -عليه السلام-. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (4/ 76).
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
قوله: «إني لَأَرَاكُمْ من وراء ظهري» ذهب بعض الناس إلى أنَّ معناه: لأعلم بأفعالكم فإنَّ الرؤية تكون بمعنى العلم، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} الفيل: 1، معناه: ألم تعلم.
وذهب الجمهور إلى أنَّه من رؤية البصر، وهو الصحيح عندي؛ لأنَّه لو أراد به العلم ما كان لقوله: «من وراء ظهري» فائدة؛ إذ لا فرق بين أن يعلم ذلك من وراء ظهره، أو من بين يديه، وإنما أراد به: إعلامهم بأنَّه يرى مع إقباله على قبلته ما وراء ظهره، وقد قال بعض الناس: إن ذلك مما خص به النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينظر من وراء ظهره من غير التفات، ولا يبعد ذلك.
ويحتمل: أن يريد به: أنه يرى من كان منهم عن يمينه وعن يساره ممن يدركه نظره من غير التفات، أو مع التفات يسير في نادر الأوقات، ويوصف من يقف هناك بأنَّه وراء ظهره كما يوصف بأنه وراءه وخلفه. المنتقى شرح الموطأ (1/ 297).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قال بعض الناس: معناه: أنَّه كان يرى من وراء ظهره ممن كان على يمينه أو يساره، فإنَّه كان يلتفت إليه التفاتًا لا يلوي عنقه، وهذا ضعيف، لا يميل إليه إلا ضيق الحوصلة في العلم، بل كان -صلى الله عليه وسلم- يرى ما وراءه كما يرى ما أمامه، فإنَّ الإدراك: معنى يخلقه الله تعالى في العين على قدر ما يريد أن يبصر الرائي من المرئيات، أولا تراه يرى الجنة في عرض الحائط، ولا يراها أحد، ويرى جبريل، ولا يراه غيره. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 360).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقيل: المراد أنَّه يرى من عن يمينه، ومن عن يساره، ممن تدركه عينه مع التفات يسير في النادر، ويوصف من هو هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف، وفيه: عدول عن الظاهر بلا موجب، والصواب المختار: أنه محمول على ظاهره، وأنَّ هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به -صلى الله عليه وسلم- انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا عمل المصنف (البخاري) فأخرج هذا الحديث في علامات النبوة، وكذا نُقِل عن الإمام أحمد وغيره، ثُمَّ ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عينه انخرقت له العادة فيه أيضًا، فكان يرى بها من غير مقابلة؛ لأنَّ الحق عند أهل السنة أنَّ الرؤية لا يشترط لها عقلًا عضو مخصوص، ولا مقابلة، ولا قُرْب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلًا؛ ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، خلافًا لأهل البدع لوقوفهم مع العادة. فتح الباري (1/ 514).
وقال العيني -رحمه الله-:
وقال قوم: المراد به: أنَّه يرى مَن عن يمينه ومن عن يساره، ممن تدركه عينه مع التفات يسير في بعض الأحوال، وهذا أيضًا ليس بشيء، وهو ظاهر. عمدة القاري (4/ 157).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وقال الأثرم: قلتُ لأحمد بن حنبل: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إني أراكم من وراء ظهري» فقال: كان يرى مَنْ خلفه كما يرى مَنْ بين يديه، فقلتُ له: إنَّ إنسانًا قال لي: هو في ذلك كغيره، وإنما كان يراهم كما ينظر الإمام عن يمينه وشماله، قال: فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا، وصحيح قول أحمد: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يلتفت في صلاته، وإنما كانت هذه الخصيصة فيه معجزة. المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 175).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
وأما رؤيته مَنْ خلفه، فإنَّه ربما يوحى إليه ما يفعلونه، فَعبَّر عن العلم بالرؤية، أو أنَّ من خصائصه: أنَّه زيد في بصره حتى يرى من ورائه، وبه جزم أحمد، وهو دليل للأشاعرة في أنَّ الرؤية لا يشترط فيها مواجهة ولا مقابلة، وجوَّزوا إبصار أعمى الصِّين بَقَّة (البعوضة) أندلس. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (3/ 165).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فقيل: المراد بها («إني لَأَرَاكُمْ من وراء ظهري»): العِلم، إمَّا بأن يوحى إليه كيفية فعلهم، وإما أن يُلْهَم، وفيه نظر؛ لأنَّ العلم لو كان مرادًا لم يقيده بقوله: «من وراء ظهري». فتح الباري (1/ 514/515).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «إني لَأَرَاكُمْ من وراء ظهري» الظاهر: أنَّ هذا من خصائصه، وأنَّه زيد في قوة بصره حتى يرى من ورائه، وفي صحيح مسلم: «إني والله لأبصر من ورائي، كما أبصر من بين يدي»، ويبعد أنْ يراد بها: العلم، وإن كان قد يعبر بها عنه؛ إذ لا فائدة إذن في التخصيص بوراء الظهر.
وقد قيل: إنه كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط، فكان يبصر بهما، ولا تحجبهما الثياب، كما ذكرتُه في الخصائص، ونقلتُ فيها عن صاحب الشامل: أنَّ معنى الحديث: الحس والتحفظ.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} الشعراء: 219، قال: كان يرى من خلفه في الصلاة، كما يرى بين يديه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (5/ 424).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ومن غريب ما رأيته ما كتبه صاحب (فتح المنعم) في هذا المحل...، ومرجحًا كون الرؤية بمعنى الإحساس والشعور، وأعجب منه تشبيهه بإحساس الأعمى الذي يعطيه تعويضًا عما فقده من البصر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فأي بصر فقده النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى عوضه الله إحساسًا كالأعمى؟ إن هذا لهو العجب العُجاب.
والحاصل: أنَّه لا ينبغي الالتفات إلى مثل هذا التأويل المزري على منصب النبي -صلى الله عليه وسلم- في تنظيره بالأعمى، وهو -صلى الله عليه وسلم- صرَّح تصريحًا لا خفاء فيه ولا لبس بأن الله -عزّ وجلّ- خصَّه، وفضَّله بأن أعطاه إبصارًا من وراء ظهره، كما يبصر من أمامه من غير فرق، فتبصر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. البحر المحيط الثجاج(10/ 181).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«إني لَأَرَاكُمْ من وراء ظهري» جواب القسم، أكَّد الكلام بـ(أنَّ) والقسم، مع أنَّ كلامه مع الصحابة المعترفين بأنَّه الصادق المصدوق لغرابة الحكم، وكونه خارقًا للعادة، والمراد: أنه يرى من ورائه؛ لأنَّ الله تعالى كما جعل في العين -وهو قطعة لحم من أجزاء الجسم- قُوَّة حسَّاسة مدركة، له أن يجعل مثلها في سائر الأجزاء؛ لتساوي نسبة القدرة والإمكان إلى الكل، أو يرى من ورائه بعينيه الموجودتين؛ لأنَّ المقابلة والمسافة ليستا بشرطٍ للرؤية عند أهل الحق، فلا إشكال، وعلى أي وَجْهٍ كان فهو فعلٌ خارقٌ ومعجزةٌ من معجزاته-صلى الله عليه وسلم-. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (2/ 97).
وقال المازري -رحمه الله-:
قال بعض المتكلمين: يمكن أنْ يكون خلق الباري إدراكًا في قفاه -صلى الله عليه وسلم- أبصر به من وراءه، وقد انخرقت العادة له -صلى الله عليه وسلم- بأكثر من هذا، فلا يستنكر هذا، وإنما يستنكر هذا المعتزلة؛ لأنها تشترط في خلق الإِدراك بنية مخصوصة، والرد عليهم مستقصى في كتاب علم الكلام. المعلم بفوائد مسلم (1/ 399).
وقال القاضي عياض -رحمه الله- مُعلقًا:
اشتراط هذا من المتكلمين أن يكون الإدراك في قفاه ارتباطًا بذلك المذهب الاعتزالي الذي أنكره؛ لأنَّ في ضمنه اشتراط المقابلة للمرئي، ونحن لا نشترطه...، وقد قالت عائشة -رضي الله عنه- في هذا: «زيادة زادها الله إياها في محبته»، وقال بقي بن مخلد: كان -عليه السلام- يرى في الظلمة كما يرى في الضوء.
وذهب أحمد بن حنبل وجمهور العلماء: أن هذه رؤية عين حقيقية، قال بعضهم: خاصية له -عليه السَّلام-، وذهب بعضهم يردها إلى العلم، وتظاهر الظواهر يخالفه ولا يحيله عقل على مذاهب أهل الحق في الرؤية.
وقال الداودي: قوله: «أراكم» أي: أخبركم أو أقتدي بما أرى على ما وراء ظهري، قال: وقوله في الرواية الأخرى: «من بعدي» يحتمل أن يريد من بعد وفاته، وهذا بعيد من سياق الحديث.
وقد قال بعضهم: معناه: أنَّه كان يلتفت التفاتًا يسيرًا لا يلوي فيه عنقه، وهذا قد أنكره أحمد بن حنبل على قائله، ولا يحتاج إلى هذا كله مع ما قدمناه في خواصه وآياته -عليه السلام-، ولا يعطيه ظاهر اللفظ، وقد قيل: معنى هذا في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} الشعراء: 219، قال مجاهد: كان -عليه السلام- يرى من خلفه كما يرى من بين يديه. إكمال المعلم (2/ 336 ـ 337).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
هذه معجزة من معجزات نبينا -صلى الله عليه وسلم- قد سبق ذكرها، وأنَّه كان يرى من وراء ظهره كما ينظر من بين يديه. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 300/301).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
مذهب أهل السُّنَّةِ من الأشعرية وغيرهم: أنَّ هذا الإبصار يجوز أن يكون إدراكًا خاصًّا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- محققًّا انخرقت له فيه العادة، وخُلق له وراءه.
أو يكون الإدراك العيني انخرقت له العادة، فكان يرى به من غير مقابلة؛ فإنَّ أهل السنة لا يشترطون في الرؤية عقلًا بُنْيَةٍ مخصوصة، ولا مقابلة، ولا قُربًا، ولا شيئًا مما يشترطه المعتزلة وأهل البدع، وأنَّ تلك الأمور إنما هي شروط عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها؛ ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة مع إحالة تلك الأمور كلها؛ ولَمَّا ذهب أهل البدع إلى أن تلك الشروط عقلية استحال عندهم رؤية الله تعالى فأنكروها، وخالفوا قواطع الشريعة التي وردت بإثبات الرؤية، وخالفوا ما أجمع عليه الصحابة والتابعون، ويؤيد هذا قول عائشة -رضي الله عنها- في هذا: «زيادة زاده الله إياها في حجته»، وقال بقيُّ بن مخلد: كان -عليه الصلاة والسلام- يرى في الظلام كما يرى في الضوء، وقال مجاهد: كان -عليه الصلاة والسلام- يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ قوله: «إني لأبصر من ورائي» راجع إلى العلم، وأنَّ معناه: إني لأعلم، وهذا تأويل لا حاجة إليه، بل حمل ذلك على ظاهره أولى، ويكون ذلك زيادة في كرامات النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي فضائله؛ لأنَّ ذلك جارٍ على أصول أهل الحق، كما قدمناه -والله تعالى أعلم-. المفهم (2/ 57 ـ 58).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الذي حققه القرطبي -رحمه الله- من حمل الرؤية على الرؤية الحقيقية، كما هو ظاهر النص: تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا. البحر المحيط الثجاج(10/ 180).
وقال النووي -رحمه الله-:
«إني لَأَرَاكُمْ وراء ظهري»، وفي رواية: «فوالله إني لَأَرَاكُمْ من بعدي إذا ركعتم وسجدتم» قال العلماء: معناه: أنَّ الله تعالى خلق له -صلى الله عليه وسلم- إدراكًا في قفاه يبصر به من ورائه، وقد انخرقت العادة له -صلى الله عليه وسلم- بأكثر من هذا، وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع، بل ورد الشرع بظاهره، فوجب القول به. شرح صحيح مسلم(4/ 149).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«إني لَأَرَاكُمْ من وراء ظهري» قيل: المراد بها: العلم بالوحي، والصواب: أنه على ظاهره، وأنه إبصار حقيقي خاص به -صلى الله عليه وسلم-، انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا فقيل: هو بعيني وجهه خرقًا للعادة أيضًا، فكان يرى بهما من غير مقابلة، لأنَّ الحق عند أهل السُّنَّة: أن الرؤية لا يشترط لها المقابلة؛ ولهذا حكوا بجواز رؤية الله في الآخرة، وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها دائمًا.
وقيل: كان بين كتفيه عينان كَسَمِّ الخياط يبصر بهما، لا يحجبهما ثوب ولا غيره.
وقيل: بل كانت صورهم تَنْطَبِعُ في حائط قِبْلته كما تَنْطَبِعُ في المرآة، فيرى أمثلتهم فيها، ويشاهد أفعالهم. التوشيح شرح الجامع الصحيح (2/ 499).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذه الأقوال الثلاثة (الأخيرة) تحتاج إلى دليل، بل القول الثاني أبشع، لا ينبغي حكايته إلا للتعجب منه، فالحقُّ أنْ نَكِلَ العلم في كيفية إبصاره -صلى الله عليه وسلم- إلى العليم الخبير الذي أعطاه تلك المعجزة، فتبصر -والله تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج(10/ 180).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
ولقد أغرب من قال: إنَّه كان له -صلى اللَّه عليه وسلم- عين خلف ظهره، أو بين كتفيه عينان مثل سَمِّ الخياط، لا يحجبها شيء، والظاهر من هذا: أن تكون رؤيته من خلفه دائمة -واللَّه أعلم-. لمعات التنقيح (2/ 562).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقيل: كانت له عين خلف ظهره، يرى بها من وراءه دائمًا، وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سَمِّ الخياط، يبصر بهما، لا يحجبهما ثوب، ولا غيره.
و هذا القول والذي قبله مما لا ينبغي أن يُلتفتَ إليه، حيث لم يكن عليه بَيِّنَةٌ، ولا أثارة من علم -والله تعالى أعلم-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (13/ 173).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
وقيل: كانت صورهم تَنْطَبِعُ في حائط قبلته، كما تَنْطَبِعُ في المرآة، فيرى أمثلتهم فيها، فيشاهد أفعالهم. انتهى.
(و) هذا القول أيضًا ليس عليه برهان، فالحق أنَّ الحديث على ظاهره، كما تقدم عن الحافظ -رحمه الله تعالى-، وأما معرفة كيفية رؤيته -صلى الله عليه وسلم-، هل هي بنفس باصرته الأمامية؟ أو بشيء آخر نوعه كذا وكذا؟ فتكلف بارد، لا برهان لهم به {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} النمل: 64.
وَالدَّعَاوِي مَا لَمْ تُقِيمُوا عَلَيهَا *** بِيِّنَاتِ أَبنَاؤُها أَدْعِيَاءُ. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (13/ 173).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «إني لأَرى مَن وَراء ظهري»، وفي رواية لمسلم عن أنس -رضي الله عنه-: «أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، فإني أراكم من أمامي، ومن خلفي»، ولا ينافي ذلك توقف الرؤية في حق المخلوق على حاسة وشعاع ومقابلة اتفاقًا؛ لأنَّ مَحلَّه في غير المعجزة، وخالق البصر في العين قادر على خلقه في غيرها.
وقيل: سبب رؤيته لمن وراءه: أنَّ صورهم كانت منطبعة في قبلته، وَرُدَّ بأنَّ مثل هذا لا يُتجاسر عليه إلا بنقل صحيح، وقيل: هي رؤية قلب، وقيل: وحي أو إلهام. وَرُدَّ بأن الصواب: أنَّها رؤية مشاهدة بالبصر كما مرَّ، وخبر: «لا أعلم ما وراء جداري» لا ينافيه بناء على ما مرَّ من إخباره -عليه السلام- بمغيبات لا تحصى؛ لأنَّ ذاك على الأصل، وهذا على خرق العادة بوحي أو إلهام... والحاصل: أنَّ أحوال الأنبياء والأولياء مختلفة؛ ولهذا لم يرَ يعقوب ولده يوسف -عليهما السلام- في البئر مع قربها إلى بلده، ووجد ريح قميص يوسف -عليه السلام- من حين فصلت العير من مصر. مرقاة المفاتيح (2/ 488).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «إني لأَراكم من وَراء ظهري» الصواب: أنَّه محمول على ظاهره، وأنَّ هذا الإبصار إدراك حقيقي بحاسة العين خاص به -صلى اللَّه عليه وسلم- على خرق العادة، فكان يرى من غير مقابلة.
ويحتمل: أن يكون علمًا بالقلب بوحي أو بإلهام، ولم يكن دائمًا، ويؤيده أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما ضلّت ناقته قال بعض المنافقين: إن محمدًا يزعم أنه يخبركم بخبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: «واللَّه لا أعلم إلَّا ما علَّمني ربي، وقد دلَّني ربي عليها، وهي في موضع كذا وكذا، حبستها شجرة بخطامها»، وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- حين ينكشف له في حال الصلاة التي كانت له قرة عين حقائق الموجودات، فيدرك من خلفه كما يدرك من أمامه، ولم يكن شهوده -صلى اللَّه عليه وسلم- بحيث يشغله ويذهله عن الكائنات، على ما هو حال المتمكنين الكائنين البائنين. لمعات التنقيح (2/ 561 ـ 562).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فيه: دليل على المختار أنَّ المراد بالرؤية: الإبصار، وظاهر الحديث: أنَّ ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل: أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله، وقد نُقل ذلك عن مجاهد، وحكى بقي بن مخلد: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء. فتح الباري (1/ 515).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في كون الإبصار خاصًا بالصلاة -مما يدل عليه ظاهر الحديث- عندي نظر، بل الاحتمال الثاني هو الظاهر، فالأولى حمله على العموم، كما نقل عن مجاهد -رحمه الله-، فتأمل -والله تعالى أعلم بالصواب-. البحر المحيط الثجاج(10/ 181).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
(بل) هي خاصة به -صلى الله عليه وسلم- في حالة الصلاة، ولا دليل على العموم، فتنبّه.صحيح الترغيب والترهيب(1/353).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وأخبر أنه يراهم مِن وراء ظهره، وهذا من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه في هذه الحالة المعينة يرى الناس مِن وراء ظهره، أما فيما سوى ذلك، فإنه لا يرى مِن وراء ظهره شيئًا. شرح رياض الصالحين (5/113).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
فيه بيان أن الله خصَّ نبيه بمنزلة عظيمة، وهو أنْ يرى مَن خَلفه كما يَرى من أَمامه في الصلاة...، وفيه شاهد لعظة الإمام. الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري (1/132).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
«وإني لَأَرَاكُمْ من وراء ظهري» هذا كما قال -صلى الله عليه وسلم-، ولا سبيل إلى كيفية ذلك، وهو عَلَمٌ منْ أَعلَامِ نُبوتهِ. التمهيد (18/ 346).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله- أيضًا:
دفعت طائفةٌ من أهل الزيغ هذا الحديث، وقالوا: كيف تقبلون مثل هذا وأنتم ترون ضده؟ فذكروا حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- إذ ركع دون الصف فلمَّا فرَغَ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- من صلاته، قال: «أيكم الذي ركع دون الصف؟» فقال أبو بكرة -رضي الله عنه-: أنا، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «زادك الله حرصًا، ولا تعد»، وذكروا حديث حميد عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال للرجل الذي دخل الصف وقد حَفَزَهُ النَّفَسُ، فقال حين انتهى إلى الصف: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة قال: «من المتكلم؟»...الحديث، وذكروا مثل هذا من الأحاديث، وقالوا: ألا ترون أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعلم من الراكع دون الصف حتى استعلم، ولا من المتكلم.
فالجواب: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت فضائله تزيد في كل وقت إلى أن مات -صلى الله عليه وسلم-. الاستذكار (2/ 328).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
ويستفاد منه ما يأتي:
أولًا: مشروعية وعظ الإمام للنَّاس بإتمام الصلاة.
ثانيًا: استحباب الخشوع؛ لأنَّه روح الصلاة.
ثالثًا: أنَّ من مُعجزاتِهِ -صلى الله عليه وسلم- رؤية من خَلْفَهُ أثناء الصلاة. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (2/ 9).
وينظر للاستفادة الرواية الأخرى من (هنا)
ومن (هنا) أيضًا