الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«لما عُرجَ بي مررتُ بقومٍ لهم أَظْفَارٌ من نُحَاس يَخْمِشُونَ وجوهَهم وصدورَهم، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحومَ الناس، وَيَقَعُونَ في أعراضِهم».


رواه أحمد برقم: (13340) وأبو داود برقم: (4878) واللفظ له، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (5213)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (533). 


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«عُرِجَ»:
العُروج: الصعود والارتفاع. شمس العلوم، نشوان الحميري (7/ 4489)

«أَظْفَارٌ»:
الظُّفُرُ: للإنسان مُذَكَّر، وفيه لغات؛ أفصحها: بضمتين. المصباح المنير، الفيومي (ص: 199).
وقال نشوان الحميري -رحمه الله-:
وظُفُرُ الإصبع للإنسان والطائر وغيرهما: معروف، والجميع: الأَظْفَار، وجمع الأَظْفَار: أَظافِير.شمس العلوم(7/ 4235).

«نُحَاس»:
النُّحاسُ: ضَرْبٌ من الصُّفْرِ شديدُ الحُمْرَة. المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده (3/ 200).
والنُحاس: ... ضرب من الصُفْر والآنية شديدة الحُمْرة. المعجم الاشتقاقي المؤصل، جبل (4/ 2164).

«يَخْمِشُونَ»:
بكسر الميم، أي: يخدشون. مرقاة المفاتيح (8/ 3158).
وقال نشوان الحميري -رحمه الله-:
والخَمْشُ والخموش: خدش الوجه، وربما استُعمل في سائر الجسد. شمس العلوم (3/ 1924).
وقيل: الخمْش في الوجه، والخدش في غيره. المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث، أبو موسى المديني (1/ 619).


شرح الحديث


قوله: «لما عُرج بي»:
قال السندي -رحمه الله-:
أي: صُعِدَ بي إلى السماء. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (4/ 566).

قوله: «مررت بقوم لهم أَظفارٌ من نُحاس»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«من نُحاسٍ» -بضم النون- زيادة في عقوبتهم؛ لشدة قوة النحاس. شرح سنن أبي داود (18/ 606).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
قوله: «لهم أظفارٌ من نحاس» أي: أن فيها قوة تؤثر ما لا تؤثرهُ الأظفار العادية؛ لأنها من نحاس صلبة قوية. شرح سنن أبي داود (555/ 12).

قوله: «يَخْمِشُونَ وجوههم وصدورهم»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«يَخْمِشُونَ وجوههم وصدورهم» أي: يجرحونها، والجملة الفعلية: محتمِلة للحالية، والوصفية، والاستئناف. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (8/ 352).
وقال عبد الحق الدِّهْلوي -رحمه الله-:
ولما كان يظهر أثر العِرْض في الوجه، وينشرح به صدره...، فالذين هتكوا عِرْض المسلمين جعل اللَّه -تعالى- وجوههم وصدورهم مشوهةً قبيحةً على أيديهم، جزاء بالمثل. لمعات التنقيح (8/ 300).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«يَخْمِشُونَ وجوههم وصدورهم» فوجوههم مواضع الأكل، وصدورهم تقابل مواضع استقرار اللحم المأكول، فإن البطون هي الصدور. شرح سنن أبي داود (18/ 606).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ولما كان خَمْشُ الوجه والصدر من صفات النساء النائحات، جعلهما جزاء من يغتاب ويَفري في أعراض المسلمين؛ إشعارًا بأنهما ليسا من صفات الرجال، بل هما من صفات النساء في أقبح حالة، وأَشْوَهِ صورة. شرح المشكاة (10/ 3218).

قوله: «فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه: سؤال عما يراه الإنسان إذا كان له فيه فائدة، دون السؤال عما لا يعنيه. شرح سنن أبي داود (18/ 606-607).

قوله: «قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس» أمواتًا. شرح سنن أبي داود (18/ 607).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
مجاز عن ثَلْب الأعراض، أو حقيقة عرفية لغوية. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 112).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: يغتابون المسلمين. مرقاة المفاتيح (8/ 3158).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس» باغتيابهم، فيه استعارة تصريحية تَبَعِيَّة، شُبِّهَت الغيبة بأكل اللحم بجامع التلذُّذ بالأكل، فاستُعِير أكل اللحم للغيبة، ثم سرت منه للفعل، وعُطِفَ عليه على وجه التفسير. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (8/ 353).

قوله: «وَيَقَعُونَ في أعراضهم»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
قوله: «وَيَقَعُونَ في أعراضهم» أي: يهتكون أعراضهم. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (13/ 289).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وَيَقَعُونَ في أعراضهم» بغير حق. شرح سنن أبي داود (18/ 607).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وَيَقَعُونَ في أعراضهم»، وفي هذه استعارة مكنية، شَبَّهَتْ أعراض الناس الْمُعَبَّر عنها على وجه الاستعارة باللحوم بشفا جرف هارٍ، فالتشبيه المضمر في النفس استعارة مكنية، وإثبات الوقوع استعارة تخييلية. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (8/ 353).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
أي: أن الجزاء من جنس العمل، فلما كان بغيبته وبكلامه على الناس مثل الذي يأكل لحومهم، صارت عقوبته بأن يُمزِّق جلده ولحمه بنفسه بتلك الأَظفار، كما أكل لحوم الناس بِوُلُوْغِهِ في أعراضهم. شرح سنن أبي داود (555/ 12).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
روى الإمام أحمد -رحمه الله-: «أنه قيل: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إن فلانة وفلانة صائمتان وقد بلغتا الجَهد، فقال -صلى الله عليه وسلم-: أدعهما، فقال لإِحداهما: قِيْئِيْ، فقاءت لحمًا ودمًا غبيطًا وقيحًا، والأخرى مثل ذلك، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- صامتا عما أحل الله -تعالى-، وأفطرتا على ما حرم الله -تعالى- عليهما، أتت إحداهما الأخرى، فلم يزالا يأكلان لحوم الناس، حتى امتلأت أجوافهما قيحًا»، وهذا الحديث: شاهد لإجراء صدر الحديث على ظاهره وحقيقته. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (8/ 353).
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} الحجرات: 12، مَثّل الله الغيبة بأكل الميتة؛ لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس، وقال قتادة -رحمه الله-: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا كذلك: يجب أن يمتنع من غيبته حيًّا.
واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة؛ لأن عادة العرب بذلك جارية.
قال الشاعر:
فإن أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومهم *** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ما صام من ظل يأكل لحوم الناس».
فشبه الوقيعة في الناس بأكل لحومهم، فمن تَنَقَّصَ مسلمًا أو ثَلَم عرضه فهو كالآكل لحمه حيًّا، ومن اغتابه فهو كالآكل لحمه ميتًا. تفسير القرطبي (16/ 335-336).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
فما ينبغي أن يُعلم: أنَّ الذنوب والمعاصي تضرُّ، ولا بد أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟ الداء والدواء (ص: 46-49).
وقال محمد نوح -رحمه الله-:
المغتاب يضيع حسناته إن كانت له حسنات، بل تتكاثر عليه السيئات، الأمر الذي يعرضه للعذاب الشديد ولا سيما في القبر، وأقل شيء في هذا العذاب تشويه الوجه، فقد مرَّ -صلى الله عليه وسلم- بقبرين، فقال: «إنهما ليُعَذَّبَان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالغيبة والنميمة». آفات على الطريق (3/ 54).
وقال النووي -رحمه الله-:
الغيبة: هي ذكرك الإنسان بما فيه مما يكره، سواء كان في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلْقه، أو خُلُقه، أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو خادمه، أو مملوكه، أو عمامته، أو ثوبه، أو مشيته، وحركته، وبشاشته، وخلاعته، وعبوسه، وطلاقته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته بلفظك أو كتابك، أو رمزت، أو أشرت إليه بعينك، أو يدك، أو رأسك، أو نحو ذلك.
أما البدن، فكقولك: أعمى أعرج، أعمش، أقرع، قصير، طويل، أسود، أصفر. وأما الدين، فكقولك: فاسق، سارق، خائن، ظالم، متهاون بالصلاة، متساهل في النجاسات، ليس بارًّا بوالده، لا يضع الزكاة مواضعها، لا يجتنب الغيبة. وأما الدنيا: فقليل الأدب، يتهاون بالناس، لا يرى لأحد عليه حقًا، كثير الكلام، كثير الأكل أو النوم، ينام في غير وقته، يجلس في غير موضعه.
وأما المتعلق بوالده، فكقوله: أبوه فاسق، أو هندي، أو نبطي، أو زنجي، إسكاف، جزار، نَحَّاس، نَجَّار، حدَّاد، حائك. وأما الخُلق، فكقوله: سيئ الخُلق، متكبر، مُرَاءٍ، عجول، جبَّار، عاجز، ضعيف القلب، مُتَهَوِّر، عبوس، خليع، ونحوه. وأما الثوب: فواسع الكُمِّ، طويل الذيل، وسخ الثوب، ونحو ذلك ... ، وأما حكمهما، فهما محرمتان بإجماع المسلمين، وقد تظاهر على تحريمهما الدلائل الصريحة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة. الأذكار (ص: 535-536).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الغيبة، ولا شك في أنها محرمة وكبيرة من الكبائر، بالكتاب والسنة، فالكتاب: قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَّعْضُكُمْ بَعْضًا} الحجرات: 12، وأما السنة فكثيرة، من أَنَصِّهَا ما خرَّجه أبو داود -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن من الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم». المفهم (6/ 570).
وقال النووي -رحمه الله-:
اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها، يحرم على السامع استماعها وإقرارها، فيجب على من سمع إنسانًا يبتدئ بغيبة محرمة أن ينهاه إن لم يخف ضررًا ظاهرًا، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه، ومفارقة ذلك المجلس إن تمكَّن من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه، أو على قطع الغيبة بكلام آخر لزمه ذلك، فإن لم يفعل عصى ... ، ومتى اضطر إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة وعجز عن الإنكار، أو أنكر فلم يُقْبَل منه، ولم يمكنه المفارقة بطريق؛ حرم عليه الاستماع والإصغاء للغيبة، بل طريقه أن يذكر الله -تعالى- بلسانه وقلبه، أو بقلبه، أو يفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضره بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكَّن بعد ذلك من المفارقة وهُم مستمرون في الغيبة ونحوها، وجب عليه المفارقة. الأذكار (ص: 540).
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدًا عليه أن يتوب إلى الله -عزَّ وجلَّ-، وهل يستحل المغتاب؟ اختلف فيه... قالت فرقة: هي مظلمة وعليه الاستحلال منها، واحتجت بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال؛ فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أُخِذَ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته»...؛فدلت الآثار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّها مظلمة يجب على المغتاب استحلالها. التفسير (16/ 337-338).


ابلاغ عن خطا