«مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فأَثْنَوْا عليها خَيْرًا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وَجَبَتْ»، ثمَّ مَرُّوا بأُخْرَى، فأَثْنَوْا عليها شَرًّا، فقال: «وَجَبَتْ»؛ فقال عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: ما وجَبَتْ؟ قال: «هذا أَثْنَيْتُمْ عليه خيرًا، فوَجَبَتْ له الجنة، وهذا أَثْنَيْتُمْ عليه شرًّا، فوَجَبَتْ له النار، أنتم شُهَدَاءُ اللَّه في الأرضِ».
رواه البخاري برقم: (1367) واللفظ له، ومسلم برقم: (949)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«جنازة»:
الجِنَازَةُ بالكسر والفتح: الميت بسريره، وقيل: بالكسر: السّرير، وبالفتح: الميت. النهاية في غريب الحديث (1/ 306).
«وجَبَتْ»:
أي: حُقَّتْ له الجنة أو النار. مرقاة المفاتيح (3/ 1201)
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
يُقال: وجَبَ الشيء يجب وجوبًا، إذا ثبت ولَزِم. النهاية في غريب الحديث (5/ 152).
شرح الحديث
قوله: «مَرُّوا بجنازة»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «مَرُّوا بجنازة»، ويُروى: «مُرَّ بجنازة» بضم الميم على صيغة المجهول. عمدة القاري (8/ 194).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «مَرُّوا» أي: الصحابة. مرقاة المفاتيح (3/ 1201).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «مُرَّ بجنازة» في بعضها: «مَرُّوا» بلفظ الجمع، مضموم الميم ومفتوحها. الكواكب الدراري (7/ 143).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«مرُّوا» قال (ك) (أي: الكرماني): بضمِّ الميم، وفتحها، وفيه نظَرٌ. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (5/ 287).
وقال المظهري -رحمه الله-:
الضمير في «مَرُّوا»، وفي «أثْنَوْا» ضميرُ الصحابة. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 437).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
ضمير «مَرُّوا» غير ضمير «أثْنَوْا»؛ لأن ضمير «مَرُّوا» للمشيعين للجنازة، وضمير «فأثْنَوْا» للجالسين مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، والأصل: مَرُّوا بجنازة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فأثنى الجالسون خيرًا. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/ 104).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «مَرُّوا بجنازة» أي: على النبي ومَن عنده...، وقرينة كون المرور عليه: قول أنس: «فقال النبي» أي: عند سماع ثنائهم عليها، «وجبت»، واحتمالُ كونها مرَّت عليهم فقط، فأثْنَوْا عليها فبلغه؛ ذلك خلاف الظاهر. دليل الفالحين (6/ 429).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«مَرُّوا بجنازة» على مجلس كان فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (11/ 199).
قوله: «فأَثْنَوْا عليها خَيْرًا»:
قال العيني -رحمه الله-:
«فأثْنَوْا عليها» أي: على الجنازة. عمدة القاري (8/ 194).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فأثْنَوْا عليها» أي: ذكروها بأوصافٍ حميدة، وأخلاقٍ سديدة، فقوله: «خيرًا» تأكيد، أو دفع لما يُتَوَهَّم مِن (على). مرقاة المفاتيح (3/ 1201).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«فأثْنَوْا» -بتقديم المثلَّثة-: أكثَر ما يُستعمل في الخَيْر، وقد يُستعمل في الشَّرِّ...، أما النَّثا بتقديم النُون والقَصْر (أي: المقصور، وهو: الذي آخره ألف ثابتة، وتكتب بصورة الألف مثل: عصا، أو بصورة الياء مثل: موسى)، ففي الشَّرِّ خاصةً. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (5/ 287).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قوله: «فأثْنَوْا عليها خيرًا» للحاكم: «فقالوا: كان يحب الله ورسوله، ويعمل بطاعة الله، ويسعى فيها»، وله من حديث جابر: «فقال بعضهم: نعم المرء كان، لقد كان عفيفًا مسلمًا». التوشيح شرح الجامع الصحيح (3/ 1121-1122).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فأثْنَوْا عليها خيرًا» منصوب بنزع الخافض: أي: بخير، أو أنه مفعول مطلق، إما بتقدير: ثناء خير، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، أو لكون الخير من نوع الثناء، فيكون نحو: قعدتُ جلوسًا. دليل الفالحين (6/ 429).
قوله: «فقال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «وَجَبَتْ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: وجبت» أي: ثبتتْ له الجنة، يعني: على تقدير صحة ما أثنوا عليه، أو إنْ كان مات عليه. مرقاة المفاتيح (3/ 1201).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
المراد بالوجوب: الثبوت؛ إذ هو في صحة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء، بل الثواب فضله، والعقاب عدله، لا يُسأل عما يفعل.
وفي رواية مسلم: «مَن أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة»، ونحوه للإسماعيلي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة، وهو أبين في العموم من رواية آدم.
وفيه: ردٌّ على مَن زعم أنَّ ذلك خاص بالْمَيِّتِيْن المذكورين؛ لغيب أَطْلَعَ اللهُ نبيَّهُ عليه، وإنما هو خبر عن حُكْم أعلمه الله به. فتح الباري (3/ 229).
قوله: «ثمَّ مَرُّوا بأُخْرَى»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«ثم مرُّوا بأخرى» أي: بجنازة أخرى. دليل الفالحين (6/ 429).
قوله: «فأَثْنَوْا عليها شَرًّا»:
قال السيوطي -رحمه الله-:
«فأثْنَوْا عليها شرًّا»، للحاكم عن جابر: «فقال بعضهم: بئس المرء كان، إنْ كان لَفَظًّا غليظًا». التوشيح شرح الجامع الصحيح (3/ 1122).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فأثْنَوْا عليها شرًّا» الثناء إنما يُستعمل في الخير، استعماله ها هنا في الشر إما مشاكلة لقوله: «فأثْنَوْا عليها خيرًا» أو تهكُّم، كاستعمال البشارة في النذارة. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1396).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ويمكن أنْ يكون أثْنَوْا في الموضعين بمعنى: وصفوا، فيحتاج إلى القيد. مرقاة المفاتيح (3/ 1201).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «فأثْنَوْا عليها شرًّا» قال أهل اللغة: الثناء بتقديم الثاء وبالمد يُستعمل في الخير، ولا يُستعمل في الشر، هذا هو المشهور، وفيه لغة شاذَّة أنه يُستعمل في الشر أيضًا، وأما النثا بتقديم النون وبالقصر، فيُستعمل في الشر خاصةً، وإنما استُعْمِل الثناء الممدود هنا في الشر مجازًا؛ لتجانس الكلام كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} الشورى: 40، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} آل عمران: 54. شرح النووي على مسلم (7/ 20).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فأثْنَوْا عليها شرًّا» هذا الحديث مُؤيِّد للعزِّ بن عبد السلام الشافعي، حيث رأى أنَّ الثناء حقيقة في الخير والشرِّ، ورأى الجمهور: أنه حقيقة في الخير فقط، وعليه: ففي الحديث مجاز مرسل تَبَعِيٌّ علاقته التضادُّ. دليل الفالحين (6/ 429-430).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
ومِن هذا اجْتَرَأَ بعضهم فقال: لا يُستعمل (الثناء) إلا في الحَسَن، وفيه نظر؛ لأن تخصيص الشيء بالذِّكْر لا يدل على نفيه عما عداه، والزيادة من الثقة مقبولة، ولو كان الثناء لا يُستعمل إلا في الخير، كان قول القائل: أثنيتُ على زيدٍ كافيًا في المدح، وكان قوله: وله الثناء الحسن، لا يفيد إلا التأكيد، والتأسيس أولى، فكان في قوله: الحسن، احتراز عن غير الحسن، فإنه يستعمل في النوعين، كما قال: «والخير في يديك، والشر ليس إليك». المصباح المنير (1/ 86).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
تقدَّم في كلام الفيُّوميِّ -رحمه الله-: أنَّ الصواب عند أهل اللغة: أنَّ الثناء هو الوصف مطلقًا، وأما كونه خاصًّا بالمدح فغير ثابت عنهم...، فما ادَّعاه الطيبيُّ من الْمُشاكلة، وكذا ما أجاب به القاري غير صحيح، وكذا ما قاله النوويُّ في شرحه من أنَّ استعمال الثناء في الشرِّ شاذٌّ؛ كلُّ ذلك غير مقبول، وقد أشبع الكلام في الردِّ على هذا الفيُّوميُّ -رحمه الله- في بحثه السابق، فتأمَّله بالإنصاف. البحر المحيط الثجاج (18/ 415).
وقال النووي -رحمه الله-:
فإنْ قيل: كيف مُكِّنُوا بالثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري وغيره في النهي عن سب الأموات؟
فالجواب: أنَّ النهي عن سب الأموات هو في غير المنافق وسائر الكفار، وفي غير المتظاهر بفسق أو بدعة، فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بشر للتحذير من طريقتهم، ومن الاقتداء بآثارهم، والتخلُّق بأخلاقهم، وهذا الحديث محمول على أنَّ الذي أثنوا عليه شرًّا كان مشهورًا بنفاق أو نحوه مما ذكرنا، هذا هو الصواب في الجواب عنه، وفي الجمع بينه وبين النهي عن السب، وقد بسطت معناه بدلائله في كتاب الأذكار. شرح النووي على مسلم (7/ 20).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
أقرَّهم على الثناء عليه بالشر مع نهيه عن ذكر مساوئ الموتى؛ لأن النهي عنه في غير الكافر والمنافق والمتجاهر بفسقه، فلعل التي أثنوا عليها شرًّا كانت واحدًا من الثلاثة. دليل الفالحين (6/ 429-430).
وقال فيصل ابن الْمبارك -رحمه الله-:
النهي عن ذكر مساوئ الموتى في غير الكافر والمنافق والمتجاهر بالفسق للتحريم، فانطلاق الألسنة بالثناء الحسن من المؤمنين علامة على صلاح العبد، وانطلاق الألسنة بالثناء القبيح علامة على فساده. تطريز رياض الصالحين (ص: 558).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وفي الفاسق والمبتدع الْمَيِّتَيْن ولو كانا متظاهِرَيْن بحثٌ؛ لأن جواز ذمهما حال حياتهما؛ لكي ينزجرا، أو يحترز الناس عنهما، وأما بعد موتهما فلا فائدة فيه، مع احتمال أنهما ماتا على التوبة؛ ولهذا امتنع الجمهور من لعن نحو يزيد والحجاج، وخصوص المبتدعة بأعيانهم، هذا مع أنه ليس في الحديث ما يدل على سبهم، فالأولى أنْ يُعارَض بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا تذكروا هلكاكم إلا بخير»، ويُدفع بحمْل المذمومين على الكفار والمنافقين. مرقاة المفاتيح (3/ 1201).
قوله: «فقال: «وَجَبَتْ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فقال: وجبت» أي: حقت له النار، يعني: على تقدير الصحة أي: صحة ما قالوه، والموت عليه. مرقاة المفاتيح (3/ 1201).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فقال: وجبت» أي: النار أو العقوبة. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (10/ 522).
قوله: «فقال عمرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: ما وَجَبَتْ؟»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فقال عمر: ما وجبت؟» أي: ما المراد بقولك: وجبت في الموضوعين؟ وأراد التصريح بما يعلم من قيام القرينة. مرقاة المفاتيح (3/ 1201).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«ما وجبت؟» أي: ما معناها؟ دليل الفالحين (6/ 254).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، مستفهمًا: ما وجبت؟ إرشاد الساري (2/ 458).
قوله: «قال: هذا أَثْنَيْتُمْ عليه خَيْرًا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «أثنيتم عليه خيرًا» أي: وصفتموه بخير. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (11/ 200).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «خيرًا» أي: بالصلاح والتقوى. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 29).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
جعل الله تعالى اجتماع قول الناس في ذلك شهادة من الظاهر على الباطن، وأجرى بين الخلق التعارف به، والمعاملة عليه. أعلام الحديث (1/ 722).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
والأظهر: أنَّ هذا أمر غالبي، فإنَّ الله تعالى يُنْطِقُ الألسنة في حق كل إنسان بما يعلمه من سريرته التي لا يطَّلع عليها غيره؛ ولذا قيل: أَلْسِنَة الخلق أقلام الحق، وليس المراد: أنَّ مَن خُلِق للجنة يصير للنار بقولهم، ولا عكسه؛ إذ قد يقع عليه الثناء بالخير أو الشر، وفي باطن الأمر خلافه، وإنما المراد: أنَّ الثناء علامة مطابقة للواقع غالبًا، -والله أعلم-. مرقاة المفاتيح (3/ 1202).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وإنَّما يجوزُ الثّناءُ عليه بفِعْلِهِ، ولا يخبر عمَّا يصير إليه، فإنَّه مُغَيَّبٌ عنَّا، وكذلك رُوِيَ عن أُمِّ العلاء: أنَّها قالت لعثمان بن مَظْعُون: رحمةُ الله عليكَ يا أبا السّائِب، فشهادتي عليك لقد أَكرمكَ اللهُ، فقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: «وما يُدْرِيكِ أنَّ اللهَ أَكرَمَهُ؟».
وهذا للميِّت، وأمَّا الحيُّ، فإنْ كان ممَّا يُخافُ عليه الفتنة بِذِكْرِ ما فيه من المحاسن فهو ممنوعٌ؛ لما رُوِيَ أنَّ النَّبي -صلّى الله عليه وسلم- قال لعمر بن الخطَّاب: «والَّذي نَفْسِي بِيَدِه مَا لَقِيَكَ الشَّيطَانُ سَالِكًا فَجًّا إلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَهُ». المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 235).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أما الْمُثْنون فلم يُذْكَرْ لهم عدد معين، فيحتمل: أنْ يُراد: مَن يعرفه جميعًا، أو الأكثر، أو البعض. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 29).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
حديث أنس لم يشترط في الذين أثنوا عددًا من الناس لا يجزئ أقل منهم، بخلاف حديث عمر، وأحال في ذلك -صلى الله عليه وسلم- ما يغلب على الرجل بعد موته عند جملة من الناس من ثناء الخير والشر، وأنه المحكوم له به في الآخرة، وقد جاء بيان هذا في حديث آخر: «إنَّ الله -عز وجل- إِذَا أَحَبَّ عبْدًا أمر الملائكةَ أن تُناديَ في السماء: ألا إنّ الله يُحِبُّ فُلَانًا فأحبوه، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُجعلُ لَهُ القَبُولُ فِي أهلِ الأَرْضِ، وإذا أبغض عبدًا كذلك»؛ فهذا معنى قوله: «أنتم شهداء الله في الأرض»؛ لأن المحبة والبغضة من عنده تعالى، ويشهد لصحة هذا قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} طه: 39.
فإن قلتَ: فهذا المعنى مخالف لحديث عمر؛ لأنه شرط فيه أربعة شهداء أو ثلاثة أو اثنين بخلاف الأول.
قيل: ليس كما توهمتَ، وإنما اختلف العددان لاختلاف المعنيين؛ وذلك أنَّ الثناء قد يكون بالسماع المتصل على الألسنة، فاستُحب في ذلك التواتر والكثرة، والشهادة لا تكون إلا بالمعرفة والعلم بأحوال المشهود له، فناب في ذلك أربعة شهداء...، فإن قصروا عن ذلك ناب فيه شاهدان؛ وذلك أقل ما يجزئ من الشهادة على سائر الحقوق؛ رحمة من الله لعباده المؤمنين، وتجاوزًا عنهم حين أجرى أمورهم في الآخرة على ما أجراه في الدنيا، وقَبِلَ شهادة رجلين من عباده المؤمنين بعضهم على بعض في أحكام الآخرة. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (10/ 146-147).
قوله: «فوَجَبَتْ له الجنة»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
فانطلاق الألسنة بالثناء الحسن علامة على وجوب الجنة للمُثْنَى عليه به. دليل الفالحين (6/ 430).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «قال: هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة» فيه: بيان أنَّ المراد بقوله: «وجبت» أي: الجنة لذي الخير، والنار لذي الشر. فتح الباري (3/ 229).
قوله: «وهذا أَثْنَيْتُمْ عليه شَرًّا»:
قال العزيزي -رحمه الله-:
قوله: «أثنيتم عليه شرًّا» أي: بِشَرٍّ. السراج المنير شرح الجامع الصغير (4/ 248).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وأما ثناء الشر...، فيُحتمل: أنْ يكون قبل ورود النهي، أو النهي في شأن غير الكفرة؛ المنافقين والمظاهرين بفسق وبدعة، وأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بالشر بعد موتهم؛ تحذيرًا من طرائقهم والتخلق بأخلاقهم. شرح المصابيح (2/ 357).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فذِكْرُ شرار الموتى من أهل الشرك خاصة جائز؛ لأنه لا شك في أنهم مخلدون في النار، فذكر شرارهم أيسر من حالهم التي صاروا إليها، مع أنَّ في الإعلان بقبيح أفعالهم تقبيحًا لأحوالهم، وذمًّا لهم؛ لينتهي الأحياء عن مثل أفعالهم ويحذروها...، وحديث أنس: «مر بجنازة فأثنوا عليها شرًّا» وافٍ به، فَتَرَكَ الشارعُ نهيهم عن ثناء الشرِّ، ثم أخبر أنه بذلك الثناء وجبت النار، وقال: «أنتم شهداء الله في الأرض»؛ فدلَّ ذلك أنَّ للناس أنْ يذكروا الميت بما فيه من شرٍّ إذا كان شرُّهُ مشهورًا، وكان ممن لا غيبة فيه؛ لشهرة شرِّهِ. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (10/ 207).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
ولم ينههم (أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-) مع نهيه عن سب الأموات...، قيل: لأنه قد يكون هذا فيمن غلب عليه الشرُّ، وكان في حياته فاسقًا معلنًا، فلا غيبة فيه في حياته فكذلك بعد موته، بخلاف إذا كان الأغلب عليه الخير.
وقيل: يُحتمل: أنْ يكون هذا الذِّكْر الذي سوَّغهُ النبي -عليه السلام- بعد الموت وقبل الدفن؛ ليتعظ فُسَّاق الأحياء بما ينتشر عنه من سوء الذِّكْر، وربما عساه يُزَهِّد كثيرًا من الناس عن حضور الصلاة عليه، فإذا دُفِنَ وجب الإمساك عنه، فيُجْمَع بين الحديثين على هذا، وهذه الأحاديث كلها في المسلمين.
وليس في هذين الفرقين تبيين؛ لأن النهي عن سب الأموات عموم فيمن قُبِرَ ومن لم يُقْبَر، وممن فيه الغيبة حال الحياة ومَن لا غيبة فيه، والذي يظهر لي في الجمع بين الحديثين: أنْ يكون قوله -عليه السلام-: «وجبت» في الذي أُثني عليه بشرٍّ وقطْعه عليه بالنار، ومحتمل: أنه فيمن أخبر عنه بإبطان النفاق، وحُدِّث عنه بما كان يضمره من ذلك، وتظهر عليه دلائله؛ فلذلك قال -عليه السلام-: «وجبت له النار» إذ لا تجب ويقطع بها للمذنبين، بل هم في مشيئة الله، وقد يكون نهيه -عليه السلام- عن سب الموتى بعد هذا، -والله أعلم-. إكمال المعلم (3/409- 410)
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار» يُشكِل بالنهي عن سبِّ الموتى؛ ولقوله: «اذكروا محاسنَ موتاكم، وكفُّوا عن مساوئهم»، وقد انفصل عنه من أوجهٍ:
أحدها: أنَّ هذا الذي تُحدِّث عنه بالشرِّ كان مستظهرًا له، ومشهورًا به، فيكون ذلك من باب لا غيبة لفاسق.
وثانيها: أنَّ محمل النهي إنما هو فيما بعد الدَّفن، وأما قبله فمسوغ ليتَّعظ به الفُسَّاق، وهذا كما يكره لأهل الفضل الصلاة على الْمُعْلِن بالبدع والكبائر.
وثالثها: أنَّ الذي أثنى عليه الصحابة بالشرِّ يُحتمل: أنْ يكون من المنافقين، ظهرت عليه دلائل النفاق، فشهدت الصحابة بما ظهر لهم؛ ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: وجبت له النار، والمسلم لا تجب له النار، وهذا هو مختار عياض.
ورابعها: أنْ يكون النهي عن سبِّ الموتى متأخِّرًا عن هذا الحديث، فيكون ناسخًا. المفهم (2/ 607-608).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وعندي الوجه الأول أرجح، -واللَّه تعالى أعلم-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (19/ 117).
قوله: «فوَجَبَتْ له النارُ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «وجبت له النار» فيه: دليل على أنَّ ما أَجراه الله على أَلسِنة العباد من الثناء على عباده بخير أو شَرٍّ، فهو الذي يكون له عند الله تعالى، وأنه لا يُطْلِق ألسنة العباد إلا بما هو الواقع عنده.
ويُحتمل: أنَّ المراد في الحياة وبعد الممات، وإنْ كان الحديث واردًا في الأموات. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 29).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «وجبت له النار» أي: إنْ طابق الثناء الواقع؛ لأن مستحق أحد الدارين، لا يصير من أهل غيرها بقول يخالف الواقع أو مطلقًا؛ لأن إلهام الناس الثناء آية أنه غُفر له.
وأُورد لفظ الوجوب زيادة في التقريع والتهديد، وإلا فقد يغفر للعاصي المؤمن. فيض القدير (6/ 28).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
الثناء بالخير والشر غيرُ موجب لجنة ولا نار، بل ذلك علامة كونه من أهلهما، وأما جزمه -عليه الصلاة والسلام- للأول بالجنة، وللثاني بالنار؛ فبإطلاعه تعالى عليه.
وقيل: إنَّ كل مؤمن مات فألهم اللهُ الناسَ الثناءَ عليه، كان ذلك دليلًا على أنه من أهل الجنة، وأنَّ الله تعالى شاء مغفرته، وإلا لم يكن للثناء فائدة.
يؤيده ما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال حين أثنوا على جنازة: «جاء جبرائيل وقال: يا محمَّد، إنَّ صاحبكم ليس كما يقولون: إنه كان يُعْلِن كذا، ويُسرُّ كذا، ولكن الله صدَّقهم فيما يقولون، وغفر له ما لا يعلمون». شرح المصابيح (2/ 356).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وجبت» أي: وجبت الجنة في الأول، وفي الثاني وجبت النار، والمعنى: أنَّ ثناءهم عليه بالخير يدل على أنَّ أفعاله كانت خيرًا، فوجبت له الجنة، وثناءهم عليه بالشر يدل على أنَّ أفعاله كانت شرًّا فوجبت له النار؛ وذلك لأن المؤمنين شهداء بعضهم على بعض. شرح أبي داود (6/ 189).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
أما إذا كان ذلك (الشهادة بالشر) على سبيل الهوى والغرض من غير باعث ووازع، فالظاهر أنه لا يكون كذلك. دليل الفالحين (6/ 430).
قوله: «أنتم شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأرضِ»:
قال الشيخ مصطفى البغا -حفظه الله-:
قوله: «أنتم شهداء الله في الأرض» أي: يُقبل قولكم في حق مَن تشهدون له، أو عليه. التعليق صحيح البخاري (2/ 97).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«أنتم شهداء الله في الأرض» إضافة الشهداء إلى الله للتشريف، ومُشْعِرَة بأنهم عند الله بمنزلةٍ في قبول شهادتهم، وفي رواية: «المؤمنون شهداء الله في الأرض». شرح المصابيح (2/ 356).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أنتم شهداء الله في الأرض» أي: المخاطبون بذلك من الصحابة، ومن كان على صفتهم من الإيمان، وحكى ابن التين: أنَّ ذلك مخصوص بالصحابة؛ لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة، بخلاف مَن بعدهم، قال: والصواب: أنَّ ذلك يختص بالثقات والمتقين، انتهى. فتح الباري (3/ 229).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الحق كونه عامًّا للصحابة وغيرهم من المؤمنين، فقد ثبت في صحيح البخاريِّ في كتاب الشهادات بلفظ: «المؤمنون شهداء اللَّه في الأرض»، وللمصنف النسائي من حديث أبي هريرة: «الملائكة شهداء اللَّه في السماء، وأنتم شهداء اللَّه في الأرض»، ولأبي داود من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أيضًا في نحو هذه القصَّة: «إنَّ بعضكم على بعض لشهيد» -واللَّه تعالى أعلم-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (19/ 117).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
لا ارتياب أنَّ قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وجبت» بعد ثناء الصحابة -رضي الله عنهم- حكم عَقَّبَ وصفًا مناسبًا، وهو يشعر بالْعِلْيَة، وكذا الوصف بقوله: «أنتم شهداء الله»؛ لأن الإضافة فيه للتشريف، وأنهم بمكان ومنزلة عالية عند الله، وهو أيضًا كالتزكية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وإظهار عدالتهم بعد أداء شهادتهم لصاحب الجنازة، فينبغي أن يكون لها أثر ونفع في حقه، وأنَّ الله تعالى يقبل شهادتهم، ويصدق ظنونهم في حق الْمَثْنِيِّ عليه؛ كرامةً لهم، وتفضلًا عليهم كالدعاء والشفاعة، فيوجب لهم الجنة أو النار على سبيل الوعد أو الوعيد؛ لأن وعده حق لا بد من وقوعه، فهو كالواجب؛ إذ لا أثر للعمل ولا للشهادة في الوجوب. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1397).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أنتم شهداء الله في الأرض» في إضافتهم إليه تعالى تشريف لهم بليغ، والمراد: أنه يجري على ألسنتكم ما هو حال الشخص من خير أو شر، وقد قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} البقرة: 143، ولكن في تفسيرها أنهم يشهدون للرسل أنهم بلغوا الأمم يوم القيامة، ثم رأيتُ في الدُّر المنثور عدة أحاديث في تفسير الآية، وأنها شاملة لهذه الشهادة الحاصلة في دار الدنيا، وفيه عن أنس حديث مرفوع: «ما من مسلم يموت فيشهد له رجلان من جيرانه فيقولان: اللهم إنا لا نعلم إلا خيرًا، فيقول الله لملائكته: اشهدوا أني قد قبلت شهادتهما، وغفرت ما لا يعلمان» أخرجه الخطيب في تاريخه.
وأما هذه الشهادة فهي في الدنيا، ثم قيل: إنه خاص بشهادة الصحابة، وقيل: بشهادة الفضلاء؛ إذ الفسقة قد يشهدون لمن هو على صفتهم؛ والأظهر: أنَّ المراد من أجرى الله على لسان عباده الثناء بِشَرٍّ أو خير، فهو كذلك، من غير نظر إلى حال الشهداء ولا المشهود له، والمراد: جريُ ذلك على ألسنتهم من غير عناية، لا كما يقع لأهل مكة أنهم يقصدون الثناء على الميت بالخير، يقول واحد: كان من أهل الخير، فيقول جماعة بقوله.
ثم ظاهر هذا: إذا أُثْنِيَ على الجنازة قبل الدفن لا بعده، ويحتمل: الإطلاق، وهذه الأحاديث نظير أحاديث: «إنَّ الله إذا أحب عبدًا ألقى محبته على أهل السماء، ثم على أهل الأرض»، ومثله البغضاء. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 30).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أنتم شهداء الله في الأرض» ليس معنى هذا أنَّ ما يقول الصحابة والمؤمنون في حق شخص من استحقاقه الجنة أو النار يكون كذلك؛ لأن مَن يستحق الجنة لا يصير من أهل النار بقول أحد، ولا مَن يستحق النار يصير من أهل الجنة بقول أحد.
بل معناه: أنَّ الذي أثنوا عليه خيرًا، رأوا منه الخير والصلاح في حياته، والخير والصلاح من علامة كون الرجل من أهل الجنة، وأنَّ الذي أثنوا عليه الشرَّ، رأوا منه الشر والفساد، والشرُّ والفساد من علامة دخول النار، فشهد النبي -عليه السلام- للأول بالجنة، وللثاني بالنار.
وتأويل قَطْعِه -عليه السلام- للأول بالجنة، وللثاني بالنار: أنه أَطْلَع الله تعالى نبيَّه -عليه السلام- على أن الأول من أهل الجنة، والثاني من أهل النار، وليس هذا الحكم عامًّا في كلِّ مَن شهد له جماعةٌ بالجنة أو بالنار، ألا ترى أنه لا يجوز أن يُقطع بكون واحد أنه من أهل الجنة، أو من أهل النار، وإنْ شهد له بالجنة أو بالنار جمعٌ كثير، بل نرجو الجنَّةَ لمن شهد له جماعةٌ بالخير، ونخاف النار لمن شهد له جماعة بالشر. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 437).
قال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-:
كأنه -والله أعلم- من المنافقين والمنافقون في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم -موجودون في المدينة بكثرة يظهرون الإسلام ويبطنون الكُفر والعياذ بالله والمنافقون في الدّرك الأسفل من النار، إلا من تاب.شرح رياض الصالحين(4/٥٧٠).
وقال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-:
في هذا دليل على أن المسلمين إذا أثنوا على الميت خيرًا دَلّ ذلك على أَنَه مِن أهل الجنة فوجبت له الجنة، وإذا أثنوا عليه شرًا دلَّ ذلك على أنّه مِن أهل النار فوجبت له النار.
ولا فرق في هذا بَين أنْ تكون الشّهادة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم - أو بَعده؛ لأن حديث أبي الأسود مع عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد تنازل النبي -صلى الله عليه وسلم - إلى أَنْ ذَكر مَن شهد له اثنان بخير كان مِن أهل الجنة.شرح رياض الصالحين(4/٥٧٠ - 571).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
هذه كرامة كرَّم بها المؤمنين، وهي قبول شهادتهم، وهذا لأنهم كانوا: أمناء علماء فُهَمَاء، فأما كونهم أُمناء فإنَّ الأمين لا يُشْهَد لأحد بخير حتى يتحقَّق أنه على خير، وكذلك لا يُشْهَد على أحد بالسوء حتى يتيقَّن أنه قد كان ذا سوء.
وأما كونهم علماء: فأنهم كانوا يُفرِّقون بين الخير والشر، فلا يلتبس عليهم الباطل بالحق، ويعرفون السنة وأهلها، ويعرفون الخير والعاملين به، وكانت شهادتهم مُعتبَرة.
وأما كونهم فهماء: فأنهم كانوا أُولِيْ فهم واطِّلاع، يذوقون طعم الإيمان من المؤمن، ويذوقون طعم النفاق من المنافق، فإن للإيمان أَرَجًا وعَرْفًا على نحو المسك، وللنفاق والكفر ثقلًا ودفرًا (الدفر: النتن) يفهمه كل ذي لُبٍّ، فكانت شهادتهم على هؤلاء وهؤلاء عن أمانة وعلم؛ فلذلك قال: «وجبت» فوجبت من حيث الأمانة، ووجبت من حيث العلم، ووجبت من حيث الفهم، فكل واحدة واجبة في فيها. الإفصاح عن معاني الصحاح (5/207- 208).