«أتاكم رمضانُ شهرٌ مُبارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ- عليكم صيامَهُ، تُفْتَحُ فيه أبوابُ السَّماءِ، وتُغْلَقُ فيه أبوابُ الجحيمِ، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشَّياطينِ، للَّهِ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، مَن حُرِمَ خيرَهَا فقد حُرِمَ».
رواه أحمد برقم: (8991) ورقم: (7148) ورقم: (9497) والنسائي برقم: (2106) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (55)، صحيح سنن النسائي برقم: (2106).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«رمضان»:
رمضان: سُمي لشِدَّة الرَّمْضِ، وهو الحَرُّ؛ وقيل: لأنه تَرْمُضُ فيه الذنوب؛ وقيل: لأنه مِنْ رَمَضَت الفِصَالُ (صغار الإبل) مِن الحَرِّ. الإبانة في اللغة العربية، للصُحاري (4/ 752).
«تُغَلُّ»:
أي: تُشَدُّ وتُرْبَطُ. فيض القدير، للمناوي (4/ 39).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
والغُلُّ، هُوَ القَيْد. النهاية (3/ 381).
«مَرَدَةٌ»:
بالتحريك، جمعُ مَارِدٍ، وهو العَاتِي. التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي (1/ 338).
قال الفيروزآبادي -رحمه الله-:
هو أنْ يَبْلُغَ الغايةَ التي يَخْرُجُ بها مِن جُمْلَةِ ما عليه ذلك الصِّنْفُ. القاموس المحيط (ص: 319).
شرح الحديث
قوله: «أتاكم رمضانُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أتاكم» أي: جاءكم «رمضان» أي: زمانُه أو أيَّامُه. مرقاة المفاتيح (4/ 1365).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «أتاكم» أي: جاءكم «رمضان» أي: زمانُه، وفي رواية أحمد: لما حضر رمضان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قد جاءكم رمضان». مرعاة المفاتيح (6/ 415).
وقال السندي -رحمه الله-:
قال لهم ذلك ليَطِيبُوا به نفْسًا، ويَعرفوا قَدْرَه، ويَسْهُل عليهم أمْرَه. حاشية السندي على مسند أحمد (2/340).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
رمضانُ: مصدر رَمَضَ احْتَرَق، لا ينصرف؛ للعَلَميَّة والألف والنون، وإنما سمَّوه بذلك: إما لارْتِمَاضِهم فيه من حرِّ الجوع والعطش، أو لارْتِمَاضِ الذنوب فيه، أو لوقوعه أيام رمْضِ الحرِّ، حيث نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمْض الحرِّ، أو مِن رَمَضَ الصائم: اشْتَدَّ حرُّ جَوفه، أو لأنه يُحْرِقُ الذنوب.
ورمضان إنْ صح أنَّه من أسماء الله تعالى فغير مُشتق، أو راجع إلى معنى الغَافِر، أي: يمحو الذنوب ويمحقها. إرشاد الساري (3/ 344).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد ذكر أبو الخير الطَّالِقَاني في كتابه (حَظَائر القُدْس) لرمضان ستين اسمًا، وذكر بعض الصوفية: أنَّ آدم -عليه السلام- لما أكل من الشجرة ثم تاب، تأخَّر قبول توبته، مما بقي في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يومًا، فلما صفا جسدُه منها تِيْبَ عليه، ففُرض على ذريته صيام ثلاثين يومًا، وهذا يحتاج إلى ثبوت السَّند فيه إلى مَن يُقْبَل قوله في ذلك، وهيهات وُجْدَان ذلك. فتح الباري (4/ 102-103).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
فيه: حُجَّة على جواز قول مثل هذا (أي تسمية رمضان بهذا الاسم) دون ذِكْر الشهر، خلافًا لمن كَرِهَه، ورُوي أثرٌ في النهي عن ذلك، وأنَّ رمضان اسم من أسماء الله، وهو أثر لا يصح، واختار القاضي أبو الطيب الباقلاني أنَّ تمثيل النهي فيما أَشْكَل، مثل: جاء رمضان وذهب وتمَّ ودَخَل، ويُباح فيما لا يُشْكِل مثل: صُمْنَا، وقُمْنَا رمضان، وهذا الحديث وغيره ردٌّ على الجميع. إكمال المعلم (4/ 5).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: دليل للمذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه البخاري والمحققون أنه يجوز أنْ يُقال: رمضان، من غير ذِكْر الشهر بلا كراهة، وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب:
قالت طائفة: لا يُقال: رمضان على انفراده بحالٍ، وإنما يُقال: شهر رمضان، وهذا قول أصحاب مالك، وزعم هؤلاء أنَّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى، فلا يُطلَق على غيره إلا بقيد.
وقال أكثر أصحابنا وابن الباقلاني: إنْ كان هناك قرينة تصْرِفُه إلى الشهر فلا كراهة، وإلا فيُكره، قالوا: فيُقال: صُمْنا رمضان، قُمْنا رمضان، ورمضان أفضل الأشهر، ويُندب طلب ليلة القدر في أواخر رمضان، وأشباه ذلك، ولا كراهة في هذا كله، وإنما يُكره أنْ يُقال: جاء رمضان، ودخل وحضر رمضان، وأُحِبُّ رمضان، ونحو ذلك.
والمذهب الثالث: مذهب البخاري والمحققين: أنَّه لا كراهة في إطلاق رمضان بقرينة وبغير قرينة، وهذا المذهب هو الصواب.
والمذهبان الأوَّلان فاسدان؛ لأنَّ الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع، ولم يثبت فيه نهيٌ، وقولهم: إنَّه اسم من أسماء الله تعالى ليس بصحيح، ولم يصح في شيء، وإنْ كان قد جاء فيه أثر ضعيف، وأسماء الله تعالى توقيفية، لا تُطلَق إلا بدليل صحيح، ولو ثبت أنَّه اسم لم يلزم منه كراهة، وهذا الحديث المذكور في الباب صريح في الردِّ على المذْهَبين؛ ولهذا الحديث نظائر كثيرة في الصحيح في إطلاق رمضان على الشهر من غير ذِكْر الشهر. شرح صحيح مسلم(7/ 187-188).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
واعلم أنَّ التِّرمذي رَوى هذا الحديثَ بذكر «شَهْر»، وزيادةُ الثِّقَة مقبولةٌ، فتكون رواية البخاري مختصَرةً منه، فلا يبقَى له حُجَّةٌ فيه على إطلاقه بدون شَهْر. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (6/ 364).
قوله: «شهرٌ مُبارَكٌ»:
قال أبو البقاء العُكبري -رحمه الله-:
«شهرٌ» بدل مِن «رمضان»، ويجوز أنْ يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هو شهر مبارك. إعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث النبوي (ص:338).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «شهرٌ مُبارَكٌ» بدل أو بيان، والتقدير: هو شهرٌ مباركٌ، وظاهره: الإخبار، أي: كثُر خَيرُه الحسي والمعنوي، كما هو مُشاهَد فيه.
ويُحتمل: أنْ يكون دعاء، أي: جَعَلَهُ اللهُ مبارَكًا علينا وعليكم، وهو أصل في التهنئة المتعارفة في أول الشهور بالمباركة، ويؤيد الأول قوله -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان»؛ إذ فيه إيماء إلى أنَّ رمضان مِن أصله مُبارك، فلا يحتاج إلى الدعاء، فإنَّه تحصيل الحاصل، لكن قد يُقال: لا مانع من قبول زيادة البركة. مرقاة المفاتيح (4/ 1365).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«شهرٌ مباركٌ» أي: على مَن يَعرف قدره. مرقاة المفاتيح (4/ 1367).
وقال علي صبح -رحمه الله-:
عبَّر عن فضيلة شهر رمضان وتميُّزه عن غيره بقوله: «مبارك» بصيغة المفاعلة، لا بالبركة فحسب؛ للدلالة على أنَّ العمل الصالح فيه يتفاعل ويتكاثر ويزداد...، والمال فيه يتضاعف حتى لا تجد فيه فقيرًا أو مُعدمًا، والصدقة فيه تربو وتتكاثر، والجسد فيه يصح، ويخلو من الأمراض والعلل، حتى يقوى على طاعة الله، وعلى السعي والعمل. التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف (ص: 77).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُبشِّر أصحابه بقدوم رمضان، كما خرَّجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُبشِّر أصحابه، يقول: «قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتَبَ الله عليكم صِيامه، فيه تُفتح أبواب الجِنان، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلُّ فيه الشياطين، فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر، مَن حُرِمَ خيرها فقد حُرِمَ».
قال بعض العلماء: هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بشهر رمضان، كيف لا يُبشَّر المؤمن بفتح أبواب الجِنان؟ كيف لا يُبشَّر الْمُذنِب بغلق أبواب النيران؟ كيف لا يُبشَّر العاقل بوقتٍ يُغَلُّ فيه الشياطين؟ من أين يُشبه هذا الزمان زمان؟! وفي حديث آخر: «أتاكم رمضان سيِّد الشهور، فمرحبًا به وأهلًا». لطائف المعارف (ص:147- 148).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُبشِّر أصحابه بقدوم رمضان، مُبيِّنًا فضائله، وما أعدَّ الله فيه للصائمين والقائمين من الثواب العظيم، ويُشرع للمسلم استقبال هذا الشهر الكريم بالتوبة النصوح، والاستعداد لصيامه وقيامه، بنيَّة صالحة، وعزيمة صادقة. مجموع الفتاوى(15/ 9).
قوله: «فَرَضَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ- عليكم صيامَهُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فرض الله عليكم صيامه» أي: بالكتاب والسنة، وإجماع الأُمَّة. مرقاة المفاتيح (4/ 1365).
وقال المغربي -رحمه الله-:
اعلم أنه فُرِضَ صوم رمضان في السَّنة الثانية من الهجرة، واختَلف العلماء هل قد كان سبِقَهُ فرَضِيَّةُ صوم أو لا؟
فالجمهور على أنَّه لم يكن قد سبقه فرضية صوم، وأشار البخاري إلى ذلك، حيث أورد الآية وهي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} البقرة: 183، حجَّة على وجوب الصيام على الإطلاق، ثم بيَّنه سبحانه بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} البقرة: 185، وذهبت الحنفية -وهو وجه للشافعية- إلى أنَّه تقدَّم أولًا فرضيَّة عاشوراء، فلما نزل رمضان نُسخ، ويدل على ذلك حديث عائشة أنَّه أمَر بصيامه حتى فُرِضَ رمضان، فقال: «مَن شاء فلْيَصُمْهُ، ومَن شاء أفطر» أخرجه البخاري، ويدل على الأول حديث معاوية مرفوعًا: «لم يكتب الله صيامه» يعني: عاشوراء. البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/ 5-6).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
فصام (أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-) عاشوراء قبل فَرْضِ رمضان؛ لأنه لما قدِم المدينة لم يكن عليه فَرْض رمضان، وإنما قدِم في ربيع الأول، فأقام إلى أنْ جاء عاشوراء، فرآهم يصومونه فصامه، فلما جاء شعبان من السنة الثانية من الهجرة فُرِض رمضان، فصامه وترك عاشوراء، فبَانَ من هذه أنه -عليه السلام- صام تسع رمضانات. كشف المشكل (2/ 355).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فُرِضَ صوم رمضان في السَّنة الثانية من الهجرة، يوم الاثنين، لِلَيْلتيْن خلَتَا من شعبان، وهو ثابت بالكتاب والسنة، والإجماع، فمَن جَحَد فرَضِيَّته، فقد كفر. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 219).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وهذا (الصيام) ثالث أركان الإسلام، شرعَه سبحانه لفوائد أعظمها: كونه موجبًا لشيئين:
أحدهما: ناشئ عن الآخر: سكون النفس الأمارة، وكسْر شهوتها في الفضول المتعلِّقة بجميع الجوارح: من العين واللسان والأذن والفَرْج، فإنَّ به تضْعُف حركتها في محسوساتها؛ ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلها، والناشئ عن هذا صفاء القلب عن الكَدَر، فإن الموجِب لكُدُورَته فُضُول اللسان والعين وباقيهما، وبصفائه تُناطُ المصالح والدَّرَجات.
ومنها: كونه موجِبًا للرحمة والعطف على المساكين، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكَر مَن هذا حاله في عموم الساعات، فتُسَارع إليه الرِّقة عليه، والرحمة حقيقتها في حق الإنسان: نوع ألمٍ باطن، فيُسَارِع لدَفْعِه عند الإحسان إليه، فيَنال بذلك ما عند الله من حُسن الجزاء، ومنها موافقة الفقراء بتحمُّل ما يتحملون أحيانًا. مرقاة المفاتيح (4/ 1360).
قوله: «تُفْتَحُ فيه أبوابُ السَّماءِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«تُفْتَحُ فيه أبوابُ السماءِ» استئناف بيان، ويُحتمل: أنْ يكون حالًا، وهو بصيغة المجهول وبالتأنيث في الأفعال الثلاثة، ويجوز تذكيرها، وبتخفيف الفِعْلين الأوَّلين، ويُشدَّدان. مرقاة المفاتيح (4/ 1365).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«تُفْتَح فيه» استئناف بيان، وهو بصيغة المجهول...، «أبواب السماء» وفي رواية أحمد المذكورة «أبواب الجنة». مرعاة المفاتيح (6/ 415).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «تُفتح فيه» تقريبًا للرحمة إلى العباد؛ ولهذا في بعض الروايات: «أبواب الرحمة». حاشية السندي على مسند أحمد (2/340).
وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله-:
جاء هذا الحديث من هذا الطريق -طريق ابن شهاب- تامًّا أغرب اللفظ؛ إذ وقع فيه: «فُتِحت أبواب السماء»، ووقع من طريق إسماعيل «فُتِحت أبواب الجنة»، ووقع في رواية مسلم «فُتِحت أبواب الرحمة»، ولا أحسب لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا «أبواب السماء»؛ لأنه أشْمَلُ وأوْجَزَ؛ ولأنه يُحاكي به قوله تعالى: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} الأعراف: 40، والسماء في التعاليم الدينية هي مقر الخيرات الروحانية، والفيوضات الربانية، والتزكيات النفسانية، فمعنى فَتْح أبوابها: تهْيِئَتها لاكتساب المؤمنين من خيراتها على حسب أعمالهم ومراتبهم، ورضا الله تعالى عنهم، بقبول أعمالهم ودعائهم، ومُكاشَفة أرواحهم، فالأبواب استعارة لوسائل الوصول إلى الخير، والسماء حقيقة عُرفيَّة في مقر الخيرات، وخزائن الرحمات؛ ولذلك كثُر إثبات الارتفاع والصعود للفضائل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر: 10، {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} المطففين: 18.
وليس المراد بالسماء الجنة، فقد دلَّ على عدم قصْدِها عطفُ الجنة عليها في قوله تعالى: {تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} الأعراف: 40، وما وقع من الروايتين الأخيرتين من أبواب الجنة، وأبواب الرحمة، فهو من الرواية بالمعنى. النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح (ص: 54).
قوله: «وتُغْلَقُ فيه أبوابُ الجحيمِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وتُغلَقُ فيه أبواب الجحيم» وفي نسخة: «الحميم» وهو تصحيف. مرقاة المفاتيح (4/ 1365).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
غُلِّقت أبواب جهنم حقيقة، أو كنايةً عن تنزُّه أنْفُسِ الصُوَّام عن رجس الفواحش، والتخلُّص من البواعث على المعاصي بقمع الشهوات. إرشاد الساري (5/ 294)
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وغُلِّقتْ أبواب جهنم»؛ لكثرة عفو الله عن العصاة. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 41).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وغُلِّقت عنهم أبواب النَّار؛ فلا يدخلها منهم أحدٌ مات فيه أي: رمضان. المفهم (3/ 136).
وقال السندي -رحمه الله-:
وغَلْقُ أبواب النار لا يُنافي موت الكفرة في رمضان، وتعذيبهم بالنار فيه؛ إذ يكفي في تعذيبهم فتح باب صغير من القبر إلى النار غير الأبواب المعهودة الكبار. حاشية السندي على سنن النسائي (4/ 126).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
غُلِّقت أبواب جهنم: إِمَّا حقيقة كما ذكرنا في فتح أبواب الجنة؛ وإمَّا مجاز عن قلة الذنوب، وكثرة المغفرة. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/ 256).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
حمْلُ الحديث على ظاهِرِه مِن أنَّ فتحَ أبواب الجنة، وغَلْقَ أبواب النار على حقيقتهما لا على المجاز هو الحقُّ، كما رجحه ابن المنيِّر، والقرطبي -رحمهما اللَّه تعالى-، فتنبَّه. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 255).
قوله: «وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشَّياطينِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
و«تُغَلُّ» بتشديد اللام من الإغلال، «فيه مَرَدَة الشياطين» يُفهم من هذا الحديث: أنَّ المقيَّدِين هم الْمَرَدَة فقط، وهو معنى لطيف يزول به الإشكال السابق، فيكون عطْفُ المرَدَة على الشياطين في الحديث المتقدَّم عطفُ تفسير وبيان، ويُحتمل: أنْ يكون تقييدُ عامة الشياطين بغير الأغلال، والله أعلم بالأحوال. مرقاة المفاتيح (4/ 1365).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ» أي عُتَاتُهم...، ويستفاد منه أنَّ المقيَّدِين في رمضان هم المردة فقط. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 264).
وقال السندي -رحمه الله-:
«تُغَلُّ» أي: تُشدُّ وتُوثَقُ بالأغلال، ولا يُنافيه وقوعُ المعاصي؛ إذ يكفي في وجود المعاصي شرارة النفس وخَباثَتِها، ولا يلزم أنْ يكون كل معصية بواسطة شيطان، وإلا لكان لكل شيطانٍ شيطانٌ، ويتسلسل، وأيضًا معلوم أنَّه ما سبق إبليسَ شيطان آخر، فمعصيته ما كانت إلا من قِبَل نفسه. حاشية السندي على مسند أحمد (2/341).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
واحتج المُهَلَّبُ لقول مَن جعَل المعنى على الحقيقة، فقال: ويدلُّ على ذلك ما يُذكر من تغليل الشياطين ومَرَدَتِهم بدخول أهل المعاصي كلها في رمضان في طاعة الله، والتعفُّف عما كانوا عليه من الشهوات؛ وذلك دليل بيِّن. شرح صحيح البخاري (4/ 20).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
ويجوز أنْ تجتمع الحقيقة والمجاز في هذه الأوجه كلها، فتكون مرادة بالحديث، موجودة فيه؛ لكونه لم يرد من الشرع تعيين في ذلك كله. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 281).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
فإنْ قال قائل: فما أمارة ذلك: ونحن نرى الفاسق في رمضان قلَّما يَرْعَوِي عن فِسْقِه، وإنْ تَرَكَ بابًا منه أتى بابًا آخر، حتى إنّ من هذه الزُّمرة من يتولَّى قتل النفس، وقطع الطريق، وغير ذلك من المناكير والعظائم؟
قلنا: أمارة ذلك تنزُّه أكثر المنهمكين في الطغيان عن المعاصي، ورجوعهم إلى الله بالتوبة، وإكْبَابُهُم على إقام الصلاة بعد التهاون بها، وإقبالُهم على تلاوة كتاب الله، واستماع الذكر بعد الإعراض عنهما، وتركُهم ارتكاب المحظورات بعد حرصهم عليها، وأما ما يُوجد من خلاف ذلك في بعضهم، ويُؤنَسُ عنهم من الأباطيل والأضاليل، فإنها تأثيرات من تسويلات الشياطين، أعْرَقَت في عِرْقِ تلك النفوس الشريرة، وباضت في رؤوسها، وقد أشار بعض العلماء فيه إلى قريب من المعنى الذي ذكرنا...
فإن قيل: وإذا قُدِّر الأمر على نحو ما ادعيتم، فأي فائدة في تصفيد من صُفِّد إذا كان أصل الشرِّ مستمرًا على حاله؟
قلنا: الفائدة فيه: فَضُّ جُمُوحِه، وكسْرُ شوكته، وتسكينُ نَائرَتِه، ولو لم يكن الأمر على ذلك لم يكن لاستظهاره بالأعوان والجنود معنى. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 456-457).
وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله-:
وتصفيد الشياطين تمثيل لتعطيل كثير من حِيَلِ الشيطان وحَبَائِله؛ لأن المصفَّدَ تَقِلُّ حركاته وتصرُّفاته، فليس في الحديث دلالة على تمحُّض الناس في أيام الصيام للطاعات، وعِصْمَتهم من المعاصي، ومَن حمَلَه على ذلك لم يجد التأمُّل فيما يؤول إليه كلامه من مخالفة الحديث لما هو مُشَاهد.
وقوله: «فُتِّحَتْ، وغُلِّقَت، وصُفِّدَت» ثلاثتها بالتشديد للدلالة على قوَّة الفعل في ثلاثتها، قال تعالى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} الأعراف: 40، وقال: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} يوسف: 23. كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ (ص: 176).
قوله: «للَّهِ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«للهِ فيه» أي: في ليالي رمضان، على حذف مضافٍ، أو في العشر الأواخر منه، يعني غالبًا، وإلا فهي مبهمة في جميع رمضان، أو في جميع السَّنة، كما هو مذهبنا؛ ولذا لو قال أحد لامرأته: أنتِ طالق في ليلة القدر، لا تُطلَق حتى تمضي عليها السَّنة كلها.
«ليلة خير من ألف شهر» أي: العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. مرقاة المفاتيح (4/ 1365-1366).
وقال علي صبح -رحمه الله-:
فالتنكير في «ليلة» للدلالة على تعظيم منزلة ليلة القَدر من حيث الكيف، فثواب العمل فيها يَعْدِل ثواب ألف شهر، ومَن ذا الذي يستطيع أنْ يقوم بالعمل المتواصل في ألفِ شهر؟ والخاسر هو مَن حُرِمَ ثوابها؛ لأنه لا يستطيع أنْ يحصل عليه في العُمر كُله؛ لأنه يعتريه النوم والغفلة في كُل يوم وليلة؛ ولذلك كان الحرمان من ذلك حرمانًا عظيمًا، لا حصر له بلا حدود؛ لذلك تسلَّط الفعل على (الخير) مباشرة. التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف (ص: 78-79)
قوله: «مَن حُرِمَ خيرَهَا فقد حُرِمَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«مَن حُرِمَ» بصيغة المجهول «خيرَها» بالنصب...، أي: مَن مُنع خيرَها بأنْ لم يُوفَّق لإحيائها ولو بالطاعة في طَرَفيها؛ لما ورد أنَّ «مَن صلى العشاء والصبح بجماعة فقد أدرك حظَّه من ليلة القدر»، وأما ما وقع في شرح مسلم من أنه لا ينال فضلها إلا مَن أطْلَعَه الله عليها، فالمراد منه فضلها الكامل.
«فقد حُرِمَ» أي: مُنع الخير كله، كما سيجيء صريحًا، ففيه مبالغة عظيمة، والمراد: حِرمان الثواب الكامل، أو الغفران الشامل، الذي يفوز به القائم في إحياء ليلها. مرقاة المفاتيح (4/ 1366).
وقال السندي -رحمه الله-:
«مَن حُرِمَ» على بناء المفعول «خيرها» بالنصب على أنه مفعول ثانٍ. حاشية السندي على مسند أحمد (2/697).
وقال السندي -رحمه الله- أيضًا:
وقوله: «خيرها» أي: خير ليلة القدر، «فقد حُرِمَ» أي: خيرًا عظيمًا، حتى كأنَّه المحروم من كل خير، وللدلالة على هذا المعنى حُذف المفعول، والله تعالى أعلم. حاشية السندي على مسند أحمد (2/341).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «مَن حُرِمَ خيرها فقد حُرِمَ» اتَّحَدَ الشرط والجزاء؛ دلالة على فخامة الجزاء، أي: حُرِمَ خيرًا كثيرًا، لا يقادر قدْره، كقولهم: مَن أدرك الضمان موضع أو جبل كثير العُشب فقد أدرك، والضمان مَرعى. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1576).
وقال السندي -رحمه الله-:
قيل: المراد: أنَّه حُرِمَ لُطْفَ الله وتوفيقه، ومُنع من الطاعة فيها، والقيام بها، ولعل هذا هو الذي فاته العشاء تلك الليلة أيضًا. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 504).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أي: مَن حُرِمَ لُطْفَ الله وتوفيقه، ومُنع عن الطاعة فيها، والقيام بها. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1577).
قال ابن رجب -رحمه الله-:
المعوَّلُ على القَبُولِ لا على الاجتهاد، والاعتبارُ ببرِّ القلوبِ لا بعمَلِ الأبدانِ، رُبٌّ قائمٍ حظُّه مِن قيامه السَّهَرُ؛ كم من قائمٍ محرومٍ، ومن نائمٍ مَرحوم؛ هذا نام وقلبُه ذاكِرٌ، وهذا قامَ وقلبُه فاجرٌ.
إنَّ المقاديرَ إذا ساعَدَتْ … أَلْحَقَتِ، النَّائمَ بالقَائمِ
لكنَّ العَبْدَ مأمورٌ بالسَّعي في اكتِساب الخيرات والاجتهاد في الأعمال الصالحات؛ وكُلٌّ مَيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له.لطائف المعارف(ص: 351