«إنَّ الله لا يظلم مؤمنًا حَسنة، يُعْطَى بها في الدّنيا، ويُجْزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطْعَم بِحَسَنَات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أَفْضَى إلى الآخرة لم تَكن له حسنة يُجْزَى بها».
رواه مسلم برقم: (2808)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«حَسَنَةً»:
الحسنة: ضد السيئة، والجمع: حسنات. لسان العرب، لابن منظور (13/116).
«يُظْلَم»:
أصل الظُّلم: الجَورُ، ومُجاوَزَة الحدِّ. لسان العرب (112/ 373).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
أي: لا يترك مجازاته بشيء من حسناته، والظلم يُطلق بمعنى: النقص، وحقيقته الظلم مُحَالة في حقه تعالى.دليل الفالحين (4/ 332)
«فيُطْعَم»:
بالبناء للمفعول: أي: يُرزَق. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/ 332).
«أفْضَى»:
أَيْ: وَصَلَ وصار. مرقاة المفاتيح (8/ 3227).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ الله لا يظلم مؤمنًا حسنة»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ الله لا يَظلم مؤمنًا» أي: لا يُنقِص، «حسنةً» مفعولٌ ثانٍ لقوله: «لا يَظلم». شرح مصابيح السنة (5/383).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «لا يَظلم» لا يُنْقِصُ، وهو مُتَعدٍّ إلى مفعولين:
أحدهما: «مؤمنًا».
والآخر: «حسنة». شرح المشكاة (10/ 3273).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ الله لا يظلم مؤمنًا حسنة» يعني: لا يُنْقِصُه ولا يَمْنَعُه ثوابها في الدار الآخرة والأولى. المفهم (1/460).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ الله لا يظلم مؤمنًا حسنة» يعني: لا يُضيعُ حسنةَ المؤمن، بل يُعطي المؤمنَ بِحَسَنته أجر الدنيا، وأجر الآخرة. شرح صحيح مسلم(5/275).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
ومعناه: لا يَترك مجازاته بشيء من حسناته، والظلم يُطلق بمعنى النقص، وحقيقة الظلم مُستحيلة من الله تعالى. شرح النووي على مسلم (17/150).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ الله لا يظلم مؤمنًا حسنة» قال الشُّرَّاح: أي: لا يُضيع أجر حسنة المؤمن، ولا يَخفى أنه حاصل المعنى.
وأما بحسب التركيب والمعنى: فالظالم يتَعَدى إلى مفعولين، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} يونس: 44.
وفي القاموس: ظَلَمَه حقَّه، أي: مَنَعَه إياه. مرقاة المفاتيح (8/3227).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «لا يَظلم مؤمنًا حسنة» أي: لا يَترك مجازاة حسنة من حسناته. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (4/307).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«لا يَظلم مؤمنًا حسنة» أي: لا يُنْقِصُ عن مؤمن جزاء حسناته، ولو مثقال ذرة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (25/431).
قوله: «يُعْطَى بها في الدنيا، ويُجْزَى بها في الآخرة»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
الباء في قوله: «يُعطى بها» إنْ حُملت على السببية، فتحتاج إلى مُقَدَّر، أي: يُعطى بسببها حسنة، وإنْ حُملت على البدل فلا.
وأما الباء في «يُجزى بها» فهي للسببية. شرح المشكاة (10/ 3273).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «يُعطى بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة» الباء في الموضعين يحتمل: أن تكون للسببية أو البدلية، والمفعول الثاني محذوف، أي: يُعطى المؤمنُ بتلك الحسنة في الدنيا حسنة، ويُجزى بها في الآخرة حسنة.
وقول الطيبي: وأما الباء في «يُجزى بها» فهي للسببية، مما لا يظهر وجْهُه.
ومعنى الحديث: أنَّ المؤمن يُثاب بالحسنة في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فيُجزى جزاءً وافيًا، وأما في الدنيا فيُعطى أيضًا شيئًا منه، كطِيب العيش، وفراغ الخاطر، وسلامة الحال. لمعات التنقيح (8/397).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «يُعطى» بالبناء للمفعول «بها في الدنيا» أحد الظرفين نائب الفاعل، والآخر في محل الحال، «ويُجزى بها» أي: ثوابًا مع ذلك «في الآخرة»، وجملة «يُعطى..» إلخ استئنافية جواب «ما»، يقال: ماذا يكون له بها؟. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/332).
وقال الملا علي قاري -رحمه الله-:
«يُعطى» استئناف بيان بصيغة المجهول، أي: يُعطى المؤمن كلَّ خير «بها» أي: بسبب تلك الحسنة، «في الدنيا» مِن رفع البلاء وتوسعة الرزق، وغير ذلك من النعماء.
وفي نسخةٍ بصيغة الفاعل، أي: يُعطي اللهُ إياه بتلك الحسنة أجرًا في الدنيا، «ويجزى بها في الآخرة» على بناء المفعول، أو الفاعل، طِبْقَ ما قبله. مرقاة المفاتيح (8/3227).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
قوله: «يُعطى بها في الدنيا» يعني: أنه إذا اكتسب حسنة يُكافئه الله في الدنيا بتوسيع رزقه، وتحسين خُلُقه، ودفع البلاء عنه، «ويُجزى بها في الآخرة» أي: يُثِيْبُه فيها بالجنة واللقاء. شرح مصابيح السنة (5/383).
وقال النووي -رحمه الله-:
فأما أجْرُ الدنيا: فهو أن يدفع عنه البلاء، ويوسِّع رزقه، ويُحسن جماله، ويُحبِّبه في قلوب الناس.
وأما أجر الآخرة: فاللقاء والجنة. شرح النووي على مسلم (5/275).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وقد يُحفَظ الجزاء كلُّه له للآخرة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/415).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «يُجزى بها» أقول: فيهما -أي: المؤمن والكافر- مِثْلان في الجزاء في الدنيا، ويختص المؤمن بالجزاء في الآخرة؛ وذلك لأنه كان مؤمنًا بها، وأنها دار الجزاء، والكافر كان منكرًا قائلًا: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين} الأنعام: 29، فكأنه أُجيب عليه بالفور: ليس له من جزاءٍ في الآخرة؛ لعدم إيمانه بها. التَّحبير لإيضَاح مَعَاني التَّيسير (2/79).
وقال الملا علي قاري -رحمه الله-:
ومقتضى المقابلة ما ورد في حديث آخر: «إنَّ المؤمن يُجزى بسيئاته في الدنيا من أنواع المحْنة والمشقة والبلايا والرَّزَايا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له سيئة يعاقب عليها».
ويؤيده ما روى أحمد وابن حبان أنه «لما نزل قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} النساء: 123، قال أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه-: فمن ينجو من هذا يا رسول الله؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: غفر الله لك يا أبا بكر، ألستَ تَحْزن؟ ألستَ تَنْصَب؟ ألستَ تَمْرَض؟ ألستَ تُصِيبُك الَّلأْوَاءُ؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: هو مما تُجزون به».
وقد صح على ما رواه الترمذي وابن جرير: «المصائبُ والأمراض في الدنيا جزاءٌ». وروى الحاكم في مُسْتدركه عن أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- مرفوعًا: «مَن يعمل سوءًا يُجْزَ به في الدنيا».
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «لا يُصِيبُ عبدٌ من الدنيا شيئًا إلا نَقص من درجاته عند الله، وإن كان عليه كريمًا» رواه ابن أبي الدنيا. مرقاة المفاتيح (8/3228).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
معناه: أنَّ المؤمن إذا اكتسب حسنة، يُكافئه الله تعالى؛ بأن يُوسِّع عليه رزقه، ويُرْغِد عيشه في الدنيا، وبأن يُجزى ويُثاب في الآخرة.
والكافر إذا اكتسب حسنة في الدنيا؛ بأن يَفُكَّ أسيرًا أو يُنقِذَ غريقًا، يُكافئه الله تعالى في الدنيا، ولا يُجزيه في الآخرة.شرح المشكاة (10/ 3273).
قوله: «وأما الكافر فيُطْعَم بِحَسَنَاتِ ما عمل بها لله في الدنيا»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
واعلم أنّ «أمَّا» التفصيلية تقتضي التعدد لفظًا أو تقديرًا.
وقرينتها ههنا: الكلام السابق، والقرينتان واردتان على التقابل، فيُقَدَّر في كل من القرينتين ما يُقابل الأخرى، ذَكَر في القرينة الثانية أن الكافر إذا صدَرت منه حسنة يستوفي أجرها بكمالها في الدنيا، حتى لا يكون له نصيب في الآخرة قَطُّ، والمؤمن بخلافه، إنما يُجزى الجزاء الأوفى في الآخرة؛ ولذلك قيل: «يُجزى بها في الآخرة» مصرحًا، وما يناله في الدنيا من رغد العيش المشار إليه بقوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} النحل:97، فهو فضلٌ وإحسان من الله تعالى؛ ولذلك قيل: «يُعطى بها»، ولم يقل: «يُجزى بها».
وتحرير المعنى: أن الله تعالى لا يَظلم أحدًا عمِلَ حسنة، فأما المؤمن فيَجزيه في الآخرة الجزاء الأوفى، ويفضل عليه في الدنيا.
وأما الكافر فيَجزيه في الدنيا الجزاء الأوفى، وما له في الآخرة من نصيب.
وإليه يُنظر قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيب} الشورى:20.شرح المشكاة (10/ 3273).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
ذكر الطيبي أنَّ استعمال لفظ الإعطاء لنعم الدنيا، ولفظ الجزاء لنعم الآخرة، يشير إلى أن ما يُعطى المؤمن من النعم في الدنيا ليس جزاءً لحسناته، وإنما هو فضل من الله وإحسان إليه، وأنَّ جزاءه ما سيجِدُه في الآخرة، والله أعلم. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (25/431).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وأما الكافر فيُطَعَم» بصيغة المجهول لا غير، أي: يُعطى، وفي العُدول إشارة إلى أن مَطْمَحَ نَظَر الكافر في العطاء إنما هو بَطْنُه.
والمعنى: أنه يُجزى «بحسنات ما عَمِل بها لله» أي: من إطعام فقير، وإحسان ليتيم، وإغاثة ملهوف، ونحوها من طاعات، لا يشترط في صحتها الإسلام، «في الدنيا» ظرف لـ «يُطَعَم». مرقاة المفاتيح (8/3227).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
وحاصله: أنَّ الله يُقابِل عبده المؤمن بالفضل، والكافر بالعدل، ولا يُسْأَلُ عما يُفعل، ولعل الحديث مقتبس من قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيب} الشورى: 20. مرقاة المفاتيح (8/3228).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وأما الكافر فيُطْعَمُ» بالبناء للمفعول: أي: يُرزق «بحسنات ما عمل بها»، الباء الأولى للسببية، والثانية للبدل، أي: بدلها...
وفيه: تنبيه على أن جزاء الكافر على عمَلِه بالحسنة الدنيوية إنما هي فيما إذا كان العمل الصالح لا لرِيَاء أو سُمعة.
وفيه: إيماء إلى إحباطهما ثواب العمل وصفة الثواب دنيا وأخرى. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/332).
قال ابن علان -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «الكافر» بأي: نوع من أنواع الكفر، «إذا عمل حسنة» أي: طاعة لا تتوقف على نيَّةٍ، كإعتاقٍ وتصدُّقٍ، وإطعامِ مُحتاج.
أما المتوقِّفة عليه، كالصيام والصلاة، فلا تصح منه؛ لِفَقْدِ شرط النية المتوقفة عليه من الإسلام، وإنما حُكم بصحة غُسْل الكتابية من نحو الحيض، فحَلَّت لحَلِيلِها للضرورة، ولذا تجب إعادته إذا أسلمت.
«أُطْعِمَ» بالبناء للمجهول «بها طُعْمَةً»... «من الدنيا» في محلِّ الصفة لِـ«طُعْمة»، فيكون ذلك حظُّه من عمله الذي جاء به. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/331-332).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «وأما الكافر فيُطْعَمُ بحسنات» هكذا رواه الجماعة، ورواه ابن ماهان: «فيُعطى بحسنات»، وكلاهما صحيح المعنى.
وتسمية ما يَصْدر عن الكافر حسنة، إنما كان بحسب ظن الكافر، وإلا فلا تصح منه قُرْبة؛ لعدم شَرْطها الذي هو الإيمان، أو سُميت حسنة لأنها تُشبه صورة حسنة المؤمن ظاهرًا.
ثم هل يُعطى الكافر بحسناته في الدنيا ولا بد؛ بحكم هذا الوعد الصادق؟ أو ذلك مقيَّد بمشيئة الله المذكورة في قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} الإسراء: 18، وهذا هو الصحيح. المفهم (1/460).
وقال المازري -رحمه الله-:
الكافر لا يصح منه التقرب فيكون مثابًا على طاعاته.
ويصح أن يكون مُطيعًا غير مُتَقَرِّب كنظره في الإيمان، فإنه مطيع فيه من حيث كان موافقًا للأمر، والطاعة عندنا موافَقَة الأمر، ولكنه لا يكون مُتقرِّبًا؛ لأن مِن شَرْط المتقرِّب أن يكون عارفًا بالمتقرَّب إليه. المعلم بفوائد مسلم (1/308).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
الأصل أن الكافر لا يُجزى في الآخرة على خيرٍ عمِلَهُ في الدنيا، ولا يُكتب له حسنة؛ لأن شرط الثواب والجزاء عُدِمَ وهو الإيمان، لكن أخبر في هذا الحديث أنه مِن عَدْلِ الله أنه قد جازاه بها في الدنيا؛ بما أعطاه ورَزَقَهُ وأطْعَمَهُ، بخلاف المؤمن الذي يدَّخر له حسناته في الآخرة. إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/341).
وقال النووي -رحمه الله-:
أجمع العلماء على أن الكافر الذي مات على كفره لا ثواب له في الآخرة، ولا يُجازى فيها بشيء مِن عمَلِه في الدنيا مُتقرِّبًا إلى الله تعالى.
وصرَّح في هذا الحديث بأن يُطْعَم في الدنيا بما عمله من الحسنات، أي: بما فعله مُتقرِّبًا به إلى الله تعالى، مما لا يَفتقِرُ صحَّتُه إلى النية، كصِلَة الرحم، والصدقة والعتق والضيافة، وتسهيل الخيرات ونحوها...، وأما إذا فعَل الكافر مثل هذه الحسنات ثم أسلم، فإنه يُثاب عليها في الآخرة على المذهب الصحيح.شرح النووي على مسلم (17/150).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي-رحمه الله-:
الكافر لا ينفعه أيُّ عمل من أعمال البِرّ؛ لإحباطه بكُفْره، كما أخبر الله تعالى بذلك، فقال: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} الفرقان: 23. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (5/476).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
أقول: إن كان مرادهم أن الكافر لا ينتفع بما عَمِل من حسنات الدنيا نعيمًا في الآخرة فمُسَلَّم؛ لأن حسناته الدنيوية مهما عظُمت فعقوبة الكفر أعظم، فلا جنَّةً ولا نعيمًا.
وإن أرادوا أنه لا ينتفع بها في الآخرة إطلاقًا، ففيه نظر؛ لأنه قد لا ينتفع بها في الدنيا فمقتضى العدل أن ينتفع بها في الآخرة، تخفيفًا من العذاب، وليس الكفار في الآخرة في نار واحدة، ودرجة تعذيب واحدة، وقد علمنا أن أبا طالب يخفَّف عنه العذاب بما عمل في الدنيا، فلا مانع من أن يُخَفِّفَ عنه شيئًا من العذاب؛ لقاء ما قدَّم. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/415).
وقال المازري -رحمه الله-:
وبعض الناس ذهب إلى أنه يخفَّف عنه من العذاب؛ لأجل ما قدَّم من حسنات. المعلم بفوائد مسلم (3/350).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يُثَابُون عليها بنعيم، ولا تخفيف عذاب، لكنهم بإضافة بعضهم للكفر كبائر المعاصي، وأعمال الشر، وأذى المؤمنين، وقتل الأنبياء والصالحين، يزدادون عذابًا. إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/597).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
القاعدة في هذه المسألة: أن الكافر يُجازى على عمله الصالح شرعًا في الدنيا، فلا تنفعه حسناته في الآخرة، ولا يُخفَّفُ عنه العذاب بسببها، فضلًا عن أن ينجو منه.
وقد يظن بعض الناس أن في السُّنة ما ينافي القاعدة المذكورة، من مثل حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذُكِرَ عنده عمُّه أبو طالب، فقال: «لعلَّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيُجْعَل في ضَحْضَاحٍ من نار، يبلغ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي منه دماغُه».
وجوابنا على ذلك من وجهين أيضًا:
الأول: أننا لا نجد في الحديث ما يُعارض القاعدة المشار إليها؛ إذ ليس فيه أنَّ عَمَلَ أبي طالب هو السبب في تخفيف العذاب عنه، بل السبب شفاعتُه -صلى الله عليه وسلم-، فهي التي تنفعه، ويؤيد هذا الحديث التالي:
عن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله، هل نفعتَ أبا طالب بشيء، فإنه كان يَحُوطُك ويَغْضب لك؟ قال: «نعم، هو في ضَحْضَاحٍ من نار، ولولا أنا (أي: شفاعته) لكان في الدَّرْكِ الأسفل من النار»...
فهذا الحديث نصٌّ في أن السبب في التخفيف إنما هو النبي -عليه السلام-، أي: شفاعته -كما في الحديث قبله-، وليس هو عَمَل أبي طالب، فلا تعارض حينئذٍ بين الحديث وبين القاعدة السابقة، ويعود أمر الحديث أخيرًا إلى أنه خصوصية للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكرامة أكرمه الله -تبارك وتعالى- بها؛ حيث قَبِلَ شفاعته في عمِّه وقد مات على الشرك، مع أن القاعدة في المشركين أنهم كما قال -عزَّ وجلَّ-: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين} المدثر:48، ولكن الله -تبارك وتعالى- يخصُّ بتفضُّلِه مَن شاء، ومَن أحَقّ بذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيد الأنبياء؟ -عليهم جميعًا صلوات الله-.
والجواب الثاني: أننا لو سلَّمنا جدلًا أن سبب تخفيف العذاب عن أبي طالب هو انتصاره للنبي -صلى الله عليه وسلم- مع كفره به، فذلك مستثنى من القاعدة، ولا يجوز ضربها بهذا الحديث، كما هو مقرر في علم أصول الفقه، ولكن الذي نعتمده في الجواب إنما هو الأول؛ لوضوحه، والله أعلم. سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 119-121).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذه هي القاعدة في هذه المسألة: أن الكافر يجازى على عَمَلِه الصالح شرعًا في الدنيا، فلا تنفعه حسناته في الآخرة، ولا يخفَّف عنه العذاب بسببها، فضلًا عن أن ينجو منه.
وهذا في حسنات الكافر الذي يموت على كفره، كما هو ظاهر الحديث، وأما إذا أسلم، فإن الله -تبارك وتعالى- يكتب له كل حسناته التي كان عَمِلَ بها في كُفْرِه، ويُجازيه بها في الآخرة، كما جاء بذلك أحاديث كثيرة، كحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا: «إذا أسلم العبد فحَسُنَ إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزْلَفَهَا، ومُحِيَت عنه كل سيئة كان أَزْلَفَهَا، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلَّا أن يتجاوز الله عنها» حديث صحيح، أخرجه مالك في الموطأ، والنسائي، والبيهقي في شُعَبِ الإيمان.
ولا يُعارِضُ ما ذُكر ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذُكِرَ عنده عمُّه أبو طالب، فقال: «لعلَّه تنفعُه شفاعتي يوم القيامة، فيُجْعَلُ في ضَحْضَاحٍ من نار، يبلغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي منه دماغُه»؛ لأن ذلك بسبب شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا بعَمَلِهِ، ويؤيِّدُه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ولولا أنا لكان في الدَّرْكِ الأسفل من النار» رواه مسلم، وهو مخصوص من عموم قوله تعالى في الكفار: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين} المدثر: 48.
والحاصل: أن ذلك من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو بشفاعته لا بعمله الصالح، فلا يُعارِض النصوص المتقدمة فتَنَبَّه، والله تعالى أعلم بالصواب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (26/204-205).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«وأما الكافر فيُطَعَم بحسنات...» أي: ولا يَظلم كافرًا حَسنة، فكُل حسنة يعملها لله يُجزى بها نعيمًا ومتعة في الدنيا، مِن غِنًى أو صحةٍ أو أولادٍ، أو نحو ذلك. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/415).
قوله: «حتى إذا أَفْضَى إلى الآخرة لم تكن له حَسنة يُجْزَى بها»:
قال النووي -رحمه الله-:
ومعنى: «أَفْضَى إلى الآخرة» صار إليها. شرح النووي على مسلم (17/150).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«حتى إذا أَفْضَى إلى الآخرة»: أوْصَلَهُ إليها. شرح مصابيح السنة (5/383).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«حتى إذا أَفْضَى» أي: صار «إلى الآخرة» أي: وقد مات على كُفرهِ، «لم يكن له حسنة يُجْزى بها»، أما إذا أسلم الكافر على مثل هذه الحسنات فيُثاب عليها في الآخرة على المذهب الصحيح. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين(4/332).
وقال الملا علي قاري -رحمه الله-:
«حتى إذا أَفْضَى» أي: وصل «إلى الآخرة لم تكن» بالتأنيث، وتُذَكَّر أي: لم يبقَ ولم يوجد «له حسنة يُجزى بها»، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. مرقاة المفاتيح (8/3227).
وقال أبو العباس القرطبيّ -رحمه الله-:
أي: لا يَتخلّص من العذاب بسببها. المفهم (1/460).
وقال المازري -رحمه الله-:
وقوله: «فإذا أَفْضَى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها» يشير إلى أنه لا منفعة له في الآخرة أصلًا بما عمل من ذلك.
ومحمل قوله: «بحسناتِ ما عَمِلَ لله بها» عند مَن قال: إنه لا يعرف الله أصلًا على معنى أنه يعتقد أنه يعمل لله، وإن كان اعتقاده ليس بعلم ولا معرفة بالله -سبحانه-. المعلم بفوائد مسلم (3/351).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «حتى إذا أَفْضَى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُعطى بها خيرًا».
إن قلتَ: قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} الفرقان: 23، فسَّر العمل بما كانوا يفعلونه من صدقة وصلة رحم، فدلَّت الآية أنها تبطل أعمالهم في الآخرة، والحديث دل على أنه لا عمل لهم يُوافَون به في الآخرة؟
قلتُ: الحديث أفاد أنهم يُعطون عليها الجزاء في الدنيا، فيصدق أنهم يُوافون الآخرة ولا عمل لهم، وأنها تصير هباء؛ لأنهم يُؤجرون عليها في الدنيا، وبهذا سقط السؤال بأنه: ما وجْهُ إبطال أعمالهم الصالحة مع أنه جَور لا يجوز عليه؟ فإنه يقال: ما هنا إبطال لأعمالهم، بل قد جُوزوا عليها في الدنيا، فأفاد الحديث أنَّ فِعْلَ الخير مِن أي عامل لا بد مِن جزاء، فالكافر يختص جزاء فِعْله بالدنيا، والمؤمن يكافأ في الدارين. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 357).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث ما يدل على أن المؤمن يُعطى على نيِّةِ الآخرة الدنيا والآخرة، كما قال الله -عزَّ وجلَّ-: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} القصص:54، يعني: في الدنيا والآخرة، وقال -سبحانه وتعالى-: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} النساء:134، وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين} العنكبوت:27، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء} يوسف:56، فعدَّ نِعْمَته على يوسف مِن نَصْرِه له وتمكينِه، ثم قال بعد ذلك: {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} يوسف:57 أي: ثواب دار الآخرة خير من هذا الخير، والله -سبحانه وتعالى- له الدنيا والآخرة، يُعطيها مَن يشاء من عباده، وأما الدنيا فقد يُعطيها كافرًا ويمنعها كافرًا آخر، فيَجعل إعطاءها للكافر عذابًا عليه؛ لقوله: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا} التوبة:85، الآية. الإفصاح عن معاني الصحاح (5/345-346).
وقال الملا علي قاري -رحمه الله-:
فالحديث تفسير لِمَا في القرآن، وتبْيِينٌ لِمَا فيه من نوعَي جنس الإنسان، وبيان أن الله يجازي عباده المؤمن والكافر على النَّقير والقِطْمِير، والقليل والكثير، من الخير والشرّ، إما في الدنيا وإما في العُقبى، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزلة: 8، وقال -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء: 40، ولذا قال عمر -رضي الله عنه-: "لو كانت لي حسنة واحدة لَكَفَتْنِي"؛ بناءً على المضاعفة المذكورة، والمثوبة العظيمة المسطورة. مرقاة المفاتيح (8/3227).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
يشهد لهذا الحديث: قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيب} الشورى: 20.
وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} النحل: 97. تطريز رياض الصالحين (ص: 290).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في الحديث: بيان فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ حيث لا يظلم أحدًا مِن حسناته التي عملها، فأما المؤمن فيُجازيه بها في الدنيا والآخرة، وأما الكافر فيُعْطى بها في الدنيا مِن التوسعة في الرزق، وتسهيل الأمور ونحو ذلك. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (43/461).