الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«أُتِيَ اللهُ بِعَبدٍ من عِبَاده، آتاه الله مالًا، فقال له: ماذا عملتَ في الدنيا؟ قال: ولا يكتمون الله حديثًا، قال: يا رب آتَيْتَنِي مالك، فكنتُ أُبايع الناس، وكان من خُلُقِيْ الجَوَاز، فكنتُ أَتَيَسَّر على الـمُوْسِر، وأَنْظُر الـمُعْسِر، فقال الله: أنا أحق بِذَا منك، تَجاوزوا عن عبدي».


رواه البخاري برقم: (2077)، ومسلم برقم: (1560) واللفظ له، عن حذيفة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«آتَاهُ»:
بالمد، أي: أعطاه. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، لابن علان (7/165).

«أُبايع»:
أي: أُعَامِلهم مُدَايَنَة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم، للهرري (17/218).

«خُلُقي»:
بضمّ الخاء المعجمة، واللام، أي: من طبيعتي وسجيّتي. البحر المحيط الثجاج، للإتيوبي(27/404).
والخُلق: ملكة للنفس يصدر عنها الفعل بسهولة. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/165).

«الجَوَاز»:
أي: التَّساهل والتّسامح في البيع والاقْتِضَاء. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (1/315).

«أَتَيَسَّر»:
أي: أسامحه، وأعامله بالمياسرة والمساهلة، كما قال: «أتجاوز». مطالع الأنوار على صحاح الآثار، لابن قرقول (4/286).

«الـمُوْسِر»:
الغني، والميسرة: السّعة والغِنى. لسان العرب، لابن منظور (5/296).

«أَنْظُر»:
الإنظار: التأخير والإمهال. لسان العرب (5/219).

«الـمُعْسِر»:
المعسر: نقيض الموسر، وأعسر فهو مُعسر: صار ذا عسرة، وقلة ذات يد، وقيل: افتقر. لسان العرب (4/564).


شرح الحديث


قوله: «أُتِيَ اللهُ بِعَبدٍ من عِبَاده آتاه الله مالًا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أُتِيَ اللهُ» -بضم الهمزة، مبنيًّا للمجهول-، أي: أتته الملائكة «بعبدٍ من عباده» سبحانه؛ ليُحاسب على أعماله، وقوله: «آتاه الله» سبحانه «مالًا» صفة ثانية لـ عبد. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (17/218).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «أُتِيَ اللهُ»... إلخ -ببناء الفعل للمفعول-، و«الله» مرفوع على أنه النائب عن الفاعل، أي: جيء إليه -سبحانه وتعالى-.
وقوله: «آتَاهُ اللهُ» -بمدِّ الهمزة-: أي: أعطاه الله -عزَّ وجلَّ-. البحر المحيط الثجاج(27/404).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
المال: كل ما يُتَمَوَّلُ، أو يُتَملَّك من عينٍ وعَرَضٍ وحيوان، وغير ذلك، ثم قد يخصه أهل كل مال بما يكون غالب أموالهم، فيقول أصحاب الإبل: المال: الإبل، وأصحاب النخل: النخل، وهكذا. المفهم (4/436).

قوله: «فقال له: ماذا عملتَ في الدنيا؟»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقال» الله سبحانه «له» أي: لذلك العبد: «ماذا عملت» من الخير يا عبدي «في الدنيا»؟ أي: أيَّ شيء عملته من الخيرات في حال حياتك؟ الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (17/218).

قوله: «قال: ولا يكتمون الله حديثًا»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«قال:» أي: حذيفة «ولا يكتمون الله حديثًا» وجملة القول، والمحكي به معترضة بين السؤال والجواب؛ لكونها كالدليل على تحقق ما يجيب به، وأن لا شُبهة فيه؛ لأن ذلك الموقف الحق ليس فيه إلا الصِّدق. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/165).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فاعل «قال» الظاهر أنه ضمير حذيفة -رضي الله عنه-، أي: لا يستطيع أحد أن يكتم يوم القيامة شيئًا من أعماله، فإن كتم شهدت عليه جوارحه. البحر المحيط الثجاج(27/404).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يكتمون الله حديثًا» أي: لا يستطيع أحد أن يكتم يوم القيامة شيئًا من أعماله، فإن كتم شَهِدَتْ عليه جوارحه. المفهم (4/436).

قوله: «قال: يا رب، آتَيْتَنِي مالك»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «يا رب آتيتني» أي: أعطيتني «مالك» ورزقك عطاءً واسعًا. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (17/218).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
أتى بهذه الجملة تلذُّذًا بالخطاب، وإلا فذكرها في السؤال مُغْنٍ عن إعادتها. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/165).

قوله: «فكنتُ أُبايع الناس، وكان مِنْ خُلقي الجَوَاز»:
قال أبو العباس القرطبيّ -رحمه الله-:
قوله: «وكان من خُلقي الجواز» أي: التجاوز عن حقوقه، فإما من حُلُوْلِ الأجل فيُؤَخِّره، وإما من استيفاء الحقّ، فيُسقط بعضه، أو يسامح في الزَّيف. المفهم (4/436).
«الجواز» أي: الصبر على المعسر، وقبول ما جاء به الموسر، وإن كان فيه بعض النقص، وقد فسر ذلك الإِبهام بقوله: «فكنتُ أتيسَّر على الموسر» بقبول ما قد يتوقَّف في قبوله من نقصٍ يسير، أو عيب في المأتي به. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/165-166).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «وكان من خُلقي الجواز» أي: التسامح في الطلب، والأخذ. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (3/43)ٍ.
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «الجواز» أي: التساهل والتسامح في البيع والشراء، كما بيّنه بقوله: «فَكُنْتُ أَتيَسَّرُ»... إلخ، أي: أُسَهِّل. البحر المحيط الثجاج (27/404).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «وكان من خُلقي» وعادتي «الجواز» أي: التسامح والتساهل في البيع والاقتضاء أي: الطلب. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (17/218).

قوله: «فكنتُ أَتَيَسَّر على الـمُوْسِر، وأَنْظُر الـمُعْسِر»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «فكنتُ أتيسَّر على الموسر» بقبول ما قد يتوقَّف في قبوله من نقص يسير، أو عيب في المأتي به، «وأُنْظِر» أي: أُمْهِل «المعسر» إلى سَعَة. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/166).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «كنتُ أيسر» في الرواية الأخرى بضم الهمزة، وتشديد السين: من التَّيْسِير، من باب التّفعيل، وقيل: من أيْسَر يُوْسِر إِيْسَارًا، وليس بصحيح؛ لأن القاعدة الصَّرفية أن يقال: أوسر.
وفي المطالع: «أُيَسِّر على الموسر» أي: أسامحه، وأعامله بالمياسرة والمساهلة. عمدة القاري (11/190-191).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله: «كنتُ أتيسَّر على الموسر» أي: لا أستقصي، ولا أناقش. كشف المشكل (2/204).
وقال ابن قُرْقُول -رحمه الله-:
قوله: «كنتُ أُنْظِر المعسر» أي: أُؤَخِّرُه. مطالع الأنوار على صحاح الآثار (4/156).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
معنى الإنظار: التأخير، وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى في رواية أبي قتادة: «فَلْيُنَفِّسْ عن معسر» أي: يؤخر، ويُمْلِي له في الأجل. إكمال المعلم (5/229).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الإنظار: التأخير.
والمعسر هنا: هو الذي يتعذَّر عليه الأداء في وقت دون وقت.
فندب الشرع إلى تأخيره إلى الوقت الذي يمكن له ما يُؤدِّي.
وأما المعسر بالإفلاس: فتَحْرُم مطالبته إلى أن يتبيَّن يساره. المفهم (4/436).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «كنتُ أُنْظِر المعسر» أي: أُؤَخِّره، ومنه: استنظرته، أي: طلبتُ منه التأخير، والاسم منه: النظرة، بفتح، ثم كسر. فتح الباري (1/196).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
قال ابن التين -رحمه الله-: رواية من روى: «وأنظر الموسر» أولى من رواية من روى: «وأنظر المعسر»؛ لأن إنظار المعسر واجب.
قلتُ: ولا يلزم من كونه واجبًا أن لا يُؤجر صاحبه عليه، أو يُكفَّر عنه بذلك من سيئاته. فتح الباري (4/308).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
اختَلَف العلماء في حدّ الموسر، فقيل: مَن عنده مؤنته، ومؤنة من تلزمه نفقته، وقال الثوريّ وابن المبارك وأحمد وإسحاق: مَن عنده خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذهب، فهو موسر.
وقال الشافعيّ: قد يكون الشخص بالدرهم غنيًّا مع كسبه، وقد يكون بالألف فقيرًا مع ضعفه في نفسه، وكثرة عياله.
وقيل: الموسر والمعسر يرجعان إلى العُرف، فمن كان حاله بالنسبة إلى مثله يُعَدّ يسارًا فهو موسر، وعكسه.
وهذا هو المعتمد، وما قبله إنما هو في حدّ من تجوز له المسألة، والأخذ من الصدقة. فتح الباري (4/307-308).
وقال العيني -رحمه الله-:
عند أصحابنا: الغنى على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: الغنى الذي يتعلَّق به وجوب الزكاة.
المرتبة الثانية: الغنى الذي يتعلَّق به وجوب صدقة الفطر والأضحية، وحرمان الأخذ من الزكاة، وهو أن يملك ما يفْضُل عن حوائجه الأصلية ما يبلغ قيمة مائتي درهم، مثل دور لا يسكنها، وحوانيت يؤجرها، ونحو ذلك.
والمرتبة الثالثة: غنى حرمة السؤال، وقيل: أن يكون عنده ما قيمته خمسون درهمًا.
وقال عامة العلماء: إن من ملك قوت يومه، وما يستر به عورته، يحرم عليه السؤال، وكذا الفقير القوي المكتسب يحرم عليه السؤال.
قلتُ: هذا كله في حق من يجوز له السؤال، وأخذ الصدقة، ومن لا يجوز، وأما ههنا -أعني: في إنظار الموسر- فالاعتماد على أن الموسر والمعسر يرجعان إلى العُرف، فمن كانت حاله بالنسبة إلى مثله يُعَدُّ يسارًا فهو موسر، وكذا عكسه. عمدة القاري (11/189).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
قال ابن المنير: وفيه: دليل على أن الإحسان بالمال بقصدٍ جميلٍ يُثاب عليه العبدُ، سواء كان مع غني أو فقير، إلا أن إنظار المعسر واجب، والتيسير على المعسر مندوب، ومتى علم صاحب الحق عُسْرَ المديان، حَرُمَتْ عليه مطالبتُه، وإن لم يثبت عسره عند الإمام.
قلتُ: وقد حكى القرافي وغيره: أن إبراءَهُ أفضلُ من إنظاره، وجعلوا ذلك مما استُثني من قاعدة: كونِ الفرضِ أفضلَ من النافلة؛ وذلك أن إنظاره واجبٌ، وإبراءَهُ مستحبٌّ.
وانفصل عنه الشيخ تقي الدين السبكي بأن الإبراء يشتمل على الإنظار اشتمالَ الأخصِّ على الأعمِّ؛ لكونه تأخيرًا للمطالبة، فلم يَفْضُلْ ندبٌ واجبًا، وإنما فضل واجبٌ -وهو الإنظارُ الذي تضمنه الإبراء وزيادة، وهو خصوص الإبراء- واجبًا آخر، وهو مجردُ الإنظار.
ونازعه ولدُه القاضي تاجُ الدين السبكيُّ في (الأشباه والنظائر) في ذلك، فقال: وقد يقال: الإنظارُ هو تأخير الطلب مع بقاء العُلقة، والإبراء زوالُ العُلقة.
قلتُ: لو عبر بإزالة العُلقة، كان أحسن.
ثم قال: فهما قسمان لا يشتمل أحدُهما على الآخر، فينبغي أن يقال في التقدير: إن الإبراء يحصِّلُ مقصودَ الإنظار وزيادةً.
قال: وهذا كله بتقدير تسليم أن الإبراء أفضلُ، وغاية ما استُدِلَّ عليه بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} البقرة: 25، وهذا يحتمل: أن يكون افتتاح كلام، فلا يكون دليلًا على أن الإبراء أفضلُ، ويتطرق من هذا إلى أن الإنظار أفضل؛ لشدة ما ينال الْمُنْظِر من ألم الصبر، مع تَشَوُّقِ القلب، وهذا فضلٌ ليس في الإبراء الذي انقطعَ فيه اليأس، فحصلت فيه راحةٌ من هذه الحيثية ليست في الإنظار، ومن ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ».
فانظر كيف وَزَّعَ أجرَه على الأيام، يكثُر بكثرتها، ويقلُّ بقلَّتِها، ولعل سرَّه ما أبديناه، فالْمُنْظِرُ ينال كلَّ يوم عوضًا جديدًا، ولا يخفى أن هذا لا يقعُ بالإبراء، فإن أجره وإن كان أوفرَ يتعقَّبه وينتهي بنهايته، ولستُ أستطيع أن أقول: الإنظارُ أفضلُ على الإطلاق، وإنما قلتُ ما قلتُ على حدِّ: «سَبَقَ دِرْهَمٌ دِينارًا، وَسَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ ألْفٍ»؛ فلينظر ما حركته من البحث؛ فإنه محتاج إلى مزيد تحرير. مصابيح الجامع (5/10- 12).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أما إنظار المعسر، فإنه واجب، يجب على الإنسان إذا كان صاحبه معسرًا لا يستطيع الوفاء، يجب عليه أن يُنْظِرَه، ولا يحل له أن يكربه، أو يطالبه؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280.
فهناك فرق بين الإبراء وهو إسقاط الدَّين عن المعسر، وبين الإنظار، فالإنظار واجب، والإبراء سنة، ولا شك أن الإبراء أفضل؛ لأن الإبراء تبرأ به الذمة نهائيًا، والإنظار تبقى الذمة مشغولة، لكن صاحب الحق لا يطالِب به حتى يستطيع المطلوب أن يُوَفِّي، وبعض الناس -نسأل الله العافية- تحل لهم الديون على أناس فقراء فيؤذونهم ويضربونهم ويطالبونهم، ويدفعون بهم إلى ولاة الأمور ويحسبونهم عن أهليهم وأولادهم وأموالهم، وهذا لا شك أنه منكر، والواجب على القضاة إذا علموا أن هذا معسر لا يستطيع الوفاء الواجب عليهم أن يقولوا للدائن: ليس لك حق في مطالبته؛ لأن الله تعالى هو الحكم، وهو الحاكم بين العباد، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280.
لكن يتعلل بعض القضاة في هذه المسألة يقولون: إن بعض المدينين يتلاعبون بالناس، فيأخذون الأموال، ويجحدون الإيسار، فيعاملونهم بهذا تنكيلًا بهم.
وهذا نعم إذا ثبت أن هذا المدين يدَّعي الإعسار وليس بمعسر، فإنه لا بأس أن يُجْبَر ويُحْبَس ويُضْرَب حتى يُوَفِّي، فإن لم يفعل، فإن الحاكم يتولى بيع ما شاء من ماله، ويُوَفِّي دينه.
أما الذي نعلم أنه معسر حقيقة، فإنه لا يجوز لطالبه أن يطالبه، ولا أن يقول: أعطني، يجب أن يُعْرِض عنه بالكلية {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280، -والله الموفق-. شرح رياض الصالحين (5/409-10).
وقال أحمد حطيبة:
قوله: «فكنتُ أُيَسِّر على الموسر، وأُنظِر المعسر» أي: أنه مع كل الناس إنسان طيب، فكان يصبر على الموسر، ويتجاوز عن المعسر، ويسامحه، ويصبر عليه فترة طويلة. شرح الترغيب والترهيب للمنذري (27/ 5).

قوله: «فقال الله: أنا أحق بِذَا منك، تَجاوزوا عن عبدي»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال الله -عزَّ وجلَّ-» لملائكته: «نحن أحق بذلك» التجاوز والتسامح «منه» أي: من ذلك الرجل؛ فـ«تجاوزوا» يا ملائكتي، وتسامحوا له «عنه» أي: عن ذنوبه. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (17/220).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قول الله تعالى: «أنا أحق بذلك» صِدْقٌ وحَقٌّ؛ لأنه تعالى مُتَفَضِّل ببذل ما لا يُستحق عليه، ومُسْقِطٌ بعفوه عن عبده ما يجب له من الحقوق عليه، ثم يتلافاه برحمته، فيكرمه، ويقربه منه، وإليه، فله الحمد كفاءَ إنعامه، وله الشكر على إحسانه. المفهم (4/436).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«نحن أحق» أي: أولى «بذلك» أي: بالتجاوز «منه»، وهذا تقريب للأذهان، وإلا فلا مشاركة بين الخالق والمخلوق في وصفٍ بالحقيقة، حتى يُفاضَل بينهما فيه.
«تجاوزوا عنه» سَهَّل عليه في معاملته معه، كما سَهَّل هو في معاملته مع الخلق. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 165).
وقال ابن علان -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «تجاوزوا عن عبدي» خطاب للآتين به، وفي قوله: «عبدي» غاية التشريف، وإيماء إلى حكمة التجاوز. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 166).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فقال الله: أنا أحق بذا»، وفي نسخة: «بذلك» أي: بالتجاوز «منك» أي: لأني قدير على كل شيء، «تجاوزوا عن عبدي» أي: الموصوف بصفتي، والمتخلِّق بخُلقي، كما يُستفاد من الإضافة التشريفية. مرقاة المفاتيح (5/ 1908).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وفي رواية: «قال الله تعالى: أنا أحقُّ بذا» أي: أنا أَوْلَى بهذا الكَرَمِ والتَّجَاوُز «منك، تجاوَزُوا عن عبدي». شرح المصابيح (3/ 396).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أنا أحقُّ بذا» أي: أنا أَولى بهذا الكرم والتجاوُز، فإذا جاوزتَ عن عبادي، وساهلتَهم في المعاملة، فقد جاوزتُ عن ذنبك. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 403).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
قوله: «أَنَا أَحَقُّ بِذَلِكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي» كذا لهم، وعند الصدفي: «تَجَاوُزًا عَنْ عَبْدِي» على التمييز، والأول أوجه. مطالع الأنوار على صحاح الآثار (2/ 188).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «فقال الله تعالى: أنا أحق بذا» أي: التخفيف والتجاوز، وفي نسخة: «بذلك»، وأشير إليه بما يشار به للبعيد؛ تفخيمًا، نحو قوله تعالى: {ذَلِكَ الكِتَابُ} البقرة: 2...
وفي قوله: «عبدي» غاية التشريف، وإيماء إلى حكمة التجاوز. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/166).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «تجاوزا عنه» أمرٌ للملائكة الذين يحاسبونه في أعماله أن يسامحوه فيما فرّط فيه. البحر المحيط الثجاج(27/408).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
فيه: أنَّ الله قد تَجَوَّز عنه بذلك، وغفر ذنوبه.
وأنه لا يُستحقر شيء من فعل الخير، أو لأمرهم بالحض عليه. وأن الله قد يفسح لعبده، ويتجاوز عنه، ويُنَجِّيه من عذابه بالقليل من عمل الخير. إكمال المعلم (5/229).
وقال النووي -رحمه الله-:
في هذه الأحاديث: فضل إنظار المعسر، والوضع عنه إما كل الدين، وإما بعضه، من كثير أو قليل، وفضل المسامحة في الاقتضاء، وفي الاستيفاء، سواء استوفي من موسر أو معسر، وفضل الوضع من الدين، وأنه لا يُحْتَقَرُ شيء من أفعال الخير، فلعله سبب السعادة والرحمة. شرح النووي على مسلم (10/224).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فيه: بيان فضل إنظار المعسر، والوضع عنه إما كل الدَّين، وإما بعضه.
وبيان أن شريعة من قبلنا شريعة لنا، إذا لم يَرِد في شرعنا ما يردّه، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء في المسألة، وهو مذهب البخاري ومسلم والنسائيّ، وغيرهم، حيث أوردوا هذا الحديث مستدلين به على ما ترجموا له: فضل المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء، سواء كان من معسر أو موسر.
وفيه: فضل الوضع من الدَّين، وأنه لا يُحتقَر شيء من أفعال الخير، فلعله سبب سعادة العبد، وسبب رحمة الله تعالى له.
وفيه: أن اليسير من الحسنات إذا كان خالصًا للَّه يكفر كثيرًا من السيئات. البحر المحيط الثجاج(27/400-401).


ابلاغ عن خطا