«مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أو وضَعَ له، أظلَّه اللهُ يوم القيامةِ تحت ظلِّ عرشِه، يوم لا ظلَّ إلا ظِلُّهُ».
رواه أحمد برقم: (8711)، والترمذي برقم: (1306) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ورواه مسلم مطولًا برقم: (3006)، من حديث عُبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: «أَظّله الله في ظِلّه».
صحيح الجامع برقم: (6107)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (909).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَنْظَرَ»:
أي: أمهل. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 151).
والإنظار: التأخير والإمهال، يقال: أنظرته أنظره، ونظر الشيء: باعه بنظرة، وأنظر الرجل: باع منه الشيء بنظرة. واستنظره: طلب منه النظرة واستمهله. لسان العرب، لابن منظور (5/ 219).
«مُعْسِرًا»:
أي: فقيرًا. مرقاة المفاتيح (5/ 1953).
وقال الأزهري -رحمه الله-:
والعُسْر: نقيض الْيُسْر. والعُسْرَة: قِلّة ذَات اليَد. وكذلك الإعسار. والعُسْرى: الْأُمُور الَّتِي تعسُر وَلَا تتيسّر..تهذيب اللغة (2/ 48-49).
«وَضَعَ لَهُ»:
أي: حطَّ له من أصل المال شيئًا. الغريبين في القرآن والحديث، لأبي عبيد الهروي (6/ 2011).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
أي: حطَّ عنه من أصل الدَّين شيئًا. لسان العرب (8/ 397).
شرح الحديث
قوله: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أو وَضَعَ له»:
قال المازري -رحمه الله-:
قوله: «مَنْ أَنظر معسِرًا» أي: من أخّره، يقال: أَنْظَرْتُك بالدَّين وغيره: أَخَّرْتُك، والنَّظِرَةُ: التأخير، ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} الأعراف:14، وفي آية أخرى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة:280. المعلم بفوائد مسلم (3/ 388-389).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«مَنْ أَنظر مُعسرًا»؛ أي: أَمْهل مديونًا فقيرًا. شرح المصابيح (3/ 449).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«مَنْ أَنظر معسرًا» أي: أخَّر مطالبته «أو وَضَع» أي: حطَّ «له» أي: لأجله أو عنه. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 166).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«مَنْ أَنظر معسرًا أو وَضَع له» أي: حطَّ عنه دينه أو بعضه بالبراءة منه. الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 295).
قال العيني -رحمه الله-:
وليس المراد: من الوضع إسقاطه بالكلية. عمدة القاري (12/ 244).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«مَنْ أَنظر معسرًا» أي: أمهل مديونًا فقيرًا، من النَّظِرَة، قال الحرالي: وهي التأخير الْمُرْتَقَبُ نجازه. فيض القدير (6/ 89).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «مَنْ أَنظر معسرًا» أي: أمهل مديونًا فقيرًا، «أو وضع له» أي: حطَّ وترك دينه كله أو بعضه. تحفة الأحوذي (4/ 444).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«مَنْ أَنظر معسرًا» بدين له عليه. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 151).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أَنْظَرَهُ يعني: أمهله حتى يُوَسِّع الله عليه، وهذا أمر واجب...، فإن وضع عنه فهو أفضل وأكمل؛ لأنه إذا وضع عنه أبرأ ذمته، وأما إذا أَنْظَرَهُ فإنما أمهله وبقِيَت ذمته -أي: ذمة المطلوب- مشغولة لم تنفك.شرح رياض الصالحين (5/411).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وأما إنظار المعسر، فإنه واجب، يجب على الإنسان إذا كان صاحبه معسرًا لا يستطيع الوفاء، يجب عليه أن يُنْظِرَه، ولا يَحِلُّ له أن يُكْرِبَه يشد عليه في المطالبة فيدخل عليه الغم، أو يطالبه؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280.
فهناك فرق بين الإبراء وهو: إسقاط الدَّين عن المعسر، وبين الإنظار، فالإنظار واجب، والإبراء سنة، ولا شك أن الإبراء أفضل؛ لأن الإبراء تَبْرَأُ به الذمة نهائيًا، والإنظار تبقى الذمة مشغولة، لكن صاحب الحق لا يطالب به حتى يستطيع المطلوب أن يوفي، وبعض الناس -نسأل الله العافية- تَحِلُّ لهم الديون على أناس فقراء فيؤذونهم ويضربونهم ويطالبونهم، ويدفعون بهم إلى ولاة الأمور، ويحسبونهم عن أهليهم وأولادهم وأموالهم، وهذا لا شك أنه منكر، والواجب على القضاة إذا علموا أن هذا معسر لا يستطيع الوفاء، الواجب عليهم أن يقولوا للدائن: ليس لك حق في مطالبته؛ لأن الله تعالى هو الحكم، وهو الحاكم بين العباد، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280.
لكن يتعلَّل بعض القضاة في هذه المسألة يقولون: إن بعض المدينين يتلاعبون بالناس، فيأخذون الأموال، ويجحدون الإيسار، فيعاملونهم بهذا تنكيلًا بهم.
وهذا نعم؛ إذا ثبت أن هذا المدين يدَّعي الإعسار وليس بمعسر، فإنه لا بأس أن يُجْبَر ويُحْبس ويضرب حتى يُوَفِّي، فإن لم يفعل، فإن الحاكم يتولى بيع ما شاء من ماله، ويُوَفِّي دينه.
أما الذي نعلم أنه مُعْسِر حقيقة، فإنه لا يجوز لطالبه أن يطالبه، ولا أن يقول: أعطني، يجب أن يُعْرِض عنه بالكلية {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280، -والله الموفق-. شرح رياض الصالحين (5/409-10).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين:
إمّا بإنظاره إلى الميسرة، وذلك واجبٌ، كما قال تعالى: {وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280، وتارةً بالوضع عنه إن كان غريمًا، وإلّا فبإعطائه ما يزولُ به إعسارُه، وكلاهما له فضل عظيم. جامع العلوم والحكم (3/ 1008).
وقال الخَوْلي -رحمه الله-:
التجاوز عن المعسرين، وتفريج كرب المكروبين: من أعظم الأعمال مثوبة، وأكثرها عند الله أجرًا، وعند الناس حمدًا وشكرًا.
ولقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «من سرّه أن يُنَجِّيه الله من كُرب يوم القيامة فلْيُنَفِّس عن معسر، أو يضع عنه»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من فرَّج عن مؤمن كُربة من كُرب الدّنيا، فرَّج الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة». الأدب النبوي (ص: 267).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
ولكن ذلك الأجر إنما يكون له (أي: مَن أَنْظَرَ مُعْسِرًا) إذا فعله من قِبَل نفسه، دون أنْ يُحْوِجَه إلى إثبات والتحكُّم وحاكم، فإنْ رفعه حتى أثبت، وحُكم له بذلك، لم يكن له فيه ثواب؛ وذلك قول الله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280. وذلك من الغريم، فله الأجر الموعود به آنفًا، أو من الحاكم فله أجر القضاء بالحق، ولا يدخل في هذا الباب.
وأيضًا: الأجر في الوضع أعظم من الأجر في التَّأخير، فإنَّ الوضع إسقاط عين مالٍ، والتأخير إمهال. عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي (6/43).
قوله: «أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«أظَلَّهُ الله» من حَرِّ الشَّمْس عِنْد دُنُوِّها من الرؤوس يَوْم الْقِيَامَة، «فِي ظله» أَي: فِي ظلّ عَرْشه «يَوْم لَا ظلّ إلا ظله» إكرامًا له وجزاءً بِمَا فعل. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 401).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أظلَّه الله» يعني: نظرَ الله إليه يومَ القيامة بنظر الرحمة، ووقاه من حَرِّ يوم القيامة بأن وقَفَه (جَعَلَهُ يَقِف) في ظل العرش. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 464).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «أظلَّه الله» أي: وقاهُ الله من حَرِّ يوم القيامة على سبيل الكناية، أو وقفه الله في ظل عرشه على الحقيقة. شرح المشكاة (7/ 2173).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«أظَلَّه الله» من حَرِّ الشمس التي تدنو من العباد قدر ميل «يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله» ففيه غاية التشريف. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين» (7/ 166).
وقال المناوي -رحمه الله-:
يَعْنِي: فِي ظلّ عَرْشه فَلَا يصيبهم وَهَجُ الْحرِّ فِي ذَلِك الْموقف. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 518).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
أظَلَّه في ظلِّ عرشه حقيقة، أو أدخله الجنة «يوم لا ظل إلا ظِلُّه» أي: ظِلُّ الله، والمراد به: ظل الجنة، وإضافته لله إضافة مِلْك، وجزم جمعٌ بالأول فقالوا: المراد: الكرامة والحماية من مكاره الموقف، وإنما استحق الْمُنظِر ذلك؛ لأنه آثر المديون على نفسه وأراحه، فأراحه الله، والجزاء من جنس العمل. فيض القدير (6/ 89).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
«أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه» أي: أوقفه الله تحت ظل عرشه. تحفة الأحوذي (4/ 444-445).
وقال علماء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
المراد بالظل في الحديث (في ظله): هو ظل عرش الرحمن تبارك وتعالى، كما جاء مفسرًا في حديث سلمان -رضي الله عنه- في (سنن سعيد بن منصور)، وفيه: «سبعة يُظلهم الله في ظل عرشه» الحديث. حسَّن إسناده الحافظ ابن حجر -رحمه الله-تعالى في(الفتح 2\ 144) .
وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-، في آخر شرحه لهذا الحديث من(صحيح البخاري 6\ 51) ما نصه: (وخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة». وهذا يدل على أن المراد بظل الله: ظل عرشه.
وقد أشار ابن القيم -رحمه الله تعالى- في (الوابل الصيب) وفي آخر كتابه (روضة المحبين) إلى هذا المعنى.فتاوى اللجنة الدائمة(2/٤٨٦).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «لا ظلّ إلا ظِلُّه» يعني: إلا الظل الذي يخلقه، وليس كما توهَّم بعض الناس: أنه ظلُّ ذات الرب -عزَّ وجلَّ-؛ فإن هذا باطل؛ لأنه يستلزم أن تكون الشمس حينئذٍ فوق الله -عز وجل-، ففي الدنيا نحن نبني الظل لنا، لكن يوم القيامة لا ظل إلا الظل الذي يخلقه -سبحانه وتعالى- ليستظل به من شاء من عباده. شرح العقيدة الواسطية (2/ 136).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
لما جعله في ظِلِّ الإنظار والصبر، ونَجَّاه من حَرِّ المطالبة، وحرارة تَكَلُّفِ الأداء مع عُسْرَته وعجزه نجَّاه الله تعالى من حَرِّ الشمس يوم القيامة إلى ظل العرش. الوابل الصيب (1/ 81).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فيه دلالة على أنّ الأعمال الخالصة لوجه الله سبب النجاة وإن كانت قليلة. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (5/ 81).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
فيه (أي: الحديث): عِظَمُ ثواب من أخّر مطالبة المعسر، أو وَضَع دَيْنَه. تطريز رياض الصالحين (ص: 751).
وسئل الشيخ ابن باز -رحمه الله- عن صفة ظل الرحمن، فأجاب:(هنا)