«الصيام جُنَّة، فلا يَرفُث ولا يَجهل، وإن امْرُؤٌ قاتله أو شَاتمهُ، فليقل إِني صائمٌ - مرتين - والذي نفسي بيده لخلوف فَمّ الصائم أَطيب عند الله تعالى مِن ريحِ المِسك، يترك طعامه وشَرابه وشَهْوَتَهُ مِن أَجلي، الصيام لي وأَنا أَجزي به، والحَسنة بعشرِ أَمثالها».
رواه البخاري برقم: (1894) واللفظ له، ومسلم برقم: (1151)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«جُنَّةٌ»:
بضم الجيم، ومعناه: سُتْرة ومانع من الرَّفَث والآثام، ومانع أيضًا من النار، ومنه: المِجَنُّ وهو التُّرْس، ومنه: الجِنُّ لاستتارهم. شرح صحيح مسلم للنووي (8/ 30-31).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
«الصَّوْم جُنَّةٌ» أي: يقي صاحبه ما يُؤذِيه مِن الشَّهوات، والجُنَّةُ: الوقاية. النهاية (1/ 308).
«فلا يَرْفُثْ»:
أي: لا يتكلَّم بفُحْش. التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي (1/ 123).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
الرَّفَثُ: كلِمَةٌ جامعةٌ لكل ما يُرِيدهُ الرجلُ من المَرأةِ. النهاية (2/ 241).
«ولا يَجْهَلْ»:
أي: لا يَفْعَلُ خِلاف الصواب من قولٍ أو فعلٍ. التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي (1/ 123).
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
أي: لا يقل قولَ أهلِ الجَهْل من رَفَثِ الكلام والسَّفَهِ، أو لا يشْتم أحدًا ويَجْفُهْ، يُقال: جَهِلَ على فلان: إذا جفاه. مشارق الأنوار على صحاح الآثار (1/ 162).
«قاتلَهُ»:
أي: أراد قتله بحربٍ أو ضربٍ أو مخاصمةٍ ومجادلةٍ. مرقاة المفاتيح، للقاري (4/ 1363).
قال ابن منظور-رحمه الله-:
والمقاتلة: القتال؛ وقد قاتلَه قتالًا وقِيتالًا. لسان العرب (11/ 549).
«شاتَمَهُ»:
أي: تعرَّض لمشاتمته. منحة الباري بشرح صحيح البخاري، لزكريا الأنصاري(4/ 337).
وقال الرازي -رحمه الله-:
والشَّتْمُ: السَّبُّ، وبَابُهُ ضَرَبَ، والاسمُ: الشَّتِيمَةُ، والتَّشَاتُمُ: التَّسَابُّ، والمُشَاتَمَةُ: المُسَابَّةُ. مختار الصحاح(ص: 161).
«خُلُوفُ»:
بضم الخاء: رائحة الفم الكريهة. اختصار صحيح البخاري وبيان غريبه، لأبي العباس القرطبي(2/ 45).
«شهوَتَهُ»:
أي: شهوة الجماع؛ لعطفها على الطعام والشراب، أو من عطف العام على الخاص. إرشاد الساري، للقسطلاني(3/ 347).
شرح الحديث
قوله: «الصِّيامُ جُنَّةٌ»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«والصيام جُنَّة» معناه: أنَّ الصوم سُترة، فيصح أنْ يكون (جُنَّة) بحسب مشروعيته، أي: ينبغي للصائم أنْ يحميه مما يفسده، ومما يُنقِص ثوابه؛ كمناقِضات الصيام، ومعاصي اللسان...، ويصح أنْ يُسمَّى (جُنَّة) بحسب فائدته، وهو إضعاف شهوات النفس، وإليه الإشارة بقوله: «يذر شهوته وطعامه من أجلي».
ويصح أنْ يكون جُنَّة بحسب ثوابه، وإليه التصريح بقوله: «مَن صام يومًا في سبيل الله، باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا». المفهم (3/212- 213).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
الجُنَّة: ما استَتَرتَ به من سلاح أو غيره، وفي قوله: «الصوم جُنَّة» وجوهٌ:
أحدهما: جُنَّة من النار.
والثاني: جُنَّة من المعاصي.
والثالث: جُنَّة من أكل ما لا يريد أكله، فإنَّه قد يمتنع بالصوم من أكل طعام لا يريده.
واعلم أنَّ الصائم لما أَجَنَّ الإيمان -أي: ستره- في قلبه، كان صومه جُنَّة له، أي: ستْرًا من كل سوءٍ في ظاهره. الإفصاح (6/ 88).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«جُنَّة» أي: ستْر، وإنما جُعل الصومُ جُنَّة من النار أو من الشيطان؛ لأن في الجوع سَدَّ مجاري الشيطان، فإذا سُدَّ مجاريه لم يدخل، فلم يكن سببًا للعصيان الذي هو سبب لدخول النار. مرقاة المفاتيح (1/ 104).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «الصوم جُنَّة» وقاية في الدنيا من المعاصي بكسر الشهوة وحفظ الجوارح، وفي الآخرة من النار؛ لأنه يقمع الهوى، ويمنع الشهوات التي هي من أسلحة الشيطان، فإنَّ الشِّبَع مجلَبة للآثام، منقصة للإيمان.
واعلم أنَّ الإخبار عن هذه المعاني من الصوم والصلاة ونحوهما بالأمور المحسوسة كالجُنَّة يحتمل: أنَّه على الحقيقة، وأنَّه يجعله اللهُ في النشأة الآخرة جسمًا، وإنْ كان في الدنيا عَرَضًا، ويحتمل : أنَّه أراد التشبيه البليغ، وأنه في وقاية صاحبه في الآخرة كالجُنَّة. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 74).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «والصيام جُنَّة» أي: تُرس يدفع المعاصي، أو النار عن الصائم، كما يدفع التُّرْسُ السَّهمَ. فيض القدير (4/ 471).
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«الصيام» فرضه ونفله «جُنَّة» تُرْس حقيقة، بأنْ يَجْعَلَ تعالى يوم القيامة المعاني أعيانًا. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 580).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
الصومُ جُنَّةٌ من عذاب الله، ووقايةٌ منه؛ لأنه عبادة تشمل جميع البدن كالجُنَّة الواقية للعبد عن السِّهام. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 75).
وقال المناوي -رحمه الله-:
لأنه (الصوم) يغمر البدن كله، فيصير وقاية لجميعه برحمة الله من النار. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 106).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قال والدي -رحمه الله- في شرح الترمذي: وإنما كان الصوم جُنَّة من النار؛ لأنَّه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، كما في الحديث الصحيح: «حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات» انتهى، وسبقه إلى ذلك ابن العربي، وفي هذا الكلام تلازم الأمرين، وأنَّه إذا كَفَّ نفسه عن الشهوات والآثام في الدنيا، كان ذلك ساترًا له من النار غدًا. طرح التثريب (4/ 91).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
«الصوم جُنَّة» يجوز أنْ يكون الصوم هنا غير الفرض، والمراد: الإكثار منه. المعين على تفهم الأربعين (ص: 351).
وقال ابن الملقن -رحمه الله- أيضًا:
معنى: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ» ستْرٌ من الآثام أو النار، أو لأنه يكسر شهوته ويُضْعِفُ قوته...، وفي بعض الأحاديث: «الصوم جُنَّة ما لم يَخْرِقْه، قيل: وبِمَ يَخْرِقْه؟ قال: «بكذبٍ أو غيبةٍ». التوضيح لشرح الجامع الصحيح (13/ 19).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«جُنَّة» هي بالضم: التُّرْسُ والسترة، يعني: يقي صاحبه عن النار في العُقبى، كما يقيه عن سَورةِ الشهوة في الدُّنيا. شرح المصابيح (1/ 64).
وقال المظهري -رحمه الله-:
وسُمِّي الصومُ جُنَّةً؛ لأنَّ الصوم مانعٌ للرجل عن الأكل والشرب، وقضاء الشهوة، والشتم والغيبة والكذب والبُهتان، وهذه الأشياء من حظوظ النفس، ومنعُ حظوظِ النفسِ منعُ النار عنه، يعني: كما أنَّ الصوم مَنَعَ الرجل عن حظوظ نفسه، مَنَعَ النار عنه أيضًا يوم القيامة؛ لتكون راحةُ دفع النار في مقابَلةِ ما فات عنه من راحة الأكل والشرب في الدنيا بسبب الصوم. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 124).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
وإنما جُعِل الصوم جُنَّة؛ لأنه يقمع الهوى، ويردع الشهوات التي هي من أسلحة الشياطين، فإنَّ الشِّبَع مجلبة للآثام، منقصة للإيمان؛ ولهذا قال -عليه السلام-: «ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنه»؛ فإنَّ مَن ملأ بطنه انتكست بصيرته، وتشَوَّشَتْ فكرته؛ لما يستولي على معادن إدراكه من الأبخرة الكثيرة الصاعدة من معدته إلى دماغه، فلا يتأتَّى له نظر صحيح، ولا يتفق له رأي صالح، ولعله يقع في مداحض (أي: مزالق) فيزيغ عن الحق، كما أشار إليه -صلوات الله عليه- في قوله: «لا تشبعوا فتُطْفِؤُوا نور المعرفة من قلوبكم»، وغلب عليه الكسل والنعاس، فيمنعه عن وظائف العبادات، وقَوِيَتْ قوى بدنه، وكثرت المواد والفضول فيه، فينبعث غضبه وشهوته، ويشتد شبقه (شدَّة الشهوة) لدفع ما زاد على ما يحتاج إليه بدنه، فتُوْقِعُه بسبب ذلك في المحارم. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 68).
وقال الكلاباذي -رحمه الله-:
فالصيام جُنَّة تستره وتحول بينه وبين المعاصي، وهو جُنَّة في الآخرة من النار، فيجوز أنْ لا يكون للناس سبيل على الصائم، كما أنَّه لا سبيل لها على مواضع الوضوء من العبد؛ لأن الصوم يَعُمُّ جميع البدن، فلا يكون للنار سبيل، فهو له منها جُنَّة، -والله أعلم-.
ومعنى آخر في تخصيص الصوم: وهو أنَّ في الصوم معنى الإعراض عن النفس طلبًا لمرضاة الله، والإعراض عن النفس: تَرْكُ حظوظها، وحظوظ النفس هو الطعام والشراب والرفث إلى النساء، فمن ترك هذه الأشياء، فقد ترك حظوظ النفس وشهواتها ولذَّاتها، ومن ترك ذلك فقد أعرض عن نفسه، ومَن أعرض عن نفسه ابتغاء وجه الله لم يبقَ بينه وبين الله حجاب؛ لأن الحُجُب ثلاثة: الخَلْق والدنيا والنفس، فالخَلْق والدنيا إنما يحجبان إذا كانا لحظِّ النفس، فمَن أعرض عن نفسه فقد أعرض عن الدنيا والخَلْق، فحصل الصوم إعراضًا عن النفس، والإعراض عنها وصول إلى الله؛ فلذلك قال: «الصوم لي»، وليس هذا المعنى في شيء من الفرائض غير الصوم والصلاة؛ لأن وقت الصلاة وقت يسير، فهو إذا فرغ منها رجع إلى جميع حظوظه، ووقت الصوم يَمْتَدُّ؛ لأنه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. بحر الفوائد (ص: 89).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
قوله: «جُنَّة» فهي الوقاية والستر عن النار، وحسْبك بهذا فضلًا للصائم. الاستذكار (3/ 373).
قوله: «فلا يَرْفُثْ»:
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«فَلَا يَرْفُثُ» فائدةٌ: فاءُ الرَّفَثِ مُثَلَّثَةٌ في الماضي والمضارِعِ، والأفْصَحُ: الفتحُ في الماضي، والضَّمُّ في المستقبَلِ، -واللَّه أعلم-. فتح الباري (3/ 382).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
والمراد بالرفث هنا... الكلام الفاحش، وهو يطلق على هذا، وعلى الجماع، وعلى مقدماته، وعلى ذكره مع النساء، أو مُطلقًا، ويُحتمل: أنْ يكون لما هو أعمُّ منها. فتح الباري (4/ 104).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
وقال كثير من العلماء: إنَّ المراد به (الرفث) في هذا الحديث الفحش، رديء الكلام وقبيحه، ويُحتمل: أنَّ يكون أعمَّ من ذلك كله. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (2/ 186).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
لا يُفهم من هذا الشرط: أنَّ غير يوم الصوم يُباح فيه الرّفث والسَّخَب، فإنهما ممنوعان على الإطلاق، وإنما تأكَّد منعهما بالنسبة إلى الصوم. المفهم(3/ 214).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
والمعنى: إذا كان أحدكم صائم يوم من الأيام فلا يرفث، أي: لا يتكلَّم الكلام الفاحش، كسبِّ الناس وشتمهم، والغيبة والنميمة، ومراودة النساء. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (13/ 111).
قوله: «ولا يَجْهَلْ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يجهل» أي: لا يفعل خلاف الصواب من قولٍ أو فعلٍ، فهو أعمُّ مما قبله، أو لا يعمل بخلاف ما يقتضيه العلم، أو لا يقل قول أهل الجهل، والمراد: أنَّ ذلك في الصوم آكد، وإنْ كان منهيًّا عنه في غيره أيضًا. فيض القدير (1/ 543).
وقال النووي -رحمه الله-:
والجهل قريب من الرفث، وهو خلاف الحكمة، وخلاف الصواب من القول والفعل. شرح النووي على مسلم (8/ 28).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ولا يجهل» أي: لا يفعل شيئًا من أفعال أهل الجهل، كالصياح والسَّفَه، ونحو ذلك. فتح الباري (4/ 104).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ولا يجهل» أي: لا يفعل شيئًا من أفعال أهل الجهل والبطالة، كضرب الناس، والمقاتلة والصياح والصخب في الأسواق، ونحو ذلك. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (13/ 111).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
والجهل في الصوم: هو العمل فيه على خلاف ما يقتضيه العلم. المفهم (3/ 214).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ولا يجهل» أي: لا يفعل فعل الجُهَّال، كالصياح والسخرية، أو يُسَفِّه على أحد، وعند سعيد بن منصور: «فلا يرفث ولا يجادل»، وهذا ممنوع في الجملة على الإطلاق، لكنه يتأكَّد بالصوم، كما لا يخفى. إرشاد الساري (3/ 346).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال الداودي: تخصيصه في هذا الحديث ألا يرفث ولا يجهل؛ وذلك لا يحل في غير الصيام، وإنما هو تأكيد لحرمة الصوم عن الرفث والجهل، كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} المؤمنون: 1- 2، والخشوع في الصلاة أوكد منه في غيرها، وقال في الأشهر الحرم: {فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} التوبة: 36، فأكَّد حُرمة الأشهر الحُرم، وجعل الظلم فيها آكد من غيرها، فينبغي للصائم أنْ يُعظِّم من شهر رمضان ما عظَّم الله ورسوله، ويعرف ما لزمه من حُرمة الصيام. شرح صحيح البخاري (4/ 24).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
والجمهور حملوا النهي على التحريم، وهو الأصل في النهي، وعلى أنَّ الصوم لا يبطل بشيء من ذلك، وقال الأوزاعي: يبطل الصوم بالغيبة والكذب، ويجب القضاء، وأجاب الماوردي وغيره: بأنَّ المراد: بطلان الثواب لا نفس الصوم. شرح سنن أبي داود (10/ 378).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
قال الأوزاعي: يُفطِر بالسَّبِّ والغِيْبة، فقيل: معناه: يصير كالمُفطِر في سُقوط الأجْر؛ لا أنه يُفطِر حقيقةً. اللامع الصبيح (6/ 355).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال الأوزاعي: إنَّ الغيبة تُفطِّر الصائم، وتُوجِب عليه قضاء ذلك اليوم، وأفرط ابن حزم فقال: يبطله كل معصية من متعمد لها، ذاكرٍ لصومه، سواء كانت فعلًا أو قولًا؛ لعموم قوله: «فلا يرفث ولا يجهل»، ولقوله في الحديث الآتي بعد أبواب: «مَن لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أنْ يدع طعامه وشرابه»، والجمهور وإنْ حملوا النهي على التحريم، إلا أنهم خَصُّوا الفطر بالأكل والشرب والجماع. فتح الباري (4/ 104).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
دعوى الحافظ على ما قاله ابن حزم بالإفراط غير صحيحة، كيف يقال لمن قال بما اقتضاه ظواهر النصوص: إنه أفرط؟ بل هذا هو الإفراط نفسه، فما قاله ابن حزم هو الظاهر، وقد تقدَّم قريبًا النقل عن عائشة والأوزاعيِّ: أنَّ الغيبة تُفطِّر الصائم، فلِمَ لَمْ يعترض عليهما، مع أنَّ الجمهور لا يرون ذلك أيضًا؟
والحاصل: أنَّ مذهب الجمهور هو الذي يحتاج إلى دليل، -واللَّه تعالى أعلم بالصواب-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/ 82).
وقال السبكي -رحمه الله-:
التَّنزُّه عن الغيبة وإنْ كان واجبًا فهو مطلوب في الصوم على جهة الاستحباب، فإذا لم يحصل حصل الإثم المترتب عليه في نفسه للنهي المطلق عنه، الذي هو للتحريم، وحصل مخالفة أمر الندب بتنزيه الصوم عن ذلك، ونقص الصوم بتلك المخالفة التي هي خاصة به، من حيث هو صوم، وهي غير المخالفة التي هي من حيث ذات الفعل المنهي عنه. فتاوى السبكي (1/ 222).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
لا يُفهم من النهي عن الرفث والجهل مع الصيام أنَّ غير الصوم يباح فيه ما ذُكِر، وإنما المراد: أنَّ المنع من ذلك يتأكَّد بالصوم...، ولا يشك أحدٌ في أنَّ مَن لم يُعرِّض صيامه لشيء من ذلك طول نهاره، ليس هو في الفضل كمن عرض صيامه للآثام. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/ 227).
قوله: «وإنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
«قاتله» أي: دافعه ونازعه، وتكون بمعنى: شاتمهُ ولَاْعَنَهُ، وقد جاء القتل بمعنى: اللعن. إكمال المعلم (4/ 109).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«قاتله» أي: أراد مقاتلته. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 182).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «قاتَلَه» يعني: أو خاصمه وحاربَه. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 10).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«قاتله» أي: دافعه ونازعه، أو لاعنه متعرضًا لمثل ذلك منه، فالمفاعلة حاصلة في الجملة. فيض القدير (1/ 424).
قوله: «أو شَاتَمَهُ»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«أو» للتنويع. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 49).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«شاتمه» أي: شتمه. فيض القدير (1/ 424).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«شاتمه» أي: خاصمه باللسان. مرعاة المفاتيح (6/ 411).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
الشتم: هو الوصف بما يقتضي النقص. السراج المنير شرح الجامع الصغير (3/ 398).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
لما كانت المفاعلة أصلها الفعل من جانبين فُسِّر «شاتمه» بمعنى: تعرَّض للمشاتمة، فهي من جانب غير الصائم شتم بالفعل، ومن جانب الصائم تأهُّل وصلاحية لِأَنْ يشتم الشاتم عقابًا له. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (5/ 19).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قد استُشكِل ظاهره بأنَّ المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين، والصائم لا تصدر منه الأفعال التي رُتِّب عليها الجواب، خصوصًا المقاتلة.
والجواب عن ذلك: أنَّ المراد بالمفاعلة: التهيُّؤ لها...، فالمراد من الحديث: أنه لا يعامله بمثل عمله، بل يقتصر على قوله: «إني صائم». البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج(21/ 346-347).
وقال محمد بن عبد الحق اليفرني -رحمه الله-:
وصفه هاهنا بأنَّه مشاتم ومقاتل وإنْ كان هذا لا يُستعمل إلا من فعل اثنين، يحتمل ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنْ يريد: فإنْ امرؤٌ أراد أنْ يشاتمه أو يقاتله فيمتنع من ذلك، وليقل: إني صائم.
والثاني: أنَّ لفظ المفاعلة وإنْ كانت أظهر في فعل الاثنين إلا أنه قد يُستعمل في فعل الواحد، فيقال: سافر الرجل، وعالج الطبيب المريض.
والثالث: أنْ يُراد: أنه إنْ وُجِدت المشاتمة والمقاتلة منهما جميعًا فليُذكِّر نفسه الصائم بصومه، ولا يَسْتَدِمِ المقاتلة والمشاتمة. الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب (1/ 346).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأبعدَ مَن حمله على ظاهره، فقال: المراد: إذا بدرت من الصائم مقابلة الشتم بشتم على مقتضى الطبع، فلينزجر عن ذلك، ويقول: «إني صائم»، ومما يُبْعِدُه قوله في الرواية الماضية: «فإن شتمه شتمه» -والله أعلم-. فتح الباري (4/ 105).
قوله: «فَلْيَقُلْ: إنِّي صائمٌ مرَّتينِ»:
قال المناوي -رحمه الله-
«فليقل» بلسانه «إني صائم» أي: عن مكافأتك، أو عن فعل ما لا يرضاه مَن أصوم له، بحيث يسمعه الصائم، وجمعه بين اللسان والجنان أولى، فيُذكِّر نفسه بإحضاره صيامه بقلبه؛ ليَكُفَّ نفسه، وينطق بلسانه ليَنْكَفَّ عنه خصمه. فيض القدير (1/ 543).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
«فليقل: إني صائم مرتين» تأكيدًا للانزجار منه، أو ممن يخاطبه. شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 292).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فليقل: إني صائم» ويكفّ عن خصمه، ويَكُنْ عبد الله المظلوم، ولا يَكُنْ الظالم. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 49).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
فأرشد إلى تعديل قوى الشهوة والغضب، وأنَّ الصائم ينبغي له أنْ يحتمي من إفسادهما لصومه، فهذه تفسد صومه، وهذه تحبط أجره. عدة الصابرين (ص: 112).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«فليقل: إني صائم» فإنَّ الأغلب أنَّه يكُفُّ، فإنْ لم يكُفَّ دفعه بالأخف فالأخف. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (2/ 187).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
اتفقت الروايات كلها على أنَّه يقول: «إني صائم»؛ فمنهم من ذكرها مرتين، ومنهم من اقتصر على واحدة...، وأما تكرير قوله: «إني صائم» فَلِيَتَأَكَّد الانزجار منه، أو ممن يخاطبه بذلك، ونقل الزركشي أنَّ المراد بقوله: «فليقل: إني صائم» مرتين: يقوله مرة بقلبه، ومرة بلسانه، فيستفيد بقوله بقلبه كَفَّ لسانه عن خصمه، وبقوله بلسانه كَفَّ خصمه عنه، وتُعقِّب: بأنَّ القول حقيقة باللسان، وأُجيب بأنه لا يمنع المجاز. فتح الباري (4/ 104-105).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فيه: استحباب تكرير هذا القول وهو «إني صائم»؛ سواء قلنا: إنه يقوله بلسانه أم بقلبه؛ ليتأكد انزجاره، أو انزجار مَن يخاطبه بذلك. طرح التثريب في شرح التقريب (4/ 93).
وقال محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله-:
«فلْيقل: إنِّي صائم، إنِّي صائم» معناه: فليقتصر على هذا القول، وليس المراد: فليقُل ذلك، وهو يباشر الانتقام؛ لظهور أنه لا معنى له، وإنَّما لم يُؤمَر بالإمساك مطلقًا، وأُمر بأن يقول لمن اعتدى عليه: إنِّي صائم، مع أنَّ ذلك لا يدفع عنه أذى المعتدين، ترخيصًا للمعتدى عليه في شيء مما يزيل عنه حرج الصبر على الاعتداء؛ لما في النفوس من إباء الضَّيم، فرخَّص له في هذا القول، وإنْ كان فيه شيء من الرياء لمصلحة أعظمَ، وهي إمساك النفس عن الاندفاع إلى الانتقام؛ ليعلم بذلك لمن اعتدى عليه وللناس أنَّ إمساكه عن الانتقام والمجازاة ليس لعَجْز وضُعف، بل للحفاظ على كمال الصوم من أنْ يَنْثَلِم (الثلمة: الخلل في الحائط) بالدخول في آثار الغضب الذي هو من القوى الحيوانية.
والمقصود من قوله: «إنِّي صائم» مرتين: مجرَّد التكرير، أي: يكرر ذلك تكريرًا يعيه مَن يسمعه، ويرتدع به مَن يَقرعه. كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ (ص:172- 173).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «فليقل: إني صائم»...هو كالعذر أيضًا لنفسه أنْ تَرَكَ مُلاحاة خصمه...، وفي هذا دليل على جواز أنْ يُظهِر العامل شيئًا من عمله ليستَجِنَّ به من شرٍّ. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 88).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فليقل» لنفسه زاجرًا لها عن المشاتمة والمقاتلة، «إني صائم، إني صائم»، والظاهر: أنَّ هذا في غير الجهاد، وأما في الجهاد فيجب مقاتلة مَن قاتله.
وفيه: أنَّ قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الشورى: 40، تختص بمن ليس بصائم، أو أنَّه هنا حثٌّ على الأفضل، وفي الآية شأن الجواز. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 178).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «إني صائم» يراد به: القول باللسان؛ ليندفع عنه خصمه، أي: إذا كنتُ صائمًا لا يجوز لي أنْ أخاصمك بالشتم والهذَيَان، وقيل: المراد به: الكلام النفسي، بأنْ يتفكَّر في نفسه أنه صائم، لا يجوز له أنْ يغضب ويهذي ويَسُب. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1575).
وقال النووي -رحمه الله-:
«فليقل: إني صائم، إني صائم» هكذا هو مرتين، واختلفوا في معناه، فقيل: يقوله بلسانه جهرًا، يسمعه الشاتم والمقاتل، فينزجر غالبًا، وقيل: لا يقوله بلسانه، بل يُحدِّث به نفسه؛ ليمنعها من مشاتمته ومقاتلته ومقابلته، ويحرس صومه عن الْمُكدِّرات، ولو جمع بين الأمرين كان حسنًا. شرح النووي على مسلم (8/ 28).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فليقل: إني صائم» ذكر العلماء فيه تأويلين:
أحدهما: يقوله بلسانه ويُسمعه لصاحبه؛ لِيزجرهُ عن نفسه.
والثاني -وبه جزم المتولي-: يقوله في قلبه لا بلسانه، بل يُحدِّث نفسه بذلك، ويُذكِّرها أنه صائم، لا يليق به الجهل والمشاتمة، والخوض مع الخائضين، قال هذا القائل: لأنه يخاف عليه الرياء إذا تَلَفَّظ به، ومَن قال بالأول يقصد زجره لا للرياء، والتأويلان حسنان، والأول أقوى، ولو جمعهما كان حسنًا. المجموع شرح المهذب (6/ 356).
وقال السبكي -رحمه الله-:
وهذه العبارة (وهي قول النووي: ولو جمعهما كان حسنًا) تُوهِم أنَّ القائل بذلك يقتصر على اللساني، ولا يجعل قوله في النفس مطلوبًا، ولا أرى بذلك قائلًا، بل الخلاف عندي مردود إلى أنه هل يقتصر على النفسي فيكون أبعد عن الرياء والسمعة أو يُضَمُّ إليه اللساني؟ فمن قال: يقوله بلسانه، لا يُمْكِنُه أنْ يقول: لا يقوله بقلبه، بخلاف مَن عَكَسَ. الأشباه والنظائر (2/ 7).
وقال النووي -رحمه الله-:
قيل: إنه يقول بلسانه، ويُسمع الذي شاتمه لعلَّه ينزجر، وقيل: يقوله بقلبه لينكفَّ عن المسافهة، ويحافظ على صيانة صومه، والأوَّل أظهر. الأذكار (ص: 189).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد اختُلف في معنى قوله في هذا الحديث: «فليقل: إني صائم»؛ فقيل: هو على وجهه كما تقدَّم؛ وليُسمع ذلك مُشَاتِمَهُ؛ ليعلم اعتصامه بالصوم فلا يؤذيه.
ويحتمل: أنْ يكون المراد به: أنْ يخاطب بذلك نفسه على جهة الزجر لها عن السباب والمشاتمة.
وقد جاء آخر الحديث في مصنف النسائي مُفسَّرًا قال: «ينهى بذلك عن مراجعة الصائم». إكمال المعلم (4/ 109).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
في قوله: «فليقل: إني صائم» وجهان:
أحدهما: فليقل بلسانه ليمتنع الشَاتم من شتمه إذا علم أَنه مُعتصِم بالصوم. والثاني: فليقل لنفسه: أَنا صائم فكيف أجيب مَن يجهل؟ كشف المشكل (3/ 336).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
ولا يُعْلِن بقوله: «إنِّي صائمٌ» لما فيه من الرِّيَاءِ واطِّلَاع النَّاس عليه؛ لأنَّ الصوم منَ العملِ الذي لا يظهر؛ ولذلك يَجْزِي اللهُ الصائمَ أجره بغير حسابٍ، فقولُه: «فَلْيقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ» فيه وجهان من التَّأوِيل:
أحدهما: أنَّ تقول ذلك في نَفسِكَ، فلا تجاوبه بشَتْمٍ ولا غيره.
الثَّاني: أنَّ تقولها مجاوبًا له: إنِّي صائمٌ فلا أُجَاوِبُكَ.
والأوّلُ أوَّلَى؛ لنَفْيِ الرِّيَاءِ. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 237).
وقال ابن العربي -رحمه الله- أيضًا:
لم يختلف أحدٌ أنَّه يقول ذلك مُصرِّحًا له في يوم الفرض، كان رمضان أو قضاء أو غير ذلك من أنواع الفرض.
واختُلف في التَّطَوُّع، فالأصح: أنه لا يُصرِّح به، وليقل لنفسه: إني صائم، فكيف أقول الرفث، وإنْ قيل لي، إنما أسكتُ فأربح سلامة صومي. عارضة الأحوذي (2/232).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الظاهر: أنَّه يقوله بلسانه مطلقًا؛ لإطلاق النصِّ، فإنه لم يفرِّق بين فرض وتطوُّع، -والله تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج(21/ 347).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ» اختلف هل يقوله بلسانه ليَكُفَّ عن شتمِه أو بقلبه؟
والأظهر الأول؛ لأنه لا ينْكَفُّ بذلك، ووجه الثاني: خوف الرياءِ، لا جَرَمَ فرَّق بعضُ أصحابِنا بين الفرضِ والنفل. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (13/ 20).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«فليقل» أي: بقلبه ولسانه، الأوَّل: لكَفِّ نفْسه عن مُقاتلة خصمه، والثاني: لكَفِّ خصمه عن الزِّيادة، وهو من أسرار الشريعة، فهو مِن حمل اللَّفظ على حقيقتيه، أو حقيقته ومَجازِه؛ وذلك واجبٌ عند الشَّافعي، وهذا وإنْ لم يختصَّ بالصَّائم إلا أنَّه في الصِّيام أَوْكَد. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (6/ 355).
قوله: «فليقل: إني صائم»:
قال ابن تيمية -رحمه الله-:
فيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره.
قيل: يقول في نفسه فلا يرد عليه.
وقيل: يقول بلسانه.
وقيل: يفرق بين الفرض فيقول بلسانه والنفل يقول في نفسه، فإن صوم الفَرض مشترك، والنفل يخاف عليه من الرياء.
والصحيح أَنه يقول بلسانه، كما دَلّ عليه الحديث، فإن القول المطلق لا يكون إلا باللسان، وأمّا ما في النفس فمقيد، كقوله: «عمّا حدثت به أنفسها» ثم قال: «ما لم تتكلم أو تَعمل به».
فالكلام المُطلق إِنما هو الكلام المسموع، وإذا قال بلسانه: إني صائم بَيّن عُذره في إِمساكه عن الرّد، وكان أَزجر لمن بدأهُ بالعدوان.منهاج السنة النبوية(3/٤٢٤)
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
قيل: يقوله بلسانهِ وهو أظهر، وقيل: بقلبه تذكيرًا لنفسه بالصوم، وقيل: يقوله في الفَرض بلسانه، وفي التطوع في نفسه؛ لأنه أَبعد عن الرياء.زاد المعاد(2/50)
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وهل يقولها سرًا، أو جهرًا؟
قال بعض العلماء: يقولها سرًا.
وقال بعض العلماء: جهرًا.
وفصل بعض العلماء بين الفرض والنفل، فقال: في الفرض يقولها جهرًا لِبعدهِ عن الرياء، وفي النفل يقولها سرًا خوفًا من الرياء.
والصحيح: أنه يقولها جهرًا في صوم النافلة والفريضة؛ وذلك لأن فيه فائدتين:
الفائدة الأولى: بيان أن المشتوم لم يترك مقابلة الشاتم إلا لكونه صائمًا لا لعجزهِ عن المقابلة؛ لأنه لو تركه عجزًا عن المقابلة لاستهان به الآخر، وصار في ذلك ذُلٌّ له، فإذا قال: إِني صائم كأنه يقول: أَنا لا أعجز عن مقابلتك، وأنْ أُبيّن من عيوبك أكثر مما بينت من عيوبي، لكني امرؤ صائم.
الفائدة الثانية: تذكير هذا الرّجل بأنّ الصائم لا يشاتم أحدًا، ورُبّما يكون هذا الشاتم صائمًا كما لو كان ذلك في رمضان، وكِلاهُما في الحَضر، سواء حتى يكون قوله هذا متضمنًا لنهيه عن الشَّتم، وتوبيخه عليه.الشرح الممتع(6/432)
قوله: «والذي نَفْسِي بيدِهِ»:
قال الزرقاني -رحمه الله-:
قوله: «والذي نفسي بيده» إنْ شاء أبقاها، وإنْ شاء أخذها، وهو قسمٌ كان يقسم به كثيرًا، وأقسم تأكيدًا. شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 293).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «والذي نفسي بيده» أقسم على ذلك تأكيدًا. فتح الباري (4/ 105).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «والذي نفسي بيده» فيه: جواز الحلف على الأمر المهم توكيدًا، وإن لم يكن هناك مستَحْلِف. فتح الباري (1/ 58).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«والذي نفسي بيده» القسم للتأكيد، ولغرابة الخبر. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/ 227).
وقال البغوي -رحمه الله-:
ويد الله صفة من صفات ذاتهِ كالسمع، والبصر والوجه. تفسير البغوي (2/ 67).
قوله: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائمِ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«لخُلُوف» بضم الخاء، وخطَّأوا مَن فتحها: تغير رائحة «فم الصائم»، فيه رَدٌّ على مَن قال: لا تثبت الميم يعني: ميم (فم) عند الإضافة إلا في الضرورة. فيض القدير (4/ 471).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «لخلوف فم الصائم» أي: تغير رائحته. فتح الباري (1/ 113).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
والخلوف: رائحة الفم بترك تناول الطعام. الإفصاح (6/ 88).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
أما الخلوف فهو تغير ريح الفَم، يقال: خلف فمَه يخلف خلوفًا، وكثير من أصحاب الحديث يقولون: ولخَلوف -بفتح الخاء-، وهو غلط؛ لأن الخلوف هو الذي بَعُدَ وتَخَلَّف، قال النمر بن تولب:
جزى الله عني جمرة ابنة نوفل *** جزاء خلوف بالأمانة كاذب. كشف المشكل (3/ 167-168).
وقال الباجي -رحمه الله-:
الخلوف: تغير رائحة فَمِ الصائم، وإِنما يَحدث من خُلو المَعدة بترك الأكل، ولا يذهب بالسواك؛ لأنها رائحة النَّفَس الخارج من المَعدةِ، وإِنما يذهب بالسواك ما كان في الأسنان من التَّغيُّر. المنتقى شرح الموطأ (2/ 74).
قوله: «أطيَبُ عندَ اللَّهِ تعالى مِن رِيحِ المِسْكِ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«أطيب عند الله من ريح المسك» أَحبّ إليه تعالى من رِيح المِسك، يكون التطيب به قربة كالتطيب للجمعة مثلًا، نبأ على أنَّ المراد: طيب الأفواه نفسها، أو عند ملائكته أطيب من المسك عند بني آدم، وعلى هذا: فهو يدل على أنَّ الله تعالى جعل للملائكة إدراكًا للرائحة كما جعله لبني آدم، وقد ثبت أنهم يتأذَّون من الرائحة الكريهة، وأنهم يتأذَّون مما يتأذَّى به بنو آدم، كما ورد في النهي عن دخول المسجد لمن أكل الكُرَّاث، فإنه علّل للأذى.
وهل المراد في الدنيا أو يوم القيامة بأنْ تصير رائحة أفواه الصائمين أطيب من المسك؟ محتمل، وقد وقع فيه نزاع بين أئمة من أهل الحديث. التنوير شرح الجامع الصغير (3/408- 409).
وقال المناوي -رحمه الله-:
لا يُتَوَهَّم أنَّ الله يستطيب الروائح، ويستَلِذَّها، فإنه محال عليه تعالى، وإنما معنى هذه الأطيبية راجع إلى أنَّه تعالى يُثِيْبُ على خلوف فمه ثوابًا أكثر مما يُثِيْبُ على استعمال المسك، حيث ندب الشرع إلى استعماله في الجُمَع والأعياد وغيرها.
ويُحتمل: أنْ يكون في حق الملائكة، فيستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك، وقيل: يجازيه الله في الآخرة بأنْ يجعل نكهته أطيب من المسك، كما في دم الشهيد، أو هو مجاز واستعارة لتقريبه من الله. فيض القدير (4/ 471).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله: «أطيب عند الله من ريح المسك» يريد أزكى عند الله الواحد، ومعنى قوله: «عند الله» يريد في الآخرة، أي: يجازيه يوم القيامة بتطييب نكهته الكريهة في الدنيا حتى تكون كريح المسك، والدليل على أنه أراد الآخرة بقوله: «عند الله»: قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ} الحج: 47، يريد أيام الآخرة، ومن هذا الباب: قوله -عليه السلام- في الشهيد: «إنه يأتي يوم القيامة وجرحه يثعُب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك»؛ فأخبر أنه يجازي الشهيد في الآخرة بأنْ يجعل رائحة دمه الكريهة في الدنيا كريح المسك في الآخرة. شرح صحيح البخاري (4/ 12).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قد وقع خلاف بين الإمامين ابن الصلاح وابن عبد السلام في ذلك -أي: في أنَّ طيب رائحة الخلوف- هل هو في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط؟ فذهب ابن الصلاح إلى الأول، وابن عبد السلام إلى الثاني. طرح التثريب (4/ 97).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
يُؤخذ من قوله: «أطيب من ريح المسك» أنَّ الخلوف أعظم من دم الشهادة؛ لأن دم الشهيد شُبِّه ريحه بريح المسك، والخلوف وصف بأنه أطيب، ولا يلزم من ذلك أنْ يكون الصيام أفضل من الشهادة لما لا يخفى، ولعل سبب ذلك: النظر إلى أصل كل منهما، فإنَّ أصل الخلوف طاهر، وأصل الدم بخلافه، فكان ما أصله طاهر أطيب ريحًا. فتح الباري (4/ 106).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «أطْيَبُ عند الله من ريح المسكِ» مَثَلٌ وجه التمثيل فيه: أنَّ المسك محبوب للنفس، والصوم أحب إلى الله تعالى، وأقرب إليه، من حب المسك إليكم، وقربه من أنفسكم؛ إشارة إلى أنَّ المسك أطيب الطيب، كذلك الصوم أفضل العبادة، فإنْ قيل: فهل يكون أفضل من الصلوات بهذا المعنى؟
قلنا: العبادة على ضربين: متعدية ولازمة، فالصوم أفضل اللازمة؛ لأنه منها، فإن قيل: والصلاة لازمة فهل هو أفضل منها؟ قلنا: لا أفضل من الصلاة، وإنما يكون فضل الصوم بعدها. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 482).
وقال المازري -رحمه الله-:
أما قوله: «أطْيَبُ عند الله من ريح المِسْك» فمجاز واستعارة؛ لأن استطابة بعض الروائح من صفات الحيوان الذي له طبائع تميل إلى شيء فتستطيبه، وتنفر عن آخر فتستقذره، والله تعالى يتقدَّس عن ذلك، ولكن جرت العادة فينا بتقريب الروائح الطيبة منَّا، واستُعِير ذلك في الصوم لتقريبه من الله سبحانه. المعلم بفوائد مسلم (2/61- 62).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قيل: يجزيه الله في الآخرة حتى تكون نكهته أطيب من ريح المسك، كما قال في المكلوم في سبيل الله: «الريح ريح مسك»، وقيل: بل ينال صاحبُها من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عندنا، لا سيما بالإضافة إلى الخلوف، وهما ضدَّان، وقيل: يعتدُّ بها، وتُدَّخَر على ما هي عليه أكثر مما يُعْتَدُّ بريح المسك لصاحبه، وأيضًا فيكون رائحتها عند ملائكة الله أطيب من المسك، وإن كانت عندنا نحن بخلافه، وقال الداودي: يُثاب عليها ما لا يُثاب على رائحة المسك إذا تطيَّب به للصلاة والجمعة. إكمال المعلم (4/ 112).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «أطيب عند الله من ريح المسك» لا يُتَوَهَّم أنَّ الله تعالى يستطيب الروائح ويستَلِذَّها، كما يقع لنا من اللذة والاستطابة؛ إذ ذاك من صفات افتقارنا، واستكمال نقصنا، وهو الغني بذاته، الكامل بجلاله وتقدسه، على أنَّا نقول: إنَّ الله تعالى يدرك المدركات، ويبصر المبصرات، ويسمع المسموعات على الوجه اللائق بجماله وكماله وتقدسه عن شبه مخلوقاته، وإنما معنى هذه الأطيبية عند الله تعالى راجعة إلى أنَّ الله تعالى يُثِيْبُ على خلوف فم الصائم ثوابًا أكثر مما يُثِيْبُ على استعمال روائح المسك، حيث ندب الشرع إلى استعماله فيها، كالجمع والأعياد، وغير ذلك.
ويُحتمل: أنْ يكون ذلك في حق الملائكة، فيستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك. المفهم (3/215- 216).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
اعلم أنَّ الله -عز وجل- ينظر إلى قصد الفاعل، فإذا كان صحيحًا أحب ما يحدث منه، وإنْ كان مكروهًا عند الخلق كالخلوف في الصوم، والنوم في التهجد، والدم في حق الشهيد. كشف المشكل (3/ 167-168).
وقال النووي -رحمه الله-:
الأصح ما قاله الداودي من المغاربة، وقاله مَن قال من أصحابنا: إنَّ الخلوف أكثر ثوابًا من المسك، حيث ندب إليه في الجمع والأعياد ومجالس الحديث والذكر وسائر مجامع الخير. شرح النووي على مسلم (8/ 30).
وقال العراقي -رحمه الله-:
اختُلف في معنى كون هذا الخلوف أطيب من ريح المسك بعد الاتفاق على أنه -سبحانه وتعالى- منزَّهٌ عن استطابة الروائح الطيبة، واستقذار الروائح الخبيثة، فإنَّ ذلك من صفات الحيوان الذي له طبائع تميل إلى شيء فتستطيبه، وتنفر من شيء فتتقذَّره على أقوال:
أحدها: قال المازري: هو مجاز واستعارة؛ لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة منا، فاستعير ذلك من الصوم لتقريبه من الله تعالى، انتهى، فيكون المعنى: أنَّ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك عندكم، أي: إنه يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وذكر ابن عبد البر نحوه.
الثاني: أنَّ معناه: أنَّ الله تعالى يجزيه في الآخرة حتى تكون نكهته أطيب من ريح المسك، كما قال في المكلوم في سبيل الله: «الريح ريح مسك» حكاه القاضي عياض.
الثالث: أنَّ المعنى: أنَّ صاحب الخلوف ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عندنا، لا سيما بالإضافة إلى الخلوف، وهما ضدان، حكاه القاضي عياض أيضًا.
الرابع: أنَّ المعنى: أنه يُعْتَدُّ برائحة الخلوف، وتُدَّخَر على ما هي عليه أكثر مما يُعْتَدُّ بريح المسك، وإن كانت عندنا نحن بخلافه، حكاه القاضي أيضًا.
الخامس: أنَّ المعنى: أنَّ الخلوف أكثر ثوابًا من المسك، حيث ندب إليه في الجمع والأعياد ومجالس الحديث والذكر وسائر مجامع الخير، قاله الداودي وابن العربي وصاحب المفهم، وبعض أصحابنا، وقال النووي: إنه الأصح.
السادس: قال صاحب المفهم: يحتمل: أنَّ يكون ذلك في حق الملائكة يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك. طرح التثريب (4/95- 96).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
إذا كان هذا في تغَيُّر فمه، فما ظنك بصلاته وعبادته؟! التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 92).
وقال النووي -رحمه الله-:
احتج أصحابنا بهذا الحديث على كراهة السواك للصائم بعد الزوال؛ لأنه يزيل الخلوف الذي هذه صفته وفضيلته، وإنْ كان السواك فيه فضل أيضًا؛ لأن فضيلة الخلوف أعظم، وقالوا: كما أنَّ دم الشهداء مشهود له بالطيب، ويترك له غسل الشهيد مع أنَّ غسل الميت واجب، فإذا ترك الواجب للمحافظة على بقاء الدم المشهود له بالطيب، فترك السواك الذي ليس هو واجبًا للمحافظة على بقاء الخلوف المشهود له بذلك أولى، -والله أعلم-. شرح النووي على مسلم (8/ 30).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
احتج الشافعي بالثناء على الخلوف لمنع السواك بعد نصف النهار، وهو وقت وجود الخلوف؛ لأن السواك يذهبه، وفي بقائه من الأجر والفضل ما لا يجب عند إزالته، وذهب مالك إلى جوازه في النهار كله؛ لأنه عنده إن كان من المعدة فلا يذهبه السواك، وأيضًا فإنْ جعلنا الكلام في الثناء على الخلوف استعارةً وتنبيهًا على فضل الصوم، لا على نفس الخلوف، فذهابه وبقاؤه سواء. إكمال المعلم (4/ 112).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قد أخذ الشافعي من هذا الحديث: منع الصائم من السِّواك من بعد الزوال، قال: لأن ذلك الوقت مبدأ الخلوف، قال: والسواك يذهبه، وربما نظم بعض الشافعية في هذا قياسًا، فقال: أثر عبادة فلا يُزَال كدم الشهيد.
وهذا القياس تَرِدُ عليه أسئلة؛ من جملتها القول: ومع أنَّ السِّواك يزيل الخلوف، فإنه من المعدة والحلق، لا من محل السِّواك، وحينئذٍ لا يلزم شيء من ذلك، وقد أجاز كافَّة العلماء للصائم أنْ يتسوَّك بسواك لا طعم له، في أي أوقات النهار شاء. المفهم (3/ 215).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قال والدي -رحمه الله- في شرح الترمذي: وهذا (القول بأنَّ الخلوف من المعدة) مخالف للحسِّ؛ لأن الصائم إذا تغير فمه واستاك زالت الرائحة الكريهة، وأما كون أصل التغير من المعدة، فأمر آخر، ثم حكى عن صاحب المحكم: أنه حكى عن اللحياني: خلف الطعام والفم وما أشبههما يخلف خلوفًا: إذا تغير، وأكل طعامًا، فبقيت في فيه خلفة فتغير فوه، وهو الذي يبقى بين الأسنان، ا. هـ.
قال والدي: وهذا يدل على أنَّ خلوف الفم من بقايا الطعام الذي بين الأسنان لا من المعدة، كما قال صاحب المفهم.
قلتُ: ويوافق ذلك: قول أصحابنا الشافعية: إنَّ البَخَر الذي هو عيب يُرَدُّ به: ما كان من المعدة دون ما كان من قلح صفرة ووسخ يعلو الأسنان الأسنان؛ لأن هذا يزيله السواك، بخلاف الذي من المعدة، -والله أعلم-. طرح التثريب (4/ 100-101).
وقال العراقي -رحمه الله- أيضًا:
قال شيخنا الإمام جمال الدين الإسنوي في المهمات: لك أنْ تقول: ما الحكمة في تحريم إزالة دم الشهيد مع أنَّ رائحته مساوية لرائحة المسك، وعدم تحريم إزالة الخلوف مع كونه أطيب من ريح المسك؟
قلتُ: وجوابه من أوجهٍ:
أحدها: ما تقدَّم من كلام ابن العربي: أنَّ دم الشهيد حجة له على خصمه، وليس للصائم خصم يحتج عليه بالخلوف، إنما هو شاهد له بالصيام، وذلك محفوظ عند الله وملائكته.
ثانيها: أنَّ دم الشهيد حق له، فلا يُزال إلا بإذنه، وقد انقطع ذلك بموته، وقد كان له غسله في حياته، والخلوف حق للصائم، فلا حرج عليه في ترك حقه، وإزالة ما يشهد له بالفضل.
ثالثها: أنَّ كون رائحة دم الشهيد كرائحة المسك أمر حقيقي، وكون رائحة الخلوف أطيب من رائحة المسك أمر حكمي، له تأويل يصرفه عن ظاهره في أكثر الأقوال المتقدِّم بيانها.
رابعها: أنَّه ورد النهي عن إزالة دم الشهيد مع وجوب إزالة الدم، ومع وجوب غسل الميت، فما اغتُفِر ترك هذين الواجبين إلا لتحريم إزالته؛ فلذلك قلنا بتحريمه، ولم يرد ذلك في السواك، وإنما قيل بالاستنباط.
خامسها: أنَّه عارض ذلك في خلوف الصائم بقاء الحياة، وهي محل التكليف والعبادات وملاقاة البشر، فأمكن أنْ يُزَال الخلوف لما يعارضه، بخلاف دم الشهيد، فإنه بخلاف ذلك. طرح التثريب (4/ 100-101).
قوله: «يَتْرُكُ طعامَهُ وشرابَهُ»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«يترك» أي: الصائم. إرشاد الساري (3/ 347).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«طعامه» أراد به: ما يطعم. دليل الفالحين (7/ 26).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«يترك» زاد أحمد قبله: «يقول الله». التوشيح شرح الجامع الصحيح (4/ 1414).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
يحتمل: أنْ يكون تعليله لتفضيله ريح الخلوف عَلَى المسك، وأن يكون لأجل الصوم. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (13/ 30).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «يترك طعامه وشرابه» ذكره تعليلًا لذلك، على أنَّه حكاية عن الله تعالى. حاشية السندي على صحيح البخاري (1/ 251).
قوله: «وشهوَتَهُ»:
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«وشهوته» زاد ابن خزيمة: «وزوجته». التوشيح شرح الجامع الصحيح (4/ 1414). (
قال ابن علان -رحمه الله-:
«وشهوته» من الجماع ومقدماته. دليل الفالحين (7/ 25).
وقال الفيومي الحموي -رحمه الله-:
الشهوة: اشتياق النفس إلى الشيء، والجمع: شهوات. المصباح المنير (1/ 326).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وشهوته» أي: يترك ما اشتهته نفسه من محظورات الصوم. مرقاة المفاتيح (4/ 1363).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«شهوته» أي: يترك ما اشتهته نفسه من اللذات. شرح المصابيح (2/ 506).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«شهوته» أي: ما تشتاق النفس إليه. دليل الفالحين (7/ 26).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
المراد بالشهوة في الحديث: شهوة الجماع؛ لعطفها على الطعام والشراب، ويُحتمل: أنْ يكون من العام بعد الخاص، ووقع في رواية الموطأ بتقديم الشهوة عليها، فيكون من الخاص بعد العام. فتح الباري (4/ 107).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أقول: المراد بشهوته: شهوة الجماع، والمراد: أنَّه جاهد نفسه طول نهارهِ مع ميل نفسه إلى ما جاهدها عليه، فأمَّا مَن لم يعرض له ذلك، فغيره أفضل منه. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 176).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«شهوته» قيل: المراد بها: شهوة الجماع؛ لعطفها على الطعام والشراب، ويؤيده رواية: «ويدع زوجته من أجلي»، وقيل: هو من عطف العام على الخاص. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/ 227).
قوله: «مِن أجلِي»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«من أجلي» (من) فيه تعليلية. دليل الفالحين (7/ 25).
وقال ابن علان -رحمه الله- أيضًا:
«من أجلي» أي: بسببي. دليل الفالحين (7/ 26).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«من أجلي» أي: من جهة أمري، وقصد رضائي، وأجري.
وفيه: إيماء إلى اعتبار النية والإخلاص في الصوم، وإشعار بأنَّ الصوم لا رياء فيه أصلًا؛ لأن غاية ما يقوله المرائي: أنا صائم، وهو لا يُوجِب رياءً في أصل الصوم، إنما الذي وقع به الرياء الإخبار عن الصوم، لا غير. مرقاة المفاتيح (4/ 1363).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «من أجلي» نبَّه به على أنَّ الثواب المرتَّب على الصيام إنما يحصل بإخلاص العمل، فإنْ كان لغرض مذموم كرياء كان وبالًا، فرُبَّ صائم حظُّه من صيامه الجوع، ورُبَّ صائم حظُّه القرب والرضا. فيض القدير (4/ 251).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «من أجلي» تنبيهٌ على الجهة التي بها يستحق الصوم أنْ يكون كذلك، وهو الإخلاص الخاص به. المفهم (3/ 213).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
فقولُه تعالى: «من أجلِي» يحتمل أمرين:
أحدهما: أنْ يكون تعليلًا للأمر، أي: أنه فعل ذلك بسبب أمري له بالصوم، فلا يلزم أن يكون فعل ذلك معللًا لفعله بأنه لأجل الله تعالى.
ويحتمل المعنى الآخر: وهو أنْ يكون ممدوحًا على كونه فعل ذلك لأجل الله تعالى، أي: مقصود أنه كونه لله تعالى. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (3/ 232).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله- أيضًا:
قوله تعالى: «يدع شهوتَهُ وطعامَهُ من أجلي» يقتضي: أنَّ ما ليس كذلك فليس بصوم، وكذلك أيضًا: يقتضي أنَّ ما هو كذلك فهو صوم. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (3/ 242).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «من أجلي» يُحتمل: أنْ يكون تعليله لتفضيله ريح الخلوف على ريح المسك، ويُحتمل: أنْ يكون ابتداءً ثناء على الصائم. المنتقى شرح الموطأ (2/ 74).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«من أجلي» أي: لأجل التقرب إليَّ، واتفقوا على أنَّ المراد بالصائم هنا: من سَلِمَ صيامه من المعاصي، وأدنى درجات الصوم: الاقتصار على الكف من المفطرات، وأوسطها: أنْ يضم إليه كف الجوارح عن الجرائم، وأعلاها: أنْ يضم إليهما كف القلب عن الوساوس. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (10/ 14-15).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «مِنْ أَجْلِي» تعليل لاختصاصه بعظيم الجزاء. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (21/ 372).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
لو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتخمة، لا يحصل للصائم الفضل المذكور، لكن المدار في هذه الأشياء على الداعي القوي الذي يدور معه الفعل وجودًا وعدمًا، ولا شك أنَّ مَن لم يعرض في خاطره شهوة شيء من الأشياء طول نهاره إلى أنْ أفطر، ليس هو في الفضل كمَن عرض له ذلك، فجاهد نفسه في تركه. فتح الباري (4/ 107).
قوله: «الصِّيامُ لي»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «الصيام لي» كذا وقع بغير أداة عطف، ولا غيرها، وفي الموطأ: «فالصيام» بالفاء وهي للسببية، أي: بسبب كونه لي، إنه يترك شهوته لأجلي. عمدة القاري (10/ 259).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«الصيام» خالصٌ «لي» لا يطَّلع عليه غيري، أو لا يعلم ثوابه المترتب عليه، أو وصف من أوصافي؛ لأنه يرجع إلى صفته الصمدية؛ لأنَّ الصائم لا يأكل ولا يشرب، فتخلَّق باسمه الصمد، أو معناه: أنَّ الأعمال يقتص منها يوم القيامة في المظالم إلا الصوم، فإنَّه لله ليس لأحد من أصحاب الحقوق أنْ يأخذ منه شيئًا، واختاره ابن العربي، وقيل: لم يُعْبَدْ به غير الله، فلم تُعظِّم الكفارُ في عصرٍ قطّ آلهتهم بالصوم، وإنْ عظموها بالسجود وغيره، واستحسنه ابن الأثير، وللطالقاني في ذلك جزء مفرد جمع فيه نحو خمسين قولًا. فيض القدير (4/ 471).
وقال المازري -رحمه الله-:
تخصيصه الصوم ها هنا بقوله: «لي» وإنْ كانت أعمال البر المخلَصة كلها له تعالى لأجْلِ أنَّ الصَّوْمَ لا يمكن فيه الرِّياء كما يمكن في غيره من الأعمال؛ لأنه كفٌّ وإمْسَاكٌ، وحال الْمُمْسِكِ شِبعًا أوْ لِفَاقة كحال الممسك تقرُّبًا، وإنما القصد وما يُبطنه القلب هو الْمُؤَثِّر في ذلك، والصلوات والحج والزكاة أعمال بدنية ظاهرة يمكن فيها الرياء والسمعة؛ فلذلك خُصَّ الصوم بما ذكره دونها. المعلم بفوائد مسلم (2/ 61).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
هذا الحديث يدل على فضيلة الصوم، وتقديمه على الأعمال؛ لقوله: «الصوم لي». الإفصاح (6/ 87).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
فَنَبَّه -تبارك وتعالى- على فضل الصيام بقوله: «الصَّوْمُ لي»، وقد قال علماؤنا في ذلك سبعة أوجه:
الأول: إضافته إليه تشريفًا وتخصيصًا، كإضافة المساجد والكعبة تنبيهًا على شرف الكل.
الثاني: أنَّه أراد بقول: «الصَّوْمُ لي»: الصوم لا يعلمه غيري؛ لأن كل طاعة لا يقدر المرء أنْ يخفيها، أو إنْ أخفاها عن الناس لم يُخْفِها عن الملائكة، والصوم يمكنه أن ينويه، ولا يعلم به مَلَك ولا بشر.
الثالث: أنَّ المعنى: الصوم صفتي؛ لأن الباري تعالى لا يطعم، فمن فضل الصيام على سائر الأعمال أنَّ العبد يكون فيه على صفة من صفات الرب -عز وجل-، وليس ذلك في أعمال الجوارح إلا في الصوم، فأما في أعمال القلوب فيكون ذلك كثيرًا، كالعلم والكلام والإرادة.
الرابع: أنَّ المعنى «الصَّوْمُ لي» أي: من صفة ملائكتي؛ فإنَّ العبد في حالة الصوم مَلَك؛ لأنه يذكر، ولا يأكل، ويمتثل العبادة، ولا يقضي شهوة.
والخامس: «الصَّوْمُ لي» أنَّ المعنى: فيه أنَّ كل عمل أُعْلِمُكم مقداره إلا الصوم، فإني انفردتُ بعلمه، لا يطَّلع عليه أحد.
السادس: أنَّ معنى «الصَّوْمُ لي» أي: يَقمع عدوي، وهو الشيطان؛ لأن سبيل الشيطان إلى العبد اقتضاء الشهوات، فإذا تركها العبد بقي الشيطان لقًّا اللَّقَى: المُلْقَى على الأرض لا حراك به، ولا حيلة له.
السابع: أنَّه روي في الأثر «أنَّ العبدَ يأتي يومَ القيامةِ بِحَسَنَاتِهِ، ويأتي قد ضَرَبَ هذا، وشَتَمَ هذا وأخَذَ مالَ هذا؛ فَتُدْفَعُ حَسَنَاتُهُ لِغُرَمَائِهِ إلَّا الصِّيَام، يقولُ الله تعالى: هو لي ليسَ لكُمْ إليه سبيلٌ»، وهذا إنْ صح بديعٌ. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 481- 482).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله-:
يقول: فأنا أتولى جزاءه على ما أُحِبُّ من التضعيف، وليس على كتابٍ كُتب له، ومما يُبيِّن ذلك: قوله -عليه السلام-: «ليس في الصوم رياء»؛ وذلك أنَّ الأعمال كلها لا تكون إلا بالحركات إلا الصوم خاصة، فإنما هو بالنية التي قد خفيت على الناس، فإذا نواها فكيف يكون ههنا رياء؟ هذا عندي -والله أعلم- وجه الحديث. غريب الحديث (1/ 326).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «الصيام لي» اختُلف في معنى هذا على أقوال:
أحدها: أنَّ أعمال بني آدم يمكن الرياء فيها فيكون لهم إلا الصيام، فإنه لا يمكن فيه إلا الإخلاص؛ لأن حال الممسك شِبعًا كحال الممسك تقربًا، وارتضاه المازري.
وثانيها: أنَّ أعمال بني آدم كلها لهم فيها حظٌّ إلا الصيام فإنهم لا حظَّ لهم فيه؛ قاله الخطابي.
وثالثها: أنَّ أعمالهم هي أوصافهم، ومناسبة لأحوالهم إلا الصيام فإنه استغناء عن الطعام؛ وذلك من خواص أوصاف الحق -سبحانه وتعالى-.
ورابعها: أنَّ أعمالهم مضافة إليهم إلا الصيام، فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفًا، كما قال: {بَيْتِيَ} البقرة: 125، و{عِبَادِي} البقرة: 186.
وخامسها: أنَّ أعمالهم يُقْتَصُّ منها يوم القيامة فيما عليهم إلا الصيام فإنه لله، ليس لأحد من أصحاب الحقوق أنْ يأخذ منه شيئًا؛ قاله ابن العربي. وقد كنتُ استحسنتُهُ إلى أنْ فكَّرتُ في حديث الْمُقاصَّة، فوجدتُ فيه ذِكْر الصوم في جملة الأعمال المذكورة للأخذ منها، فإنه قال فيه: «هل تدرون مَن المفلس؟» قالوا: «المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه؛ أُخِذ من سيئاتهم فطرح عليه، ثم طرح في النار»، وهذا يدلُّ على أنَّ الصوم يُؤخَذ كسائر الأعمال.
وسادسها: أنَّ الأعمال كلَّها ظاهرة للملائكة، فتكتبها إلا الصوم، وإنما هو نية وإمساك، فالله يعلمه، ويتولَّى جزاءه؛ قاله أبو عبيد.
وسابعها: أنَّ الأعمال قد كُشفت لبني آدم مقادير ثوابها، وتضعيفها؛ إلا الصيام، فإنَّ الله يُثيب عليه بغير تقدير، ويشهد لهذا مساقُ الرواية الأخرى التي فيها: «كل عمل ابن آدم يضاعف؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به»، يعني -والله تعالى أعلم-: أنه يجازي عليه جزاءً كثيرًا من غير أنْ يُعيِّن مقداره ولا تضعيفه، وهذا كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر: 10، وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين، وهذا ظاهر قول الحسن، غير أنه قد تقدَّم، ويأتي في غير ما حديث: أنَّ صوم اليوم بعشرة، وأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام رمضان: صيام الدهر، وهذه نصوص في إظهار التضعيف، فَبَعُدَ هذا الوجه، بل بطل.
والأولى حمل الحديث على أحد الأوجه الخمسة المتقدِّمة؛ فإنها أبعد عن الاعتراضات الواقعة، -والله تعالى أعلم-. المفهم (3/ 211-213).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
لقائل أنْ يقول: ما معنى: إضافة الصوم إليه بقوله: «الصوم لي» وجميع العبادات له؟
فالجواب عنه من خمسة أوجه:
أحدها: أنه إضافة تشريف كقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِي} الحج: 26، وقوله: {نَاقَةُ اللهِ} الأعراف: 73.
والثاني: أنه أضافه إليه لأنه أحب العبادات إليه، يدل عليه أنَّ في حديث أبي هريرة: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي»، وكان المعنى هو المقدَّم عندي على غيره.
والثالث: لمضاعفته جزاءه، فالمعنى: أنَّ جميع الأعمال لها جزاء معلوم إلا الصوم، فإني أُضَاعِف جزاءه إلى ما لا يعلمه غيري، ويشهد له قوله: «وأنا أجزي به»، وفي حديث أبي هريرة: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به».
والرابع: أنَّ جميع العبادات تظهر، وقلَّ أنْ يسلم الظاهر من شَوْبٍ؛ ولهذا قال: «كل عمل ابن آدم له»، والمعنى: لنفسه فيه حظٌّ لظهوره، والناس يُثْنُون عليه بعبادته الظاهرة، والصوم باطن فهو سليم.
والخامس: أنَّ المعنى: أنَّ الاستغناء عن المطعم والمشرب صفتي، فكأنَّ الصائم تقرَّب إلى الله -عز وجل- بما يشبه صفته، ولا شبه. كشف المشكل (3/ 166-167).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
في قوله: «الصوم لي» وتخصيصه: بيانَ عَظِيم فضله، وكثرة ثوابه. إكمال المعلم (4/ 111).
قوله: «وأنا أَجْزِي به»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«وأنا أجزي به» صاحبه جزاءً كثيرًا، وأتولى الجزاء عليه بنفسي، فلا أَكِلُهُ إلى مَلَك مقرَّب ولا غيره؛ لأنه سرٌّ بيني وبين عبدي، لا يطَّلع عليه غيري كصلاة بغير طُهْر، أو ثوب نجس، أو نحو ذلك مما لا يعلمه إلا الله. فيض القدير (4/ 471).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأنا أجزي به» على قدر اختصاصي به، وأتولَّى الجزاء بنفسي، لا أَكِله إلى أحد غيري. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 408).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «وأنا أجزي به» أي: وغيره من الحسنات اطلعتُ على مقادير أجُورها، كما قال: «كل حسنة بعشرٍ أمثالها ...» الحديث، والصوم موكَل إلى سعة جوده، وغيب علمه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغِيْرِ حِسَاب} الزمر: 10. إكمال المعلم (4/ 111).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وأنا أجزي به» بيان لكثرة ثوابه؛ لأنَّ الكريم إذا أخبر بأنه يتولَّى بنفسه الجزاء اقتضى عظمته وسعته. عمدة القاري (10/ 259).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«وأنا أجزي به» يعني -والله تعالى أعلم-: أنه يجازي عليه جزاءً كثيرًا من غير أنْ يُعَيّن مقداره، ولا تضعيفه، وهذا كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ} الزمر: 10، وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين، وهذا ظاهر قول الحسن. المفهم (3/ 213).
قوله: «والحسنةُ بعَشْرِ أمثالِهَا»:
قال السيوطي -رحمه الله-:
«والحسنة بعشر أمثالها» هو مختصر، وتتمته كما في الموطأ: «كل حسنة يعملها ابن آدم بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به»؛ فأعاد قوله: «وأنا أجزي به» في آخره تأكيدًا. التوشيح شرح الجامع الصحيح (4/ 1415).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«والحسنة بعشر أمثالها»، وهو أقل مراتب التضعيف. دليل الفالحين(7/ 25).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
إنما عقَّبه بقوله: «والحسنة بعشر أمثالها» إعلامًا بأنَّ الصوم مُستثنى من هذا الحُكْم، فكأنَّه قال: وسائر الحسنات بعشر الأمثال بخلاف الصوم، فإنَّه بأضعافه بدون حساب. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري(9/ 80).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
وأما حذْفُ التاء من عشرٍ مع أنَّ المِثْل مذكَّرٌ؛ فإنَّه بمنزلة حسَنةٍ، وهي مؤنَّثة، كأنَّه قيل: بعَشْر حسَناتٍ، والمراد: أنَّ هذا أقلُّ التَّضعيف، وقيل: يكون بسبعِمائة، والله يُضاعِف لمن يشَاءُ. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (6/ 358).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)