الأربعاء 26 رمضان 1446 هـ | 26-03-2025 م

A a

«مَرَّ عليَّ رسولُ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأنا أحتجِمُ في ثمانِ عشْرَةَ ليلةً خلتْ من شهرِ رمضانَ، فقال: أَفْطَرَ الحاجِمُ والمحْجُومُ».


رواه أحمد برقم: (15901) واللفظ له، والنسائي في الكبرى برقم: (3155)، من حديث مَعْقِلِ بن سِنَانٍ الأشْجَعِيِّ -رضي الله عنه-.
ورواه أحمد برقم (17129)، وأبو داود برقم: (2369)، وابن ماجه برقم: (1681) من حديث شَدَّاد بن أَوْس -رضي الله عنه-.
صحيح سنن أبي داود برقم: (2367)، صحيح سنن الترمذي برقم: (774).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«الحاجِمُ»:
هو مَن يتعاطى الحجامة، وهي المداواة والمعالجة بالمِحْجَم -بكسر الميم-، وهي الآلة التي يجتمع فيها دم الحجامة عند المَصِّ، والمحجم أيضًا: مشرط الحجام. مرعاة المفاتيح (6/ 488)، والنهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 347).
وقال الأزهري -رحمه الله-:
قيل للحاجم: حَجَّام؛ لامتصاصه فَم الْمِحْجمة، يُقَال: حَجَم الصبيُّ ثديَ أُمِّه: إِذا مَصَّه، وثديٌ محجوم، أَي: مَمْصُوص. تهذيب اللغة (4/ 99).

«المحْجُومُ»:
الحَجْمُ: فعل الحاجم، وهو الحَجَّامُ، واحْتَجَمَ: طلب الحِجامة، وهو مَحْجومٌ، وقد احْتَجَمْتُ من الدم. لسان العرب، لابن منظور(2/ 790).


شرح الحديث


قوله: «مَرَّ عليَّ رسولُ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأنا أحتجِمُ، في ثمانِ عشْرَةَ ليلةً خلتْ من شهرِ رمضانَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «عشْرة» بسكون الشين، ويُكسر، «خلت» أي: مضت «من رمضان»، وهذا يدل على كمال حفظ الراوي وضبطه. مرقاة المفاتيح (4/ 1396).

قوله: «فقال: أَفْطَرَ الحاجِمُ والمحْجُومُ»:
قال ابن العربي -رحمه الله-:
«أفطر الحاجمُ والمحجوم»، وقد اختلف العلماءُ في ثبوته وصحَّته، فإنْ صحَّ فهو منسوخٌ بفعله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّه احتجم وهو صائمٌ. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 202).
وقال ابن عدي -رحمه الله-:
ثنا ابن أبي عصمة، ثنا أحمد بن أبي يحيى، سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: أحاديث: «أفطر الحاجم والمحجوم»، و«لا نكاح إلا بولي» أحاديث يشدُّ بعضها بعضًا، وأنا أذهبُ إليها. الكامل في الضعفاء (3/ 266).
وقال ابن عبد الهادي -رحمه الله-:
قال الإمام أحمد لَمَّا بلغه عن يحيى ابن معين أنَّه قال: ليس فيها حديث يثبت -يعني: أحاديث: «أفطر الحاجم والمحجوم»-: هذا كلامٌ مجازفة. تنقيح التحقيق (3/ 253).
وقال الزيلعي -رحمه الله-:
وبالجملة: فهذا الحديث -أعني: حديث: «أفطر الحاجم»- روي من طرق كثيرة، وبأسانيد مختلفة كثيرة الاضطراب، وهي إلى الضعف أقرب منه إلى الصحة، مع عدم سلامته من معارِض أصح منه، أو ناسخ له، والإمام أحمد الذي يذهب إليه، ويقول به، لم يلتزم صحته، وإنما الذي نُقل عنه -كما رواه ابن عدي في (الكامل) في ترجمة سليمان الأشدق بإسناده إلى أحمد بن حنبل- أنه قال: أحاديث: «أفطر الحاجم والمحجوم» يشدُّ بعضها بعضًا، وأنا أذهبُ إليها، فلو كان عنده منها شيء صحيح لوقف عنده، وقوله: أصح ما في هذا الباب حديث رافع، لا يقتضي صحته، بل معناه: أنه أقل ضعفًا من غيره. نصب الراية (2/ 482).
وقال الشافعي -رحمه الله-:
وقد رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم»، ورُوي عنه: «أنه احتجم صائمًا»، ولا أعلم واحدًا منهما ثابتًا، ولو ثبت واحد منهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قلتُ به، فكانت الحجة في قوله.
ولو ترك رجل الحجامة صائمًا لِلتَّوَقِّيْ كان أحبُّ إليَّ، ولو احتجم لم أره يُفَطِّرُهُ. الأم (2/ 106).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قال أبو الوليد موسى بن أبي الجارود -وهو ممن صحب الشافعي-: مذهب الشافعي: أنَّه يفطر الحاجم والمحجوم؛ لقوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقد صحَّ، وغلَّطه الأصحاب فيه؛ لأن ذلك إنما قاله الشافعي في حديث لم يصح عنده، وأما هذا فقد علم صحته، وأجاب عنه.
قالوا: ولم تقع مخالفته للحديث إلا نادرًا، قيل للإمام البارع أبي بكر ابن خزيمة: هل تعرف سنة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتابه؟ قال: لا. شرح سنن أبي داود (10/ 397-398).
وقال الجعبري -رحمه الله-:
هذا يدل على أنَّ مَن احتجم وهو صائم في رمضان وغيره من الفرض والنفل أفطر هو وحاجمه، ولزم إتمامه وقضاؤه، وبه قال عطاء والأوزاعي وإسحاق وأحمد، وعنه في الكفارة: روايتان، وهو مُحْكَم عندهم. رسوخ الأحبار في منسوخ الأخبار (ص: 357).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
اختلف الناس في تأويل هذا الحديث، فذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنَّ الحجامة تُفَطِّرُ الصائم قولًا بظاهر الحديث، هذا قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقالا: عليهما القضاء، وليست عليهما الكفارة، وعن عطاء قال: على مَن احتجم وهو صائم في شهر رمضان القضاء والكفارة.
وروي عن جماعة من الصحابة: أنهم كانوا يحتجمون ليلًا؛ منهم ابن عمر، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وكان مسروق والحسن وابن سيرين: لا يرون للصائم أنْ يحتجم، وكان الأوزاعي يكره ذلك، وقال ابن المسيب والشعبي والنخعي: إنما كُرِهَت الحجامة للصائم من أجل الضعف، وممن كان لا يرى بأسًا بالحجامة للصائم: سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والشافعي، وهو قول أصحاب الرأي.
وتأوَّل بعضهم الحديث فقال: معنى «أفطر الحاجم والمحجوم» أي: تعرَّضا للإفطار، أما المحجوم فللضعف الذي يلحقه من ذلك، فيؤديه إلى أنْ يعجز عن الصوم، وأما الحاجم فلأنه لا يُؤْمَنُ أن يصل إلى جوفه من طعم الدم، أو من بعض أجراحه إذا ضم شفتيه على قصب الملازم، وهذا كما يقال للرجل يتعرَّض للمهالك: قد هلك فلان، وإنْ كان باقيًا سالِمًا، وإنما يُراد به: أنه قد أشرف على الهلاك، وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن جُعِلَ قاضيًا فقد ذُبح بغير سكين» يريد: أنه قد تعرَّض للذبح.
وقيل فيه وجه آخر: وهو أنه مرَّ بهما مساء، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» كأنه عذرهما بهذا القول؛ إذ كانا قد أمسيا، ودخلا في وقت الإفطار، كما يقال: أصبح الرجل وأمسى وأظهر، إذا دخل في هذه الأوقات، وأحسبه قد روي في بعض الحديث.
وقال بعضهم: هذا على التغليظ لهما، والدعاء عليهما، كقوله فيمن صام الدهر: «لا صام ولا أفطر»؛ فمعنى قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» على هذا التأويل أي: بطل صيامهما، فكأنهما صارا مفطرين غير صائمين.
وقيل أيضًا معناه: حان لهما أن يفطرا، كقولك: حُصِدَ الزرع إذا حان أنْ يُحصد، وأُركب الْمُهر، إذا كان له أنْ يُركب. معالم السنن (2/ 110).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
تكلَّموا في قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» من وجوهٍ:
أحدها: عن أبي الأشعث الصنعاني: أنَّ الحاجم والمحجوم كانا يغتابان، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أفطر الحاجم والمحجوم» أي: بطل أجر صومهما.
والثاني: أراد أنهما تعرَّضا للإفطار، أما المحجوم فللضعف الذي يلحقه، وأما الحاجم فلأنه لا يُؤمَن أنْ يَبْدُر شيء إلى جوفه عند الامتصاص، وهذا كما يقال لمن تعرض للمهالك: هلك.
والثالث: أنه مرَّ بهما مساءً، فقال: أفطرا، أي: دخلا في وقت الفطر، كما يقال: أصبح وأمسى وأضحى إذا دخل في هذِه الأوقات.
والرابع: أنَّ المعنى: أنه حان لهما أن يفطرا، كما يقال: احصد الزرع، إذا حان أن يحصد.
والخامس: عن الشافعي أنَّ قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» مقيد بزمان الفتح، ولم يصحب ابن عباس النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مُحْرِم إلا في حجة الوداع، وهي متأخرة عن الفتح لسنتين، فيشبه أنْ يكون ما رواه ابن عباس ناسخًا لقوله: «أفطر الحاجم والمحجوم»، ويُستحب للصائم ترك الحجامة توقيًّا عن الخلاف.
وأيضًا فلأنه يورث الضعف، وفي الصحيح عن ثابت البناني قال: سُئل أنس بن مالك: كنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف، وعلى نحو ذلك تنزَّل ترْك ابن عمر الحجامة. شرح مسند الشافعي (2/187- 188).
وقال ابن خزيمة -رحمه الله-:
وجاء بعضُ أهل الجهل بأعجوبة في هذه المسألة، فزعم أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما قال: «أفطر الحاجم والمحجوم»؛ لأنهما كانا يغتابان، فإذا قيل له: فالغيبة تُفطِّر الصائم؟ زعم أنها لا تُفطِّر الصائم، فيقال له: فإنْ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عندك إنما قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» لأنهما كانا يغتابان، والغيبة عندك لا تفطر الصائم، فهل يقول هذا القول مَن يؤمن بالله؟ يزعم أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلم أمته أنَّ المغتابين مفطران، ويقول هو: بل هما صائمان غير مفطرين؟ فخالف النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أوجب الله على العباد طاعته واتباعه، ووعد الهدى على اتباعه، وأوعد على مخالفيه، ونفى الإيمان عمن وجد في نفسه حرجًا من حكمه. صحيح ابن خزيمة (3/ 229).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أما الحجامة فالجمهور أيضًا على عدم الفطر بها مطلقًا، وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور: يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء، وشذَّ عطاء، فأوجب الكفارة أيضًا.
وقال بقول أحمد من الشافعية: ابن خزيمة، وابن المنذر، وأبو الوليد النيسابوري، وابن حبان، ونقل الترمذي عن الزعفراني أنَّ الشافعي علَّق القول على صحة الحديث، وبذلك قال الداودي من المالكية. فتح الباري (4/ 174).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
هذا حديث صحيح، لا كلام فيه، وكنتُ تارة أحمله على ظاهره، وتارة أتأوَّلُه فأقول: إنَّ معنى «أفطر» كذا، على التأويلات المعلومة التي لا تقوم على ساق؛ حتى أخبرنا أبو الحسن المبارك بن عبد الجبار، أخبرنا القاضي أبو الطيب (الطبري) أنا علي بن عمر، نا عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، نا خالد بن مخلد، نا عبد الله بن المثنى، عن ثابت عن أنس قال: «مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِجَعْفَرِ بن أبي طالِبٍ وهو يَحْتَجِمُ، فقال: أفْطَرَ هذانِ، ثُمَّ رَخَّصَ رسولُ الله بعد ذلك في الحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ»، وهذا نصٌّ بيِّن، فيه ثلاث فوائد:
أحداهما: بيَّن الحاجم والمحجوم.
ثانيها: استقرار الحظر والمنع.
ثالثها: نسخ ذلك بالرخصة، صحَّحه علي بن عمر الحافظ.
أما إنه وإنْ رجعنا إليه كما يجب علينا في النظر، فقد بقي قول أنس في الصحيح: إنها تكره لموضع التغرير؛ وذلك تعريض العبادة للفطر بضعف النفس عند إخراج الفضيلة، ويكون ذلك ثانيًا من باب الاحتياط على العبادة، فإن احتاج إليها احتجم، فإن ضعف أفطر. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 505-507).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من طريق ثوبان وشداد بن أوس ومِعْقَل بن سنان، وأبي هريرة، ورافع بن خَدِيج وغيرهم، أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» فوجب الأخذ به، إلا أنْ يصح نسخه.
وقد ظن قوم أنَّ الرواية عن ابن عباس «احتجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» ناسخة للخبر المذكور، وظنهم في ذلك باطل؛ لأنه قد يحتجم -عليه السلام- وهو مسافر فيفطر؛ وذلك مباح، أو في صيام تطوع فيفطر، وذلك مباح. المحلى بالآثار (4/ 336).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الحديث قد صحَّحه البخاري وغيره، وأخرجه الأئمة عن ستة عشر من الصحابة، وقال السيوطي في الجامع الصغير: إنه متواتر.
وهو دليل على أنَّ الحجامة تفطر الصائم من حاجم، ومحجوم له.
وقد ذهبت طائفة قليلة إلى ذلك؛ منهم: أحمد بن حنبل وأتباعه؛ لحديث شداد.
وذهب آخرون: إلى أنه يفطر المحجوم له، وأما الحاجم فإنه لا يفطر؛ عملًا بالحديث هذا في الطرف الأول، فلا أدري ما الذي أوجب العمل ببعضه دون بعض؟!
وأما الجمهور القائلون: إنه لا يفطر حاجم ولا محجوم له، فأجابوا عن حديث شداد هذا بأنه منسوخ؛ لأن حديث ابن عباس متأخر؛ لأنه صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حجه، وهو سنة عشر، وشداد صحبه عام الفتح، كذا حُكي عن الشافعي، قال الشافعي: وتَوَقِّيْ الحجامة احتياطًا أحبُّ إليَّ.
ويؤيد النسخ ما يأتي في حديث أنس في قصة جعفر بن أبي طالب، وقد أخرج الحازمي من حديث أبي سعيد مثله...
وقد أخرج ابن أبي شيبة ما يؤيد حديث أبي سعيد: أنه -صلى الله عليه وسلم- «رخَّص في الحجامة للصائم»، والرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدل على النسخ، سواء كان حاجمًا أو محجومًا.
وقيل: إنه يدل على الكراهة، ويدل لها حديث أنس الآتي.
وقيل: إنما قاله -صلى الله عليه وسلم- في خاصٍّ، وهو أنه مرَّ بهما وهما يغتابان الناس...، وقال ابن خزيمة في هذا التأويل: إنه أعجوبة؛ لأن القائل به لا يقول: إنَّ الغيبة تُفطِّر الصائم.
وقال أحمد: ومَن سَلِمَ من الغيبة؟ لو كانت الغيبة تُفطِّر ما كان لنا صوم.
وقد وجَّه الشافعي هذا القول، وحمل الشافعي الإفطار بالغيبة على سقوط أجر الصوم، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- للمتكلِّم والخطيب يخطب: «لا جمعة له»، ولم يأمره بالإعادة، فدل على أنه أراد سقوط الأجر، وحينئذٍ فلا وجه لجعله أعجوبة، كما قال ابن خزيمة. سبل السلام (1/ 570).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«أفطر الحاجم والمحجوم» قال به الإمام أحمد، وقال: إنَّ الحجامة تفطر الصائم، وهذا ما يُرجِّحه شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، ويفتي به كثير من أهل العلم الآن، والجمهور على: أنَّ الحجامة لا تفطر الصائم. شرح المحرر في الحديث (58/ 13).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
في صحيح البخاري: «أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: احتجم وهو صائم»، ولكن هل يفطر بذلك أم لا؟ مسألة أخرى، الصواب: الفطر بالحجامة؛ لصحته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير معارض، وأصح ما يعارَض به: حديث حجامته وهو صائم؛ ولكن لا يدل على عدم الفطر إلا بعد أربعة أمور:
أحدها: أنَّ الصوم كان فرضًا.
الثاني: أنه كان مقيمًا.
الثالث: أنه لم يكن به مرض احتاج معه إلى الحجامة.
الرابع: أنَّ هذا الحديث متأخر عن قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم».
فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع، أمكن الاستدلال بفعله -صلى الله عليه وسلم- على بقاء الصوم مع الحجامة، وإلا فما المانع أنْ يكون الصوم نفلًا يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها، أو من رمضان لكنه في السفر، أو من رمضان في الحضر، لكن دعت الحاجة إليها، كما تدعو حاجة من به مرض إلى الفطر، أو يكون فرضًا من رمضان في الحضر من غير حاجة إليها، لكنه مُبْقٍ على الأصل، وقوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» ناقل ومتأخِّر، فيتعيَّن المصير إليه، ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذه المقدمات الأربع، فكيف بإثباتها كلها؟! زاد المعاد (4/ 56-57).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وقد بيَّنا أنَّ الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة وبالاستمناء، وإذا كان كذلك فبأي وجه أراد إخراج الدم أفطر، كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر، سواء جذب القيء بإدخال يده، أو بشم ما يقيئه، أو وضع يده تحت بطنه، واستخرج القيء؛ فتلك طرق لإخراج القيء، وهذه طرق لإخراج الدم؛ ولهذا كان خروج الدم بهذا وهذا سواء في باب الطهارة، فتبيَّن بذلك كمال الشرع واعتداله وتناسبه، وأنَّ ما ورد من النصوص ومعانيها، فإن بعضه يُصدِّق بعضًا ويوافقه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} النساء: 82.
وأما الحاجم: فإنه يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه، والهواء يجتذب ما فيها من الدم، فربما صعد مع الهواء شيء من الدم، ودخل في حلقه وهو لا يشعر، والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة عُلِّق الحكم بالمظنة، كما أنَّ النائم الذي تخرج منه الريح ولا يدري يؤمر بالوضوء، فكذلك الحاجم يدخل شيء من الدم مع ريقه إلى بطنه وهو لا يدري، والدم من أعظم المفطرات، فإنه حرام في نفسه لما فيه من طغيان الشهوة، والخروج عن العدل، والصائم أُمِرَ بحسم مادته، فالدم يزيد الدم، فهو من جنس المحظور، فيفطر الحاجم لهذا كما ينتقض وضوء النائم وإن لم يستيقن خروج الريح منه؛ لأنه يخرج ولا يدري، وكذلك الحاجم قد يدخل الدم في حلقه وهو لا يدري. مجموع الفتاوى (25/ 257-258).
وقال الشيخ العباد -حفظه الله-:
«أفطر الحاجم والمحجوم» يعني: حيث حَجم أو حصلت الحجامة في النهار، وفي حال الصيام، فإنَّ الحاجم والمحجوم كل منهما قد أفطر، المحجوم لكونه خرج منه ذلك الدم الذي يكون سببًا في ضعفه، والحاجم لأنهم كانوا فيما مضى يمصون المحجم بأفواههم، فقد يدخل بسبب هذا المص شيء من الدم إلى حلقه، وهو إنْ لم يكن مُتحقِّقًا إلا أنه مظنة؛ ولهذا جاء أنَّ النوم ينقض الوضوء؛ لأنه مظنة النقض، أي: مظنة أن يخرج منه ريح وهو نائم لا يدري عنها، وكذلك المص مظنة.
أما إذا كانت الحجامة بدون مَصٍّ، فإنه يفطر المحجوم دون الحاجم، كما حصل اليوم فيما بعد من وجود حجامة بدون أن يمصّ الحاجِم ويصل إلى جوفه شيء، فليس هناك شيء يتعلَّق به من حيث كونه مظنة الإفطار، وإنما الذي حصلت له الحجامة هو المحجوم، فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أفطر الحاجم والمحجوم» أي: على ما كان معهودًا عندهم من أنَّ الحاجم يمص المحاجم بفمه، وأنَّ ذلك مظنة دخول شيء إلى جوفه من الدم الذي في المحاجم. شرح سنن أبي داود (274/ 3).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
والذي يظهر -والله أعلم- هو قول الجمهور، وأنّ الحجامة كانت تُفطر في أول الأمر ثم نُسخ هذا الحكم.
ويدل ذلك حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: «رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القُبلةِ للصائم، ورخّص في الحِجامة».
قال الحافظ: قال ابن حزم: إسناده صحيح، فوجب الأَخذ به؛ لأن الرخصة إِنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفِطر بالحجامة، سواء أكان حاجمًا أو محجومًا»، وظاهر أحاديث الجواز أَنها مُتأخرة عن أحاديث النهي، وقد روي موقوفًا بلفظ: «رخص للصائم في الحجامة والقبلة».منحة العلام في شرح بلوغ المرام(5/45)
وقال الشيخ عبد الله العتيبي -حفظه الله-:
مسألة: الحاجم والمحجوم سواء، فإنهم يفطران سواء، فالمحجوم ظاهر؛ لأن الدم يخرج منه، وأما الحاجم فقال شيخ الإسلام: فإنه يمص الدم؛ فربما خرج شيء إلى فيه فدخل فغلبه، فنزلت المظنة منزلة الْمِئِنَّة، وهل يكون الحكم كذلك في الحجامة التي يتعاطاها الأطباء أو الحجَّامون من غير أن يمصوا الدم؛ وذلك عن طريق الأجهزة، هل نقول: إن الحاجم يفطر؟
الجواب: شيخنا ابن باز يقول: يفطر حتى في هذه الحالة؛ لأنه مُعين على فطر أخيه، فيفطر، وأما شيخ الإسلام ومن وافقه من شيوخنا كابن عثيمين قالوا: لا، الوضع مختلف فهو لا يشفط بواسطة الفم، وإنما يشفط عن طريق الأجهزة فيفطر المحجوم دون الحاجم، وهذا عندي أصح.
وقد اختار الفطر بالحجامة ابن خزيمة من الشافعية، وابن المنذر، وابن حبان وجماعة من المحدثين، وذكر بعضهم: أنَّ مذهب أهل الحديث هو الفطر بالحجامة، ولا شك أنَّ أهل الحديث هم أسعد الناس بإصابة الحق.
ومن أراد الإطالة في مسألة الحجامة، فليرجع إلى كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى في المجلد الخامس والعشرين، فقد بيَّن أنَّ هذا وفق القياس. شرح كتاب الصوم من صحيح البخاري (ص: 113- 114).


ابلاغ عن خطا