«أَرَأَيتُم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدِكُم يغتسلُ منه كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ، هل يبقى من دَرَنِهِ شيءٌ؟ قالوا: لا يبقى من دَرَنِهِ شيءٌ، قال: فذلكَ مَثَلُ الصلواتِ الخمسِ، يَمْحُو اللهُ بِهنَّ الخطايا».
رواه البخاري برقم: (528)، ومسلم برقم: (667) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«دَرَنِهِ»:
الدَّرن: الوَسخ. النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير(2/115).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
الدَّرن -بفتح الدال والراء-: كناية عن الآثام، وشبَّه ذلك بصغار الذنوب؛ لأن الدَّرن صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه كالخُراجات (وهي ما يخرج في البدن من القروح) وشبهها. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/134).
شرح الحديث
قوله: «أرأيتم»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أرأيتم» هو استفهام تقرير مُتعلِّق بالاستخبار، أي: أخبروني هل يبقى؟ فتح الباري (2/11).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «أرأيتم» ... التاء للخطاب. عمدة القاري (5/15).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «أرأيتم»...، الميم للدلالة على الجمع. شرح سنن النسائي (4/1033).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«أرأيتم» أي: أخبروني بجواب هذا الاستفهام، وفي دلالة «أرأيتم» على معنى أخبروني مجازان:
الأول: في الاستفهام الذي هو طلب الفهم بأن نُرِيْد منه مطلق الطلب عن طريق مجاز مرسل، علاقته الإطلاق بعد التقييد.
الثاني: في (رأى) التي هي بمعنى: علم أو أبصر، بأن نُرِيْد منها الـمُسبَّب عن العلم أو عن الإبصار، وهو الإخبار عن طريق المجاز المرسل أيضًا، علاقته السببية والـمُسبَّبية؛ فيتحصَّل من الاستفهام والفعل: طلب الإخبار المدلول عليه بلفظ: أخبروني. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/125-126).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فوضع الاستفهام موضعه تأكيدًا وتقريرًا، إذ هو في الحقيقة متعلق الاستخبار، أي: أخبروني هل يبقى لو كان كذا؟ شرح المشكاة (3/864).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
كأنه قيل: لأبصرتَ وشاهدتَ حالته العجيبة أو عرفتها، أخبرني عنها، فلا يُسْتَعْمَل إلا في الإخبار عن حالة عجيبة، ولا بد من استفهام ظاهر أو مُقدَّر يُبيِّن الحالة المستخبَر عنها. مصابيح الجامع (2/213).
قوله: «لو أنَّ نَهْرًا»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
«لو» الامتناعية تقتضي أنْ تدخل على الفعل الماضي وأنْ يُجاب، والتقدير: لو ثبت نهر بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسًا لما بقي من دَرَنِهِ شيء. شرح المشكاة (3/864).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«لو أنَّ» أي: لو ثبت أنَّ؛ لأنَّ «لو» لا تدخل إلا على فعل، وجوابها محذوف، أي: لما بقي. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (3/336).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: لو ثبت نهر صفته كذا. التَّحبير لإيضاح معاني التَّيسير (5/6).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
تمثيله -صلى الله عليه وسلم- بالنهر هو مبالغة في إنقاء الدَّرن؛ فإنَّ النهر الجاري يُذْهِبُ الدَّرن الذي غسل فيه، ولا يبقى له فيه أثر، بخلاف الماء الراكد؛ فإن الدَّرن الذي غُسِل فيه يمكث في الماء، وربما ظهر مع كثرة الاغتسال فيه على طول الزمان؛ ولهذا روي النهي عن الاغتسال في الماء الدائم. فتح الباري (4/224).
قوله: «ببابِ أحدِكُم يغتسلُ منه كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«بباب أحدكم» جار ومجرور في محل نصب صفة لنهر، أي: نهرًا كائنًا بباب أحدكم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/182).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«بباب أحدكم» أي: أمام أحدكم، فهو كناية عن قرب النهر وسهولته ويسره، والجار والمجرور مُتعلِّق بمحذوف صفة لنهر، أو خبر «أنَّ».المنهل الحديث في شرح الحديث (1/126).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«بباب أحدكم» ليكون أسهل عليه خمس مرات. الكوثر الجاري على رياض أحاديث البخاري (2/207).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«يغتسل منه» إما صفة ثانية، أو حال من الضمير الْمُسْتَكِنِ في الظرف المذكور. مصابيح الجامع (2/213).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «يغتسل منه» أي: فهو يغتسل، أو والحال أنه يغتسل منه، من ذلك النهر. شرح سنن النسائي (4/1034).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«يغتسل منه» أي: من مائه. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (9/146).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«كل يوم» ظرف ليغتسل. مصابيح الجامع (2/213).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«خمس مرات» مفعول مطلق لـ«يغتسل» على النيابة، أي: اغتسالًا خمس مرات. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/182).
قوله: «هل يبقى من دَرَنِهِ شيءٌ؟»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «هل يبقى من دَرَنِه» على معنى التقدير لا على الاستفهام. إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/645).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«من» فيه زائدة. شرح مصابيح السنة (1/356).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«من»... الظاهر أنها بيانية، ولا يَبْعُدُ كونها تبعيضية. مرقاة المفاتيح (2/507).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
الدَّرن: الوسخ، ضربه مثلًا لمحو الصلوات الخطايا كما نصه في الحديث نفسه. إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/645).
وقال عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
أي: وسخه، يعني: هل يبقى على جسده شيء من درنه؟. تحفة الأحوذي (8/136).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد يُطلق الدَّرن على الْحَبِّ الصغار التي تحصل في بعض الأجساد. فتح الباري (2/11).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: لم لا يجوز أنْ يكون المراد بالدَّرن: الْحَبّ؟
قلتُ: لا، بل المراد به: الوسخ؛ لأنه هو الذي يناسبه التنظيف والتطهير، ويؤيد ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه-: أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أرأيتَ لو أنَّ رجلًا كان له مُعْتَملٌ، وبين منزله ومُعْتَمله خمسة أنهار، فإذا انطلق إلى مُعْتَمله عمل ما شاء الله؛ فأصابه وسخ أو عَرَق؛ فكلما مرَّ بنهر اغتسل منه» الحديث رواه البزار والطبراني بإسناد لا بأس به من طريق عطاء بن يسار عنه. عمدة القاري (5/16).
قوله: «قالوا: لا يبقى من دَرَنِهِ شيءٌ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«قالوا» أي: الصحابة الحاضرون لهذا السؤال. البحر المحيط الثجاج، شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج(14/388).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
«لا يبقى من دَرَنِهِ» بعد هذه الاغتسالات المتكررة «شيء» من الوسخ. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/183).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«قالوا: لا يبقى من دَرنه شيءٌ» كان من الممكن أنْ يقولوا: لا، لكنهم صرَّحوا بمضمون الجواب للتأكيد والمبالغة في نفي الدَّرن. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/126).
قوله: «قال: فذلكَ مَثَلُ الصلواتِ الخمسِ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فذلك» الفاء داخلة في جواب شرط مُقدَّر، واسم الإشارة راجع إلى الاغتسال المفهوم، أي: إذا أقررتم أنَّ هذا الاغتسال لا يُبقي من دَرَنِه شيئًا، وصح لديكم هذا، فهو «مثل الصلوات الخمس». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/182).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فذلك» أي: النهر المذكور. شرح مصابيح السنة (1/356).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فذلك» أي: ما ذُكِرَ من الاغتسال الموصوف بالتكرار خمس مرات «مثل الصلوات الخمس». البحر المحيط الثجاج(14/389).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
معنى الحديث: أنَّ ما ذُكِرَ من الاغتسال شبيه بالصلوات الخمس، أو ما ذُكِرَ من إزالة الوسخ على وجهٍ أبلغ صفة الصلوات الخمس. البحر المحيط الثجاج (14/389).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
أي: فإنَّ الصلوات الخمس تشبه الاغتسال خمس مرات في اليوم، فإذا كان الاغتسال بمثل ذلك العدد يُنَظِّف الجسم من الأقذار، ويحميه من الميكروبات التي تسبب له الأمراض البدنية، فإنَّ الصلوات الخمس تُكفِّر السيئات، وتمحوها من كتاب الحَفَظَةِ، كما تَحْمِي النفس وتقيها من الخطايا التي لم تقترفها بعد، وتطهرها -أيضًا- من جميع الأمراض النفسية من القلق والحقد والحسد والعداوة والأنانية وغيرها. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (2/94-95).
قوله: «يَمْحُو اللهُ بهنَّ الخطايا»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
جملة قوله: «يمحو الله بهنَّ الخطايا» في محل نصب على الحال من الصلوات، أي: حال كونه -سبحانه وتعالى- مزيلًا بهذه الصلوات الخمس خطايا المصلي. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/183).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«يمحو الله بهنَّ الخطايا» يعني: يزيل ويغفر ببركة الصلوات الخمس الذنوب الصغائر. المفاتيح في شرح المصابيح (2/7).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«الخطايا»: جمع خطيئة، وهي: الذنب. الكوثر الجاري على رياض أحاديث البخاري (2/208).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
والكلام على سبيل تشبيه التمثيل، أي: تشبيه هيئة بهيئة.
والمقصود منه هنا: إبراز المعقول في صورة المحسوس؛ لتقريبه إلى الأذهان، وليستقر الحُكْم في النفس أفضل استقرار وتمكُّن. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/127).
وقال السندي -رحمه الله-:
إنْ قلتَ: من أي التشبيه هذا التشبيه؟
قلتُ: هو من تشبيه الهيئة بالهيئة، ولا حاجة فيه إلى تكلُّف اعتبار تشبيه الأجزاء بالأجزاء، فلا يقال: أي شيء يعتبر مثلًا للنهر في جانب الصلاة؟ حاشية السندي على سنن النسائي (1/231).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
فائدة التمثيل: التأكيد، وجعل المعقول كالمحسوس، حيث شبَّه حال الْمُقترف لبعض الذنوب المحافظ على أداء الصلوات الخمس بحال المغتسل في نهر على باب داره كل يوم خمس مرات، بجامع أن كلًّا منهما يزول بفعله الأقذار وهي الذنوب في الأول، والأوساخ في الثاني. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (2/248).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
في الحديث: مبالغة في نفي دَرَن الذنوب ووسخ الآثام، ومن ثَمَّ ما اكتفوا في الجواب بـ «لا»؛ بل زادوا فيه. شرح المشكاة (3/865).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ظاهره: أنَّ المراد بالخطايا في الحديث: ما هو أعم من الصغيرة والكبيرة. فتح الباري (2/12).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ظاهر الحديث يتناول الصغائر والكبائر؛ لأن لفظ: «الخطايا» يُطْلَقُ عليها.
قلتُ: روى مسلم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: «الصلوات الخمس كفَّارة لما بينهما ما اجْتُنِبَتِ الكبائر». عمدة القاري (5/16).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
في حديث أبي هريرة: بيان أنَّ صغائر الذنوب يغفرها بمحافظته على الصلوات؛ لأنه شبَّه الصغائر بالدَّرَن، والدَّرَن ما لم يبلغ مبلغ الخُراج. شرح صحيح البخاري (2/ 157).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ظاهر هذا الحديث: أنَّ الصلوات بانفرادها تستقل بتكفير جميع الذنوب؛ كبائرها وصغائرها، وليس الأمر كذلك؛ لاشتراطه في الحديث المتقدم اجتناب الكبائر، فدل ذلك على أن المكفَّر بالصلوات هي جميع الصغائر -إن شاء الله-. المفهم (2/294).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الذي قاله القرطبي -رحمه الله- حسن جدًّا، وحاصله: أنَّ المطلَق هنا ينبغي أن يُحمل على ما سبق من الأحاديث من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجْتُنِبَتِ الكبائر»؛ فتكفير الصلوات الخمس المطلَق هنا: يُحمل على هذا الْمُقَيَّد، فتَبَصَّر. البحر المحيط الثجاج(14/391).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن بزيزة في شرح الأحكام: يتوجه على حديث العلاء إشكال يصعب التخلص منه؛ وذلك أنَّ الصغائر بنص القرآن مُكفَّرة باجتناب الكبائر، وإذا كان كذلك فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟، انتهى.
وقد أجاب عنه شيخنا الإمام البلقيني بـ: أنَّ السؤال غير وارد؛ لأن مراد الله {إِن تَجْتَنِبُواْ} النساء:31، أي: في جميع العمر، ومعناه: الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث: أنَّ الصلوات الخمس تُكفِّر ما بينها، أي: في يومها إذا اجتُنِبَتِ الكبائر في ذلك اليوم، فعلى هذا: لا تعارض بين الآية والحديث، انتهى. فتح الباري (2/12).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قلتُ: لا يخفى أنَّ السائل يقول: الصلوات كفَّرت الصغائر في كل يوم من أيام العمر، حتى وافى ولا صغيرة، فما الذي كفَّره اجتناب الكبائر المنصوص، إذِ الغرض أنه لم يأتِ بكبيرة ولا ترك صلاة، فالسؤال باقٍ لم يحله شيخ الحافظ. التَّحبير لإيضاح معاني التَّيسير (5/9).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلُّص منه -بحمد الله- سهل؛ وذلك أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس، فمن لم يفعلها لم يَعُدْ مجتنبًا للكبائر؛ لأن تركها من الكبائر، فوقف التكفير على فعلها. فتح الباري (2/12).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قلتُ: الغرض أنَّ السائل أورد السؤال على مَن حافظ على الصلوات طول عُمْره، ولم يَفُتْهُ شيء منها، فالسؤال باقٍ.
فالحق في الجواب أنْ يُقال: إذا وافى العبد الآخرة تاركًا للكبائر، آتيًا بالصلوات فقد فضل بمكفران: مُكفِّر نصَّ (عليه) القرآن وهو الاجتناب، ومُكفِّر نص عليه حديث الباب، فيُكفِّر -عزَّ وجلَّ- عنه بأيهما شاء، ويبقى له أجر الآخر موفورًا أجره عليه بلا إشكال، إنْ كان مراد السائل ذلك كما هو ظاهر إيراده.
نعم، لا يُتَصَوَّر اجتناب الكبائر مع ترك الصلوات؛ إذ هو منها بل من أعظمها، ويتصور فعل الصلوات مع إتيان الكبائر، ولكنه لا تكفر عنه بها صغائره؛ لتقييد تكفيره باجتناب الكبائر. التَّحبير لإيضاح معاني التَّيسير (5/10).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
واستدل بذلك بعض مَن يقول: إنَّ الصلاة تُكفِّر الكبائر والصغائر، لكن الجمهور القائلون بأن الكبائر لا يُكَفِّرُها مجرد الصلاة بدون توبة، يقولون: هذا العموم خُصَّ منه الكبائر بما خرجه مسلم من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات لما بينهن ما اجْتُنِبَتِ الكبائر».
وقد حكى ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك، وأن الكبائر لا تُكَفَّر بمجرَّد الصلوات الخمس، وإنما تكفِّر الصلوات الخمس: الصغائر خاصة.
وقد ذهب طائفة من العلماء، منهم: أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا إلى أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير الصلواتِ الصغائرَ، فإن لم تُجْتَنَبِ الكبائر لم تكفِّر الصلواتُ شيئًا من الصغائر، وحكاه ابن عطية في تفسيره عن جمهور أهل السنة؛ لظاهر قوله: «ما اجْتُنِبَتِ الكبائر».
والصحيح الذي ذهب إليه كثير من العلماء، ورجحه ابن عطية، وحكاه عن الْحُذَّاق: أن ذلك ليس بشرط، وأن الصلوات تكفِّر الصغائر مطلقًا إذا لم يُصِرَّ عليها، فإنها بالإصرار عليها تصير من الكبائر. فتح الباري (4/221-223).
وقال السندي -رحمه الله-:
خصها العلماء بالصغائر، ولا يخفى أنه بحسب الظاهر لا يناسب التشبيه بالنهر في إزالة الدَّرن، إذ النهر المذكور لا يُبقي من الدَّرن شيئًا أصلًا، وعلى تقدير أنْ يُبقي فإبقاء القليل والصغير أقرب من إبقاء الكثير الكبير، فاعتبار بقاء الكبائر وارتفاع الصغائر قَلْبٌ لما هو المعقول؛ نظرًا إلى التشبيه، فلعل ما ذكروا من التخصيص مبْنِيٌّ على أن للصغائر تأثيرًا في دَرَن الظاهر فقط، كما يدل عليه ما ورد من خروج الصغائر من الأعضاء عند الوضوء بالماء بخلاف الكبائر، فإن لها تأثيرًا في درن الباطن، كما جاء أن العبد إذا ارتكب المعصية تحصل في قلبه نقطة سوداء ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون} المطففين:14، وقد عُلِمَ أنَّ أثر الكبائر تُذْهبها التوبة التي هي الندامة بالقلب، فكما أن الغسل إنما يذهب بِدَرَن الظاهر دون الباطن؛ فكذلك الصلاة، فَتَفَكَّر. حاشية السندي على سنن النسائي (1/231).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
فإن قيل: إذا كَفَّر اجتناب الكبائر الذنوب الصغائر؛ فماذا تُكَفِّر الأعمال المندوبة الواردة في الأحاديث؟
أجيب: بأن الأعمال الصالحة المكفِّرة للصغائر إذا لم توجد صغائر رفعت من الدرجات، وأعطت من الحسنات ما يُعَادل تكفيرها للصغائر، أو كفرت من الكبائر بقدرها. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/128).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
اعلم أن جمهور العلماء على أن هذه الأسباب كلها إنما تُكفِّر الصغائر دون الكبائر، وقد استدل بذلك عطاء وغيره من السلف في الوضوء، وقال سلمان الفارسي -رضي الله عنه-: «الوضوء يُكفِّر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يُكفِّر أكثر من ذلك، والصلاة تُكفِّر أكثر من ذلك» خرجه محمد بن نصر المروزي. اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى (ص: 66).
وقال ابن رجب -رحمه الله- أيضًا:
ومن جمع بينهما في وقت واحد أو في وقتين أو ثلاثة لغير عذر لم يحصل منه هذا التفريق ولا تكرير الاغتسال، وهو بمنزلة من اغتسل مرة أو مرتين أو ثلاثًا. فتح الباري (4/223).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ومنها (أي: فوائد الحديث): حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعليم أمته، وشدة رأفته بهم، كما قال الله تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم} التوبة:128. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/189).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
الحديث فيه: التنبيه للأمة على فضائل الأعمال ليجتهدوا؛ لأن الإنسان يُرَغِّبُه في العمل ويُخَفِّفُ عليه مؤونته إذا علم نتيجته، ومن هنا حصل الفرق بين المؤمن والمنافق. شرح سنن النسائي (4/1036).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله- أيضًا:
ويؤخذ منه (أي: الحديث): عدم وجوب شيء من الصلوات غير الخمس. شرح سنن النسائي (4/1036).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في الحديث: بيان فضل الله تعالى العظيم على هذه الأمة المرحومة، حيث يُكفِّر عنها الخطايا بالصلوات الخمس، وهي أعمال سهلة هَيِّنَة على كل مؤمن مُوَفَّق، وإنما تكون كبيرة على ضعفاء الإيمان، قال الله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِين} البقرة:45. البحر المحيط الثجاج..(14/394).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
في الحديث: فضل المحافظة على الصلوات، ولا يتم ذلك إلا بالمحافظة على طهارتها وسائر شروطها. شرح سنن النسائي (4/1036).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ولكن كما أسلفنا فيما مضى أن هذا في الصلوات التي يُتِمُّها الإنسان، ويحققها ويحضر قلبه، ويشعر أنه يناجي الله -سبحانه وتعالى-، فإذا تمَّت الصلاة على الوصف المطلوب حصل هذا الثواب العظيم. شرح رياض الصالحين (5/49).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
من فوائد الحديث: ضرب المثل في التعليم زيادة في الإيضاح؛ إذ فيه تشبيه المعقول بالشيء المحسوس. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/189).