«الأيدي ثلاثةٌ: فيدُ اللهِ العُليا، ويدُ المُعطي التي تليها، ويدُ السَّائلِ السُّفلى، فأعطِ الفضلَ، ولا تعجزْ عن نفسِك».
رواه أحمد برقم: (15890)، ورقم: (17232)، وأبو داود برقم: (1649)، من حديث مالك بن نَضْلَة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (2794)، وصحيح الترغيب والترهيب برقم: (501).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«العليا»:
العُلْيا والعَلْياء: المَكَان العالي. المخصص (4/ 455).
«السُّفلى»:
"السُّفْلى: فَسرهَا فِي الحَدِيث: أَنَّهَا السافلة. مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/ 226).
وقال نشوان الحميري -رحمه الله-:
السَّافِلَة: نقيضُ العَالِيَةِ. شمس العلوم، لنشوان الحميري (5/ 3101).
«الفَضْل»:
ما يبقى من كفايتك ومن تَلزمك نفقته. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (9/ 290).
شرح الحديث
قوله: «الأيدي ثلاثة»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «الأيدي ثلاثة»: عند الإعطاء. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 508).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «الأيدي ثلاث» كذا في رواية الطحاوي بدون التاء، وهو الأظهر. نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار(8/ 56).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «الأيدي ثلاثة» أي: بالنسبة للإعطاء والأخذ؛ وذلك أنَّ المعطي قسمان: معطٍ حقيقة لكونه مالك كل شيء، وهو الله تعالى، ومعطٍ ظاهرًا، وهو مَن أجرى الله -عَزَّ وَجَلَّ- الإعطاء على يديه، وجُعِلَت يده والِيَةَ يد الله تعالى؛ لأنه -سبحانه وتعالى- جعله مظهرًا للخير. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (9/ 289).
قوله: «فَيَدُ الله العليا»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«فَيَدُ الله العليا»؛ لأنه المعطي للمعطي والسائل. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 508).
وقال ابن الأثير-رحمه الله-:
«العليا»: المتعففة، والسُّفلى: السائلة، رُويَ ذلك عن ابن عمر، ورُويَ عنه أنها المنفِقة. وقيل: العليا: المعطية، والسُّفلى: الآخذة. وقيل: السُّفلى: المانِعة. النهاية في غريب الحديث(3/ 294).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «فَيَدُ الله العليا» أي: نعمته الكاملة وعطاؤه العامُّ، على ما ذهب إليه الخلف من تأويل المتشابه، وبيان المراد منه؛ لتنزهه تعالى عن الجارحة.
وذهب السلف إلى إمرارهِ على ظاهره، وتفويض المراد منه إلى الله تعالى؛ مع اعتقاد تنزيهه عن الجارحة، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الشورى: 11. [المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (9/ 289).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
«فَيَدُ الله هي العليا»؛ لأنّ الله تعالى هو المعطي على الحقيقة، وإعطاء الإنسان إنما هو تابع لإعطاء الله -عز وجل-، قال الله -عز وجل-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} التكوير:29، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَتِ الأقلام وجفّت الصحف»، وكما جاء أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا قاسم والله يعطي»، وكما في حديث معاوية: «مَن يُرِدِ الله به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدّين، وإنّما أنا قاسم والله يعطي».
فالمعطي على الحقيقة هو الله -عز وجل-، وقد جُعل الإنسان سببًا في وصول هذه النعمة، ولكن حقيقة الإعطاء هي من الله -عزّ وجل-، وهذا وإن كان معطيًا إلا أنّ الله تعالى هو الذي جعله معطيًا، وهو الذي جعله سببًا في وصول ذلك الخير إلى الغير.
وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا قاسم والله يُعطي» فيه إشارة إلى هذه الأيدي الثلاث؛ لأن الله تعالى هو المعطي، والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو القاسم، فيعطي كما أمره الله وأرشدهُ، والمُعطَى هو السائل، أو الذي يُعْطَى من غير سؤال. شرح سنن أبي داود (200/ 13).
قوله: «ويد المُعطي التي تليها».
قال العيني -رحمه الله-:
المراد من يد المعطي: هو يد المتصدِّق، وقد جعل فيه اليد العليا لله تعالى، ثم للمعطي وهي يد المنفِق، ويؤيد هذا ما قاله الجمهور من أنَّ اليد العليا هي المنفقة، وكذا وقع في صحيحي البخاري ومسلم: «اليد العليا المنفقة»، وقال الخطابي: اليد العليا هي المتعففة، وقال غيره: اليد العليا: الآخذة، والسفلى: المانعة؛ حكاه القاضي (عياض). قلتُ: هو قول الْمَتصوِّفة، ذهبوا إلى أن اليد العليا هي الآخذة؛ لأنها نائبة عن يد الله تعالى، وحديث ابن مسعود نفس هذا الحديث، ولكنه من رواية ابن مسعود صريح في الرد عليهم.
فإن قيل: ما معنى علوّ يد المعطي؟
قلتُ: معناه: علوّ الفضل والمجد ونيل الثواب. نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (8/ 56).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فيه: حثٌّ على التصدُّق. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/426).
قوله: «ويد السائل السُّفلى».
قال العزيزي -رحمه الله-:
أي: السائل من غير اضطرار. السراج المنير شرح الجامع الصغير (2/ 256).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فيه: زجر للسائل عن سؤال الخلق، والرجوع إلى الحق. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 426).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «ويد السائل السُّفلى» أي: لما يترتب على السؤال من الذُّلِّ والهوان وإراقة ماء الوجه، وهذا إذا سأل بلا ضرورة، وإلا فيده لا تتصف بانحطاط الرُّتبة. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (9/ 289).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
بعض الناس يزعم أن يد السائل الآخذ هي العليا؛ لأن الصدقة تقع بيد الحق، وهذا خلاف نصِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أخبر أن: «يد الله هي العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السُّفلى». مجموع الفتاوى (8/ 535).
قوله: «فأعطِ الفضل»:
قال العيني -رحمه الله-:
أي: الذي يفضل من كفايته، وهو الذي لا يحتاج إليه، وفيه حث على الصدقة عن فضل ماله، ووصيته لترك العجز والكسل في الصدقة. شرح سنن أبي داود (6/ 403).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فأعطِ الفضل» أي: الفاضل عن نفسك وعن مَن تلزمك مؤنته. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 427).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
«فأعطِ الفضل» أي: ما يبقى من كفايتك ومن تلزمك نفقته، والأمر للندب. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (9/ 290).
قوله: «ولا تعجز عن نفسك»:
قال العيني -رحمه الله-:
وصية بترك العجز والكسل في الصدقة، ووصية أيضًا بترك العجز في الاكتساب حتى لا تضطر إلى السؤال؛ لأن ترك السؤال والتعفف خير من السؤال مع القدرة على الاكتساب. نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (8/ 57).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا تعجز عن نفسك» أي: لا تعطِ غير الفضل فتعجز عن إعطاء نفسك فإنها المقدَّمَة: «ابدأ بنفسك ثم بمَن تعول»، ويحتمل: ولا تعجَز عن إعطاء السائل فتعجز عن إعطاء نفسك الأجر. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 508).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ولا تعجز عن نفسك» أي: لا تعجز بعد عطيتك عن مؤنة نفسك ومن عليك مؤنته بأن تعطي مالك كله ثم تُعَوِّلُ على السؤال. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 427).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
«ولا تعجز عن نفسك» -بفتح المثناة الفوقية وكسر الجيم- من باب: ضرب، وفي لغة قليلة من باب: تَعِبَ، أي: لا تعجز عن مقاومة نفسك الحريصة على المال؛ فتبخل بإنفاق الفضل، ويحتمل: أن المراد: لا تُعطِ مالك كله؛ فلا تتمكن بعد من الإنفاق على نفسك فتحتاج إلى السؤال. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (9/ 290).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
قوله: «ولا تعجز عن نفسك» أي: في مجاهدتها في كونها تُشِحُّ بالمال وتحرص على إبقائه خوف الفقر.
وقيل: إنه لا يعجز عن نفسه بأن يعطيها حقها، وأن يعطيها الشيء الذي هو لازم لها، والشيء الذي يكون به قوامها، فيقدمها على غيرها ولا يعجز عن ذلك، فالمعنى يحتمل هذا ويحتمل هذا. شرح سنن أبي داود (200/ 13).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قال ابن العربي: التحقيق أن السفلى يد السائل وأما يد الآخذ فلا؛ لأن يد الله هي المعطية، ويد الله هي الآخذة وكلتاهما عليا. انتهى.
وفيه نظر؛ لأنّ البحث إنما هو في أيدي الآدميين، وأما يد الله باعتبار كونه مالك كل شيء فهي عليا بكل حال، وأما يد الآدميين فأربعة: يد المعطي، وقد تظافرت الأخبار بأنها عليا، ثانيها: يد السائل، وقد تظافرت الأخبار بأنها سفلى، سواء أخذت أم لا، وهذا موافق للعلو أو السُّفْل المشتق منها.
ثالثها: يد المتعفف عن الأخذ ولو أن تمد إليه يد المعطي مثلًا وهذِه توصف بأنها عليا علوًّا معنويًّا.
رابعها: يد الآخذ بغير سؤال، وهذِه قد اختُلف فيها، فذهب جمع إلى أنها سُفلى، وهذا بالنظر إلى أمر محسوس.
قال ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة لا الآخذة بغير سؤال.
وحكى ابن قتيبة في غريب الحديث عن قوم: أن اليد الآخذة أفضل من المعطية، ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قومًا استطابوا السؤال فهم يحتجُّون للدناءة.
قال: ولو صح هذا لكان المولى من فوق هو الذي كان رقيقًا فأعتق. شرح سنن أبي داود (8/ 23).
وقال النووي -رحمه الله-:
(في سياق الكلام عن اليد العليا والسفلى) قوله -صلى الله عليه وسلم- في الصدقة «اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة، والسفلى السائلة» هكذا وقع في صحيح البخاري ومسلم: «العليا المنفقة» من الإنفاق، وكذا ذكرهُ أبو داود عن أكثر الرواة قال: ورواه عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر «العليا المتعففة» بالعين من العِفَّة، ورجح الخطابي هذه الرواية قال: لأنّ السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها، والصحيح: الرواية الأولى، ويحتمل صحة الروايتين؛ فالمنفقة أعلى من السائلة، والمتعففة أعلى من السائلة.
وفي هذا الحديث: الحث على الإنفاق في وجوه الطاعات، وفيه: دليل لمذهب الجمهور أنّ اليد العليا هي المنفقة، وقال الخطابي: المتعففة كما سبق، وقال غيره: العليا الآخذة، والسفلى المانعة حكاه القاضي (عياض) -والله أعلم-، والمراد بالعلو: علو الفضل والمجد ونيل الثواب. شرح مسلم (7/ 124).
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-:
«الأيدي ثلاثة..»، ولأحمد والبزار من حديث عطية السعدي: «اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى»؛ فهذه الأحاديث متضافرة على أنّ اليد العليا هي المنفقة المعطية، وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد، وهو قول الجمهور، وقيل: اليد السفلى الآخذة سواء كان بسؤال أم بغير سؤال، وهذا أباه قوم واستندوا إلى أن الصدقة تقع في يد الله قبل يد المتصدَّق عليه، قال ابن العربي: التحقيق: أن السفلى يد السائل، وأما يد الآخذ فلا؛ لأن يد الله هي المعطية، ويد الله هي الآخذة، وكلتاهما عليا وكلتاهما يمين. انتهى.
وفيه نظر؛ لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين، وأما يد الله تعالى فباعتبار كونه مالك كل شيء نُسِبَتْ يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها نُسِبَتْ يده إلى الأخذ، ويده العليا على كل حال، وأما يد الآدمي فهي أربعة: يد المعطي، وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا، ثانيها: يد السائل، وقد تضافرت بأنها سفلى سواء أخذت أم لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالبًا، وللمقابلة بين العلو والسفل المشتق منهما، ثالثها: يد المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تُمَدَّ إليه يد المعطي مثلًا، وهذه توصف بكونها عليا علوًّا معنويًّا، رابعها: يد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختُلِفَ فيها؛ فذهب جمع إلى أنها سفلى، وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، وأما المعنوي فلا يَطَّرِد، فقد تكون عليا في بعض الصور، وعليه يحمل كلام من أطلق كونها عليا، قال ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة لا الآخذة بغير سؤال؛ إذ محال أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل باستعماله دون من فرض عليه إتيان شيء فأتى به أو تقرب إلى ربه متنفلًا؛ فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل وأورع من الذي يعطي. انتهى.
وعن الحسن البصري: اليد العُليا المعطية والسفلى المانعة، ولم يوافق عليه، وأطلق آخرون من المتصوفة: أنّ اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقًا،... وقرأتُ في مطلع الفوائد للعلامة جمال الدين ابن نباتة في تأويل الحديث المذكور معنى آخر، فقال: اليد هنا: هي النعمة، وكأنّ المعنى: أن العطية الجزيلة خير من العطية القليلة، قال: وهذا حثّ على المكارم بأَوجز لفظ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله: «ما أبقت غنى» أي: ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله، كمن أراد أن يتصدق بألف؛ فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى؛ بخلاف ما لو أعطاها لرجل واحد، قال: وهو أولى من حمل اليد على الجارحة؛ لأن ذلك لا يستمر...، وكل هذه التأويلات المتعسفة تضمحل عند الأحاديث المتقدمة الْمُصَرِّحة بالمراد، فأولى ما فُسِّرَ الحديث بالحديث، ومُحَصّل ما في الآثار المتقدمة: أن أعلى الأيدي المنفقة ثم المتعففة عن الأخذ ثم الآخذة بغير سؤال، وأسفل الأيدي السائلة والمانعة، -والله أعلم-. فتح الباري (3/ 297).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
قوله: «الأيدي ثلاثة، يد الله العليا...» فهل يصح في عقل أو لغة أو عُرف أن يُقال: قُدرة الله أو نعمته العليا ويَد المعطي التي تليها، فهل يحتمل هذا التركيب غير يد الذات بوجه ما؟ وهل يصح أن يراد به غير ذلك؟ وكذلك قوله: «اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة» فضم هذا إلى قوله: «الأيدي ثلاثة، فيد الله العليا، ويد المعطي هي التي تليها» وإلى قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوْطَتَاْنِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاْءُ} المائدة: 64، تقطع بالضرورة أنّ المراد: يد الذات لا يد القدرة والنعمة، فإن التركيب والقصد والسياق لا يحتمله ألبتة.
وتأمل قوله: {إِنَّ الَّذِيْنَ يُبَاْيِعُوْنَكَ إَنَّمَاْ يُبَاْيِعُوْنَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيْهِمْ} الفتح: 10، فلما كانوا يبايعون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأيديهم، ويضرب بيده على أيديهم، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو السفير بينه وبينهم، كانت مبايعتهم له مبايعة لله تعالى، ولما كان سبحانه فوق سماواته وعلى عرشه فوق الخلائق كلهم، كانت يده فوق أيديهم؛ كما أنه سبحانه فوقهم، فهل يصح هذا لمن ليس له يد حقيقة؟ فكيف يستقيم أن يكون المعنى: قدرة الله ونعمته فوق قدرتهم ونعمتهم، أم تقتضي المقابلة أن يكون المعنى هو الذي يسبق إلى الأفهام من هذا الكلام؟
وكذلك قوله: «ما تصدق أحد صدقة من طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة فتربو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل»، فهل يحتمل هذا الكلام غير الحقيقة؟
وهبْ أن اليد تُسْتَعْمَل في النعمة، أَفَسَمِعْتُم أن اليمين والكف يُستعملان في النعمة في غير الوضع الجديد الذي اخترعتموه، وحملتم عليه كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟
وكذلك «وبيده الأخرى القسط» هل يصح أن يكون المعنى: وبقدرته الأخرى؟ وهل يصح في قوله: «إن المقسطين عن يمين الرحمن» أنه عن قدرته في لغة من اللغات؟ وهل سمعتم باستعمال اليمين في النعمة، والكف في النعمة؟ وكيف يحتمل قوله: «إن الله أخذ ذرية آدم من ظهره، ثم أفاض بهم في كفِّهِ» كفّ النعمة والقدرة؟ وهذا لم تعهدوا أنتم ولا أسلافكم به استعمالًا ألبتة سوى الوضع الجديد الذي اخترعتموه.
وكذلك قوله: «خمَّر الله طينة آدم ثم ضرب بيده فيها؛ فخرج كل طيب بيمينه، وكل خبيث بيده الأخرى، ثم خلط بينهما» فهل يصح في هذا السياق غير الحقيقة؟ فضع لفظ النعمة والقدرة هاهنا، ثم انظر هل يستقيم ذلك، وهل يصح في قوله: «والخير كله في يديك» أن يكون في نعمتيك أو في قدرتيك؟
وقال عبد الله بن الحارث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده» أَفَيَصِحُّ أن يخصّ الثلاث بقدرته، ولا سيما لفظ الحديث: «إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثة أشياء»؟ أَفَيصِحُّ أن توضع النعمة والقدرة موضع اليد هاهنا؟ مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص:406).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
دلَّ الحديث على الحثّ على الصدقة، وعلى مجاهدة النفس، وعلى التنفير من سؤال الخلق، وعلى الحث على الرجوع إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- في جميع الأمور؛ لأنه -سبحانه وتعالى- المالك المتصرف على الإطلاق. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (9/ 290).