الأربعاء 26 رمضان 1446 هـ | 26-03-2025 م

A a

«ما خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلا قال: لا إِيمَانَ لمن لا أَمانةَ له، ولا دِينَ لمن لا عَهْدَ له».


رواه أحمد برقم: (12383)، ورقم: (12567)، ورقم: (13199)، وأبو يعلى برقم: (2863)، من حديث أنس -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (7179)، مشكاة المصابيح برقم: (35). 


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«لا عَهْدَ له»:
أي: لا وفاء له بالعهد.
والمراد بالعهد: عهد العباد ووعدهم، وعهد الله ووعده. حاشية السندي على مسند أحمد (3/214-215).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
العهد: يكونُ بمعنى اليَمِينِ، والأمانِ، والذِّمَّةِ، والحِفَاظ، ورِعَايَةِ الحُرْمَة، والوَصَّية. النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 325).


شرح الحديث


قوله: «ما خطبَنَا نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«خَطَبَنَا» الخُطبة: الموعظة والتذكير. شرح المصابيح (1/ 69).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعظ أصحابه، ويُذَكِّرُهُمْ، ويَتَخَوَّلُهُمْ بالموعظة، ويبالغ في التخويف، كأنَّه مُنذِر جيشٍ. القصاص والمذكرين (ص: 165).

قوله: «إلا قال: لا إِيمَانَ لمن لا أمانةَ له»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«لا إيمان» كامل «لمن لا أمانة له»؛ لأن الأمانة من أهم خصال الإيمان. التنوير شرح الجامع الصغير (11/ 72).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«لا إيمان لمن لا أمانة له»؛ فإنَّ المؤمن مَن أمَّنه الخَلْق على أنفسهم وأموالهم، فمَن خَان وجار، فليس بمُؤْمِن، أرادَ نفي الكمال، لا الحقيقة. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 488).
وقال السندي -رحمه الله-:
«لا إيمان» قيل: المراد في الموضعين: نفي الكمال، وقيل: معناه: لا إيمان لمن لا يُؤَدِّي الأمانة مستحِلًّا لذلك...، ثم قيل: المراد بالأمانة: أمانة العباد من الودائع وغيرها، وأمانة الله: من الصلاة والصوم والزكاة وأمثالها، وحفظ الفرج من الحرام، والجوارح من الآثام. حاشية السندي على مسند أحمد (3/214).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«لا إيمان لمن لا أمانة له» هذا وعيد يُقْصَد به الزجر، ونفي الفضيلة والكمال؛ يعني: مَن كان في نفسهِ خيانة مال أحدٍ أو نفسه أو أهله، لم يكن إيمانه كاملًا.
ويُحتمل: أنْ يُراد به: الحقيقة، فمعناه: إذا اعتاد المرء هذه الأمور لم يُؤمَن عليه أنْ يقع في ثاني الحال في الكفر، كما قيل: مَن يَرْتَعْ حول الحِمى يوشك أنْ يُواقعه. شرح المصابيح (1/ 69).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لا إيمان» أي: على وجه الكمال، «لمن لا أمانة له» في النفس والأهل والمال، وقيل: فيما استُؤْمِنَ عليه من حقوق الله، وحقوق العباد التي كُلِّف بها، وقد قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ} الأحزاب: 72، الآية.
والإنسان فيها هو آدم، ثم ذريته، ومع كونه ظلومًا -أي: ظلم نفسه- بالتزامه بحمل ما فيه كُلْفة عظيمة عليها، المؤَدِّي إلى عدم قيامها به، لا سيما على الوجه الأكمل جهولًا؛ لأنه جهل خطر تلك الأمانة، ومشقة رعايتها عند تحمُّلِهِ لها، وإنما انتفى كمال الدِّين بانتفائها؛ لأنه يُؤدِّي إلى استباحة الأموال والأعراض والأبضاع والنفوس، وهذه فواحش تُنقِص الإيمان وتُقهقره إلى ألا يبقى منه إلا أقله، بل ربما أدت إلى الكفر، ومن ثم قيل: المعاصي بريد الكفر. مرقاة المفاتيح (1/108- 109).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
وأما قوله -صلى الله تعالى عليه وسلم-: «لا إيمان لمن لا أَمانة له» فالمراد به: نفي الكمال، -والله تعالى أعلم بالحال-. مرقاة المفاتيح (8/ 3379).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «لا إيمان لمن لا أمانة له» أي: لا إيمان كاملًا لمَن لم يكن له أمانةٌ، يعني: مَن كان في نفسه خيانةٌ، يخون في مال أحدٍ أو نفسه أو أهله، إيمانهُ ناقص، وكذلك السارق والغاصب وأصحاب المعاصي. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 133).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«لا إيمان لمن لا أمانة له» أي: لا إيمان كامل، فالأمانة لُبُّ الإيمان، وهي منه بمنزلة القلب من البدن، والأمانة: الجوارح السبع: العين والسمع واللسان واليد والرجل والبطن والفَرْج، فمن ضيَّع جزءًا منها سَقِمَ إيمانه، وضَعُفَ بقدره، فإن ضيَّع الكل خرج عن جملة الإيمان. فيض القدير (6/ 381).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما الأمانة: فالظاهر أنَّ المراد بها: التكليف الذي كلَّف الله تعالى به عباده، والعهد الذي أخذه عليهم. شرح النووي على مسلم (2/ 168).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
وفي الحديث إشكال، وهو أنَّه قد سبق أنَّ الدِّين والإيمان والإسلام أسماء مترادفة موضوعات لمفهوم واحدٍ في عُرف الشَّرع، فلم فَرَّق بينهما، وخصَّص كل واحد منهما بمعنى؟
والجواب: أنهما وإن اختلفا لفظًا فقد اتفقا ههنا معنىً، فإنَّ الأمانة ومراعاتها: إما مع الله، فهي ما كُلِّف به من الطاعة، وسُمِّي أمانة لأنه لازم الوجود، كما أنَّ الأمانة لازمة الأداء، قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} الأحزاب: 72، وإما مع الخَلْق فظاهر، وإنَّ العهد وتوثيقه إما مع الله تعالى فاثنان:
الأول: الذي أخذه على جميع ذرية آدم في الأزل، وهذا العهد: الإقرار بربوبيته قبل خَلْق الأجساد، مصداقه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} الأعراف: 172.
والثاني: ما أخذه عند هبوط آدم إلى الدنيا من متابعة هدى الله، ومن الاعتصام بكتاب ينزله، ورسول يبعثه، مصداقه قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} البقرة: 38، وإما مع الخَلْق فكذا ظاهر، فحينئذٍ مرجع الأمانة والعهد إلى طاعة الله تعالى بأداء حقوقه، وحقوق العباد، كأنه قيل: لا إيمان ولا دين لمن لا يفي بعهد الله بعد ميثاقه، ولا يُؤدي أمانة الله بعد حملها، وهي التكاليف من الأوامر والنواهي، ويشهد له قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} البينة: 5، إلى قوله: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} البينة: 5، والتكرير المعنوي توكيد وتقرير. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 492).
وقال الشيخ محمد أنور شاه الكشميري -رحمه الله-:
واعلم: أنَّ بعض الأخلاق الحسنة التي هي مبادئ للإيمان مقدَّمة على الإيمان، يجيءُ عليها لون الإيمان كالأمانة؛ ولذا قال: «لا إيمانَ لمن لا أمانَةَ لَهُ» فالأمانةُ متقدِّمةٌ على الإيمان، وينبغي أنْ يُقدَّم عليه الحياء أيضًا. فيض الباري على صحيح البخاري (1/ 153).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» إنْ أريد بالأمانة المعنى المتعارف من حفظ أموال الناس ومجالسهم مثلًا، وبالعهد ما جرى بينهم من ميثاق، فهذا تغليظ وحث على محافظتهما، والمنفي هو الإيمان الكامل، وإنْ أريد التكاليف الشرعية والعهد الذي أخذه اللَّه من عباده بأداء حقوق ربوبيته والانقياد لأحكامه، فحيث يشتمل ذلك الدين والإيمان كله أصولًا وفروعًا، فلا إشكال في هذا النفي، ويكون في الكلام تكرير أو تأكيد أو تقرير.
ويُحتمل: أنْ تكون الأمانة محمولة على المعنى الأعم، والعهد على الأخص، فيكون تخصيصًا بعد تعميم، فتدبَّرْ. لمعات التنقيح (1/ 271).
قوله: «ولا دِينَ لمن لا عَهْدَ له»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا دين» كامل «لمن عهد له»؛ فإنَّ الله أمر بالوفاء بالعهود، وأكَّد ذلك، فمَن نقض عهده، فهو لقلة دينه، وعدم كماله، وإنما يجوز للإمام نقض العهد بينه وبين المعاهدين إلا لوجهٍ شرعي. التنوير شرح الجامع الصغير (11/ 72).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ولا دين لمن لا عهد له» هذا وأمثاله وعيد، لا يُرَاد به الوقوع، بل الزَّجر والرَّدْع، ونفي الكمال والفضيلة. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 488).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ولا دين لمن لا عهد له» يعني: مَن جرى بينه وبين أحد عهد وميثاق، ثم غدر ونقض العهد من غير عذر شرعي، فدينُهُ ناقص. شرح المصابيح (1/ 69).
وقال الحكيم الترمذي -رحمه الله-:
وأما العَهْد: فهو تذكرة الله الَّذي وضعه فيما بينه وبين العباد يوم أخذهم للعبودية قبل خَلْق السَّماوات والأرض، فلمَّا خرجوا إلى الدُّنيا نَسِيَهُ الأعداء، وحفظه الموحِّدُون، ثمَّ غلب الْمُوَحِّدين غفلة على ذلك الحفظ، فَوَهِلُوا (نسوا)؛ فأوفرهم حظًّا من الحفْظ، أوفرهم حظًّا من الذِّكر. نوادر الأصول في أحاديث الرسول (3/ 175).
وقال السندي -رحمه الله-:
ولا دين لمن لا يفي بالعهد مستحلًّا لذلك...، والمراد بالعهد: عهد العباد ووعدهم، وعهد الله ووعده، وقيل: هو تغليظ وتشديد كما هو شأن الوعيد، وليس المراد: نفي الإيمان.
وقال بعضهم: معنى «لا دين لمن لا عهد له» أي: مَن جرى بينه وبين أحد عهد وميثاق، ثم غدر من غير عذر شرعي، فدينه ناقص، وأما العذر كنقض الإمام المعاهدة مع الحربي إذا رأى المصلحة، فإنه جائز، -والله تعالى أعلم-. حاشية السندي على مسند أحمد (3/214-215).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«لا دين لمن لا عهد له» أي: لا دينَ كاملَ لمَن لا عهد له؛ يعني: مَن جرى بينه وبين أحدٍ عهدٌ وميثاقٌ، ثم غدر ونقض العهد من غير عذر شرعيٍّ، فدينه ناقص، فإن كان له عذرٌ شرعيٌّ في نقض العهد، مثل أنْ عَهِدَ الإمام مع أهل الحرب من الكفار، ثم رأى المصلحة في نقض العهد، جاز أن ينقض العهد. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 133).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا دين» على طريق اليقين، «لمن لا عهد له» بأنْ غدر في العهد واليمين، قيل: هذا الكلام وأمثاله وعيد لا يُراد به الوقوع؛ بل الزجر، ونفي الفضيلة دون الحقيقة.
وقيل: يُحتمل: أنْ يُراد به: الحقيقة، فإنَّ مَن اعتاد هذه الأمور لم يُؤمَن عليه أنْ يقع ثاني الحال في الكفر، كما في الحديث: «مَن يَرْتَعْ حول الحمى يوشك أنْ يقع فيه» رواه البيهقي في شعب الإيمان، وكذا رواه محيي السنة، -أي: صاحب المصابيح- بإسناده في شرح السنة (أي: البغوي)، ورواه الطبراني في معجمه الكبير من حديث ابن مسعود بزيادات لا بأس بذكرها، ولفظه قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، والذي نفس محمد بيده لا يستقيم دين عبد حتى يستقيم لسانه، ولا يستقيم له حتى يستقيم قلبه، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه»؛ فقيل: ما البوائق يا رسول الله؟ قال: غَشْمُهُ (الغَشْمُ: الغَصب) وظُلْمُهُ، وأيما رجل أصاب مالًا من حرام، وأنفق منه؛ لم يُبَارَكْ له فيه، وإنْ تصدَّق منه لم يُقبَل منه، وما بقي فزاده إلى النار، ألا أنّ الخبيث لا يُكفِّر الخبيث، ولكن الطيب يُكفِّر». مرقاة المفاتيح (1/ 109).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ولا دين» الدِّين: الخضوع لأوامر الله ونواهيه وأماناته، والعهد: الذي وضعه الله بينه وبين عباده يوم إقرارهم بالربوبية في حَمْل أعباء الوفاء في جميع جوارحه، فمن استكمل الدِّين استوفى الجزاء، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} التوبة: 111.
«لمن لا عهد له»؛ لأنَّ الله إنما جعل المؤمن مؤمنًا ليأمن الخَلْق جوره، والله عدل لا يُجَوِّرُهُ (لا يجعله جائرًا)، وإنما عَهِدَ إليه ليخضع له بذلك العهد، فيأتمر بأموره، ذكره الحكيم (الترمذي). فيض القدير (6/ 381).


ابلاغ عن خطا