الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«إِنَّ الله -عزَّ وجلَّ- حرَّمَ عليكم: عُقُوقَ الأمهات، وَوَأْدَ النباتِ، ومَنْعًا وهَاتِ، وكرهَ لكم ثلاثًا: قِيلَ وقال، وكثرةِ السُّؤالِ، وإِضاعة المال»


رواه البخاري برقم: (5975)، ومسلم برقم: (593)، من حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«عُقُوقَ»:
عقَّ والده يعقه عُقُوقًا فهو عاقٌ إذا آذاهُ وعصاه وخرج عليه، وهو ضد البر به.
وأصله من العَقِّ: الشق والقطع، وإنما خص الأمهات وإن كان عقوق الآباء وغيرهم من ذوي الحقوق عظيمًا، فلعقوق الأمهات مزية في القبح. النهاية، لابن الأثير (3/ 277).

«وَوَأْدَ الْبَنَاتِ»:
أي: ‌قتلهن. ‌كان ‌إذا ‌ولد ‌لأحدهم ‌في ‌الجاهلية ‌بنت دفنها في التراب وهي حية. يقال:‌ وأَدَهَا ‌يَئِدُهَا ‌وَأْدًا فهي موءودة.النهاية، لابن الأثير(5/ 143).

«ومَنْعًا وهَاتِ»:
أَي: عن ‌منع ‌ما ‌عليه ‌إعطاؤه، ‌وطلب ‌ما ‌ليس له. النهاية، لابن الأثير (4/ 365).

«قِيلَ وقَالَ»:
‌المراد ‌به ‌حكاية ‌أقوال ‌لا ‌صحة ‌لها. غريب الحديث، لابن الجوزي (2/ 271).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
أَي: أي ‌نهى ‌عن ‌فضول ‌ما ‌يتحدث ‌به ‌المتجالسون من قولهم: قيل: كذا وقال فلان كذا وبناؤهما على كونهما فعلين مُحكيين متضمنين للضمير. النهاية في غريب الحديث(4/ 122).

«وكثرة السؤال»:
فإنها مسألة الناس أموالهم، وقد يكون أيضاً من السؤال عن الأمور، وكثرة البحث عنها، كما قال سبحانه: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} المائدة:101. غريب الحديث، للقاسم بن سلام (2/ 49).
وقال ابن أبي نصر الحميدي -رحمه الله-:
الإلحاح ‌فيما ‌لا ‌حاجة ‌له ‌إليه ‌وأما ‌في ‌ما ‌تدعو ‌الضرورة ‌إليه فللضرورة حكم الإباحة على الوجوه التي وردت النصوص بها.تفسير غريب ما في الصحيحين (ص: 422).

«وإضاعة المال»:
وإضاعة المَال تبذيره ‌في ‌غير ‌برٍّ ‌ولا ‌منفعة ‌أو ‌تركه ‌غير ‌محفوظ ‌مع القُدرة على حفظه. تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي (ص: 422).


شرح الحديث


قوله: «إِنَّ الله -عز وجل- حرم عليكم عقوق الأمهات»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ثلاث عبر عنهن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الله حرمها، وثلاث بأن الله كرهها، فهل هناك فرق في الحكم بين هذه وهذه؟ أو هو اختلاف في التعبير؟
الجواب: الثاني اختلاف في التعبير؛ لأن الله إذا كره شيئًا فهو حرام، كما قال تعالى حين ذكر كثيرًا من المحرمات: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} الإسراء:38. فتح ذي الجلال والإكرام (6/278).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «وحرَّم عليكم عقوق الأمهات» العقوق مصدر عق، يعق، عقوقًا؛ أي: قطع وشقَّ، فكأنَّ العاقَّ لوالديه يقطع ما أمره الله تعالى به من صلتهما، ويشق عصا طاعتهما، ولا خلاف في أن عقوقهما من أكبر الكبائر. المفهم (5/ 165).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«إن الله» عزَّ وجلَّ «حرّم عليكم عقوق الأمهات» بضم العين المهملة من العق، وهو القطع والشق فهو شق عصا الطاعة للوالدين. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (9/ 6).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات» مصدر عن الشيء قطعه؛ لأن مخالفة أوامرهن قطع للرحم. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (5/ 92).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«عقوق» أصلُه القَطْع، كأَنَّ العاقَّ لأُمه يقطَع ما بينهما من الحُقوق. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (7/ 394).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«أن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات» بضم العين المهملة من العق، وهو القطع، يقال: عق والده إذا أذاه وعصاه، وهو ضد البر به، والمراد به: صدور ما يتأذى به الأصل من فرعه من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الأصل. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 361).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات» أي: مخالفتهم من العق، وهو القطع والشق المراد صدور ما يتأذى به أحد الوالدين من ولده عرفًا بقول أو فعل. مرقاة المفاتيح (7/ 3081).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إن الله -عزَّ وجلَّ- حرم عليكم عقوق الأمهات» أي: عصيانهن وترك الإحسان إليهن. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (19/ 29).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«إن الله» -عز وجل- «حرم عليكم عقوق الأمهات» وكذا حرم عقوق الآباء. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (4/229).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «عقوقُ الأُمَّهات» أي: عصيانَ الأُمَّهات، ذَكَرَ الأمهات والمراد: الآباء والأُمَّهات وإن عَلَوا. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 203).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «عقوق الأمهات» وهو قطع ما يجب لهن من البر. شرح رياض الصالحين (3/ 210).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
والعُقوق: عبارةٌ عن عدم البِر والإحسان للوالدين، وقد صنف العلماء في بر الوالدين؛ كالطرطوشيِّ وغيرِه ما يتعين من ذلك، وما يُندب. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (2/ 579).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وضابط العقوق المحرم هو أن يحصل من الولد للأبوين أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عرفًا، فيخرج من هذا ما إذا حصل من الأبوين أمر أو نهي فخالفهما بما لا يعد في العرف مخالفته عقوقًا، فلا يكون ذلك عقوقًا، وكذلك لو كان على الأبوين مثلًا دين للولد أو حق شرعي فرافعه إلى الحاكم فلا يكون ذلك عقوقًا، كما وقع من بعض أولاد الصحابة شكاية الأب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في اجتياحه لماله، فلم يعد النبي -صلى الله عليه وسلم- شكايته عقوقًا فعلى هذا العقوق أن يؤذي الولد أحد أبويه بما لو فعله مع غير أبويه كان محرمًا من جملة الصغائر، فيكون ذلك في حق الأبوين كبيرة أو مخالفة الأمر أو النهي فيما يدخل فيه الخوف على الولد من فوات نفسه، أو عضو من أعضائه في غير الجهاد الواجب عليه، أو مخالفتهما في سفر يشق عليهما وليس بفرض على الولد، أو في غيبة طويلة فيما ليس لطلب علم نافع ولا كسب، أو فيه وقيعة في العرض، أو ترك تعظيم الوالدين، فإنه لو قدم عليه أحدهما ولم يقم إليه أو قطب في وجهه، فإن هذا وإن لم يكن في حق الغير معصية فهو عقوق في حق الأبوين، وقد ذكر معنى هذا التحقيق البُلقيني في فتاويه وهذا خلاصته مع تصحيح في بعض أطرافه. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 202).
وقال المناوي -رحمه الله-:
والعقوق: ما يتأذى به من قول أو فعل غير محرم ما لم يتعنت الأصل، والمراد الأمهات المحترمات. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 251).
وقال ابن عطية -رحمه الله-:
وجملة هذا الباب: أن طاعة الوالدين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، وتستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر جهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب لكن يعلل بخوف هلكة عليها ونحوه مما يبيح قطع الصلاة، فلا يكون أقوى من الندب، وخالف الحسن في هذا الفصل، فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء الآخرة شفقة فلا يطعها. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (4/ 349).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فما عقوق الأمهات؟
نقول: هو عدم القيام ببرهن، تجب لها النفقة فلا ينفق، تجب مساعدتها في حاجتها فلا يساعدها، يجب تمريضها فلا يمرضها، المهم: أن العقوق قطع الصلة وهو عدم القيام بمصالحهن. فتح ذي الجلال والإكرام (6/279).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «الأمهات» وهو جمع "أمهة"، وأمهة لغة في الأم، قيل: هما أصلان، أو أن الهاء زائدة والأصل "أم" عند غير المبرد؛ لأن المبرد لا يعد الهاء من حروف الزيادة، ولا تطلق "أمهة" إلا على من يعقل بخلاف "أم" فإنها تعم. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 202).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«الأمهات» جمع أُم ويقال: في بني آدم أمهات، وفي غيرهم: أمات، وهذا من الفروق، وقد يقال: أمهات في غير بني آدم. فتح ذي الجلال والإكرام (6/279).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«حرم عليكم عقوق الأمَّهات» وكذا عقوق الآباء وخُصِّصْن بالذِّكر؛ لزيادة وفور شفقتهن. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (5/ 174).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وخصَّ الأمهات هنا بالذِّكر؛ لتأكيد حرمتهن على الآباء؛ لأنَّ الأم لها ثلاثة أرباع البرِّ. المفهم (5/165).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما عقوق الأمهات فحرام، وهو من الكبائر بإجماع العلماء، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على عده من الكبائر، وكذلك عقوق الآباء من الكبائر، وإنما اقتصر هنا على الأمهات؛ لأن حرمتهن آكد من حرمة الآباء، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- حين قال له السائل: من أبر؟ قال: «أمك، ثم أمك، ثلاثًا، ثم قال في الرابعة: ثم أباك»؛ ولأن أكثر العقوق يقع للأمهات ويطمع الأولاد فيهن. شرح صحيح مسلم (12/ 11-12).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وحق الأمهات؛ لأنهن أعظم حقًا وأكثر حقوقًا على الولد، وقد قال – صلى الله عليه وسلم-: «أمك، ثم أمك، ثم أباك»، وأيضًا فإن النساء عند العرب لم تكن لهم تلك الحرمة بخلاف الرجال، فحض -صلى الله عليه وسلم-على بر الأمهات، وخص النهي عن عقوقهن تأكيدًا لحقوقهن.
وقد جاء في الحديث الآخر مكان «الأمهات»: «الوالد» والمراد به الجنسين من الذكر والأنثى -والله أعلم-. إكمال المعلم (5/ 570).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
حكمة اختصاص الأم بالذكر وهو من تخصيص الشيء بالذكر إظهارًا لعظم موقعه. فتح الباري (10/ 406).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
وإنما خص الأمهات تنبيهًا على مزيد حقوقهن ولا مفهوم له؛ على أنه في البخاري ومسلم: «الوالدين». الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (5/ 92).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وخص الأمهات بالذكر؛ لأن برهن مقدم على بر الأب في التلطف والحنو؛ لضعفهن فهو من تخصيص الشيء بالذكر إظهارًا؛ لتعظيم موقعه. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (4/ 229-230).
وقال القسطلاني -رحمه الله- أيضًا:
وذكر الأمهات اكتفاء بذكرهن عن الآباء؛ أو لأن عقوقهن فيه مزية في القبح أو لعجزهن غالبًا. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (9/6).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وخص الأمهات بالذكر للاهتمام بشأنهن وضعفهن، ويمكن أن يكون من قبيل الاكتفاء بذكر أحد الشيئين من الآخر كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} النحل:81 أي: والبرد. مرقاة المفاتيح (7/3081).
قال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «وعقوق الأمهات» لم يخص الأمهات بالعقوق لأن عقوق الآباء غير محرم، لكنه نبه بأحدهما على الآخر، إذ كان بر الأم مقدمًا على بر الأب في نوع من أنواع حقوقهما، وهو في باب التحفي بها، واللطف والإحسان إليها، وحق الأب مقدم في الطاعة، وحسن المتابعة لرأيه، والنفوذ لأمره، وقبول الأدب منه. أعلام الحديث (2/ 1203).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
تخصيص النهي بالأمهات مع امتناعه في الآباء -أيضًا- لأجل كثرة حقوقهن وشدتها، ورجحان الأمر ببرِّهِنَّ وتكريره مرات دون الآباء. العدة في شرح العمدة (2/ 654).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وأما عقوق الْأُمَّهَات فَإِنَّمَا خص الْأُمَّهَات بِالذكر لعظم حقهن، وحقهن مقدم على حق الْأَب كَمَا قدمهن فِي الْبر، وَإِنَّمَا يخص الشَّيْء بِالذكر من بَين جنسه لِمَعْنى فِيهِ يزِيد على غَيره، كمال قال: «مَن رمانا بالليل فليس مِنّا» ‌وإنْ ‌كان ‌الحُكم ‌كذلك ‌بالنهار، ‌ولكن ‌الرّمي ‌بالليل ‌أَشَدّ ‌قُبحًا ‌ونكاية؛ ‌لأنه ‌يأتي ‌على ‌غَفلة.كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 102-104).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «الأمهات» ليس ذكرهن للتخصيص بالحكم بل لأن الغالب ذلك؛ لعجزهن، وقيل: لأن لعقوق الأمهات مزية في القبح، أو اكتفى بذكر أحد الوالدين عن الآخر. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (21/ 151).
وقال العيني -رحمه الله-:
إنما خص الأمهات بالذكر، وإن كان عقوق الآباء أيضًا حرامًا؛ لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء؛ لضعف النساء، وللتنبيه على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك، ولأن ذكر أحدهما يدل على أن الآخر مثله بالضرورة، ولكن تعيين الأم لما ذكرنا. عمدة القاري (12/ 247).
وقال عبدالحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «إن اللَّه حرم عليكم عقوق الأمهات» تخصيص الأمهات بالذكر إما لقوة حقوقها وغلبتها كما عرفت، أو لضعف قلوبهن، فيتأثرن ويتأذين بأدنى إيذاء، فالتوجيه في ذلك أهم وأوفر، أو لتقصير الأولاد في حقوقها، فالنهي عنه أهم وأعم، أو من جهة أن الكلام لعلة اتفق فيها، ولهذا جمع بين أشياء متفرقة غير متناسبة في الظاهر، واللَّه أعلم. لمعات التنقيح (8/ 209-211).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات» اقتصر عليهن مع تحريم عقوق الآباء أيضًا؛ لأن الاستخفاف بهن أكثر لضعفهن وعجزهن بخلاف الآباء ولينبه على تقديم برّهن على برّ الأب في التلطف والخير ونحو ذلك، ويل هو من تخصيص الشيء بالذكر إظهارًا لعظم توقعه، والأمهات جمع أمهة وهي لمن لا يعقل بخلاف الأم فإنه أعم. دليل الفالحين (3/ 183).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وخص النبي -صلى الله عليه وسلم- الأم بالذكر هنا وإن كان الأب مثلها إظهارًا لعظم موقع عقوقها. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 202).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
إنما خص الأمهات، وإن كان عقوق الآباء وغيرهم من ذوي الحقوق عظيمًا فلعقوق الأمهات مزيد في القبح؛ ولأن العقوق لهن أسرع من الآباء لضعف النساء، وينبه على أن بر الأم مقدم على بر الأب. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 361).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فإن قال قائل: لماذا نص على الأمهات؟
نقول: لأن الغالب أن القطيعة تكون بالنسبة لهن؛ لأن الوالد رجل يأخذ حقه بيده لكن المرأة مسكينة فيكون العق بالنسبة لها، وعقوق الآباء حرام، ولا فرق لكن نص على الأمهات لما ذكرنا. فتح ذي الجلال والإكرام (6/279).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
وإنما خص الأمهاتِ دون الآباء، وإن كان العقوق محرمًا في حق الجميع؛ للتنبيه على عظم حقِّ الأم، وزيادةِ مقداره على حق الأب، ويشهد له قوله -عليه الصلاة والسلام- لما قال له الرجل: «من أَبَرُّ؟ قال: أُمَّكَ، ثم قال: مَنْ؟ قال: أُمَّكَ، ثم قال: مَنْ؟ قال: أُمَّكَ، ثم قال: مَنْ؟ قال: أَبَاكَ»، فجعل له الرُّبعَ من المبرَّةِ، وهذا الحديث يشير إلى قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} لقمان:14، شرك اللَّه تعالى الأمَّ والولد منها في رتبة الوصية بهما، ثم خصص الأم بذكر درجة الحمل، وبدرجة ذكر الرَّضاع، فتحصل للأم ثلاثُ مراتب، وللأبِ واحدة، فكان الحديث كالآية، فاعرفه. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (2/ 579).

قوله: «وَوَأْدَ الْبَنَاتِ»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ووأد البنات»، الوأد مصدر وأدت الوائدة ابنتها تئدها: إذا دفنتها حية، وقال ابن التين: بإسكان الهمزة، وضبط ابن فارس بفتحها، وقال أبو عبيد: كان أحدهم في الجاهلية إذا جاءته البنت يدفنها حية حين تولد، ويقولون: القبر صهر، ونعم الصهر، وكانوا يفعلونه غيرة وأنفة، وبعضهم يفعله تخفيفًا للمؤونة. عمدة القاري (12/ 247).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وأما وأد البنات فَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ من الموءودة، وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك ببناتهم فِي الْجَاهِلِيَّة، كَانَ أحدهم رُبمَا ولدت لَهُ الْبِنْت فيدفنها وَهِي حَيَّة حِين تولد، ولهذا كانوا يسمون القبر صهرًا: أَي: قد زَوجهَا مِنْهُ، قَالَ الشَّاعِر:
سميتها إِذْ ولدت تَمُوت *** والقبر صهر ضَامِن زميت
لَيْسَ لمن ضمنه تربيت *** يَا بنت شيخ مَا لَهُ سبروت
أَي: قَلِيل، من قَوْلهم: أَرض سباريت: وَهِي الَّتِي لَا شَيْء فِيهَا. كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 103-104).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«و» حرم عليكم «وأد البنات» بفتح الواو وسكون الهمزة دفنهن في القبر إحياء لما فيه من قطع النسل الذي هو موجب خراب العالم.إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (9/ 6).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ووأد البنات» بسكون الهمز ويبدل، أي: دفنهن حيات، قيل: قدم حقوق الأمهات؛ لأنهن الأصول، وعقَّبه بوأد البنات؛ لأنهن الفروع، فكان ذلك تنبيهًا على أن أكبر الكبائر قطع النسل الذي هو موجب لخراب العالم. مرقاة المفاتيح (7/ 3081).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ووأد» بفتح الواو وسكون الهمزة دفن، «البنات» أحياء حين يولدن، وكان أهل الجاهلية يفعلونه كراهة فيهن فخصهن لا لاختصاص الحكم بهن بل؛ لأنه كان هو الواقع فوجه النهي إليه.فيض القدير (2/ 227).
قال الخطابي -رحمه الله-:
«ووأد البنات» دفنهن أحياء، وكانت قبائل من العرب تفعل ذلك، ومن هذا قوله -عز وجل-: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} التكوير:8-9. أعلام الحديث (2/ 1203).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما «وأد البنات» بالهمز فهو دفنهن في حياتهن فيمتن تحت التراب، وهو من الكبائر الموبقات؛ لأنه قتل نفس بغير حق، ويتضمن أيضًا قطيعة الرحم، وإنما اقتصر على البنات؛ لأنه المعتاد الذي كانت الجاهلية تفعله. شرح صحيح مسلم (12/ 12).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وقوله: «ووَأدِ البنات» هو عبارة عن دفنهنَّ بالحياة، وخُصت البنات بالذكر دون الأبناء؛ لأنه كان هو الواقع، فتوجه النهي إليه، لا لأن الحكم مخصوص بالبنات. العدة في شرح العمدة (2/ 654).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
يقال: إن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي، وكان بعض أعدائه أغار عليه فأسر بنته فاتخذها لنفسه، ثم حصل بينهم صلح فخير ابنته فاختارت زوجها فآلا (أي: حلف يمينًا) قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب في ذلك، وكان من العرب فريق ثان يقتلون أولادهم مطلقًا إما نفاسة منه على ما ينقصه من ماله، وإما من عدم ما ينفقه عليه، وقد ذكر الله أمرهم في القرآن في عدة آيات، وكان صعصعة بن ناجية التميمي، أيضًا وهو جد الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة أول من فدى الموءودة، وذلك أنه يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك فيفدي الولد منه بمال يتفقان عليه، وإلى ذلك أشار الفرزدق بقوله:
وجدي الذي منع الوائدات *** وأحيا الوئيد فلم يوأد
وهذا محمول على الفريق الثاني، وقد بقي كل من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الإسلام، ولهما صحبة. فتح الباري (10/ 406-407).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وكانوا في صفة الوأد على طريقين:
أحدهما: أن يأمر امرأته إذا قرب وضعها أن تطلق بجانب حفيرة، فإذا وضعت ذكرًا أبقته، وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفيرة، وهذا أليق بالفريق الأول، ومنهم من كان إذا صارت البنت سداسية قال لأمها: طيبيها وزينيها لأزور بها أقاربها، ثم يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر، فيقول لها: انظري فيها ويدفعها من خلفها ويطمها، وهذا اللائق بالفريق الثاني، والله أعلم. فتح الباري (10/ 407).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أما وأد البنات فهو دفنهن أحياء؛ وذلك لأنهم في الجاهلية كانوا يكرهون البنات، ويقولون: إن إبقاء البنت عند الرجل مسبة له.
فكانوا والعياذ بالله يأتون بالبنت فيحفرون لها حفرة ويدفنونها وهي حية، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} التكوير:8-9، فحرم الله ذلك، وهو لا شك من أكبر الكبائر، وإذا كان قتل الأجنبي المؤمن سببًا للخلود في النار كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} النساء:93، فالقرابة أشد وأشد. شرح رياض الصالحين (3/ 210-211).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
«وأد البنات» دفنهن وهن أحياء، وهذا يقع بل قد وقع من الجاهليين، كان الواحد منهم إذا بشر بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم، يسود وجهه -والعياذ بالله- ويغتم، فتظهر عليه علامة الاستياء في وجهه، وفي قلبه، ثم في فعله، {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} النحل:59 يتوارى بمعنى: يختفي، يقوم من المجالس من سوء ما بشر به، ثم يتردد: أيمسكه على هون فيهينه ويذله، يعني: المرأة يذلها ويهينها، أم يدسه في التراب: يعني: الوأد، وكانوا يفعلون ذلك -والعياذ بالله- حتى قيل: إن بعضهم يذهب بابنته؛ ليئدها فإذا قام يحفر لها وأصاب لحيته شيء من التراب جعلت تنفض التراب عن لحيته، وهو يريد أن يدفنها، يعني: قلوب أقسى من الحجارة، حرم الله وأد البنات؛ لأن وأد البنات قطيعة، وعقوق من أشد ما يكون، إذا كان قتل الأجنبي محرمًا فقتل القريب من باب أولى، وهل وأد الأبناء كذلك؟
نعم، لأن التقييد هنا باعتبار العادة فلا مفهوم له، فوأد الأبناء مثله، فلو أن الإنسان قتل أبناءه خوفًا من ضيق المعيشة فهو مثل وأد البنات تمامًا. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 279).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
خص النهى عن الوأد للبنات؛ لأن ذلك كانت عادة العرب، إنما كانوا يخصون به الإناث للغيرة عليهن، ومنهم من كان يفعله في الشدائد وخشية الإملاق، كما قال الله تعالى (يعني: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} الإسراء:31)، وكانوا يتجملون بالذكران ويجملون مؤنثهم بكل حال لرغبتهم في شدة العضد وكثرة العدد. إكمال المعلم (5/ 570).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وإنما خص البنات بالذكر؛ لأنه كان الغالب من فعلهم؛ لأن الذكور مظنة القدرة على الاكتساب. فتح الباري (10/407).

قوله: «ومنعًا وهات»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ومنعًا وهات» وقع في رواية غير أبي ذر وفي الاستقراض «ومنع» بغير تنوين، وهي في الموضعين بسكون النون مصدر منع يمنع، وأما «هات» فبكسر المثناة فعل أمر من الإيتاء، قال الخليل: أصل هات آت فقلبت الألف هاء. فتح الباري (10/ 406).
وقال العيني -رحمه الله-:
وقال ابن التين: وضبط «منع»، بغير ألف، وصوابه: «منعًا»، بالألف؛ لأنه مفعول حرم. عمدة القاري (12/ 248).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ومنع» ما عليكم إعطاؤه، ولأبي ذر والأصيلي: «ومنعًا»، وفي بعضها بدون ألف بالتنوين على اللغة الربيعية. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (9/ 6).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ومنع» يروى على بناء الماضي وعلى المصدر.
«وهات» اسم فعل بمعنى: أعطني؛ عبَّر بهما عن البخل والمسألة، وقيل: منع الواجب من الحقوق وأخذ ما لا يحلُّ من أموال الناس. شرح المصابيح (5/ 277).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«ومنعًا» بالنصب.
«وهات» مبنيٌّ على الكسر، أي: منع ما يجب عليه إعطاؤُه من الحُقوق، وطلَب ما لا يحلُّ له من أموال النَّاس.اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (7/ 394-395).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ومنع» بفتحات بغير صرف، ولأبي ذر: «ومنعًا» بسكون النون مع تنوين العين، أي: وحرم عليكم منع الواجبات من الحقوق.
«وهات»...أي: وحرم أخذ ما لا يحل من أموال الناس، أو يمنع الناس رفده ويأخذ رفدهم. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (4/ 229).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ومنع» بسكون النون ويفتح وبفتح العين على أنه مصدر أو ماض، وفي رواية الجامع الصغير: «ومنعًا» بالتنوين «وهات» بكسر التاء هو اسم فعل بمعنى أعط، وعبر بهما عن البخل والسؤال أي: كره أن يمنع الرجل ما عنده ويسأل ما عند غيره، قيل: ولم ينون على رواية المصدر؛ لأن المضاف إليه محذوف منه مرادا. مرقاة المفاتيح (7/ 3081-3082).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ومنعًا» بسكون النون مع تنوين العين وهذه رواية البخاري لأبي ذر، وفي رواية للبخاري بالسكون أيضًا بغير تنوين. فيض القدير (2/ 227).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
«هاتِ»، ففعلُ أمرٍ من يُهاتي؛ مثل: يرامي، يقال: هاتِ يا رجل -بكسر التاء-؛ أي: أعطني، وللاثنين: هاتِيا؛ مثل رامِيا، والجمع هاتُوا، وللمرأة هاتي -بإثبات الياء-، مثل: عاطي، وللمرأتين هاتِيا، كالمذكَّرين؛ وللنساء: هاتِينَ؛ مثل: عاطِينَ، وتقول: هاتِ لا هاتَيْتَ، وهاتِ إن كانتْ بكَ مهاتاةٌ، وما أُهاتيك؛ مثل: ما أعاطيك، ولا يقال منه: هاتَيْتُ، ولا يُنهى بها؛ أي: لا يقال: لا تُهاتِ، وهذا راجع إلى السماع.
قال الخليل: هات، من أتى يُؤْتي، فقلبت الألف هاءً.
فهات على هذا في الحديث على الحكاية؛ كما تقدم في «قيل» فيمن فتح اللام. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (2/ 579).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «وهات» فإن قلتَ: كيف صح عطفه على منعُا؟
قلتُ: تقديره هات أو هو باعتبار لازم معناه وهو الأخذ. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (10/ 207).
قال العيني -رحمه الله- معلقًا على كلام الكرماني -رحمه الله-:
قلتُ: لأن معنى هات أعطني، ومن لازم العطاء الأخذ، تقول: هات يا رجل، بكسر التاء، وللإثنين: هاتيا، مثل إيتيا، وللجمع: هاتوا، وللمرأة: هاتي، بالياء، وللمرأتين: هاتيا وللنساء: هاتين، مثل: عاطين. عمدة القاري (12/ 247-248).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وهات» بكسر التاء فعل أمر من الإيتاء، وقال الخليل: أصل هات آت فقلبت الهمزة هاء، وقال بعضهم: فقلبت الألف وهذا غلط لا يخفى. عمدة القاري (22/ 87).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وهات» بكسر آخره فعل أمر من الإيتاء، والأصل: آت، فقلبت الهمزة هاء، أي: وحرّم عليكم طلب ما ليس لكم أخذه. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (9/ 6).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وقوله: «ومنعًا وهات» يريد منع الواجب عليك من الحقوق، وأخذ مالًا يحل لك من أموال الناس. أعلام الحديث (2/ 1203).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
عبر بالكلمتين «منع وهات» عن البُخل والمسألة، أي: كره أن يمنع الرجل ما عنده، ويسأل ما عند غيره. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 1065).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«ومنعًا وهات» أي: معنى هاتين الكلمتين بألا يراعوا قانون الشرع، وانتصاب منعًا على أنه مفعول حرم؛ والتقدير: حرم عليكم منعًا، وقولكم: هات؛ أيّ منع كان إذا لم يكن على وفق الشرع.الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (5/ 92).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وقوله: «ومنع وهات» يعنى: أن يمنع الناس خيره ورفده، ويأخذ منهم رفدهم. شرح صحيح البخاري (6/ 531).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقوله: «ومنع وهات»، وفى الرواية الأخرى: «ولا وهات» وهما بمعنى، فحرم منع الحقوق والبخل بها، وطلب ما لا يجب للإنسان طلبه، وأخذ ما لا يحل له، ولا يصح لفظ: «حرم» إلا في مثل هذا، وهو من معنى ما كره من كثرة السؤال، ومما يقوى أحد التأويلات فيه: أنه في الأحوال بمعنى: هات هنا، لكن لفظ: «كره» هناك أوسع؛ لأنها تقع على ما ذكرناه هنا مما يحرم، وعلى ما يجب التنزه عنه من سؤال ما يستفتي الإنسان عنه، ولا تدعو ضرورة إليه مما يباح ويحل، لكن جمعهما في الحديث الآخر، فدل أنهما المعنيين؛ إذ تكرار الكلمتين في كلام واحد بمعنى واحد ليس من جيد الكلام، ولا من نمط كلامه -صلى الله عليه وسلم-.
وتخصيصه في أحد الروايات بعضهما بأن الله حرم، وبعضهما بأن الله نهى إبانة لفصل ما بين هذه الممنوعات، وتفريق حكمها من التحريم والتنزيه، وأن الثلاث: الأول: من العقوق، والوأد، والمنع وهات محرمات، ولا مرية أن العقوق والقتل من الكبائر الموبقات، وكذلك منع حقوق الله من الزكوات، وحقوق عبادة الواجبات، وأخذ شيء منها لمن لا يحل له من المحرمات، ثم جاء النهي عن الثلاث الأُخر من الشغل بقيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، على التنزيه والحض.
ويخرج من تفريق النبي -صلى الله عليه وسلم- بين لفظ التحريم والنهي الحجة لمن يقول: إن مجرد النهي بلفظه أو صيغته لا يقتضي الوجوب إلا بدليل. إكمال المعلم (5/ 571).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «ومنعًا وهات»، وفي الرواية الأخرى: «ولا وهات» ومعناهما واحد، وهو أن يمنع ما يجب عليه بذله، ويطلب شيئًا يحرم عليه طلبه، هذا إن حملنا «كره» على معنى: «حرَّم»، كما قد بيَّنَّاه، حيث فَسَّر «كره» بمعنى: «سخط» وعدل عن لفظ هذا الحديث عن لفظ: «حرَّم» الذي ذكره قبل هذا اللفظ؛ لأنَّ تلك الأمور التي قرن بها لفظ: «حرم» أفحش وأكبر من هذه الأمور التي قرن بها لفظ «كره»، وقد قيل: إن الكراهة هنا من باب التنزيه، وفيه بُعدٌ لما بيَّنَّاه في إضاعة المال. المفهم (5/ 166).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وقوله: «وَمنع وهات»، يَعْنِي منع مَا على الْإِنْسَان من الْحُقُوق والواجبات، وطلب ما لا يحل له أَخذه من أموال النَّاس.
‌قال ‌ابن ‌منصور: ‌قلت ‌لأحمد ‌بن ‌حنبل: ‌ما ‌معنى ‌منع ‌وهات؟ ؟ قال: أَن تمنع مَا عنْدك، ولا تصدق، ولا تُعْطِي، وتمد يدك فتأخذ من النَّاس. كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 102-104).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وقوله: «ومَنْعٍ وهات» وهذا النهي راجع إلى السؤال الصحيح وغير الصحيح بالمنع والإعطاء، وحينئذٍ يحتمل وجهين:
أحدهما: النهي عن المنع حيث يؤمر بالإعطاء، وعن السؤال حيث يمنع منه، فيكون كل واحد منهما مخصوصًا بصورة غير صورة الآخر.
الثاني: أن يجمعا في صورة واحدة لا تعارض بينهما، فيكون وظيفة الطالب ووظيفة المعطي ألا يمنع إن وقع السؤال، وهذا لا بد أن يستثنى منه، أما إذا كان المطلوب محرمًا على الطالب، فإنه يمتنع على المعطي إعطاؤه؛ لكونه معينًا على الإثم، ويحتمل أن يكون ذلك محمولًا على الكثرة من السؤال، والعبارة الواضحة في ذلك النهيُ عن منع ما أمر بإعطائه، وطلب ما لا يستحق أخذه، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (2/ 654).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ومنع» أي: وحرم عليكم منع ما عليكم إعطاؤه، قوله: «وهات» أي: وحرم عليكم طلب ما ليس لكم أخذه، وقيل: نهى عن منع الواجب من ماله وأقواله وأفعاله وأخلاقه من الحقوق اللازمة فيها، ونهى عن استدعاء ما لا يجب عليهم من الحقوق، وتكليفه إياهم بالقيام بما لا يجب عليهم، فكأنه ينتصف ولا ينصف، وهذا من أسمج الخلال، وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد بن حنبل: ما معنى منع وهات؟
قال: أن تمنع ما عندك فلا تتصدق ولا تعطي فتمد يدك فتأخذ من الناس. عمدة القاري (12/ 248).
وقال النووي -رحمه الله-:
ومعنى الحديث: أنه نهى أن يمنع الرجل ما توجه عليه من الحقوق، أو يطلب ما لا يستحقه، وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: «حرم ثلاثًا، وكره ثلاثًا» دليل على أن الكراهة في هذه الثلاثة الأخيرة للتنزيه لا للتحريم، والله أعلم. شرح النووي على مسلم (12/ 12).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا على كلام النووي -رحمه الله-:
قوله: "لا للتحريم" محل تأمل، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (30/ 106).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والحاصل من النهي منع ما أمر بإعطائه، وطلب ما لا يستحق أخذه، ويحتمل: أن يكون النهي عن السؤال مطلقًا...، ويكون ذكره هنا مع ضده ثم أعيد تأكيدًا للنهي عنه، ثم هو محتمل أن يدخل في النهي ما يكون خطابًا لاثنين كما ينهى الطالب عن طلب ما لا يستحقه، وينهى المطلوب منه عن إعطاء ما لا يستحقه الطالب؛ لئلا يعينه على الإثم. فتح الباري (10/ 406).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«ومنعًا وهات» يعني أن يكون الإنسان جموعًا منوعًا؛ يمنع ما يجب عليه بذله من المال، ويطلب ما ليس له، فهات: يعني أعطوني المال، ومنعًا: أي يمنع ما يجب عليه، فإن هذا أيضًا مما حرمه الله -عز وجل-؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يمنع ما يجب عليه بذله من الله، ولا يجوز أن يسأل ما لا يستحق، فكلاهما حرام، لهذا قال: «إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا وهات». شرح رياض الصالحين (3/ 211).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
«ومنعًا وهات» يعني: لا يخرج شيئًا من ماله، وبالنسبة لأموال الناس هات، مثل النار، كل من وجد يقول له: بارك الله فيك الصدقة محبوبة إلى الله وأنا رجل قليل ذات اليد وليس بيدي شيء، يعني: يده التي أمامه الآن لا يوجد فيها شيء، يستجدي الناس بمثل هذا، وربما يكذب يقول: لي أولاد ولي عائلة، وإذا أردنا أن نأخذ منه شيئًا لا يخرج بل تجده يقول: هذا ممنوع فهو -والعياذ بالله- جموع منوع. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/ 279).

قوله: «وكرِهَ لكم ثلاثًا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وكره» بكسر الراء، وفي نسخة بتشديدها مع فتحها، في القاموس: كرهه كسمعه وكرهه إليه تكريهًا صيره كريهًا «لكم» أي: لأجلكم «قيل وقال» بصيغة المجهول والمعلوم للماضي. مرقاة المفاتيح (7/ 3082).
وقال عبدالحق الدهلوي -رحمه الله-:
وقوله: «وكرّه» الرواية بتشديد الراء، وذكر الحرمة في الأول والكراهة في الثاني؛ لشدة الإثم وقوته في الأول، ومع ذلك نبه بتشديد الراء على الشدة والكراهة قريبًا من الحرمة، على أنه قد تجيء الكراهة بمعنى الحرمة، ففي العبارة تفنن، واللَّه أعلم. لمعات التنقيح (8/ 210).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وكره لكم»، كره وحرم ليس بينهما فرق؛ لأن الكراهة في لسان الشارع معناها التحريم، ولكن هذا -والله أعلم- من باب اختلاف التعبير فقط. شرح رياض الصالحين (3/ 211).

قوله: «قِيلَ وَقَالَ»:
قال عبدالحق الدهلوي -رحمه الله-:
و«قيل وقال» بفتح اللام على حكاية صيغة الفعل الماضي مع تضمنه الضمير على ما هو طريقة حكاية الجملة، وهي الرواية في الحديث، وقد يجري مجرى الأسماء بعدم اعتبار الضمير، فينونان أو يعرفان بالألف واللام. لمعات التنقيح (8/ 210).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«وقيل وقال» يحتمل: أن يكونا على بناء الماضي، ويحتمل: أن يكونا مصدرين، يقال: قلت قولًا وقيلًا.
وقالًا وقد أتى بالمصدرين إما إرادة التأكيد، وإما للدلالة على كراهة المقاولة والمنازعة في القول، وأقلُّ ما يوجد ذلك بين الاثنين، وإذا كانا على بناء الماضي ففيهما تنبيه على ترك الخوض في اقتصاص أخبار الناس وتتبع أحواهم وحكاية أقوالهم. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 1065-1066).
وقال النووي -رحمه الله-:
واختلفوا في حقيقة هذين اللفظين على قولين:
أحدهما أنهما فعلان، فقيل مبنى لما لم يسم فاعله، وقال فعل ماض.
والثاني: أنهما اسمان مجروران منونان؛ لأن القيل والقال والقول والقالة كله بمعنى، ومنه قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} النساء:122، ومنه قولهم: كثر القيل والقال. شرح النووي على مسلم (12/ 11).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «وكره لكم قيل وقال» في رواية الشعبي: «وكان ينهى عن قيل وقال» كذا للأكثر في جميع المواضع بغير تنوين، ووقع في رواية الكشميهني هنا: «قيلًا وقالًا» والأول أشهر، وفيه تعقب على من زعم أنه جائز، ولم تقع به الرواية.
قال الجوهري: «قيل وقال» اسمان يقال: كثير القيل والقال كذا جزم بأنهما اسمان، وأشار إلى الدليل على ذلك بدخول الألف واللام عليهما.
وقال ابن دقيق العيد: لو كانا اسمين بمعنى واحد كالقول لم يكن لعطف أحدهما على الآخر فائدة، فأشار إلى ترجيح الأول.
وقال المحب الطبري: في قيل وقال ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهما مصدران للقول، تقول: قلتُ قولًا وقيلًا وقالًا، والمراد في الأحاديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام؛ لأنها تؤول إلى الخطأ، قال: وإنما كرره للمبالغة في الزجر عنه.
ثانيها: إرادة حكاية أقاويل الناس، والبحث عنها؛ ليخبر عنها فيقول: قال فلان كذا، وقيل كذا، والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه، وإما لشيء مخصوص منه، وهو ما يكرهه المحكي عنه.
ثالثها: أن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدين كقوله: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، ومحل كراهة ذلك أن يكثر من ذلك بحيث لا يؤمن مع الإكثار من الزلل، وهو مخصوص بمن ينقل ذلك من غير تثبت، ولكن يقلد من سمعه ولا يحتاط له، قلتُ: ويؤيد ذلك الحديث الصحيح: «كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع» أخرجه مسلم. فتح الباري (10/ 407).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «قيل» وقال» فيه ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون كلاهما مصدرين، يقال: قال قولًا وقيلًا وقالًا، ولم يكتبا بالألف؛ لأنها لغة ربيعة، وفي التوضيح كذا رويناه بغير صرف، يعني: بغير تنوين، ويروى بالتنوين.
قلتُ: الأصل أن يكون بالتنوين؛ لأنه اسم وقع مفعولًا وحقه النصب بالتنوين، ومعناه: النهي عن كثرة القول فيما لا يعني، وكرر للتأكيد.
الثاني: أن يكون كلاهما فعلين:
الأول: مجهول الفعل الماضي.
والثاني: معلوم الماضي، وهما مبنيان متضمنان للضمير، ومعناه: قِيل لفلان كذا، وقال فلان كذا، وذلك للزجر عن الاستكثار.
الثالث: أن يكونا حكاية أقاويل الناس: قال فلان كذا، وقيل كذا، أو في أمور الدين بأن ينقل من غير احتياط ودليل. عمدة القاري (22/ 87).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي شرح المشكاة قوله: «قيل وقال» من قولهم: قيل كذا، وقال كذا، وبناؤهما على كونهما فعلين محكيين متضمنين للضمير والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خلوين من الضمير، ومنه قوله: «إنما الدنيا قيل وقال» وإدخال حرف التعريف عليهما في قوله: ما يعرف القال القيل لذلك. فتح الباري (10/ 407).
وقال الزركشي -رحمه الله-:
«وكره لكم قيل وقال» المشهورُ عند أهل اللغة في هاتين الكلمتين أنهما اسمان معربان، ويدخلُهما الألف واللام، والمشهورُ في هذا الحديث بناؤهما على الفتح على أنهما فعلان ماضيان، فعلى هذا يكون التقدير: ونهى عن قولِ: قيلَ وقالَ، وفيهما ضمير فاعل مستتر، ولو روي بالتنوين لجاز. التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح (3/ 1152).
وقال الدماميني -رحمه الله- متعقبًا قول الزركشي:
قلتُ: لا حاجةَ إلى ادعاءِ استتارِ ضمير فيهما، بل هما فعلان ماضيان على رأي ابنِ مالكٍ في جواز جريانِ الإسناد إلى الكلمةِ في أنواعها الثلاثة؛ نحو: زَيدٌ ثُلاثيٌّ، وضربَ فعلٌ ماضٍ، ومِنْ حرفُ جَرًّ، ولا شك أنهما مسندٌ إليهما في التقدير؛ إذ المعنى: قيلٌ وقالٌ كرهَهُما -عليه الصلاة والسلام-، أو اسمان عند الجمهور، والفتحُ على الحكاية، ‌وينكرون ‌أن ‌يكون غير ‌الاسم مسندًا إليه، كما هو مقرر في محله. مصابيح الجامع (9/ 298).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وكره لكم قيل وقال» أي: نهى عن فضول ما يتحدث به المجالسون من قولهم: قيل كذا، وقال كذا، وقيل: المراد بهما النهي عن القول بما لا يصح ولا تُعلم حقيقته، وقيل: أراد النهي عن كثرة الكلام مبتدئًا ومجيبًا؛ لأنَّ كثرته تورث قساوة القلب. شرح المصابيح (5/ 277).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «كره قيل وقال» يتأول على وجهين:
أحدهما: أن يراد به حكاية أقاويل الناس، وأحاديثهم، والبحث عنها، والتتبع لها، فتنمي عليهم، فيقال: قال فلان كذا، وقيل لفلان كذا، مما لا يغني ولا يجدي خيرًا، إنما هو الولوع بها، والشغف بذكرها، وهو من باب التجسس المنهي عنه.
وقد يتأول أيضًا على ما كان منه في أمر الدين، فيقول: قيل فيه كذا، وقال فلان كذا، لا يرجع فيه إلى ثبت يقين، لكن يقلد ما يسمعه، ولا يحتاط لموضع اختياره من تلك الأقاويل والمذاهب، فلا يعتقد صحتها بحجة وبيان. أعلام الحديث (2/ 806).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وقال مالك في قوله: «قيل وقال» وهو الإكثار من الكلام والإرجاف، نحو قول الناس: أعطى فلان كذا ومنع كذا، والخوض فيما لا يعنى. وقال أبو عبيد في قوله: «قيل وقال» كأنه قال من قول وقيل، يقال: قلت قولًا وقيلًا وقالًا، وقرأ ابن مسعود: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} مريم:34 يعنى: قول الحق. شرح صحيح البخاري (6/ 531).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
أما «قيل وقال» ‌فالمراد ‌به ‌حكاية ‌ما ‌لا ‌يعلم ‌صحته؛ ‌فإن ‌الحاكي ‌يقول: قيل وقال. كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 102).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما «قيل وقال» فهو الخوض في أخبار الناس وحكايات ما لا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم. شرح النووي على مسلم (12/ 11).
وقال المظهري -رحمه الله-:
وكَرِهَ الله لكم التحدُّثَ بالحكايات التي ليس فيها ثوابٌ ولا ضرورةَ لكم فيها؛ لأن كثرةَ الكلام قسوةٌ للقلوب. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 203).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
ثم إما أن يراد بهما حكاية أقاويل قال فلان كذا، وقيل كذا، أو أمور الدين بأن ينقل من غير احتياط ودليل. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (21/ 151).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
والمراد به نقل الكلام الذي يسمعه إلى غيره، فيقول: قيل كذا وكذا بغير تعيين القائل، وقال فلان كذا وكذا، وإنما نهى عنه؛ لأنه من الاشتغال بما لا يعني المتكلم، ولكونه قد يتضمن الغيبة والنميمة والكذب ولا سيما مع الإكثار من ذلك قلَّمَا يخلو عنه. سبل السلام (2/ 630).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«كره لكم قيل وقال» يعني نقل الكلام، وكثرة ما يتكلم الإنسان ويثرثر به، وأن يكون ليس له هَمٌّ إلا الكلام في الناس، قالوا كذا، وقيل كذا، ولا سيما إذا كان هذا في أعراض أهل العلم، وأعراض ولاة الأمور، فإنه يكون أشد وأشد كراهة عند الله -عز وجل-.
والإنسان المؤمن هو الذي لا يقول إلا خيراً كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت». شرح رياض الصالحين (3/ 211).
قال عبدالحق الدهلوي -رحمه الله-:
والمراد النهي عما هو عادة الناس في المجالسة من التحدث بفضول الكلام وأراجيفه من غير قصد إلى بحث وتحقيق، وقيل: المراد النهي عن الإكثار في الكلام المتجاوز عن الحد؛ فإنه يقسي القلب ويضيع الوقت. لمعات التنقيح (8/ 210).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وكره» تعالى «لكم قيل وقال» وهو ما يكون من فضول المجالس مما يتحدث به فيها كقيل كذا، وكذا مما لا يصح، ولا تعلم حقيقته، وربما جرّ إلى غيبة أو نميمة، أما من قال: ما يصح وعرف حقيقته، وأسنده إلى ثقة صدوق، ولم يجر إلى منهي عنه فلا وجه لذمه. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (9/ 6-7).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
ونبه به على وجوب تجنب التبرع بنقل الأخبار لما فيه من هتك الأستار وكشف الأسرار، وذلك ليس من دأب الأخيار، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، والله سبحانه ستار والستر لا يحصل مع كثرة نقل الأخبار، ودل على إرادة النهي عن الإكثار عطفه، قال على قيل وهو من حسن الاعتبار، والقول بأن المراد الأقوال الواقعة في الدين كأن تقول: قال أهل السنة: كذا، والحكماء ولا يبين الأقوى، أو بقيل الجواب، وقال: الابتداء بعيد ويخص من هذا النقل؛ لضرورة أو حاجة سيما إذا كان عن ثقة. فيض القدير (2/ 227).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«قيل وقال» يعني: قيل كذا وقال فلان كذا، هل المعنى كثرة الخوض في الناس؟ وماذا قيل في فلان؟ وماذا قال الناس؟ أو المعنى أن ينقل الشيء بدون تثبت؟
كلاهما؛ الإنسان كره الله له أن يكون ليس له هم إلا قيل وقال، ولا سيما إذا كان في أمور العقائد فإنه أشد وأقبح، كما يوجد الآن في كتب أهل الكلام والفلاسفة؛ ولهذا قال بعضهم:
نهاية إقدام العقول عِقال *** وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشةٍ من جسُومنا *** وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه قيل وقال.
هذا من كبرائهم، ويقول هذا الكلام: ما استفدنا إلا قيل وقال!
تأتي مثلًا كتب كثيرة كلها قال فلان، وقيل عن فلان، مع أنه يغني عنها قليل من القول. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 279).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«كَره» مقصودًا حكايتهما، والمعنى: نهى عن فضول ما يتحدث به الجالسون من قولهم: قيل كذا وقال فلان كذا. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/ 307).

قوله: « وكثرة السؤال»:
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
أما كثرة السؤال ففيه وجهان:
أحدهما: كثرة السؤال للرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه قد قال: " ذروني ما تركتكم "؛ ‌فإنه ‌ربما ‌سألوا ‌فأجيبوا ‌بما ‌لا ‌يطيقونه ‌من ‌المفروض. والثاني: سؤال الناس؛ فإن من قصد سد الفاقة لم يكثر السؤال.. كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 103).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«وكثرة السؤال» يحتمل: أن يكون كثرة السؤال عن أحوال الناس، ويحتمل: أن يكون عن المسائل فإنه يفضي به إلى ما لا يعنيه.
ولا أرى حمله على سؤال المال: فإن ذلك مكروه، وإن لم يبلغ حد الثرة. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 1066).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وأما «كثرة السؤال» فإنه يدخل فيها أمور:
منها: سؤال الناس أموالهم، والتعرض لما في أيديهم، والاستكثار منه على مذهب الشره والجشع، وترك الاقتصار منه على قدر الحاجة في حال الضرورة.
ومنها: أن يكون ذلك في سؤال المرء عما نهي عنه من متشابه أمور الدين التي قد تعبدنا بالظاهر منها، فلا يعرف عللها على مذاهب أهل الزيغ والتشكك، وبغاة الفتنة الذين وصفهم الله في قوله -عز وجل-: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} آل عمران:7.
ومنها: ما كانوا يسألون عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أمور لم يكن بهم إليها حاجة، فتنزل بهم البلوى فيها، كمن سأل عن الرجل يجد مع أهله رجلًا، قال سهل بن سعد الساعدي: فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسائل وعابها، فروي أن الرجل لم يلبث أن ابتلي بذلك، وكما رُوي من قيام الرجل إليه، فقال: من أبي يا رسول الله؟ فغضب، وقال: «فلان»، وكما روي أنه قال: «إن أشد الناس جرمًا في الإسلام مَن سأل عن أمر لم يكن حرمًا فحرُم لأجل مسألته».
قلتُ: وقد جاءت المسائل في كتاب الله -عز وجل- على ضربين:
أحدهما: محمود، كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} البقرة:189، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ...} البقرة:222 الآية، {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} البقرة:219 في نحوها من الأشياء التي بهم إليها حاجة في أمر دينهم، وإليها مرجع قوله -عز وجل-: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} النحل:43.
والضرب الآخر منهما: مذموم، كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} النازعات:42-44، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} الإسراء:85، وما أشبه ذلك مما لا ضرورة بهم إلى علمه، وإليه مرجع قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} المائدة:101. أعلام الحديث (2/ 806-808).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وأمّا «كثرة السؤال» فقال مالك: لا أدرى أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل فقد كره رسول الله المسائل وعابها أو هو مسألة الناس أموالهم. شرح صحيح البخاري (6/ 531).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما «كثرة السؤال» فقيل: المراد به القطع في المسائل والإكثار من السؤال عما لم يقع ولا تدعو إليه حاجة، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك، وكان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف المنهي عنه، وفي الصحيح كره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسائل وعابها.
وقيل: المراد به سؤال الناس أموالهم وما في أيديهم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك.
وقيل: يحتمل أن المراد كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان وما لا يعني الإنسان، وهذا ضعيف؛ لأنه قد عرف هذا من النهي عن قيل وقال.
وقيل: يحتمل أن المراد كثرة سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمره، فيدخل ذلك في سؤاله عما لا يعنيه، ويتضمن ذلك حصول الحرج في حق المسؤول فإنه قد لا يؤثر إخباره بأحواله فإن أخبره شق عليه، وإن كذبه في الإخبار أو تكلف التعريض لحقته المشقة، وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب. شرح النووي على مسلم (12/ 11).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وأما «وكثرة السؤال» ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون ذلك راجعًا إلى الأمور العلمية. وقد كانوا يكرهون تكلف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أعظمُ الناسِ جُرْمًا عندَ الله من سألَ عن شيء لم يُحَرَّمْ على المسلمين، فَحُرِّمَ عليهم من أجلِ مسألته»، وفي حديث اللعان لما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يجد مع امرأته رجلًا، فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسائلَ وعابها.
وفي حديث معاوية -رضي الله عنه-: أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الأغلوطات، وهي شِدادُ المسائل وصِعابُها، وإنما كان ذلك مكروهًا؛ لما يتضمن كثيرًا من التكاليف في الدين، والتّنطع والرجم بالظن من غير ضرورة تدعو إليه، مع عدم الأمن من العثار وخطأ الظن، والأصلُ المنعُ من الحكم بالظن، إلا حيث تدعو الضرورة إليه.
الوجه الثاني: أن يكون ذلك راجعًا إلى سؤال المال، وقد وردت أحاديث في تعظيم مسألة الناس، ولا شك أن بعض سؤال الناس أموالهم ممنوع، وذلك حيث يكون الإعطاء بناء على ظاهر الحال، ويكون الباطن خلافه، أو يكون السائل مخبرًا عن أمر هو كاذب فيه: قد جاء في السنة ما يدل على اعتبار ظاهر الحال في هذا، وهو ما روي: «أنه مات رجل من أهل الصفة وترك دينارين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: كيتان»؛ وإنما كان ذلك -والله أعلم- لأنهم كانوا فقراء مجردين، يأخذون ويتصدق عليهم، بناء على الفقر والعدم، وظهر أن معه هذين الدينارين، على خلاف ظاهر حاله.
والمنقول عن مذهب الشافعي: جواز السؤال، فإذا قيل بذلك: فينبغي النظر في تخصيص المنع بالكثرة فإنه إن كانت الصورة تقتضي المنع، فالسؤال ممنوع كثيره وقليله وإن لم تقتض المنع، فينبغي حمل هذا النهي على الكراهة للكثير من السؤال، مع أنه لا يخلو السؤال من غير حاجة عن كراهة فتكون الكراهة في الكثرة أشد، وتكون هي المخصوصة بالنهي، وتبين من هذا: أن من يكره السؤال مطلقًا -حيث لا يحرم- ينبغي أن لا يحمل قوله: «كثرة السؤال» على الوجه الأول المتعلق بالمسائل الدينية، أو يجعل النهي دالا على المرتبة الأشدية من الكراهة. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 322-323).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «وكثرة السؤال» بيان الاختلاف في المراد منه، وهل هو سؤال المال أو السؤال عن المشكلات والمعضلات، أو أعم من ذلك، وأن الأولى حمله على العموم، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به كثرة السؤال عن أخبار الناس، وأحداث الزمان أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله فإن ذلك مما يكره المسؤول غالبًا، وقد ثبت النهي عن الأغلوطات أخرجه أبو داود من حديث معاوية، وثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر جدًا، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع والقول بالظن إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ، وأما ما تقدم في اللعان فكره النبي -صلى الله عليه وسلم- المسائل وعابها، وكذا في التفسير في قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} المائدة:101، فذلك خاص بزمان نزول الوحي، ويشير إليه حديث «أعظم الناس جرمًا عند الله من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته»، وثبت أيضًا ذم السؤال للمال، ومدح من لا يلحف فيه كقوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} البقرة:273، وتقدم في الزكاة حديث: «لا تزال المسألة بالعبد حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزْعة لحم» وفي صحيح مسلم «إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقر مُدقع، أو غُرم مُفْظِع، أو جائحة»، وفي السنن قوله -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله»، وفي سنن أبي داود: «إن كنت لا بد سائلًا فاسأل الصالحين»، وقد اختلف العلماء في ذلك، والمعروف عند الشافعية أنه جائز؛ لأنه طلب مباح فأشبه العارية، وحملوا الأحاديث الواردة على من سأل من الزكاة الواجبة ممن ليس من أهلها. فتح الباري (10/ 407-408).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«وكثرة السؤال» يعني: كثرة السؤال من العلماء فيما لا حاجةَ لكم فيه من المعاندة والمعارَضة، فأما إذا سألتم ما تحتاجون إليه، وما في تعلُّمهِ خيرٌ وثوابٌ، فلا يُكْرَه كثرةُ السؤال من هذا العلم، بل يُستحَبُّ. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 204).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وكثرة السؤال» أي: من العلماء فيما لا حاجة فيه للمعاندة والمعارضة، أو هي مسألة الناس أموالَهم، أو السؤالُ عن أمورهم وكثرةُ البحث عنها. شرح المصابيح (5/ 277).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وكثرة السؤال» في العلم للامتحان وإظهار المراء، أو مسألة الناس أموالهم، أو عما لا يعني، وربما يكره المسؤول الجواب فيفضي إلى سكوته فيحقد عليهم أو يلتجئ إلى أن يكذب، وعد منه قول الرجل لصاحبه أين كنت؟
وأما المسائل المنهي عنها في زمنه -عليه الصلاة والسلام- فكان ذلك خوف أن يفرض عليهم ما لم يكن فرضًا، وقد أمنت الغائلة. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (4/ 229).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وكثرة السؤال» عن أحوال الناس أو عما لا يعنى، أو عن المسائل العلمية امتحانًا وفخرًا وتعاظمًا. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 251).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«وكثرة السؤال» عن أحوال الناس، أو عن ما لا يعني، فربما كره المسؤول الجواب فيؤدي لسكوته فيجر للحقد والضغائن، أو يلجئه إلى الكذب، قالوا: ومنه: أين كنت؟ أو المراد السؤال عن المسائل العلمية امتحانًا وإظهارًا للمِراء وادعاء وفخرًا، ولا يُحمل على سؤال الناس من أموالهم لكراهته وإن قل. فيض القدير (2/ 227).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وقوله: «وكثرة السؤال» أراد بها كثرة السؤال عن أحوال الناس وتفتيشها والتجسس عن أمورهم، أو كثرة السؤال في العلم للامتحان وإظهار الفضيلة والخصومة والجدال، أو كثرة سؤال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الموجب لمشقته وتأذيه، والباعث على التضييق والتشديد في الأحكام، وقيل: أراد كثرة مسألة الناس أموالهم، ولا يفيد على هذا الوجه قيد الكثرة؛ فإنها منهي عنها مطلقًا كثيرة كانت أو قليلة من غير ضرورة، اللهم إلا أن يراد بالكثرة إشاعتها وتكثيرها؛ بأن تكون لضرورة أو لغيرها، وأيضًا النهي عن هات بإطلاقه شامل لهذا المعنى، فيلزم التكرار. لمعات التنقيح (8/ 210-211).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وقوله: «وكثرة السؤال» هو السؤال للمال، أو عن المشكلات من المسائل، أو مجموع الأمرين وهو أولى، وتقدم في الزكاة مسألة: المال وقد نهى عن الأغلوطات. أخرجه أبو داود، وهي المسائل التي يغلط بها العلماء ليزلوا فينتج بذلك شر وفتنة. وإنما نهى عنها؛ لكونها غير نافعة في الدين ولا يكاد أن يكون إلا فيما لا ينفع، وقد ثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر وقوعها جدًا لما في ذلك من التّنطع والقول بالظن الذي لا يخلو صاحبه عن الخطأ.
وقيل: كثرة السؤال عن أخبار الناس، وأحداث الزمان، وكثرة سؤال إنسان معين عن تفاصيل حاله، وكان مما يكرهه المسؤول. سبل السلام (2/ 631).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قال: «وكثرة السؤال» يعني وكره لكم كثرة السؤال، يدخل في هذا سؤال المال، وسؤال العلم كما يدخل ذلك في قوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} الضحى:10، فكثرة السؤال حتى فيما يحل لك لا ينبغي مكروهة، أما ما لا يحل فظاهر أنه حرام حتى وإن قل السؤال، لكن كثرة السؤال فيما يحل، كثرة السؤال في العلم أيضًا، لكن كثرة السؤال في العلم فيها تفصيل، أما إذا قصد الإنسان الاستزادة من العلم فهذا مطلوب، والحديث لا يدل على النهي عنه، وأما إذا كان المقصود بذلك الأغلوطات، وإحراج المسؤول وإظهار أنه بحاثة فلا شك أنه داخل في الحديث، وأنه من أسباب الخطأ؛ لأن من كثر كلامه كثر خطؤه، ثم إن كثرة السؤال أيضًا تضجر المسؤول، وتوجب أن يكون منه نفور من السائل، وهذا ضرر على الطرفين: على السائل والمسؤول. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 279).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
أما كثرة السؤال ففي تأويله وجوه:
أحدها: السؤال عن أمور الناس وكثرة البحث عنها.
وثانيها: مسألة الناس من أموالهم.
ثالثها: كثرة السؤال في العلم للامتحان وإظهار المراء.
رابعها: السؤال عما لا يعني.
خامسها: كثرة سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان خشية أن يفرض ما ليس فرضًا، قال تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} المائدة:101.المنهل الحديث في شرح الحديث(2/ 308).

قوله: «وإضاعة المال»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
وأما قوله: «وإضاعة المال»، فهي على وجوه، جماعها الإسراف في النفقة، ووضعه في غير موضعه، وصرفه عن وجه الحاجة إلى غيره، كالإسراف في النفقة على البناء، ومجاوزة حد الاقتصاد فيه، وكذلك اللباس والفرش، وتمويه الأبنية بالذهب، وتطريز الثياب، وتذهيب سقوف البيت، فإن ذلك على ما فيه من التزين والتصنع إذا استعمل مرة لم يمكن بعد ذلك تخليصه وإعادته إلى أصله حتى يكون مالًا قائمًا.
ومن إضاعة المال تسليمه إلى من ليس برشيد، وفيه إثبات الحجر على المفسد لماله.
ويدخل في إضاعة المال احتمالُ الغبن في البياعات ونحوها من المعاملات.
ومن إضاعة المال سوء القيام على ما تملكه من المال، كالرقيق والدواب ونحوها التي إذا لم تتعهدها ضاعت، ويدخل في النهي عن إضاعة المال قسمة ما لا ينتفع به الشريك القاسم إذا تفرد نصيبه كاللؤلؤة، والسيف، والحمام، والطاحونة ونحوها من الأشياء، فإن القسمة في جميعها باطلة؛ لأنها إضاعة للمال، غير مفيدة نفعًا، ولا مثمرة خيرًا.
وفيه وجه آخر، ومذهب ثان: وهو أن يتخلى الرجل من ملكه وهو محتاج إليه، وهو أن ينفقه، أو يتصدق به، أو يطعمه الناس، يريد به المعروف، ولعله قد يكون عليه الدين يلزمه أن يخرج إلى أصحابه منه، فهذا قد ضيع ماله، وأموال أصحاب الحقوق التي عليه.
فأما صنيع أبي بكر -رضي الله عنه- في التخلي من ماله كله، فإنه لا يدخل في هذا لأنا قد استثنينا فيما قلناه موضع بقاء الحاجة من صاحبه إليه، وكان أبو بكر غنيًا عما أخرجه من يده، غير محتاج إليه؛ لقوة صبره، وحسن توكله، ومن في الأمة مثله حتى يقرن به، أو يقاس عليه؟ وإنما أنفقه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وقت خلة الدين وحاجة المسلمين في زمان لا مال لهم غير ماله، ولا خليل يقوم لهم في مثل مقامه.
وقد يحتمل أن يتأول معنى «إضاعة المال»: على العكس مما تقدم ذكره من الوجوه بأن يقال: إن إضاعة المال حبسه عن حقه، والبخل به عن أهله على معنى قول بعض حكماء الشعراء فيه:
وما ضاع مال أورث المجد أهله *** ولكن أموال البخيل تضيع. أعلام الحديث (2/ 808-810).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وأما ‌إضاعة ‌المال ‌فيكون من وجوه أمهاتها أربعة:
أحدهما: أن يتركه من غير حفظٍ له فيضيع.
والثاني: أن يتلفه إما بتركه إذا كان طعاما حتى يفسد، أو يرميه إن كان يسيرا كبرا عن تناول القليل، أو بأن يرضى بالغبن، أو بأن ينفق في البناء واللباس والمطعم ما هو إسراف.
والثالث: أن ينفقه في المعاصي، فهذا تضييع من حيث المعنى.
والرابع: أن يسلم مال نفسه إلى الخائن، أو مال اليتيم إليه إذا بلغ مع علمه بتبذيرهِ. كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 102).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
اختلف العلماء في إضاعة المال فقال سعيد بن جبير: إضاعة المال أن يرزقك الله رزقًا فتنفقه فيما حرم الله عليك. وكذلك قال مالك.
قال المهلب: وقيل: «إضاعة المال» السرف في إنفاقه وإن كان فيما يحل، ألا ترى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رد تدبير المُعْدِم؛ لأنه أسرف على ماله فيما يحل له ويؤجر فيه، لكنه أضاع نفسه، وأجره في نفسه، أوكد عليه من أجره في غيره.
واختلف العلماء في وجوب الحجر على البالغ المضيع لماله، فقال جمهور العلماء: يجب الحجر على كل مضيع لماله صغيرًا كان أو كبيرًا. رُويَّ هذا عن علي وابن عباس وابن الزبير وعائشة، وهو قول مالك والأوزاعي وأبى يوسف ومحمد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبى ثور.
وقالت طائفة: لا حجر على الحر البالغ. هذا قول النخعي وابن سيرين، وبه قال أبو حنيفة وزفر، قال أبو حنيفة: فإن حجر عليه القاضي ثم أقر بدين أو تصرف في ماله جاز ذلك كله.
واحتج بحديث الذي كان يخدع في البيوع فقال له -عليه السلام-: «إذا بايعت فقل: لا خلابة».
قال: ففي هذا الحديث وقوف النبي -عليه السلام- على أنه كان يخدع في البيع لم يمنعه من التصرف ولا حجر عليه، وحُجة الجماعة قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} النساء 5، فنهى تعالى عن دفع الأموال إلى السفهاء، وقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} النساء:6، فجعل شرط دفع أموالهم إليهم وجود الرشد، وهذه الآية محكمة غير منسوخة، ومن كان مبذرًا لماله فهو غير رشيد. شرح صحيح البخاري (6/ 528-529).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية، وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه إفساد والله لا يجب المفسدين؛ ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس. شرح النووي على مسلم (12/ 11).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وأما «إضاعة المال» فحقيقته المتفق عليها: بذلك في غير مصلحة دينية أو دنيوية وذلك ممنوع؛ لأن الله تعالى جعل الأموال قيامًا لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت لتلك المصالح، إما في حق مضيعها، أو في حق غيره.
وأما بذله وكثرة إنفاقه في تحصيل مصالح الأخرى فلا يمتنع من حيث هو وقد قالوا: لا سرف في الخير، وأما إنفاقه في مصالح الدنيا، وملاذ النفس على وجه لا يليق بحال المنفق، وقدر ماله: ففي كونه سفهًا خلاف، والمشهور: أنه سفه.
وقال بعض الشافعية: ليس بسفه؛ لأنه يقوم به مصالح البدن وملاذه، وهو غرض صحيح. وظاهر القرآن يمنع من ذلك، والأشهر في مثل هذا: أنه مباح، أعني إذا كان الإنفاق في غير معصية، وقد نوزع فيه. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 322).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
قوله: «وإضاعةِ المال» فمعناه: النهيُ عن إنفاقه في غير وجوهه المأذون فيها شرعًا، سواء كانت دينية أو دنيوية؛ لأن الله تعالى جعل الأموال قيامًا لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويتُ تلك المصالح المأذون فيها، إما في حق مضيعها، أو في حق غيره، أما بذله وإنفاقه كثيرًا في تحصيل مصالح الآخرة، فهو مطلوب محثوثٌ عليه بشرط إلَّا يبطل حقًّا أخرويًّا أهمَّ منه، وقد قال السلف: لا سرفَ في الخير، ولا خيرَ في السرف، وبذلُ المترفين من أهل الدنيا وإنفاقُهم -غالبًا- إنما هو فيما لم يأذن فيه الشرع، فيقدمون حظوظ نفوسهم في الأموال على حقوق الله تعالى فيها، فيقع الهلاك بعد الإمهال من غير إهمال؛ لأن فعلهم عين الإضاعة، والله أعلم.
وأما إنفاق المال في مصالح الدنيا وملاذٍّ النفس على وجه لا يليق بحال المنفق وقدرِ ماله، فإن كان لضرورة مداواة، أو دفع مفسدة تترتب، فليس بإسراف، وإلا ففي كونه إسرافًا فيه وجهان: المشهور أنه إسراف، وصحح الرافعي في المحرر الإسراف، ووجهه أنه يقوم مصالح البدن وملاذه، وهو غرض صحيح، لكنه يؤدي به الحال غالبًا إلى ارتكاب المحذور والذل، وما أدى إلى المحذور فهو محذور، وظاهر القرآن العظيم يقوي أنه إسراف في غير آية، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (2/ 650-651).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
التقسيم الحاصر فيه الحاوي لجميع الأقسام أن تقول: إن الذي يصرف إليه المال إما أن يكون واجبًا كالنفقة والزكاة ونحوهما، فهذا لا ضياع فيه، وهكذا إن كان مندوبًا إليه.
وإما أن يكون حرامًا أو مكروهًا، وهذا قليلة وكثرة إضاعة وسرف.
وإما أن يكون مباحًا ولا إشكال إلا في هذا القسم، إذ كثير من الأمور يعده بعض الناس من المباحات، وعند التحقيق ليس كذلك كتشييد الأبنية وتزيينها، والإسراف في النفقة، والتوسع في لبس الثياب الناعمة، والأطعمة الشهية اللذيذة، وأنت تعلم أن القسوة وغلظة الطبع يتولد من لبس الرقاق وأكل الرقاق، ويدخل فيه تمويه الأواني والسقوف بالذهب والفضة، وسوء القيام على ما يملكه من الرقيق والدواب حتى تضيع فتهلك، وقسمة ما لا ينتفع الشريك به كاللؤلؤة والسيف يكسران، وكذا احتمال الغبن الفاحش في البياعات، وإيتاء المال صاحبه، وهو سفيه حقيق بالحجر.
وهذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق الذي هو منبع جميع الأخلاق الحميد والخلال الحميدة. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3158).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
الأكثر حملوه على الإسراف في الإنفاق، وقيَّده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أُنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعًا، سواء كانت دينية، أو دنيوية، فمُنِع منه؛ لأنَّ الله تعالى جعل المال قيامًا لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح، إما في حق مضيِّعها، وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البرّ؛ لتحصيل ثواب الآخرة، ما لَمْ يفوت حقًّا أخرويًا أهم منه.
والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: ‌إنفاقه ‌في ‌الوجوه ‌المذمومة شرعًا، فلا شك في منعه.
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعًا، فلا شك في كونه مطلوبًا بالشرط المذكور.
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة، كملاذّ النفس، فهذا ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق، وبقَدْر ماله، فهذا ليس بإسراف.
والثاني: ما لا يليق به عُرفًا، وهو ينقسم أيضًا إلى قسمين:
أحدهما: ما يكون لدفع مفسدة، إما ناجزة، أو متوقَّعة، فهذا ليس بإسراف.
والثاني: ما لا يكون في شيء من ذلك، فالجمهور على أنَّه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف، قال: لأنه تقوم به مصلحة البدن، وهو غرض صحيح، في ذا كان في غير معصية فهو مباح له. فتح الباري (10/ 408).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«وإضاعة المال» يعني: صَرْفُ المال فيما ليس في صَرْفهِ خيرٌ لكم. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 204).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وإضاعة المال» وهو الإسراف في الإنفاق، وقيل: الإنفاق في الحرام. عمدة القاري (22/87).
وقال عبدالحق الدهلوي -رحمه الله-:
وقوله: «وإضاعة المال» وهي إهلاك المال وإنفاقه على وجه الإسراف؛ فإن كان على وجه الحرام فظاهر، ويشمل عند التحقيق بعض المباحات أيضًا، كتشييد الأبنية وتزيينها وزخرفتها، ولبس الثياب الناعمة والأطعمة الشهية، وتزيين الأواني والسيوف بالفضة والذهب والجواهر، والانهماك في اللذات المباحة من غير اكتراث ومبالاة خارجًا عن حد الاعتدال، فإنها وإن كانت ترى مباحة في ظاهر الحكم لمن له وسعة ولا يضيع بها حقًّا واجبًا، لكنها توجب القساوة وغلظ الطبع. لمعات التنقيح (8/ 211).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} الأعراف: 31.
الإسراف: تعدي الحد؛ فنهاهم عن تعدي الحلال إلى الحرام.
وقيل: أَلَّا يزيدوا على قدر الحاجة.
وقد اختلف فيه على قولين: فقيل: هو حرام. وقيل: هو مكروه؛ وهو الأصح؛ فإن قدر ‌الشبع ‌يختلف ‌باختلاف ‌البلدان والأزمان والأسنان والطعمان. وقد ثبت في الصحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر لرجل كافر بحلاب سبع شياه، فشربها ثم آمن، فلم يقدر على أكثر من حلب شاة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن يأكل في ‌مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء»؛ وذلك أن القلب لما تنور بالتوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوى على الطاعة، فأخذ منه قدر الحاجة، وحين كان مظلمًا بالكفر كان أكله كالبهيمة ترتع حتى تثلط. أحكام القرآن (2/ 310).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-:
والإسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي والشره في المأكولات الذي يضر بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوق في المآكل والمشارب واللباس، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام. تيسير الكريم الرحمن (ص: 277).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قال: «وإضاعة المال» وهو صرفه في غير فائدة لا دينية ولا دنيوية وذلك؛ لأن الله تعالى جعل المال قيامًا للناس فقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} النساء:5، قيامًا أي: تقوم به مصالح الدين ومصالح الدنيا، فإذا أضاعه الإنسان فقد صرفه في غير ما جعله الله للناس، وكم من إنسان أغناه الله فأسرف في الإنفاق الكثير وأضاع المال، وإذا هو يصبح فقيرًا معدمًا، فيتمنى أن لم يكن أنفق ولكن هيهات، إذن يحرم إضاعة المال، لكن لاحظوا أن إضاعة المال قريبة من معنى الإسراف؛ لأن الإسراف محرم، فبذل المال فيه محرم، لكن الإسراف يختلف قد يعد إسرافًا لشخص وغير إسراف لشخص آخر، لو أن الفقير اشترى سيارة فخمة لا يشتريها إلا أكابر الناس وأغنى الناس عُد ذلك إسرافًا، ولو أن الغني اشتراها لم يُعد إسرافًا كل شيء يحسبه؛ لأن الإسراف تعريفه مجاوزة الحد؛ فإذا قيل: هذا إنسان مجاوز الحد فهو مسرف، صرف المال فيما لا فائدة فيه، لكن فيه تسلية وانشراح للصدر، ولكن ليس لشيء محرمٍ والإنسان مثلًا يسأم من الأعمال الجدية، ويحب أن يرفه عن نفسه بعض الشيء هل يعد هذا إضاعة؟
الجواب: لا، صحيح أن هذا الشيء في حد ذاته ليس مقيدًا، لكنه مقصود لغيره من أجل أن يذهب الإنسان عنه السآمة والملل؛ لأن النفس تمل وتتعب تحتاج إلى شيء ينشطها ومن ذلك المنتزهات حيث يخرج كثير من الناس إلى المنتزهات، ومعلوم أن الإنفاق في المنتزهات فيه زيادة إنفاق، لكن فيها راحة وتسلية للنفس وإزالة للمل فيكون هذا من المقصود لغيره، ولا يعد هذا إضاعة للمال، وإن كان هو في حد ذاته ليس مفيدًا لكنه مفيد لغيره. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 280-281).
وسئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- :
نسمع أن الإسراف يختلف من شخص إلى آخر، وذلك على حسب المال الذي عنده سواء كان تاجرًا أو غنيًا؟
فأجاب: هذا ‌صحيح، ‌الإسراف ‌أمر ‌نسبي، ‌لا ‌يتعلق ‌بنفس ‌العمل ‌وإنما ‌يتعلق ‌بالعامل، فمثلاً: هذه امرأة فقيرة اتخذت من الحلي ما يساوي حلي المرأة الغنية تكون مسرفة؟ لو اتخذ هذا الحلي امرأة غنية قلنا: إنه لا إسراف فيه، ولو اتخذته امرأة فقيرة قلنا: فيه إسراف.
بل حتى الأكل والشرب يختلف الناس في الإسراف فيه: قد يكون الإنسان فقيرًا، يعني: من الناس من تكفيه المائدة القليلة، وآخر لا يكفيه، ثم إنه -أيضاً- تختلف باعتبار أن الإنسان قد ينزل به ضيف فيكرمه بما لا يعتاد أكله هو في بيته فلا يكون هذا إسرافًا.
فالمهم أن الإسراف يتعلق بالفاعل لا بنفس الفعل لاختلاف الناس فيه". لقاء الباب المفتوح (88/ 34).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
الإسراف ‌هو ‌مجاوزة ‌الحد، ‌وقد ‌بين ‌الله ‌تعالى ‌في ‌كتابه أنه لا يحب المسرفين، وإذا قلنا: إن الإسراف مجاوزة الحد، صار الإسراف يختلف، فقد يكون هذا الشيء إسرافاً بالنسبة لفلان، وغير إسراف بالنسبة لفلان، فهذا الذي اشترى بيتاً بمليونين من الريالات، وأثثه بستمائة ألف، واشترى سيارة، إذا كان غنيًا فليس مسرفًا؛ لأن هذا سهل بالنسبة للأغنياء الكبار، أما إذا كان ليس غنيًا فإنه يعتبر مسرفًا، سواء كان من أوساط الناس أو من الفقراء؛ لأن بعض الفقراء يريد أن يكمل نفسه، فتجده يشتري هذه القصور الكبيرة، ويؤثثها بهذا الأثاث البالغ، وربما يكون قد استدان بعضها من الناس، فهذا خطأ، فالأقسام ثلاثة: الأول: غني واسع الغنى، فنقول: إنه في وقتنا الحاضر ولا نقول في كل وقت: إذا اشترى بيتاً بمليونين ريال وأثثه بستمائة ألف ريال واشترى سيارة، فليس بمسرف.
الثاني: الوسط، فيعتبر هذا بحقه إسرافًا.
الثالث: الفقير، فيعتبر في حقه سفهًا؛ لأنه كيف يستدين ليكمل شيئًا ليس بحاجة إليه؟ لقاء الباب المفتوح (107/ 23).
وقال المناوي -رحمه الله-:
ولا يخفى ما في هذا الحديث من المحسنات اللفظية باعتبار نسجها على أحسن منوال، وكثرة معانيها مع ما في اللفظ من الإقلال. فيض القدير (2/ 227).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في هذا الحديث فوائد: منها: أن التحليل والتحريم لله لقوله: «إن الله حرم» وإن كانت الدلالة على حصر التحريم في حق الله -عزَّ وجلَّ- ليست بذاك في هذا الحديث، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حكى ذلك مقررًا له فيكون في هذا دليل على أن ما حرم الله فهو حرام، لكن هناك أصرح من هذا قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} النحل:116.
يتفرع على هذا مسألة أعظم منها أن التكفير والإدخال في الإسلام ليس إلى الخلق، ولكن إلى الله -عزَّ وجلَّ- فالخلق عبيد الله إذا حكم على أحد بأنه كافر فهو كافر ولو كان أباءنا أو إخواننا أو أبناءنا أو عشيرتنا، إذا لم يحكم على إنسان بأنه كافر فلن نكفره ولو عمل ما عمل، فكون الإنسان يجعل مسألة التكفير حسب العاطفة والمزاج غلط عظيم، ومسألة التكفير أعظم من مسألة التحليل والتحريم؛ لأنه متوقف عليها أحكام عظيمة تذكر في أحكام الردة، ويترتب على ذلك أيضًا أن من أحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله فقد ضاد الله في أمره؛ لأن التحريم والتحليل لله وحده، فمن قال عن شيء حلال إنه حرام فهو مضاد لله ومن قال عن شيء حرام إنه حلال فهو مضاد لله -عز وجل- لكن ما صدر عن اجتهاد بعد البحث وطلب التدليل وأداة اجتهاده إلى شيء ما من هذا فهو معذور؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر».
ومن فوائد الحديث: تحريم عقوق الأمهات وهو من كبائر الذنوب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» فعقوق الأمهات والآباء أيضًا من أكبر الكبائر، وبرهما من أفضل الأعمال، والإنسان مع والديه له ثلاث حالات: بر، وقطيعة، ولا بر ولا قطيعة.
أما القطيعة فهي كبائر الذنوب، وأما البر فهو من أفضل الأعمال، وأما ما لا بر ولا قطيعة فهذا محرم، لكن لا يصل إلى حد الكبيرة محرم؛ لأنه ترك للواجب الذي أمر الله به وهو البر والإحسان، لكن لا يصل إلى حد الكبيرة؛ لأن الكبائر إنما هي في العقوق، فصارت معاملة الإنسان لوالديه على ثلاثة أحوال بر، وعقوق ولا بر ولا عقوق، فالبر واجب وإحسان وفضل وأجر، والعقوق كبيرة من كبائر الذنوب، وإساءة، وما لا هذا ولا هذا فهو حرام، لكنه لا يصل إلى حد الكبيرة، وإنما حرم الله العقوق لما فيه من جحد النعمة، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من صنع إليكم معروفًا فكافئوه» فأي: معروف من الآدميين غير النبي -صلى الله عليه وسلم- أكبر من معروف الوالدين؟
لا شيء؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الإسراء:24، والكاف هنا للتعليل يعني: لأنهما ربياني صغيرًا فلا نعمة من العباد بعد إنعام النبي -صلى الله عليه وسلم- أكبر من نعمة الوالدين على الولد، وكان من الأمثال العامية إن البر أسلاف، يعني: إذا بررتَ بوالديك برَّ بِك أولادك. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 281-282).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
فلا خلاف أن العقوق من الكبائر، وكذلك الوأد للبنات. إكمال المعلم (5/ 570).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن فوائد الحديث: تحريم وأد البنات، لقوله: «إن الله حرم»، ثم قال: «وأد البنات»، والأولاد من باب أولى، وهل وأد البنات والبنين من كبائر الذنوب؟
نعم؛ لأنها قطيعة رحم أم عقوق؟
قطيعة رحم؛ لأن العقوق خاص بالوالدين، إذن هي قطيعة رحم؛ ولأنها قتل للنفس وقتل النفس: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا...} النساء:93.
وبما أن التحريم لله صار قتل الولد في بعض الأحيان قربة من قربات؛ لأن التحريم والتحليل لله. وذلك في قصة إبراهيم وإسماعيل فإن الله تعالى أمر إبراهيم بأن يقتل ولده إسماعيل، وولده إسماعيل هو أول أولاده: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} الصافات:102، وتعلقت به نفسه تعلقًا شديدًا؛ لأن أكبر ما يتعلق الإنسان بولده إذا كان قد بلغ معه السعي، الصغير لا يلتفت إليه غالبًا، والكبير الذي انفصل أيضًا لا يلتفت إليه لكن الصغير الذي يذهب معه، ويرجع معه تتعلق به النفس أكثر، ومع ذلك أمر بأن يذبحه: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} الصافات:102، فتأمل الآن قتل الأولاد من كبائر الذنوب، وإذا أمر الله به صار قربة وطاعة، السجود لغير الله شرك وإذا أمر الله به صار قربة وطاعة: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} البقرة:34. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 282).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
ومن فوائد الحديث: تحريم طلب ما لا يستحقه الإنسان؛ لقوله: «هات»، وتحريم منع ما يجب من قوله: «منعًا وهات» هذه الحال كما قلنا: تدل على أن الإنسان مجبول على البخل يمنعه وعلى الشح بطلبه. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 282).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
ومن فوائد الحديث: أن من الأساليب العربية التي توجب الانتباه أن يختلف التعبير في أشياء حكمها واحد؛ لقوله: «حرم وكره»؛ لأن ما كرهه الله فهو حرام، لكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان التعبير من عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو الأصل وإنما قلت ذلك لأنه من الجائز أن يكون من تصرف الرواة لكن الأصل أنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم لكن الرسول عبر بهذا، وهذا من أجل أن ينتبه الإنسان.
ومعلوم لنا جميعًا أن الكلام إذا كان على وتيرة واحدة فإن الإنسان المستمع لا ينسجم معه انسجامًا كثيرًا، بل المستمع يكون بارد الذهن، ولهذا بعض القراء الآن يستعملون التنبيه باختلاف الصوت، لا باختلاف التعبير، فتجده مثلًا قراءته واحدة على طريق واحد، ثم يرفع صوته أو يخفض صوتهن فيوجب لذلك الانتباه. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 283).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
ومن فوائد الحديث: أن الله يكره قيل وقال؛ ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت». من كمال إيمانك ألا تقول إلا خيرًا والعجب أن من كان هذا منهجه فإنه يسلم من شرور كثيرة، ومن كثر كلامه كثر سقطه لكن من قل كلامه وكان لا يتكلم غلا بخير فهذا هو المؤمن وهذا هو السالم، لكن إذا قال قائل: إذا كنا لا نتكلم إلا بالخير لزم أن نكون دائما في سكوت ندخل محلًا مثلا السلام عليكم كيف أصبحت ثم نسكت نقول الخير نوعان: خير مقصود لذاته، وخير مقصود لغيره، والأول لا شك أنه أشرف؛ لأنه غاية، والثاني دونه لكنه خير.
فإذا تكلم الإنسان بكلام هو في حد ذاته لغو لكن يريد أن يدخل الأنس والسرور على الحاضرين فهذا يعتبر خيرًا؛ لأن إدخال الأنس والسرور على مجالسك من الخير لاشك، لكن إذا حصل الأول وهو الخير لذاته فهو أفضل لاشك، ومن الخير لذاته تعليم العلم، أنا أظن أن الإنسان لو قام يحدث في مجلس غير معد للحديث ربما يكون ذلك ثقيلًا على النفس، لكن من الممكن أن يذكر مسائل فقهية طريفة توجب أن ينتبه الناس وتشتد أفكارهم إليه، مثل: أن يطرح مسألة غريبة، أو يتكلم في قصة مما ورد في الأحاديث من القصص، كأن يقول: الرسول قص علينا كذا وكذا، قص علينا قصة ثلاثة: أبرص وأعمى وأقرع، أو ثلاثة انطبقت عليهم صخرة في غار، المهم أن الإنسان اللبيب يستطيع أن يدخل العلم على الناس بلا ملل بما أعطاه الله من حكمة. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 283).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
ومن فوائد الحديث: كراهة الله لكثرة السؤال، لكن هل المراد كثرة السؤال من واحد أو من متعدد؟
من واحد، فلو فرضنا أن إنسانًا عنده مائة طالب كل واحد حضر سؤالًا فتكون الأسئلة مائة، هل: نقول هذه كثيرة تكره؟
لا؛ لكن يأتي واحد يتصدر للأسئلة وكل ما أجاب المسؤول عن السؤال، وإذا بالثاني على إثره هذا منهي عنه، ولاسيما إذا كان هذا السائل يستأثر بالمسؤول فهذا منهي عنه، وقد بينا أن كثرة السؤال تشمل كثرة سؤال المال، وسؤال العلم، والمراد بسؤال المال ما يستحقه الإنسان، أما ما لا يستحقه فهو منهي سواء كان كثيرًا أو قليلًا. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 283-284).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
ومن فوائد الحديث: النهي عن إضاعة المال وهذه كلمة عظيمة جامعة كل ما يبذله فيما لا ينفع لا في دين ولا في دنيا فهو إضاعة، ومن هنا نأخذ تحريم الدخان أو لا؟
نعم، نأخذ ولو قال لنا صاحبه: يحدث لي انبساط وأنا أتناوله وغير ذلك نقول: نعم، ولكن آثاره الضارة تربو على منافعه والله -عز وجل- حرم علينا الخمر والميسر؛ لأن إثمهما أكبر من نفعهما . . . ، والقاعدة الشرعية أنه إذا ربت المفاسد على المصالح صار الشيء حرامًا.
هل من إضاعة المال أن تعطيه للسفهاء؟
نعم، لقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} النساء:5، ولا شك أن هذا من إضاعة المال يعطي الصبي يشتري مفرقعات يؤذي الناس هذا حرام. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 284).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا


ابلاغ عن خطا