«إنَّ أرواحَ الشُّهداءِ في طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ من ثِمَار الجنةِ، أو مِن شَجرِ الجنةِ» .
رواه أحمد برقم: (27166)، والترمذي برقم: (1641)، من حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه-.
صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1368)، صحيح سنن الترمذي برقم: (1641).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«تَعْلُقُ»:
أي: تأكل، وهو في الأصل للإبل إذا أكلت العِضاهَ (العِضاهُ: كُلُّ شَجَرٍ له شوكٌ). النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير(3/289).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ أرواح الشُّهداءِ»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قد اختلف الناس في الأرواح -ما هي؟- اختلافًا لا يكاد ينحصر.
فذهب كثير من أرباب المعاني وعلم الباطن، والمتكلمين إلى أنه مما لا تُعرف حقيقته، ولا يصح وصفه، ومما جهل الخلق علمه.
واستدلوا بقوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا} الإسراء: 85، قالوا: وهو أمر رباني إلهي.
وغلا بعضهم فقال: بِقِدَمِهِ، وهو مذهب الفلاسفة.
وقال آخرون منهم -وهو قول جمهور الأطباء-: إنه البخار اللطيف السائل مع الدم.
وعوَّل كثير من شيوخنا: أنه الحياة.
وقال آخرون: الحياة معنى آخر، والروح غيره يبطل الجسد بفقده.
وقال آخرون: هي أجسام لطيفة مشاركة للجسم يحيا بحياة الجسم، أجرى الله العادة بموت الجسم عند فراقه.
وقيل: هو بعض الجسم؛ ولذلك وُصِفَ بالخروج والقبض وبلاغ الحلقُوم، وهذه صفة الأجسام لا المعاني.
وذهب بعض المتقدمين من أئمتنا إلى: أنه جسم لطيف مصور على صورة الإنسان داخل الجسم.
وذهب بعض مشايخنا وغيرهم إلى: أنه النَّفَسُ الداخل والخارج، وهذا خطأ بَيِّن.
وقال آخرون: هو الدم، وهذا خطأ أيضًا. إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/308).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
اختلف العلماء في الروح...على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه عَرَضٌ، وهو الذي اختاره القاضي (عياض).
والثاني: أنه النَّفَس الداخل والخارج، واختاره الشيخ أبو الحسن (الأشعري).
الثالث: أنه جسم لطيف مشارك لهذه الأجسام، واختاره أبو المعالي الجويني. المسالِك في شرح موطأ مالك (3/600).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
والفرق بين حياة الشهداء وغيرهم من المؤمنين الذين أرواحهم في الجنة من وجهين:
أحدهما: أنَّ أرواح الشهداء يُخْلَقُ لها أجساد أو هي الطير التي تكون في حواصلها؛ ليكمل بذلك نعيمها، ويكون أكمل من نعيم الأرواح المجرَّدة عن الأجساد، فإن الشهداء بذلوا أجسادهم للقتل في سبيل الله فعُوِّضُوا عنها بهذه الأجساد في البرزخ.
والثاني: أنهم يرزقون من الجنة، وغيرهم لم يَثْبُتْ له في حقه مثل ذلك، فإنه جاء أنهم يَعْلُقون في شجر الجنة... أهوال القبور (ص: 128).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
اختلف العلماء في مستقر الأرواح على أقوال كثيرة:
فقال قوم: إنها مقيمة على أَفْنِيَةِ القبور، وإلى هذا كان يميل ابن وضاح، واستدل على ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين»، وبمخاطبة أهل بدر، قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُون} المؤمنون:16.
وقال قوم: إنها في دار البرزخ التي رآها فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء؛ أرواح أهل السعادة عن يمين آدم -عليه السلام-، وأرواح أهل الشقاء عن يساره عند سماء الدنيا؛ وذلك منقطع العناصر.
وأما أرواح الأنبياء والشهداء: فهم في الجنة، وقال إسحاق بن راهويه: على هذا أجمع أهل العلم، حكى ذلك عنه محمد بن نصر المروزي.
وقال قوم آخرون: إنَّ الأرواح كلها في الصُّوْر، وهو حديث ضعيف، والصحيح: أن الأرواح تُنَعَّمُ وتُعَذَّب حيث ما كانت من علم الله.
وأما أرواح الكفار: ففي سجين في أسفل سافلين، وإنها تعذب إلى يوم القيامة، يُعْرَض عليها بالغدو والعشي العذاب. المسالِك في شرح موطأ مالك (3/600-601).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الشهيد في الأصل: مَن قُتل مجاهدًا في سبيل الله، ويُجْمَع على شهداء، ثم اتسع فيه فأُطْلِق على مَن سماه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ من المبطون والغرق والحَرق وصاحب الهَدم وذات الجنب وغيرهم.
وسُمِّيَ شهيدًا لأن الله وملائكته شهود له بالجنة. وقيل: لأنه حيٌّ لم يَمُتْ، كأنه شاهد، أي: حاضر. وقيل: لأن ملائكة الرّحمة تشهده. النهاية في غريب الحديث(2/ 513).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
أو لأنَّ روحه شهدتْ -أي: حضرتْ- دار السلام عند موته...، أو لأنه شهد ما أَعَدَّه الله له من الكرامة، أو لغير ذلك. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (2/ 367).
قوله: «في طَيْر خُضْر»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إنَّ أرواح الشهداء في طير» جمع طائر، ويطلق على الواحد «خُضْر» -بضم الخاء وسكون الضاد- جمع أخضر. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (9/43).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«طير خضر» أي: يكون الطائر ظرفًا لها؛ لقوله في خبر أبي داود: «في أجواف طير»، وليس هذا بحصر ولا بحبس؛ لأنها إما أن تُوَسَّعَ عليها كالفضاء، أو يُجْعَل في تلك الحواصِل من النّعيم ما لا يُوجد في فضاء واسع. فيض القدير (2/422).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
إذا فسَّرنا الحديث بأنَّ الروح تتشكَّل طائرًا، فالأشبه: أنَّ ذلك في القُدرة على الطيران فقط لا في صورة الخِلْقَة؛ لأنّ شكل الإنسان أفضل الأشكال. مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود (2/633).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
التضييق والانحصار لا يُتَصَوَّر في الروح، وإنما يكون في الجسد، والروح إذا كانت لطيفة يتبعها الجسد في اللطافة فتسير بجسدها حيث شاءت، وتتمتع بما شاءت، وتأوي إلى ما شاء الله لها كما وقع لنبينا -عليه الصلاة والسلام- في المعراج ... ، وهذا في هذا العالم المبني على الأمر العادي غالبًا، فكيف وأمر الروح وأحوال الآخرة كلها مَبْنِيَّة على خوارق العادات، وإنما رُكِّبَ للأرواح أبدان لطيفة عارية بدلًا عن أجسادهم الكثيفة مدة البرزخ؛ وسيلة لتمتُّع الأرواح باللَّذات الحسِّيَّة من الأكل والشرب وغيرها؛ ليقع النعيم على الوجه الأكمل، وعلى طبق الحال الأول، وليس المراد: أن أرواح المؤمنين في أجواف طير أحياء بأرواح أُخَر، حتى يلزم منه محذور عقلي، وهو كون الروحين في جسد واحد. مرقاة المفاتيح (3/1183).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وقيل: أراد بقوله: «إن أرواحهم في طير خضر» أن الروح الإنسانية المتميزة المخصوصة بالإدراكات بعد مفارقة البدن يُهَيَّأ لها طير خضر فتُنْقَل إلى جوفه؛ ليعلُق ذلك الطير من ثمر الجنّة، فتجد الروح بواسطته ريح الجنّة ولذتها والبهجة والسرور، ولعل الروح يحصل لها بتلك الهيئة إذا تشكلت وتمثَّلت بأمره تعالى طيرًا أخضر كتمثُّل الملك بَشَرًا، وعلى آيَّة حال كانت: فالتسليم واجب علينا؛ لورود البيان الواضح كتابًا وسنة، ولا سبيل إلى خلافه...، ومفهوم الحديث: إن أرواح غير الشهداء ليست كذلك، لكن روى الحكيم: «إنّما نَسَم المؤمن طائر يعلُق في شجر الجنّة حتى يرفعه الله يوم القيامة إلى جسده»، قال الحكيم -رحمه الله-: وليس هذا لأهل التخليط فيما نعلمه، إنّما هو للصديقين. التنوير شرح الجامع الصغير (3/572).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وليس فيه ما يُنْكَر، ولا بين الأمرين فرق، بل رواية: «طير»، أو «أجواف طير» أصح معنى وأبْيَنُ وجهًا، وليس بالأقْيِسَة والعقول في هذا تحكُّم، فكل من الْمُجَوّزَات، فإذا أراد الله أن يجعل هذه الروح إذا خرجت من المؤمن، والشهيد في قناديل أو أجواف طير أو حيث يشاء كان ذلك، ولم يبْعُدْ، لا سيما مع القول: إن الأرواح أجسام. إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/ 307).
وقال السندي -رحمه الله-:
هذا (الإشارة إلى كلام السيوطي -رحمه الله-) إذا كان الروح الإنساني له شكل في نفسه ويكون على شكل الإنسان، وأما إذا كان في نفسه لا شكل له؛ بل يكون مجردًا، وأراد الله تعالى أن يتشكل ذلك المجرد لحكمة ما؛ فلا يبعُدُ أن يتشكل أول الأمر على شكل الطائر، وأما على الثاني: فقد أورد عليه الشيخ علم الدين العراقي (هو: عبد الْكَرِيم بن عَليّ بن عمر الْأنْصَارِيّ علم الدّين الْعِرَاقِيّ سبط الشَّيْخ أبي إسحاق الْعِرَاقِيّ الشَّافِعِي): أنه لا يخلو: إما أن يحصل للطير الحياة بتلك الأرواح أو لا، والأول عين ما تقوله التناسخية، والثاني: مجرد حبس للأرواح وتَسَجُّنٍ، وأجاب السبكي باختيار الثاني، ومنع كونه حبسًا وتَسَجُّنًا لجواز أن يُقدِّر الله تعالى في تلك الأجواف من السرور والنعيم ما لا يجدهُ في الفضاء الواسع. حاشية السندي على سنن النسائي (4/108).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ما قاله السبكي -رحمه الله- حسن جدًّا. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/127).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
«طائر» ظاهر أن الروح يتشكَّل، ويتمثَّل بأمر الله تعالى طائرًا، كتمثُّل الملك بَشَرًا.
وقيل: يحتمل: أن المراد: أن الروح يدخل في بدن طائر، كما في روايات أخرى، وقد عرفتَ أن هذا في الشهداء، فالأول هو الصواب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/126).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قد تعلَّق بهذا الحديث وأمثاله بعض القائلين بالتناسخ وانتقال الأرواح وتنعيمها في الصُّوَر الحسان الْمُرَفَّهَة، وتعذيبها في الصور القبيحة الْمُسَخَّرَة، وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب، وهذا باطل مردود، لا يطابق ما جاءت به الشرائع مِن إِثبات الحِشر والنّشر والجنة والنار. مرقاة المفاتيح (6/2465).
قوله: «تَعْلُق من ثِمَار الجنة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«تُعلُق» بالتأنيث والتذكير. مرقاة المفاتيح (3/1183).
قال السندي -رحمه الله-:
«تُعلُق»... ومعناه: تأكل وترعى. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/443).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«تعلُق» ... أي: تأكل تلك الطير بأفواهها. فيض القدير (2/422).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«من ثمرة الجنة» فتجد بواسطة ريح الجنة ولذتها وبهجتها وسؤددها ما لم تُحِطْ به العقول. فيض القدير (2/422).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ولعل الظاهر أن يقال: تعلُق من شجر الجنة، وتَعْدِيَتُه بالباء يفيد الاتصال والإلحاق، لعله كنَّى به عن الأكل؛ لأنها إذا اتصلت بشجرة الجنة وتشبَّثَتْ بها أكلت من ثمارها. شرح المشكاة (4/1384).
قوله: «أو من شجر الجنة»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«من ثمر الجَنَّة، أو شجر الجَنَّة» شكٌّ من الراوي. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (9/43).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
في هذا (الحديث):
أولًا: إثبات أنَّ الجنة مخلوقة موجودة، وهو مذهب أهل السُّنة، وأنها التي أُهبطَ منها آدم، وهي التي يُنَعَّمُ فيها المؤمنون في الآخرة، خلافًا للمعتزلة وطوائف من المبتدعة بأنها بعد لم تُوجد، وأنَّ الجنة التي كان فيها آدم غيرها، والآثار وظاهر القرآن يدل على مذهب أهل السُّنة.
وفيه: دليل على مُجازاة الأموات بالثواب والعقاب قبل القيامة، وقد ترى من هذا في عذاب القبر.
وفيه: أن الأرواح باقية لا تفنى، فيُنعَّم المحسن ويُعذَّب المسيء، كما جاء في القرآن والآثار، وهو مذهب أهل السُّنة، خلافًا لغيرهم من أهل البدع القائلين بفنائها. إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/306).