الأربعاء 26 رمضان 1446 هـ | 26-03-2025 م

A a

قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّكَ تُدَاعِبُنَا، قال: «إنِّي لا أَقُولُ إلَّا حَقًّا».


رواه أحمد برقم: (8481)، والترمذي برقم: (1990) واللفظ له، والبخاري في الأدب المفرد برقم: (265)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (2509)، صحيح الأدب المفرد برقم: (265).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«تُدَاعِبُنَا»:
أي: تُمَازِحُنَا، والدُّعَابة: المِزَاح. شرح المصابيح لابن الملك (5/ 260).


شرح الحديث


قوله: «قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّكَ تُدَاعِبُنَا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قالوا: يا رسول الله» أي: بعض الصحابة «إنك تُداعبنا» من الدُّعَابة، أي: تمازحنا، وكأنهم استبعدوه منه؛ فلذلك أكَّدُوا الكلام بـ(أنَّ) وباللام أيضًا على ما في بعض النسخ من قوله: «لتداعبنا».
والأظهر: أنَّ منشأ سؤالهم أنه -صلى الله عليه وسلم- نهاهم عن المزاح -كما قدمناه-. مرقاة المفاتيح (7/ 3062).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
«إنَّك تُداعبنا» قصدوا بذلك استعظامه عن أمثال هذه؛ لما له من فضيلة ومكرمة عند الله، وعند الناس، فأجاب بأنه لا ضير فيه ما لم يتضمَّن كذبًا وخديعة، أو إيذاء لمسلم، فإذا تضمَّن شيئًا من مناهي الشرع، فلا يجوز تعاطيه. الكوكب الدري على جامع الترمذي (3/ 64).
وقال البغوي -رحمه الله-:
«تُداعبنا» أي: تمازحنا، والدُّعَابة: المزاح...، وقال ابن مسعود: خالط الناس، ودينك فلا تَكْلِمَنَّهُ. شرح السنة(13/ 180).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
«إنَّك تُداعبنا» من الدُّعَابة، أي: تُمازحنا، ومن ذلك قوله لعجوز: «لا تدخل الجنة عجوز» أي: لا تبقى عجوزًا عند دخولها.
وكأنهم استبعدوه منه؛ فلذلك أكَّدوا الكلام بـ(إنَّ)، والأظهر: أنَّ منشأ سؤالهم أنه -صلى الله عليه وسلم- نهاهم عن المزاح، كما سيجيء في باب المراء عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. تحفة الأحوذي (6/ 108).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
تصدير الجملة بـ(إنَّ المؤكِّدة) يدل على إنكار أمرٍ سابق، كأنهم قالوا: لا ينبغي لمثلك في صدر الرسالة، ومكانتك من الله تعالى: المداعبة، فأجابهم بالقول الموجب، أي: «نعم» أداعبُ، «ولكني لا أقول إلا قولًا حقًّا» لله دَر مزاح هو حق وصدق، فكيف بجده؟ الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3140).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
وكأنهم قصدوا بذلك: إمَّا السؤال عن المداعبة هل هي من خواصه فلا يتكلَّمون بها؟ فبيَّن لهم أنها ليستْ من خواصِّه، وأنَّ جوازها منوطٌ بقول الحق، وإمَّا استبعادهم وقوع المزاح منه -صلى الله عليه وسلم-؛ لجليل مكانته، وعظم مرتبته، فكأنهم سألوه عن حكمته فأجابهم، وهذا أولى من قول الطيبي: فكأنهم أنكروه، فرد عليهم من باب القول بالموجب: بأنَّ المداعبة لا تنافي الكمال.
بل هي من توابعه وتتماته، إذا كانت جارية على القانون الشرعي، بأن تكون على وفق الصِّدق والحق، وبقصد تألُّف قلوب الضعفاء، وإدخال غاية السرور والرفق عليهم.
والمنهي عنه منها كما في حديث الترمذي في جامعه وقال: غريب: «لا تُمَارِ أخاك ولا تمازحه، ولا تَعِدُه موعدًا فتخلفه»، إنما هو الإفراط فيها، والمداومة عليها؛ لأنه يُورث: كثرة الضحك، وقسوة القلب، والإعراض عن ذكر الله، وعن التفكر في مهمات الدِّين، بل ربما يؤول كثرته إلى إيذاء، ويورث حقدًا، وربما يُسْقِطُ المهابة والوقار.
ومزاحه -صلى الله عليه وسلم- سالم من جميع هذه الأمور، ويقع منه على جهة الندرة لمصلحة تامة، من مؤانسة بعض أصحابه، فهو بهذا القصد سنة، وما قيل: الأظهر أنه مباح لا غير؛ فضعيف؛ إذ الأصل في أفعاله وجوبًا أو ندبًا التأسي به فيها، إلا لدليل يمنع من ذلك، ولا دليل هنا يمنع منه، فتعيَّن الندب كما هو مقتضى كلام الفقهاء والأصوليين...، هذا وقد ألقى الله سبحانه عليه غاية المهابة، ولم يُؤثِّر فيه مزاحه ولا مداعبته؛ «فقد قام رجل بين يديه فأخذته رعدة شديدة ومهابة، فقال: هوِّن عليك، فإني لستُ بملك ولا جبار، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القَدِيد اللَّحْم الْمَمْلُوح الْمُجَفَّف في الشمس بمكة؛ فنطق الرجل بحاجته، فقام -صلى الله عليه وسلم- فقال: أيها الناس إني أُوحي إليَّ: أنْ تواضعوا، ألا فتواضعوا، لا يبغي أحدٌ على أحدٍ، ولا يفخر أحدٌ على أحدٍ، كونوا عباد الله إخوانًا»، وروى مسلم عن عمرو بن العاص: «صحبتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ملأتُ عيني قط حياءً منه وتعظيمًا، ولو قيل لي: صفه لَمَا قدرتُ»؛ فإذا كان هذا حاله وهو من أَجِلَّاء أصحابه؛ فما ظنك بغيرهم؟!
ومن ثمة لولا مزيد تألُّفه ومباسطته لهم لما قدر أحدٌ منهم أن يجتمع به هيبةً وفَرَقًا خوفًا منه، سيما عَقِب ما كان يتجلَّى عليه من مواهب القُرَب، وعوائد الفضل، لكن كان لا يخرج إليهم بعد ركعتي الفجر إلا بعد الكلام مع عائشة أو الاضطجاع بالأرض؛ إذ لو خرج إليهم على حالته التي تجلَّى بها من القُرَب في مُناجاته، وسماع كلام ربه، وغير ذلك، ومن بعضه؛ لَمَا استطاع بشر أنْ يراه، فكان يتحدَّث معها (أي: عائشة)، أو يضطجع بالأرض؛ ليستأنس بجنسهم، أو بجنس أصل خَلْقهم، وهي الأرض، ثم يخرج إليهم بحالة يقدرون على مشاهدتها؛ رفقًا بهم، ورحمةً لهم. أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل (ص:331- 332).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد أخرج الترمذي وحسَّنه من حديث أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا، قال: «إني لا أقول إلا حقًّا»، وأخرج من حديث ابن عباس رفعه: «لا تُمَارِ أخاك وتمازحه...» الحديث، والجمع بينهما: أنَّ المنهي عنه ما فيه إفراط، أو مداومة عليه؛ لما فيه من الشُّغل عن ذِكْر الله، والتفكُّر في مهمات الدِّين، ويؤول كثيرًا إلى قسوة القلب، والإيذاء والحقد، وسقوط المهابة والوقار، والذي يسلم من ذلك هو المباح، فإنْ صادف مصلحة، مثل: تطييب نفس المخاطَب ومؤانسته، فهو مستحب. فتح الباري (17/ 314).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
ولكن من الغلط العظيم: أنْ يتخذ الإنسان المزاح حِرْفة يُواظب عليه، ويفرط فيه، ثم يتمسك بفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو كمَن يدور نهاره مع الزُّنُوج الزنج: جيل من السودان ينظر إليهم، وإلى رقصهم، ويتمسك بأنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ لعائشة في النَّظر إلى رقص الزُّنُوج في يوم عيد، وهو خطأ؛ إذ من الصغائر ما يصير كبيرة بالإصرار، ومن المباحات ما يصير صغيرة بالإصرار، فلا ينبغي أنْ يغفل عن هذا. إحياء علوم الدين (3/ 129).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إنَّك تداعبنا يا رسول الله»، والمداعبة محبوبة في مواطن مخصوصة، فليس في كل أوان يحسُن المزاح، ولا في كل حين يحسُن الجد كما قيل:
أهازل حيث الهزل يحسن بالفتى *** وإني إذا جَدَّ الرجال لذو جِدِّ. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 214).
وقال المناوي -رحمه الله-:
المداعبة محبوبة، لَكِن فِي مَوَاضِع مَخْصُوصَة.
تَنْبِيه: فرَّق بعضهم بين المداعبة والمزاح بأنَّ المداعبة ما لا يُغْضِبُ جِدُّهُ، والمزاح: ما يُغْضِبُ جِدُّهُ. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 367).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال العلماء: المزاحُ المنهيُّ عنه هو الذي فيه إفراط، ويُداوم عليه، فإنه يُورث الضحك وقسوةَ القلب، ويَشْغَلُ عن ذِكْر الله تعالى، والفكر في مهمات الدِّين، ويؤولُ في كثير من الأوقات إلى الإِيذاء، ويُورث الأحقاد، ويُسقطُ المهابةَ والوقارَ.
فأما ما سَلِمَ من هذه الأمور فهو المباحُ الذي كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله، فإنه -صلى الله عليه وسلم- إنما كان يفعله في نادر من الأحوال لمصلحة، وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهذا لا منعَ قطعًا، بل هو سنّةٌ مستحبةٌ إذا كان بهذه الصفة، فاعتمدْ ما نقلناه عن العلماء وحقَّقناه في هذه الأحاديث، وبيان أحكامها، فإنه مما يَعظمُ الاحتياجُ إليه -وبالله التوفيق-. الأذكار (ص: 326-327).

قوله: «قال: إنِّي لا أَقُولُ إلَّا حَقًّا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قال: إني لا أقول إلا حقًّا» أي: عدلًا وصدقًا، ولا كل أحد منكم قادر على هذا الحصر؛ لعدم العصمة فيكم. مرقاة المفاتيح (7/ 3062).
وقال القاري -رحمه الله- أيضًا:
«إني لا أقول إلا حقًّا» فلله در مزاح هو الحق، فكيف بِجِدِّهِ الذي هو الصِّدق المطلق؟، وقد صرَّح العلماءُ: بأنَّ المزاح بشرطه من جملة المستحبات، فكيف يُعَدُّ من الَّلغَوِيَّات؟! مرقاة المفاتيح (9/ 3722).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «إني لا أقول إلا حقًّا» أي: عدلًا وصدقًا؛ لعصمتي عن الزلل في القول والفعل، ولا كل أحد منكم قادر على هذا الحصر؛ لعدم العصمة فيكم. تحفة الأحوذي (6/ 108).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «لا أقول إلا حقًّا» وإنْ كان في صورة الباطل عند من لا يفهم حقيقة المقصود، وبهذا يحصل الطيبة والمزاح، وهذا هو الضابط في هذا الباب، ومع ذلك ينبغي أن لا يكون فيه إيذاء للصاحب، ولا يُعْتَاد ذلك؛ فإنه يذهب بالمهابة والوقار. لمعات التنقيح (8/ 184).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا أقول إلا حقًّا» كما ذَكرتُ قضايا من مزاحه سردناها في التنوير، وكلها صدق، كقوله: «لا يدخل الجنة عجوز»، وقوله: «رجل في عينيه بياض»، وغير ذلك، ولا يمزح في أحكام الدين، فإنه جهل لا يجوز عليه؛ ولذا قال موسى لقومه لما قالوا: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} البقرة: 67، قالوا: معناه: فأمزح في أحكام الدِّين. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 213-214).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ومزاحه -صلى الله عليه وسلم- بحق دليل على أنَّ المزاح بحق ليس من الباطل. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 39).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قال: «إني لا أقول إلا حقًّا» أخرجه الترمذي، فنبَّه: أنَّ المزاح الحق، لا حرج فيه. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 315).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ولا أقول إلا حقًّا» لعصمتي عن الزلل في القول والعمل؛ وذلك كقوله لامرأة: «زوجك في عينه بياض»، وقوله في أخرى: «لا يدخل الجنة عجوز»، وقوله لآخر: «لأحملنك على ولد الناقة».
وقيل لابن عيينة: المزاح سُبَّة، فقال: بل سُنَّة، ولكن مَن يحسنه؟! وإنما كان يمزح لأن الناس مأمورون بالتأسي به، والاقتداء بهديه، فلو ترك اللطافة والبشاشة ولزم العبوس والقطوب لأخذ الناس من أنفسهم بذلك، على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعَنَاء، فمزح ليمزحوا، ولا يناقض ذلك خبر: «ما أنا من دَدٍ، ولا الدَّدُ مني» فإنَّ الدَّدَّ: اللهو والباطل، وهو كان إذا مزح لا يقول إلا حقًّا، فمن زعم تناقض الحديثين من الفِرَق الزائغة، فقد افترى. فيض القدير (3/ 13).
وقال الماوردي -رحمه الله-:
فالعاقل يتوخَّى بمزاحه إحدى حالتين، لا ثالث لهما:
إحداهما: إيناس المصاحبين والتودُّد إلى المخالطين، وهذا يكون بما أُنِسَ من جميل القول، وبُسِطَ من مُستحْسن الفعل، وقد قال سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزاحك، فإنَّ الإفراط فيه يذهب البهاء، ويُجَرِّئُ عليك السفهاء، وإن التقصير فيه يَفُضُّ عنك المؤانسين، ويُوحِش منك المصاحبين.
والحالة الثانية: أنْ ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سَأَم، وأحدث به من همٍّ. أدب الدنيا والدين (ص: 310-311).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
كان -عليه السلام- يمزح ولا يقول إلا حقًّا، أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بإسناد جيد، بلفظ: قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا قال: «إني لا أقول إلا حقًّا»... ، وأما ما روي عن ذم المزاح، والنهي عنه فيما روى ابن الأعرابي عن المطين عن ابن نمير عن المحاربي عن أبيه عن عبد الملك، عن عكرمة، عن مولى يرفعه: «لا تُمَارِ أخاك ولا تمازحه»، وحدثنا أبو داود وساقه إلى عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جادًّا ولا لاعبًا»؛ فليس هذا من المزاح المحمود المباح، فإنما يُهَيِّج الضغائن، ويُعَدُّ من السباب والكذب، أو يتسلَّط به على ضرر رجل أو ماله، فليس من المزاح المحمود، ولا هو من جنس ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه ليس مما ورد عنه من ذلك شيء زائد على خفض الجناح، وبسط الوجه، وطلب التودُّد، ومن ذهب إلى أنه يُسْقِطُ الهيبة كما قال أكثم بن صيفي، فلعله في الإكثار منه، والتخلُّق به.
وأما قول من قال: إنما سُمي المزاح مزاحًا؛ لأنه زاح عن الحق، فلا يصح لفظًا ولا معنىً، أما المعنى: فَلِما ذكرنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أنه كان يمزح ولا يقول إلا حقًّا، وأما اللفظ: فَلِأَنَّ الميم في المزاح أصلية ثابتة في الاسم والفعل، ولو كان كما قال كانت تكون زائدة ساقطة من الفعل. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (24/607- 608).


أحاديث ذات صلة

ابلاغ عن خطا