الأربعاء 26 رمضان 1446 هـ | 26-03-2025 م

A a

«صُومُوا لرؤيتِهِ، وأفْطِرُوا لرؤيتِهِ، فإنْ غُبِّيَ عليكم، فأَكْمِلُوا عِدَّةَ شعبانَ ثلاثينَ».


رواه البخاري برقم: (1909) واللفظ له، ومسلم برقم: (1081)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«غُبِّيَ عليكم»:
قال ابن الأثير-رحمه الله-:
بضم الغين، وتشديد الباء المكسورة لما لم يُسمَّ فاعله، من الغَباء: شِبْهُ الغَبَرَة في السماء. النهاية في غريب الحديث(3/ 342).
وقال القاضي عياض-رحمه الله-:
مَعناهُ: خُفي عليكم، وقال ابن الأنباري: الغباء: شِبْهُ الغَبَرَةِ فِي السماء، والغباوة: الغَفْلَة. مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/ 128).


شرح الحديث


قوله: «صُومُوا لرؤيتِهِ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته» أي: هلال رمضان المدلول عليه بالسياق، أي: لوقت الرؤية، وقد عُلِمَ أنَّ الصوم الشرعي هو الإمساك عن المفطرات نهارًا مع تبييت النية، فلا يَرِدُ أنَّه يلزم الصوم عند الرؤية وحصولها، وقيل: اللام بمعنى (بعد). التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 17).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«صوموا» أي: انووا الصيام، وبِيْتُوا على ذلك، أو صوموا إذا دخل وقت الصوم، وهو من فجر الغد «لرؤيته» يعني: الهلال، وإنْ لم يتقدَّم له ذِكْر لدلالة السياق. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 96).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«لرؤيته» اللام فيه للتوقيت، والمراد برؤيته: رؤية بعض المسلمين له. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (4/ 349).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته» أي: لأجل رؤية الهلال، فاللام للتعليل، والضمير للهلال على حد {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَاب} ص: 32؛ اكتفاءً بقرينة السياق، ولقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُس} النساء: 11، أي: لأبوي الميت. مرقاة المفاتيح (4/ 1373).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «صوموا لرؤيته» اللام فيه للوقت، كما في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الإسراء: 78، أي: وقت دُلوكها. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1579).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته» اللام للتوقيت، أو بمعنى: بَعْد، أي: صوموا لوقت رؤيته، أو بَعْد رؤيته. شرح المصابيح (2/ 509).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته» أي: هلال رمضان، كما يومئ إليه المقام، ولو كان الرائي واحدًا، وهو عدل شهادة لا رواية. دليل الفالحين (7/ 31).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته» فإنَّ لفظة «صوموا»: عامة، خُوطِب بها كل مَن يصلح للخطاب حيث ما كان، وترك فاعل الرؤية، فهي مطلقة، تتحقَّق بتحقُّق الفرد الواحد أيضًا، فكان المعنى: يا أيها المؤمنون كلهم صوموا إذا وُجِدَتِ الرؤية. الكوكب الدري على جامع الترمذي (2/ 34).
وقال النووي -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته...» المراد: رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان، بل يكفي جميع الناس رؤية عدلين، وكذا عدل على الأصح، هذا في الصوم، وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء، إلا أبا ثور فجوَّزه بعدلٍ. شرح النووي على مسلم (7/ 190).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته»... اللام للتأقيت، لا للتعليل، كما زعمت الروافض، ولو كانت للتعليل لم يلزم تقديم الصوم على الرؤية أيضًا، كما تقول: أكرم زيدًا لدخوله، فلا يقتضي تقديم الإكرام على الدخول، ونظائره كثيرة، وحمله على التأقيت لا بد فيه من احتمال تجوُّز، وخروج عن الحقيقة؛ لأن وقت الرؤية -وهو الليل- لا يكون محلًّا للصوم. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 7).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وتعقَّبه (ابن دقيق العيد) الفاكهي بأنَّ المراد بقوله: «صوموا»: انووا الصيام، والليل كله ظرف للنية.
قلتُ: فوقع في المجاز الذي فرَّ منه؛ لأن الناوي ليس صائمًا حقيقة، بدليل أنَّه يجوز له الأكل والشرب بعد النية إلى أنْ يطلع الفجر. فتح الباري (4/ 128).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وهذا (الحديث وشبه) دليل على ما أجمع عليه المسلمون، إلا مَن شذَّ من بعض المتأخرين المخالفين المسبوقين بالإجماع من أنَّ مواقيت الصوم والفطر والنسك إنما تُقام بالرؤية عند إمكانها، لا بالكتاب والحساب، الذي تسلكه الأعاجم من الروم والفرس والقبط والهند، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 286).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وقد قيل: إنَّ أهل الكتاب أمروا بالرؤية، لكنهم بدَّلوا. فيض القدير (4/ 215).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فتبيَّن أنَّ ديننا لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، كما يفعله أهل الكتاب من ضبط عباداتهم بمسير الشمس وحُسْباناتها، وأنَّ ديننا في ميقات الصيام مُعلَّق بما يُرى بالبصر، وهو رؤية الهلال، فإنْ غُمَّ أكملنا عدة الشهر، ولم نَحْتَجْ إلى حساب. فتح الباري (3/ 67).
وقال المازري -رحمه الله-:
إذا ثبت الهلال عند الخليفة لزم سائر الأمصار الرجوع إلى ما عنده، وإن كان ذلك عند أهل مدينة فهل يلزم غيرهم ما ثبت عنهم؟
فيه قولان: فأما الحديث فهو محتمل أنْ يريد بقوله: «صوموا لرؤيته» أي: لرؤية من كان، أو لرؤيتكم أنتم، ويحتج مَن لا يُوجِب الصوم بما ذكره مسلم من حديث كُرَيب: «أنَّ أُمَّ الفَضْلِ بنت الحارث بَعَثَتْهُ إلى مُعاويةَ بالشَّامِ. قال: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حاجتها، واسْتُهِلَّ عليِّ رمضان وأنا بالشَّام؛ فرأيتُ الهلالَ ليلةَ الجُمُعَة، ثُمَّ قَدِمْتُ المدينةَ...»؛ فَذَكَر الحديثَ، وذَكَر فيه: «أنَّه أعْلَمَ ابنَ عَبَّاسٍ بذلكَ، وأنَّ ابنَ عَبَّاسٍ قال: لكنَّا رأيْنَاهُ ليلةَ السَّبْتِ، فلا نزالُ نَصُومُ حتَّى نُكْمِلَ ثلاثينَ، أو نراهُ، فَقُلْتُ: أَوَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعاويةَ وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمَرَنَا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-»، والفرق بين رؤية الخليفة وغيره: أنَّ سائر البلدان لَمّا كانت بحكمه فهي كبلد واحد، ويحتج للزوم الصوم من جهة القياس بأنَّه كما يلزم الرجوع إلى بعض أهل المصر، فكذلك يرجع أهل مصر إلى أهل مصر آخر؛ إذ العلة حصول الخبر بذلك. المعلم بفوائد مسلم (2/ 44-45).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
في قوله: «صوموا لرؤيته» أنه لا يلزم صيام يوم الشَّكِّ احتياطًا، بل لا يجوز عندهم، وعليه جمهور الفقهاء؛ للأثر الوارد في ذلك، خلافًا لأحمد في إيجاب صومه، وإنْ صح أنَّه من رمضان أجزأه، وروي صومه عن عائشة وأسماء وابن عمر وطاوس، وقال الأوزاعي والكوفيون: إنْ صامه وتبيَّن أنه من رمضان أجزأه، وجمهورهم: لا يصومه، ولا يجزئه إنْ صامه، وكان بعض الصحابة يأمر بالفصل ما بين رمضان وشعبان بفطر يوم أو يومين، وكره محمد بن مسلمة من أصحابنا تحرِّي ذلك آخر يوم، كما يكره تحرِّي صومه. إكمال المعلم (4/ 12-13).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الأصل: أنه (يوم الشك) محكوم له بأنه من شعبان، حتى يدل الدليل على أنَّه من رمضان، والأدلة الناقلة عن حكم شعبان: الرؤية، أو الشهادة، أو إكمال عدة شعبان بثلاثين، ولم يُوجَد واحد منها في يوم الشك، غير أنَّه يُستَحَبُّ أنْ يُمْسِكَ فيه من غير صوم؛ ليسلم من الأكل في زمان رمضان. المفهم (3/ 144).

قوله: «وأفطِرُوا لرؤيتِهِ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«وأفطروا» بقطع الهمزة «لرؤيته» أي: رؤية بعض المسلمين، فيكفي الناس رؤية عدلين، بل عدل عند الشافعي. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 96).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأفطروا لرؤيته» أي: هلال شوال، والرؤية مضافة إلى المفعول، وقد حُذِفَ الفاعل، أي: لرؤيتكم إياه، ويكفي رؤية مَن يَكْمُلُ به نصاب شهادته من واحد على قول، كما اخترناه في حاشية الضوء أي: منحة المختار حاشية ضوء النهار، أو اثنين. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 17).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وأفطروا» أي: اجعلوا عيد الفطر «لرؤيته» أي: لأجلها، أو بعدها، أو وقتها. مرقاة المفاتيح (4/ 1373).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وأفطروا لرؤيته» أي: هلال شوال، واللام فيهما محتملة؛ لكونها بمعنى: (عند)؛ كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الإسراء: 78، ولكونها للتعليل. دليل الفالحين (7/ 31).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» يقتضي لزوم حكم الصوم والفطر لمن صحَّتْ له الرؤية، سواء شُوْرِكَ في رؤيته أو انفرد بها، وهو مذهب الجمهور، وذهب عطاء وإسحاق: إلى أنَّه لا يلزمه حكم شيء من ذلك إذا انفرد بالرؤية، وهذا الحديث ردٌّ عليهما. المفهم (9/ 105).

قوله: «فإنْ غُبِّيَ عليكم»:
قال البرماوي -رحمه الله-:
«غَبيَ» بفتح المعجمة، وتخفيف الموحَّدة لأبي ذَرٍّ، وقيَّده الأَصِيْلي: بضمِّ الغَين، وتشديد الباء المكسورة، والأُولى أَبْيَنُ، أي: خَفِيَ عليكم، وهو من الغَباوة، وهي عدَم الفِطْنة، وفي بعضها: «عُمِّي» من العَمَاء، يُقال: عُمِّيَ عليه الأمر، أي: التبَس، أو من التَّعمية، وفي بعضها: «أُغْمِي» من الإغْماء بالمعجَمة، يُقال: أُغْميَ عليه الخبَر، أي: استَعجَم، وفي بعضها: «غُمَّ» أي: استتَر بالغَمام. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (6/ 376).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
«غبي» مأخوذ من الغباوة، وهي عدم الفِطْنة، استعار ذلك لخفاء الهلال. نيل الأوطار (4/ 227).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«فإنْ غبي عليكم» يعني: لو تَغَبَّى الهلال في غيم أو قترٍ، وما أشبه ذلك، فإنه يجب أن يكمل شعبان ثلاثين يومًا، هذا لفظ البخاري. شرح رياض الصالحين (5/ 274).

قوله: «فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شعبانَ ثلاثينَ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«فأكملوا» من الإكمال، وهو بلوغ الشيء إلى غاية حدوده. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 17).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«فأكملوا عدة شعبان -يعني:- ثلاثين»، فإنْ كان شعبان حال بين رؤية هلاله وبينهم غَبَرٌ أُكْمِلَتْ عدة رجب، ثم كذلك. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 19).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فأكملوا عدة شعبان» أي: أتموا عدده «ثلاثين» أي: فكذا رمضان بطريق الأَوْلَى. مرقاة المفاتيح (4/ 1373).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فأكملوا عِدَّةَ شعبان ثلاثين» العدة هنا: العدد، و«ثلاثين» بدل منه، بدلَ الكل. شرح المصابيح (2/ 509).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ثلاثين» التي لا يمكن زيادة شهر عليها. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 96).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
ولا يناقض هذا قوله: «فإنْ غُمَّ عليكم، فاقدروا له»؛ فإنَّ القدر هو الحساب الْمُقدَّر، والمراد به: الإكمال. زاد المعاد (2/ 37).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
ذهب كافَّة الفقهاء: إلى أنَّ معنى قوله -عليه السلام-: «فاقدروا له» مجمل يُفسِّره قوله: «فأكملوا العدة ثلاثين يومًا»؛ ولذلك جعل مالك في الموطأ «فأكملوا العدة ثلاثين يومًا» بعد قوله: «فاقدروا له» كما صنع البخاري؛ لأنه مُفسِّرٌ ومُبيِّنٌ لمعنى قوله: «فاقدروا له»، وحكى محمد بن سيرين: أنَّ بعض التابعين كان يذهب في معنى قوله -عليه السلام-: «فاقدروا له» إلى اعتباره بالنجوم، ومنازل القمر، وطريق الحساب، ويقال: إنه مُطَرِّف بن الشِّخِّير، وقوله -عليه السلام-: «فإنْ غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يومًا» نَصٌّ في أنَّه -عليه السلام- لم يُرِدْ اعتبار ذلك بالنجوم والمنازل؛ لأنه لو كَلَّف ذلك أمته لشق عليه؛ لأنه لا يعرف النجوم والمنازل إلا قليل من الناس، ولم يجعل الله تعالى في الدِّين من حرج، وإنما أحال -عليه السلام- على إكمال ثلاثين يومًا، وهو شيء يستوي في معرفته الكل، وقد انضاف إلى أمره باعتبار العدد ثلاثين عند عدم الرؤية فعله في نفسه، فروي عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله يتحفَّظ من شعبان ما لا يتحفَّظ من سائر الشهور، فإذا رأى هلال رمضان صام، وإن غُمَّ عليه عَدَّ شعبان ثلاثين يومًا وصام»، ولو كان هاهنا علم آخر لكان يفعله، أو يأمر به، وجمهور الفقهاء على أنه لا يُصام رمضان إلا بيقين من خروج شعبان، إما برؤية الهلال، أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا، وكذلك لا يُقضى بخروج رمضان إلا بيقين مثله؛ لأنه ممكن في الشهر أنْ يكون تسعة وعشرين يومًا، فالرؤية تُصحِّح ذلك وتُوجِب اليقين، كإكمال العدة ثلاثين يقينًا، هذا معنى قوله: «فاقدروا له» عند العلماء. شرح صحيح البخاري (4/ 27-28).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فأكملوا عدة شعبان ثلاثين»، ومنه أخذ أصحابنا: عدم استحباب الخروج من خلاف من أوجب صوم ثلاثين شعبان، إذا منع الغيم من رؤية الهلال؛ لأن الخلاف إنما يخرج منه ما لم يعارض سنة صحيحة، ولم يشْتَدَّ ضعفه، ولم يُوْقِعِ الخروج منه في خلاف آخر. دليل الفالحين (7/ 32).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
لم يخص -صلى الله عليه وسلم- شهرًا دون شهر بالإكمال إذا غُمَّ، فلا فرق بين شعبان وغيره في ذلك؛ إذ لو كان شعبان غير مراد بهذا الإكمال لبيَّنه، فلا تكون رواية من روى: «فأكملوا عدة شعبان» مخالفة لمن قال: «فأكملوا العدة»؛ بل مُبيِّنة لها، ويُؤيده رواية: «فإنْ حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشهر استقبالًا» أخرجه أصحاب السُّنن وابن خزيمة وأبو يعلى من حديث ابن عباس. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 194).
وقال ابن عبد الهادي -رحمه الله-:
الذي دلَّت عليه الأحاديث في هذه المسألة وهو مقتضى القواعد: أنَّ أيَّ شهرٍ غُمَّ أُكمل ثلاثين، سواء في ذلك شهر شعبان، وشهر رمضان وغيرهما، وعلى هذا: فقوله: «فإنْ غُمَّ عليكم فأكملوا العدَّة» يرجع إلى الجملتين، وهما: قوله: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكلموا العدَّة» أي: غُمَّ عليكم في صومكم أو فطركم، وهذا هو الظَّاهر من اللفظ، وباقي الأحاديث تدلُّ على هذا، كقوله: «فإنْ غُمَّ عليكم فاقدروا له»، وليس المراد: ضيِّقوا، كما ظنَّه من ظنَّه من الأصحاب، بل المعنى: احسبوا له قدره، فهو من: قَدْر الشيء -وهو مبلغ كمِّيَّته-، لبس من: التَّضييق في شيءٍ. تنقيح التحقيق (3/ 199).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فاللام في قوله: «فأكملوا العدة» للشهر، أي: عدة الشهر، ولم يخص -صلى الله عليه وسلم- شهرًا دون شهر بالإكمال، إذا غُمَّ فلا فرق بين شعبان وغيره في ذلك؛ إذ لو كان شعبان غير مراد بهذا الإكمال لَبَيَّنَهُ، فلا تكون رواية من روى: «فأكملوا عدة شعبان» مخالفة لمن قال: «فأكملوا العدة»؛ بل مُبَيِّنَة لها. فتح الباري (4/ 122).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
فأما قوله: «فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» فهذا اللفظ انفرد به آدم عن شُعبة، وقد رواه الإسماعيلي بالإسناد الذي ذكره البخاري، وقال فيه: «فإنْ غُمَّ عليكم الشهر فَعُدُّوا ثلاثين»، قال الإسماعيلي: قد روينا هذا الحديث عن غندر وابن مهدي، وابن علية، وعيسى بن يونس وشبابة، وعاصم بن علي، والنَّضْر بن شُمَيْل، ويزيد بن هارون، وأبي داود، وكلهم عن شُعبة، فلم يذكر واحد منهم: «فأكملوا عدة شعبان ثلاثين»؛ فيجوز أنْ يكون آدم قال ذلك من عنده، على وجه التفسير للخبر، وإلا فليس لانفراد البخاري عنه بهذا من بين من رواه عنه وجه.
وقد أخرج مسلم فيما سيأتي في أفراده من حديث أبي هريرة هذا الحديث، فقال فيه: «فإنْ غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين» فدل على أنَّ المراد بقوله: «فعُدُّوا» عَدُّ رمضان لا شعبان، فعلى هذا يكون الاحتياط أنْ يكون عدة رمضان ثلاثين. الإفصاح (7/ 199).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
لكن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فصوموا ثلاثين»، و «أكملوا عدة شعبان ثلاثين» يدلان على عدم التقدير لشعبان دون رمضان، ولا عكسه، بل لهما، فالتخصيص بأحدهما من غير مخصِّصٍ خُلْف. العدة في شرح العمدة(2/ 843).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فإنَّه يُشْعِرُ بأنَّ المأمور بعدّه هو شعبان، وقد رواه مسلم من طريق الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد بلفظ: «فأكملوا العدد»، وهو يتناول كُلَّ شهر، فدخل فيه شعبان. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 295).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فأكملوا العدة ثلاثين» والمعنى: أفطروا يوم الثلاثين، واحسبوا تمام الشهر، وهذا أحسن تفاسيره.
قال ابن بطال: في الحديث دفع لمراعاة المُنجمين، وإنما المُعول عليه رؤية الأهلة، وقد نُهينا عن التّكلف، وقد قال الباجي في الرَّد على من قال: يجوز للحاسب والمُنجم وغيرهما الصوم والإفطار اعتمادًا على النجوم: إن إجماع السلف حُجة عليهم.
وقال ابن بريرة: هو مذهب باطل قد نهت الشريعة في الخوض في عِلم النجوم؛ لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع.
قال الشارح: قلتُ: والجواب الواضح عليهم ما أخرجه البخاري عن ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّا أمة أميَّةٌ لا نَكتب ولا نَحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني تسعًا وعشرين مرة، وثلاثين مرة». ‌ سبل السلام (4/ 89).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ولم يتعلق أحدٌ من فقهاء المسلمين -فيما علمت- باعتبار المنازل في ذلك، وإنما هو شيء رُوي عن مُطرف بن الشخير، وليس بصحيح عنه، والله أعلم، ولو صح، ما وجب اتباعه عليه، لشذوذه، ولمخالفة الحُجة له.
وقد ‌تأوَّل بعض فقهاء البصرة، في معنى قوله: «فاقدِرُوا له» نحو ذلك، والقول فيه واحد.
وقال ابن قتيبة، في قوله: «فاقدِرُوا له» أي: فقدِّروا السير والمنازل، وهو قول قد ذكرنا شذوذه، ومخالفة أهل العلم له، وليس هذا من شأن ابن قتيبة، ولا هو ممن ‌يُعرّج ‌عليه ‌في ‌هذا ‌الباب. التمهيد (9/ 241)
وقال الجصاص -رحمه الله-:
فالقائل باعتبار منازل القمر وحساب المنجمين خارج عن حكم الشريعة، وليس هذا القول مما يسوغ الاجتهاد فيه؛ لدلالة الكتاب ونص السنة، وإجماع الفقهاء بخلافه. أحكام القرآن (1/250).
قال أبو عبدالله القرطبي -رحمه الله-:
وهذا لا نعلم أحدًا قال به (أي: الأخذ بالحساب) إلَّا بعض أصحاب الشافعي؛ أنَّه يُعتَبَر في ذلك بقول المُنجِّمينَ، والإجماع حُجَّة عليهم. التفسير (2/293).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
ولا يُعرف فيه خلاف قديم أصلًا، ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة، زعم أنه إذا غُمّ الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حقِّ نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دَلَّ على الرؤية صام، وإلا فلا. وهذا القول -إن كان مقيدًا بالإغمام ومختصًا بالحاسب- فهو شاذٌ مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتِّبَاعُ ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به، فما قاله مسلم. مجموع الفتاوى (25/132 - 133).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
فيه: أن الله تعبد عباده في الصوم برؤية الهلال لرمضان، أو باستكمال شعبان ثلاثين يومًا.
وفيه: تأويل لقول الله -عزَّ وجلَّ-: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} البقرة: 185 أن شهوده: رؤيته أو العلم برؤيته.
وفيه: أن اليقين لا يزيله الشك، ولا يزيله إلا يقين مثله؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أمر الناس ألا يدعوا ما هم عليه من يقين شعبان إلا بيقين رؤية واستكمال العدة، وأن الشك لا يعمل في ذلك شيئًا؛ ولهذا نهى عن صوم يوم الشك اطّراحًا لإعمال الشك، وإعلامًا أن الأحكام لا تجب إلا بيقين لا شك فيه، وهذا أصل عظيم من الفقه؛ ألا يدع الإنسان ما هو عليه من الحال المتيقنة إلا بيقين من انتقالها. التمهيد (2/ 44).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: وجوب الصوم برؤية هلال رمضان، ولا يحل للصائم أنْ يفطر حتى يرى هلال شوال؛ إلا أنَّه إذا رأى هلال رمضان عدل واحد، وجب عليه صيامه، وعلى الناس بقوله، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وأبو حنيفة يُفرِّق بين الليلة المعتمة والمصبحة.
وأما هلال شوال فإنْ رآه عدل واحد لم يفطر، لا هو ولا غيره، إلا أنْ يوافقه عدل آخر؛ احتياطًا للعبادة، ولأن الشاهد الواحد في حقوق الآدميين لا تُوجِب شهادته، ولا تسقط بانفراده، فحقوق الله تعالى أولى أنْ يُحتاط لها، فلا يسقط الصيام بشهادة الواحد، وإنما وجب الصوم في أول الشهر بقول الواحد احتياطًا للعبادة. الإفصاح (7/ 198-199).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
في هذا الحديث: دليل على أنَّه لا يجب صوم رمضان إلا برؤية هلاله، أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا.
واختلفت الروايات عن الإمام أحمد فيما إذا حال دون منظر الهلال غيمٌ أو قَتَرٌ، فَعَنْهُ: يجب صومه، وعنه: أنَّ الناس تبع للإمام، وعنه: لا يجب صومه قبل رؤية هلاله، أو إكمال شعبان، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية... وعنه: صومه منهي عنه، وهذا الموافق للأحاديث الصحيحة الصريحة.
وقال البخاري: باب قول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا»، وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «يا عمار، مَن صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم -صلَّى الله عليه وسلَّم-». تطريز رياض الصالحين (ص: 688- 689).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
الحديث يدل على أنَّه يجب على من لم يشاهد الهلال ولا أخبره من شاهده أنْ يُكْمِل عدة شعبان ثلاثين يومًا ثم يصوم، ولا يجوز له أنْ يصوم يوم الثلاثين من شعبان؛ خلافًا لمن قال بصوم يوم الشك، وسيأتي ذكرهم، ويكمل عدة رمضان ثلاثين يومًا، ثم يفطر، ولا خلاف في ذلك. نيل الأوطار(4/ 227).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)


ابلاغ عن خطا