«أَتَى النبيُّ-صلى اللهُ عليه وسلم- مسجدَ بني عبدِ الأشهلِ، فصلَّى فيهِ المغربَ، فلما قَضَوا صلاتَهم رآهم يُسبِّحونَ بعدها، فقال: هذهِ صلاةُ البيوتِ».
رواه أبو داود برقم: (1300)، واللفظ له.
ورواه الترمذي برقم: (604)، والنسائي برقم: (1600)، بلفظ «عليكم بهذه الصلاة في البيوت»، من حديث كعب بن عُجْرة -رضي الله عنه-.
وأحمد برقم: (23624)، «اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم»، من حديث محمود بن لبيد -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (7010)، صحيح سنن أبي داود برقم: (1176).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يُسبِّحونَ»:
أي: يُصلون نافلة. مرقاة المفاتيح، للقاري (3/ 898).
والتسبيح في العربية: هو أن يقول: سبحان اللَّه، سبحان اللَّه، وسبَّحْتُ اللَّهَ أُسبِّحُهُ تسبيحًا، هذا هو الأصل، ثم إنَّه أُطْلِقَ على صلاة النافلة خاصةً دون الفريضة، فقالوا لصلاة النافلة: سُبْحَةٌ، وسبَّح المصلي: إذا صلى نافلةً؛ وإنما سُميت سُبْحَةٌ لما فيها من التسبيح والدعاء، وإن كان ذلك أيضًا موجودًا في الفرض وجوده في النافلة، ولكنَّهم جعلوه خاصًّا بالنافلة وَضْعًا واصطلاحًا. الشافي في شرح مسند الشافعي، لابن الأثير (1/ 479).
شرح الحديث
قوله: «أَتَى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- مسجدَ بني عبدِ الأشهلِ»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «عبد الأشهلِ» بالشين المعجمة: بطن من الأنصار. شرح سنن أبي داود (5/ 205).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«بني عبد الأشهل» طائفة من الأنصار. مرقاة المفاتيح (3/ 898).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «أَتَى مسجدَ بني عبدِ الأشْهل» هم من أنصار الأوس، وعبد الأشهل هو ابن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصغر ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة. مرعاة المفاتيح (4/ 159).
قوله: «فَصَلَّى فِيهِ المغربَ»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فَصَلَّى فِيهِ المغربَ» أي: فرض المغرب. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (5/ 539).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فَصَلَّى فِيهِ المغربَ» أي: فرضه، أو سنته. مرقاة المفاتيح (3/ 898).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فَصَلَّى فِيهِ المغربَ» رواه ابن ماجه عن رافع بن خديج -رضي الله عنه- بلفظ: «أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني عبد الأشهلِ، فصلَّى بنا المغرب في مسجدنا»، وفي هذا الحديث: دليل على أنَّ الإمام الأعظم إذا حضر في مسجد له إمام راتب؛ فهو أحق بالإمامة من الراتب، وبه قال أصحابنا (يعني: الشافعية). شرح سنن أبي داود (6/ 431).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال أصحابنا -رحمهم الله-: إذا حضر الوالي في محل ولايته قُدِّمَ على جميع الحاضرين، فيقدَّم على الأفقه والأقرأ والأورع، وعلى صاحب البيت، وإمام المسجد، إذا أذن صاحب البيت ونحوه في إقامة الصلاة في ملكه، فإن لم يتقدم الوالي قَدَّمَ من شاء ممن يصلح للإمامة، وإن كان غيره أصلح منه؛ لأنَّ الحق فيها له، فاختُصَّ بالتَقَدُّمِ والتقديمِ. المجموع شرح المهذب (4/ 284/ 285).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
ولا يعارض هذا ما رواه المصنف (أي: أبو داود) والترمذي من حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- مرفوعًا: «من زار قومًا فلا يَؤُمُّهم»؛ فإنَّه محمول على الإمام إذا حضر في مكان مملوك فلا يؤمّ المالك فيه إلَّا إذا أَذِنَ صاحب البيت في إقامة الصلاة في مِلْكِه -كما تقدم-، قال ابن المنير: في حديث: «من زار قومًا فلا يؤمهم»: مُرَادُهُ: أنَّ الإمام الأعظم، ومن يجري مجراه إذا حضر في مكان مملوك لا يتقدم عليه مالك الدار، أو المنفعة، لكن ينبغي للمالك أن يأذن فيه ليجمع بين الحديثين، حق الإمام في التَقَدُّمِ، وحق المالك في منع التصرف في ملكه بغير إذنه. شرح سنن أبي داود (6/ 432).
قوله: «فَلمَّا قَضَوا صَلَاتَهم»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فَلمَّا قَضَوا صَلَاتَهم» أي: بعض القوم. مرقاة المفاتيح (3/ 898).
قوله: «رَآهُمْ يُسَبِّحُونَ بَعْدَهَا»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«رَآهُمْ يُسَبِّحُونَ» أي: يتَطَوَّعون. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (5/ 539).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«رَآهُمْ يُسَبِّحُونَ» أي: يصلون نافلة، قوله: «بعدها» أي: بعد صلاة المغرب. مرقاة المفاتيح (3/ 898).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
يسبحون بعد الصلاة، أي: يتنفلون؛ لأنَّ التسبيح المراد به: التنفل، ويقال للنافلة: سُبحة، ويقال للذي يتنفَّل: يُسبِّح، وقد مرَّت أحاديث عديدة فيها التعبير بهذه العبارة التي هي إطلاق النافلة على السُبْحَةِ. شرح سنن أبي داود (160/ 3).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «رَآهُمْ يُسَبِّحُونَ بَعْدَهَا» أي: مُتَنفِّلُون بعد صلاة المغرب، أراد بها سُّنَّةُ المغرب. شرح سنن أبي داود (5/ 205).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«رَآهُمْ يُسَبِّحُونَ بَعْدَهَا» أي: يُصلون النوافل بعدها في المسجد، والنوافل -الرواتب وغيرها- في البيوت أفضل؛ لحديث: «فإن خير صلاة المرء في بيته إِلَّا الصلاة المكتوبة». شرح سنن أبي داود (6/ 432).
قوله: «هذه صلاة البيوت»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«هذه» أي: التطوع بعد المغرب. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (5/ 539).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«هذه صلاة البيوت» أخرجه أبو داود والنسائي، وعنده: «عليكم بهذه الصلاة في البيوت». التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/ 796).
وقال السندي -رحمه الله-:
«بهذه الصلاة» أي: الصلاة بعد المغرب، أو النافلة مطلقًا، والأول أقرب، ويلزم منه أن يكون للصلاة التي بعد المغرب زيادة اختصاص بالبيت، فوق اختصاص مطلق النَّافلة به -والله تعالى أعلم-. حاشية السندي على سنن النسائي (3/ 199).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
قوله: «صلاة البيُوْتِ» أي: أولى أن يُصلى بها في البيوت، وفي رواية للبخاري: «وبعد المغرب ركعتين في بيته»، وفي لفظ له: «فأمَّا المغرب والعشاء ففي بيته». بذل المجهود في حل سنن أبي داود (5/ 539).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «صلاة البيوت» أي: الأولى والأحرى أنْ تكون في البيوت لا في المساجد. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (2/ 59).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
قوله: «هذه صلاة البيوت» كَرِهَ قوم التطوع في المسجد بعد صلاة المغرب؛ لهذا الحديث، ولا حجة فيه لهم؛ لأنَّه لو كرهه لنُهِيَ عنه -والله أعلم-. التمهيد (14/ 169).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «صلاةُ البيوتِ» وهو خبر بمعنى الأمر، ففي رواية النسائي: «عليكم بهذه الصلاة في البيوت»، وفي رواية أحمد: «اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم» -السبحة بعد المغرب-، وبظاهر الأمر أخذ ابن أبي ليلى فقال بعدم صحَّة سُنَّة المغرب في المسجد، واستحسنه أحمد، وحمل الجمهور الأمر على الندب...، أي: أنَّ الأفضل صلاة النوافل -ولا سيما راتبة المغرب البعدية- في البيوت؛ لأنَّه أبعد من الرياء، وأقرب إلى الإخلاص؛ ولما فيه من حصول بركة الصلاة في البيوت، وهذا في حق غير المعتكف، أمَّا هو فإنَّه يؤدِّيها في المسجد بلا كراهة اتفاقًا، ومن الحديث أخذ العلماء: أنَّ الأفضل تأدية النوافل في البيوت. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (7/ 217).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
الأمر في حديث محمود بن لبيد -رضي الله عنه- هذا محمول على الندب؛ جمعًا بينه وبين الأحاديث التي تدل على صلاته -صلى الله عليه وسلم- بعد المغرب في المسجد، كحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره... مرعاة المفاتيح (4/ 159).
وقال الترمذي -رحمه الله-:
(بعد أن روى حديث كعب بن عُجْرة: «عليكم بهذه الصلاة في البيوت»): هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والصحيح: ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: «كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته».
وقد روي عن حذيفة -رضي الله عنه-: «أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب فما زال يصلي في المسجد حتى صلى العشاء الآخرة»؛ ففي هذا الحديث: دلالة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الركعتين بعد المغرب في المسجد. سنن الترمذي (1/ 742 ــ 743).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
ورواية ابن ماجه: قال: «اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم»، ولفظ الترمذي: «فقام ناس يتنفَّلون، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: عليكم بهذه الصلاة في البيوت»؛ فحضهم على الأفضل، وهو الصلاة في بيوتهم، وإقراره لهم على صلاتهم، ولم يأمرهم بإعادتها: دليل على أن صلاتهم صحيحة، ويدل على الجواز: رواية الترمذي...، عن حذيفة -رضي الله عنه-: «أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب فما زال يصلي في المسجد حتى صلى العشاء الآخرة»، ثم قال (الترمذي): ففي هذا الحديث دلالة على أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الركعتين بعد المغرب في المسجد. شرح سنن أبي داود لابن رسلان (6/ 432).
وقال العيني -رحمه الله-:
إنما هذه الصلاة في البيوت لأنها أبعد من الرياء؛ ولئلا تُخلى البيوت عن ذكر الله تعالى. نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار(5/ 401).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «صلاة البِيُوتِ» بكسر الباء وضمها، أي: الأفضل كونها فيها؛ لأنها أبعد من الرياء، وأقرب إلى الإخلاص لله تعالى؛ ولأنَّه فيه: حظ للبيوت من البركة في الصلوات، والظاهر: أنَّ هذا إنما هو لمن يريد الرجوع إلى بيته؛ بخلاف المعتكف في المسجد، فإنَّه يصليها فيه، ولا كراهة بالاتفاق، رواه أبو داود، وفي رواية الترمذي والنسائي: «قام ناس يتنفَّلون، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: عليكم بهذه الصلاة في البيوت» إرشادًا لما هو الأفضل. مرقاة المفاتيح (3/ 898).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وكان يصلي -صلى الله عليه وسلم- عامة السنن، والتطوع الذي لا سبب له في بيته، لا سيما سنة المغرب، فإنه لم يُنْقَلْ عنه أنه فعلها في المسجد ألبَتَّة.
وقال الإمام أحمد في رواية حنبل: السُّنَّةُ أن يصلي الرجل الركعتين بعد المغرب في بيته، كذا روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، قال السائب بن يزيد: لقد رأيتُ الناس في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إذا انصرفوا من المغرب، انصرفوا جميعًا؛ حتى لا يبقى في المسجد أحد، كأنهم لا يصلون بعد المغرب حتى يصيروا إلى أهليهم. انتهى كلامه.
فإن صلى الركعتين في المسجد، فهل يجزئ عنه، وتقع موقعها؟ اختلف قوله، فروى عنه ابنه عبد الله أنَّه قال: بلغني عن رجل سماه أنه قال: لو أنَّ رجلًا صلى الركعتين بعد المغرب في المسجد ما أجزأه، فقال: ما أحسن ما قال هذا الرجل، وما أجود ما انتزع، قال أبو حفص: ووجهه: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الصلاة في البيوت.
وقال المروزي (يسأل أحمد): مَن صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد يكون عاصيًا؟ قال: ما أعرف هذا.
قلتُ له: يحكى عن أبي ثور أنَّه قال: هو عاصٍ، قال: لعله ذهب إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اجعلوها في بيوتكم»، قال أبو حفص: ووجهه: أنه لو صلى الفرض في البيت، وترك المسجد أجزأه، فكذلك السُّنَّة، انتهى كلامه، وليس هذا وجهه عند أحمد -رحمه الله-، وإنما وجهه: أنَّ السنن لا يشترط لها مكان معين، ولا جماعة، فيجوز فعلها في البيت والمسجد -والله أعلم-. زاد المعاد (1/ 302).
وقال ابن القيم -رحمه الله- أيضًا:
وفي سنة المغرب سنتان ... الثانية: أن تُفْعَلَ في البيت، فقد روى النسائي، وأبو داود، والترمذي من حديث كعب بن عُجْرة: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى مسجد بني عبد الأشهل، فصلى فيه المغرب، فلما قضوا صلاتهم، رآهم يسبحون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت»، ورواه ابن ماجه من حديث رافع بن خَدِيج -رضي الله عنه- وقال فيها: «اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم»، والمقصود: أنَّ هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فِعْلُ عامَّة السنن والتطوع في بيته، كما في الصحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: «حفظتُ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح».
وفي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي في بيتي أربعًا قبل الظهر، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين». زاد المعاد (1/ 303 ـــ 304).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «صلاة البيوت» يحتمل: أن يكون إشارة إلى خصوص سُنَّة المغرب، وهو الأظهر، وأنَّ يكون إشارة إلى مطلق صلاة النفل، وفي لفظ ابن ماجه: «اركعوا هاتين في بيوتكم»، وهذا أيضًا ظاهر في خصوص سنة المغرب، وبالجملة: الأفضل أن تكون الصلاة نافلة في البيوت، وهكذا كان عمل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلا بسبب أو عذر، وكان يقول: «أيها الناس، صلوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»؛ خصوصًا سُنَّة المغرب لم يصلها في المسجد في وقتٍ ما، ومنهم من قال: لو صلى هاتين الركعتين في المسجد لم يجزئ. لمعات التنقيح (3/ 296).
وقال ابن حجر -رحمه الله- (عن قول ابن عمر: «فَأمَّا المغرب والعشاء ففي بيته»):
قوله: «فَأمَّا المغرب والعشاء ففي بيته» استُدِلَّ به على أنَّ فعل النوافل الليلية في البيوت أفضل من المسجد؛ بخلاف رواتب النهار، وحُكي ذلك عن مالك والثوري، وفي الاستدلال به لذلك نظر، والظاهر: أنَّ ذلك لم يقع عن عمد، وإنما كان -صلى الله عليه وسلم- يتشاغل بالناس في النهار غالبًا، وبالليل يكون في بيته غالبًا، وتقدم في الجمعة من طريق مالك عن نافع بلفظ: «وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف»، والحكمة في ذلك: أنَّه كان يبادر إلى الجمعة، ثم ينصرف إلى القائلة. فتح الباري (3/ 50).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
تقييدها يدل على أنَّ ما عداها كان يفعله في المسجد، وكذلك قوله: «وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح» لم يُقَيِّدهما، مع أنَّه كان يصليهما -صلى الله عليه وسلم- في بيته، وكأنه ترك التقييد لشهرة ذلك من فعله -صلى الله عليه وسلم-. سبل السلام (1/ 334).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
وأغرب بن أبي ليلى فقال: لا تجزئ سنة المغرب في المسجد، حكاه عبد الله بن أحمد عنه، عقَّب روايته لحديث محمود بن لبيد رفعه: «إنَّ الركعتين بعد المغرب من صلاة البيوت»، وقال: إنه حكى ذلك لأبيه عن ابن أبي ليلى فاستحسنه. فتح الباري (3/ 51).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
من لم يرَ الركعتين بعد المغرب في المسجد، ورآهما في البيت، إنما هو على الاختيار، لا على أنَّ ذلك لا يجوز -والله أعلم-. التمهيد (14/ 176).
وقال الأثرم -رحمه الله-:
باب: الركعتين بعد المغرب أين تُصَلَّيَان؟ روى مالك وغيره عن نافع عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «صلوا هاتين الركعتين في بيوتكم»، وكذلك روى سعد بن إسحاق عن أبيه عن جده كعب بن عُجْرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «هذه صلاة البيوت»، ومحمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «صلوا هاتين الركعتين في بيوتكم».
وروى إسرائيل عن ميسرة عن المنهال بن عمرو عن زر عن حذيفة: «أنه صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- المغرب، ثم صلى إلى العشاء في المسجد»، وروى يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كان يصلي بعد المغرب ركعتين حتى يتصدع أهل المسجد».
فاختلفت هذه الأحاديث في ظاهرها، والأولى أثبت؛ لأن حديث ابن عباس قد أفسده قومٌ؛ رووه عن سعيد بن جبير مرسلًا في هذا، ففيه رخصة لمن عمل به، وتلك أوكد؛ لأنها أمر وهذا فعل، والأمر أوكد من الفعل؛ لأن الأمر لا يكون إلا عامًّا، والفعل قد يكون خاصًّا، وقد وكدت تلك الأحاديث الأولى أحاديث جاءت عن عِلية الصحابة. ناسخ الحديث ومنسوخه (ص: 68 ـــ 69).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
الآثار كلها تبين لك أن صلاة الركعتين بعد المغرب في البيت أفضل، وأنَّه الأمر القديم، وعمل صدر السلف، وهو الثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه كان يصليها في بيته من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-، ومن حديث غيره أنها صلاة البيوت، وأمَّا حديث جعفر بن أبي المغيرة، فليس تقوم به حجة، ولكنه أمر لا حرج على من فعله؛ لأنَّ الأصل فيه أنَّه فِعْلُ برٍّ وخيرٍ، فحيث فَعَلَ فحسن، إلا أن الأفضل من ذلك ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يواظب عليه، ومال أخيار صدر السلف إليه -وبالله التوفيق-. التمهيد (14/ 169-179).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال أصحابنا: فإذا صلى النافلة في المسجد جاز، وإن كان خلاف الأفضل؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «... فأما المغرب والعشاء ففي بيته» رواه البخاري ومسلم، وظاهره: أنَّ الباقي صلَّاها في المسجد؛ لبيان الجواز في بعض الأوقات، وهو صلاة النافلة في البيت، وفي الصحيحين: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى ليالي في رمضان في المسجد غير المكتوبات». المجموع شرح المهذب (3/ 492).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
والذي عليه العلماء: أنَّه لا بأس بالتطوع في المسجد لمن شاء، إلا أنَّهم مجمعون على أنَّ صلاة النافلة في البيوت أفضل؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة». الاستذكار (2/ 326).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
الظاهر: أن فعل الركعتين بعد المغرب في البيت أفضل، وأن ذلك وقع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عَمْدٍ، يدل عليه حديث محمود بن لبيد -رضي الله عنه- عند أحمد بلفظ: «اركعوا هاتين الركعتين في البيوت»، وحديث كعب بن عُجْرة -رضي الله عنه-: «هذه صلاة البيوت». مرعاة المفاتيح (4/ 132).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وسُئِلت عائشة -رضي الله عنها- عن صلاة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- من التطوع، فقالت: «كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعًا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثمَّ يدخل فيصلي ركعتين، ثم يخرج فيصلي بالناس العصر، ثم يدخل بيتي، ثم يخرج ويصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم يصلي بالناس العشاء، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين» فيه: دليل على استحباب أداء السُّنَّةِ في البيت.
قيل: في زماننا إظهار السنن الراتبة أولى؛ ليتعلَّمها الناس، ولا تَنْدَرِسُ. شرح المصابيح (2/ 135).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُعلقًا:
أي: ليعلموا علمها، أو لئلا ينسبوه إلى البدعة، ولا شكَّ أن متابعة السُّنَّةِ أولى مع عدم الالتفات إلى غير المولى. مرقاة المفاتيح (3/ 891).
وقال المباركفوري -رحمه الله- (متعقبًا القاري -رحمهم الله-):
لا شك أنَّ متابعة السُّنَّةِ أولى، لكن من المعلوم أنَّه قد يترك بعض المختارات من أجل خوف أن يقع الناس في أشدِّ من ترك ذلك المختار.
فالأولى عندي اليوم: أداء الرواتب في المسجد لا سيما للخواص من العلماء والمشايخ، فإنَّ الناس تَبَعٌ لهم فيما يفعلون ويذرون، فيتركون أولًا فعلها في المسجد في اتباعهم، ثم يتركونها رأسًا لوقوع التواني في الأمور الدينية، والغفلة عنها سيما التَّطوعات والنَّوافل؛ ولأنَّه لا يؤمن أن يتهمهم بعض الناس بترك الرواتب وإهمالهما، وقد شاهدنا ذلك في أمر التراويح، حيث أنه لما سمع بعض الجهال أنَّ صلاة الليل في البيت في آخر الليل أفضل من أوله في المسجد، ورأوا بعض العلماء: أنهم لا يصلونها في أول الليل، ترك هؤلاء أيضًا التراويح في المسجد بالجماعة في أول الليل قائلين: إنَّا نقوم في آخر الليل، لكنهم يتركونها رأسًا، فلا يصلونها لا في أول الليل، ولا في آخره. مرعاة المفاتيح (4/ 133).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
دلّ حديث كعب -رضي اللَّه تعالى عنه- («هذه صلاة البيوت») على الأمر بأداء سُّنَّةِ المغرب في البيوت.
وقد أخذ بظاهر الأمر ابن أبي ليلى، فقال بعدم صحة سنة المغرب في المسجد، واستحسنه أحمد، فقد ذكر عبد اللَّه بن أحمد بعد ذكر حديث محمود بن لبيد المتقدّم: ما نصّه: قلتُ لأبي: إن رجلًا قال: مَن صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد لم تُجْزِهِ، إلا أن يصليهما في بيته؛ لأنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «هذه من صلوات البيوت»، قال: مَن قال هذا؟ قلتُ: محمد بن عبد الرحمن (ابن أبي ليلى) قال: ما أحسن ما قال! أو ما أحسن ما انتزع. انتهى.
لكن الجمهور حملوا الأمر على الندب؛ للأحاديث الصحيحة الدالة على جواز النافلة في المسجد؛ فمنها: «أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- اتخذ حجرة في المسجد، فصلى فيها، وصلى بصلاته قوم»؛ فلو كانت النافلة لا تصحّ لبيّن لهم ذلك، وإنما أرشدهم إلى ما هو الأفضل، وهو التنفل في البيوت.
ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، مرفوعًا: «إذا صلّيتم الجمعة، فصلّوا أربعًا» زاد في رواية: «فإن عجل بك شيء، فصلّ ركعتين في المسجد، وركعتين إذا رجعت»...، وهذا كله في حقّ غير المعتكف، أما هو فيتنفّل في المسجد بلا كراهة، اتفاقًا. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (17/ 272).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)