«اللهم بَارِكْ لأُمَّتِي في بُكُورِها»، وكان إذا بعث سَرِيَّةً أو جَيشًا بعَثَهُم مِن أول النهار.
قال: وكان صخرٌ رجلًا تاجرًا، فكان يبعث تجارته في أول النهار، فأَثْرَى، وكَثُر مالُه.
رواه أحمد برقم: (15557)، وأبو داود برقم: (2606)، والترمذي برقم (1212)، والنسائي في السنن الكبرى برقم: (8782)، وابن ماجه برقم: (2236)، من حديث صَخْرٍ الغامدي -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (1300)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1693).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«بُكُورِهَا»:
أصل الكلمة هي البُكْرَة التي هي أوّل النهار...، فقيل: بَكَرَ فلان بُكُورًا. المفردات في غريب القرآن (ص: 140).
«سَرِيَّةً»:
السَّريةُ: طائفةٌ من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، تُبعَثُ إلى العدو، وجمْعُها السَّرايا، سُمُّوا بذلك لأنهم يكونون خُلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السَّريِّ النَّفيس، وقيل: سُمُّوا بذلك لأنهم يَنْفُذُون سرًّا وخُفية، وليس بالوجه؛ لأنَّ لام السِّرِّ راء، وهذه ياء. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 363).
«جَيشًا»:
الجيش: جُندٌ يَسِيرُونَ لحربٍ أو غيرها. تهذيب اللغة (11/ 93).
وقال البركتي -رحمه الله-:
والجيش: الجمعُ العظيم من الفرسان، والرَّجَّالة والجندُ كذلك، غير أن الجُند لا يكون إلا للسلطان، والجيشُ يكون للسلطان وللغُزاة. التعريفات الفقهية(ص: 74).
«فَأَثْرَى»:
أي: كَثُر مالُه. تهذيب اللغة (15/ 83).
وقال الحميري -رحمه الله-:
أَثْرَى القومُ: إِذا كثُرت أموالُهم. شمس العلوم(2/ 836).
شرح الحديث
قوله: «اللهم بارِكْ لأُمَّتي في بُكُورِهَا»:
قال ابن حمزة الحسيني -رحمه الله-:
أخرجه الأربعة عَن صخر الغامدي -رضي الله عنه-، سَببه: أخرج الْخَطِيب وَابْن النجار عن أنس بن مَالك -رضي الله عنه- قال: خرجنَا ليلة مع رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- فِي شهر رمضان، فَمرَّ بنيران فِي بيُوت الأنصار فقال: «يا أنس، ما هذه النيران؟ قلتُ: يا رسول الله، إن الأنصار يتسحرون فقال: اللهم...» فذكرهُ. البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف (1/ 145).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«اللهم بَارِكْ» أي: أَكْثِر الخير «لأُمَّتي في بُكُورِهَا» أي: صباحها وأوَّل نهارها، والإضافة لأدنى مُلابسة، وهو يشمل طلبَ العلم، والكسْبَ، والسفرَ، وغيرها. مرقاة المفاتيح (6/ 2517).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«لأُمَّتي» أُمَّةَ الْإِجَابَة، «فِي بُكُورِهَا» أُخذ منه أنه يُندَب لمن له وظيفة مِن نحو: قراءةٍ أو وِرْد أَو علم شرعي أو حِرْفة فَعَلَه أوَّلَ النهار، وكذا نحو سفر وعَقد نكاح، وإنشاء أمر. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 207).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «في بُكُورِهَا» (في شرح السقط): أولُ اليوم الفجر، وبعده الصباح، فالبُكْرة، فالضحى، فالضَّحْوَة، فالهاجرة، فالظُّهر، فالرَّواح، فالمساء، فالعصر، فالأصيل، فالعِشَاء الأول، فالعِشَاء الآخر، وذلك عند مغيب الشَّفَق.
قال النووي في رؤوس المسائل: يُسَنُّ لمن له وظيفة مِن نحو: قراءة، أو علمٍ شرعي، وتسبيح، أو اعتكاف، أو صِنعة، فِعْلَه أوَّل النهار، وكذا نحو سفر وعقد نكاح وإنشاء أمر؛ لهذا الحديث. فيض القدير (2/ 103).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«اللهم» أي: يا الله «بارك» المفاعلة للمبالغة، أي: أنزل البركة العظيمة الكثيرة، «بُكُورها» بضم الموحدة والكاف. في المصباح... بَكَرَ بُكُورًا وغَدَا غُدُوًّا هذان مِن أوَّل النهار. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (6/ 441).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
«اللهم بارِكْ لأُمَّتي في بُكُورِهَا» لا يدل أن غير البُكُور لا بَركة فيه؛ لأن كلَّ ما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ففيه البركة، ولأُمَّته فيه أكبر الأُسْوَة، وإنما خَصَّ -صلى الله عليه وسلم- البُكُور بالدعاء بالبركة فيه من بين سائر الأوقات -والله أعلم-؛ لأنه وقتٌ يقصده الناس بابتداء أعمالهم، وهو وقت نشاط وقيام مِن دَعة، فخصَّه بالدعاء؛ لينال بركة دعوتِه جميعُ أُمَّتِه. شرح صحيح البخاري (5/ 124).
وقال الخطيب البغدادي -رحمه الله-:
عن نافع، قال: سألتُ ابن عمر -رضي الله عنهما- عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم بارِكْ لأُمَّتي في بُكُورِهَا». فقال: في طلب العلم، والصف الأول. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/ 150).
وقال النووي -رحمه الله-:
وينبغي أن يُبَكِّرَ بقراءته على الشيخ أول النهار؛ لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم بارِكْ لأُمَّتي في بُكُورِهَا». التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 51).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «في بُكُورِهَا» أي: فيما يأتون به أول النهار. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 29).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«اللَّهم بارِكْ لأُمَّتي في بُكُورِهَا»، والدعاء يحتمل أنه دعاء بالبركة لنفس ذلك الوقت؛ حتى ليَتَّسِع لما يُعمل فيه، أو ببركة نفس العمل فيكون العمل فيه مبروكًا، وتقدم الحديث في الأمر بالغدوة في طلب العلم، وهذا عام في الأعمال كلها، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الآتي «اللَّهم بارك لأمتي في بكورها يوم الخميس» قيّده بيوم الخميس، فيحتمل أن هذا تخصيص بعد التعميم، وأنه خَصَّ يوم الخميس بزيادة الدعاء مع دخوله في عموم الدعاء الأول، أو أنه تقييد، والأول أقرب. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 93).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«اللَّهُمَّ بارِكْ لأُمَّتي في بُكُورِهَا» أي: إذا فعلوا فعلًا من التجارة والسفر وغيرها، وكذا من العبادات بُكْرَة فبَارِكْ فيه. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (9/ 191).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«اللهم بارِكْ لأُمَّتي في بُكُورِهَا» أي: في أول النهار، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُبارك الله في أول النهار لأُمَّتِه؛ لأنه مُسْتقبل العمل، فإن النهار -كما قال الله تعالى- معاشٌ: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} النبأ: 11، فإذا استقبله الإنسانُ مِن أوَّله صار في ذلك بركة، وهذا شيء مُشاهد؛ أن الإنسان إذا عمل في أول النهار وجَدَ في عمله بركة، لكن وللأسف أكثرنا اليوم ينامون في أول النهار، ولا يستيقظون إلا في الضحى! فيفوت عليهم أول النهار الذي فيه بركة، وقد قال العامة: أميرُ النهار أوَّلُه، يعني: أن أول النهار هو الذي يتركز عليه العمل. شرح رياض الصالحين (4/ 582).
قوله: «وكان إذا بعث سَرِيَّةً، أو جَيشًا بعثهم مِن أول النهار»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وكان» أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-، «إذا بَعَثَ سَرِيَّةً، أو جيشًا» (أو) للتنويع «بعَثَهُم مِن أول النهار» أي: مُطابَقَةً لدعائه. مرقاة المفاتيح (6/ 2517).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا بَعَثَ سَرِيَّةً» وهي: ما بين خمسة أنفس إلى ثلاثمائة، «أو جيشًا» وهو العسكر الكثير والسَّرِيَّةُ قطعةٌ منه، «بَعَثَهم مِن أوَّل النهار» وهو البُكْرة كما تقدم؛ لأن البركة في أول النهار. شرح سنن أبي داود (11/ 325).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«وكان» أي: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إذا بَعَثَ سَرِيَّةً أو جيشًا بعَثَهُم من أول النهار»، فثبَت استحباب الابتكار بالقول منه -صلى الله عليه وسلم- وبالفعل. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (9/ 191).
قوله: «وكان صخرٌ رجلًا تاجرًا، فكان يبعث تجارته في أول النهار، فأَثْرَى وكثُر مالُه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وكان صَخْرٌ تاجرًا» فيه تجريدٌ أو الْتِفَات، والأظهر أنه من كلام الراوي عنه، «فكان يبعث تجارته» أي: مالَهُ «أول النهار، فأَثْرَى» أي: صار ذَا ثروة، أي: مالٍ كثير، «وكثُر ماله» عطفُ تفسيرٍ لقوله: أَثْرَى. مرقاة المفاتيح(6/ 2517).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«وكان صَخْرٌ رجلًا تاجرًا، وكان يبعث تجارته» أي: متاع التجارة وعروضها مع غلمانه «من أول النهار، فأَثْرَى» أي: صار ذا ثروة، «وكُثُر مالُه»؛ ببركة دعائه -صلى الله عليه وسلم-. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (9/ 191).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
وأَدْرَجَ الراوي في آخر الحديث قوله: «وكان إذا بعث سَرِيَّةً أو جيشًا بعَثَهم مِن أوَّل النهار، وكان صخْرٌ تاجرًا، فكان يبعث» أي: يُرسل «تجارته أول النهار»؛ طلبًا للبركة الموعود بها فيه، «فأَثْرَى» بالمثلثة أي: صار ذا ثروة، أي: غِنًى، «وكَثُر» بضم المثلثة أي: صار كثيرًا. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (6/ 441).
وقال المظهري -رحمه الله-:
المسافَرَةُ سُنة في أول النهار، أي: السَّفَر للتجارة، وكان صخرٌ هذا يراعي هذه السُّنَّةَ، وكان تاجرًا يبعَثُ مالَه في أولِ النهار إلى السَّفَر للتجارة؛ فكَثُرَ مالُه ببركة مراعاةِ السُّنَّة؛ ولأن دعاءَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مقبولٌ لا مَحَالة. المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 382).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
ولا ريب أن استقبال الأسفار والأفعال في أوائل النهار والشهر والعام لها مزِية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: «اللهم بارِكْ لأُمَّتِي في بُكُورِهَا»، وكان صَخْرُ الغامدي -راوي الحديث- إذا بعث تجارة له بعَثها في أول النهار؛ فأثرى وكثُر مالُه، ونسبة أول النهار نسبة أول الشهر إليه، وأول العام إليه، فلِلْأوائل مَزية القوة، وأول النهار والشمس بمنزلة شبابه، وآخره بمنزلة شيخوخته، وهذا أمر معلوم بالتجربة، وحكمة الله تقتضيه. مفتاح دار السعادة (2/ 216).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وكان صَخْرُ» بن وَدَاعة، «رجلًا تاجرًا» يتَّجِر بالبيع والشراء وغير ذلك، في القماش وغيره، «وكان يبعَث تجارته أول النهار»؛ عملًا بما رواه من الحديث المتقدِّم، وكان السلف الصالح يجتهدون على العمل بما يعلمونه؛ «فأَثْرَى» أي: كَثُرَ مالُه؛ من بركة العمل بالحديث، «وكثُر مالُه» واستمر في البركة إلى أن توفي. شرح سنن أبي داود (11/ 325).
وقال السندي -رحمه الله-:
«فأَثْرَى» أي: كثُر عدَدُ مالِه، فقوله: «وكثُر مالُه» تفسير له. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 29).
وقال عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«فأَثْرَى» أي: صار ذا ثروة؛ بسبب مراعاة السُّنة، وإجابة هذا الدعاء منه -صلى الله عليه وسلم- كذا في اللمعات. «وكَثُر مالُه» عطْفُ تفسير. تحفة الأحوذي (4/ 338).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفيه: استحباب الارتِحَال من المنزل بُكْرَةً إلى السفر، كما يستحب إلى طلب الرزق في الإقامة بُكْرَة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «بَاكِرُوا في طَلب الرزق؛ فإن الغُدُوَّ بركةٌ ونجاحٌ» رواه البزار، والطبراني في (الأوسط)، وفي رواية للبيهقي: «فإن الله يُقَسِّمُ أرزاقَ العِباد ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس». شرح سنن أبي داود (11/ 325).
وقال جمال الدين الإسنوي -رحمه الله-:
يستحب لمن كان له وظيفة من قراءة قرآن أو حديث أو تسبيح، أو اعتكاف أو نحوها من العبادات، أو صنعة من الصنائع، أو عمل من الأعمال مطلقًا، يتمكن مِن فِعْلِه في أول النهار؛ أن يفعله في أوله، وكذلك مَن أراد سفرًا أو أنشأ أمرًا، كعَقْد النكاح وغيره، أو غير ذلك من الأمور، ودليل هذه القاعدة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن صخر بن وَدَاعَة -بفتح الواو- الغامدي -بالغين المعجمة وبالدال- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم بارِك لأُمَّتي في بُكُورِها». المهمات في شرح الروضة والرافعي (9/ 239).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وحديث صَخْرٍ المذكور فيه: مشروعية التبكير من غير تقييد بيوم مخصوص، سواء كان ذلك في سفر جهاد، أو حج، أو تجارة، أو في الخروج إلى عمل من الأعمال ولو في الحضَر. نيل الأوطار (7/ 284).
وقال نجم الدين الغزي -رحمه الله-:
ولا ينبغي له التبكير إلى غير الطاعة، كالذين يبكرون إلى بيوت القهوة قبل المسجد! فيَتعَوَّضُون بالغِناء واللهو عن الذِّكْر والصلاة، فيكونون ممن اشتروا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، وإذا بكَّر في طلب الخير وابتغاء الرزق فلْيَكُن تبْكِيرُه بالنية الصالحة، والإخلاص في العمل، فرُبَّ مُبَكِّرٍ في الخير صورةً ونِيَّتُه غير ممدوحة ولا مَشْكُورة. حسن التنبه لما ورد في التشبه (12/ 37).