«العُمرةُ إلى العمرةِ كفارةٌ لما بينهما، والحجُ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنَّةُ».
رواه البخاري برقم: (1773)، ومسلم برقم: (1349)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«العمرة»:
هي الزّيارةُ، مُشتقَّةٌ من عِمارة المسجد الحرام، يُقالُ: اعتمر فهو مُعتَمِر، أي: زار وقصد، وهي في الشَّرع: زيارةُ البيت الْحرام بشروط مخصُوصة مذكورةٍ في الفقه. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير(3/ 297)، وشرح الزرقاني على الموطأ (2/ 400).
«كفَّارة»:
الكفَّارة: -بتشديد الفاء-: ما يُكَفَّرُ -أي: يغطى- به الإثم. معجم لغة الفقهاء (ص: 382).
«المبرور»:
هو الذي لا يخالطه شيء من المآثم، وقيل: هو المقبول المقابَل بالبِرِّ، وهو الثواب. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير(1/ 117).
«جزاء»:
الجزاء: المكافأة على الشيء. لسان العرب لابن منظور(14/143).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
جَزَاءٌ أي: ثوابٌ.ذخيرة العقبى في شرح المجتبى(23/ 301).
شرح الحديث
قوله: «العمرة إلى العمرة»:
قال المغربي -رحمه الله-:
العمرة في اللغة: الزيارة، وقيل: القصد.
وفي الشرع: هي إحرام وطواف وسعي وحلق أو تقصير؛ وسميت بذلك لأنه يزار البيت الحرام، أو يقصد، أو لكونها تقع في العمر مرة، أو لكونها في مكان عامر. البدرُ التمام شرح بلوغ المرام (5/172).
قال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
قوله: «العمرة إلى العمرة» يحتمل: أن تكون «إلى» ههنا بمعنى: (مع) كقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} النساء: 2، فيكون تقديره: والعمرة مع العمرة تكفير لما بينهما. المنتقى شرح الموطأ (2/234).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
وظاهر الحديث: أن العمرة الأولى هي المكفِّرة؛ لأنها التي وقع الخبر عنها أنها تُكفِّر، ولكن الظاهر من جهة المعنى: أن العمرة الثانية هي المكفِّرة لما قبلها إلى العمرة السابقة، فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر.
وقال الأُبّي -رحمه الله-: الأظهر أنه خرج مخرج الحث على العمرة، والإكثار منها؛ لأنه إذا حُمل على غير ذلك يُشكِل بما إذا اعتمر مرة واحدة، إذ يلزم عليه أن لا فائدة لها؛ لأن فائدتها -وهو التكفير- مشروط بفعلها ثانية، إلا أن يقال: لم تنحصر فائدة العبادة في تكفير السيئات، بل يكون فيها وفي ثبوت الحسنات ورفع الدرجات، كما ورد في بعض الأحاديث: من فعل كذا، كُتب له كذا كذا حسنة، ومُحيت عنه كذا كذا سيئة، ورُفعت له كذا كذا درجة، فتكون فائدتها إذا لم تُكَرَّر ثبوت الحسنات، ورفع الدرجات.
وقال شيخنا أبو عبد الله يعني: ابن عرفة -رحمه الله-: إذا لم تُكرَّر كُفِّر بعض ما وقع بعدها لا كله، والله أعلم بقدر ذلك البعض. شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (2/401).
وقال السنديّ -رحمه الله-:
قيل: يَحْتَمِل أن تكون «إلى» بمعنى (مع)؛ أي: العمرة مع العمرة، أو بمعناها متعلّقة بـ«كفّارة»، أي: تكفّر إلى العمرة، ولازمه أنها تكفّر الذنوب المتأخّرة.حاشية السندي على سنن النسائي (5/113).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«العمرة إلى العمرة» أي: العمرة حال كون الزمن بعدها ينتهي إلى العمرة، و«إلى» للانتهاء على أصلها، ويحتمل: كما قيل: إنها بمعنى: (مع). منحة الباري بشرح صحيح البخاري (4/227).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فيكون التقدير: العمرة مع العمرة مكفرة لما بينهما، فإذا كانت للغاية كان الـمُكَفِّر هو العمرة الأولى، وإذا كانت بمعنى: (مع) كان الـمُكفِّر العمرتين.
ويدل للثاني حديث: «العمرتان تكفران ما بينهما» أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-.ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/302).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
العمرة الأولى تكفِّر ما قبلها...، والعمرة الثانية تكفِّر ما قبلها، أي: ما بينها وبين العمرة الأولى، وهكذا، فكل عمرة تكفِّر ما قبلها. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (5/411).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «العمرة إلى العمرة» دلالة على أنه لا كراهة في تكرار الاعتمار؛ بل إنه يُستحب ذلك خلافًا للمالكية، فإنهم قالوا: يكره في السَّنة أكثر من عمرة واحدة، وبعضهم قال في الشهر، واستدل له بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يفعلها إلا من سَنَة إلى سَنَة، وأفعاله عندهم تُحمل على الوجوب أو الندب.
وقد أُجِيْبَ عنه بأنه عُرِفَ من فِعْلِه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يترك الشيء وهو يَستحِب فعله؛ لدفع المشقة عن أمته، وقد نَدَبَ إلى ذلك بلفظه. البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/172-173).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد اختلف السلف في الاعتمار في السنة مرارًا، فأجاز ذلك كثير، منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأكثر الفقهاء.
ومنعه آخرون وقالوا: يستحب ألا يعتمر في السنة إلا مرة، وكذلك فعل النبي -عليه السلام-؛ فلم يكرر في سفراته عمرة أكثر من مرة، وهو قول مالك، إلا أنه إن اعتمر أكثر من مرة لزمه تمام ذلك عنده، وقال كثير من أصحابه بجواز ذلك، وقال آخرون: لا يعتمر في شهر أكثر من مرة. إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/461).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وعند أحمد: إذا اعتمر فلا بد أن يحلق، أو يقصر في عشرة أيام يمكن حلق الرأس فيها، قال: وظاهر هذا أنه لا يستحب أن يعتمر في أقل من عشرة أيام.
وفي رواية الأثرم -رحمه الله-: إن شاء اعتمر في كل شهر. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (12/215).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «العمرة إلى العمرة..» دليل على التفريق بين الحج والعمرة في التكرار، وتنبيه على ذلك، إذ لو كانت العمرة كالحج لا تُفعل في السَّنة إلا مرة لسوَّى بينهما ولم يُفرِّق. زاد المعاد (2/95).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
في قوله: «العمرة إلى العمرة» دليل على تكرار العمرة، وأنه لا كراهة في ذلك ولا تحديد بوقت. سبل السلام (1/599).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ومن أهل العلم من استحب ألا يزيد في الشهر على عمرة، ومنهم من استحب أن لا يعتمر المعتمر في السنة إلا مرة واحدة كما قال مالك؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يجمع عمرتين في عام.
والجمهور على جواز الاستكثار منها في اليوم والليلة؛ لأنه عمل بر وخير، فلا يجب الامتناع منه إلا بدليل، ولا دليل يمنع منه، بل الدليل يدل عليه بقول الله -عز وجل-: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} الحج: 77. الاستذكار (4/112).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ذهب الجمهور إلى استحباب تكرار العمرة في السَّنة الواحدة مرارًا، وهو المذهب الصحيح؛ للأحاديث الصحيحة الكثيرة في الترغيب في الاستكثار منها. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/389).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
والحجّ لا يجوز إلا مرّة في السَّنة، وأما العمرة فنُحبّ الإكثار منها...، فأما الحجّ فلا خلاف فيه، وأما العمرة، فإننا رُوّيْنَا من طريق مجاهد، قال عليّ بن أبي طالب: في كلّ شهر عمرة، وعن القاسم بن محمد: أنه كره عمرتين في شهر واحد.
وعن عائشة أم المؤمنين: أنها اعتمرت ثلاث مرّات في عام واحد، وعن سعيد بن جبير، والحسن البصريّ، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعيّ: كراهة العمرة أكثر من مرّة في السَّنة، وهو قول مالك، ورُوِّينا عن طاوس: إذا مضت أيام التشريق، فاعتَمِر متى شئت. وعن عكرمة: اعتَمِرْ متى أمكنك الموسَى، وعن عطاء: إجازة العمرة مرّتين في الشهر، وعن ابن عمر: أنه اعتمر مرّتين في عام واحد: مرّة في رجب، ومرّة في شوّال، وعن أنس بن مالك: أنه أقام مدّة بمكّة، فكلما جَمَّ رأسه خرج فاعتمر، وهو قول الشافعيّ، وأبي حنيفة، وأبي سليمان -يعني: داود الظاهريّ-، وبه نأخذ؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أعمر عائشة مرّتين في الشهر الواحد، ولم يكره -صلى الله عليه وسلم- ذلك، بل حضّ عليها، وأخبر أنها تكفّر ما بينها، وبين العمرة الثانية؛ فالإكثار منها أفضل...
واحتجّ من كَره ذلك بأن رسول الله -عليه السلام- لم يعتمر في عام إلا مرّة واحدة.
قلنا: لا حجة في هذا؛ لأنه إنما يُكره ما حَضَّ على تركه، وهو -عليه السلام- لم يحجّ مُذْ هاجر إلا حجة واحدة، ولا اعتمر مُذْ هاجر إلا ثلاث عُمَر، فيلزمكم أن تكرهوا الحجّ إلا مرّة في العمر، وأن تكرهوا العُمَر إلا ثلاث مرّات في الدهر، وهذا خلاف قولكم، وقد صحّ أنه كان -عليه السلام- يترك العمل وهو يحبّ أن يعمل به؛ مخافة أن يشقّ على أمته، أو أن يُفْرَضَ عليهم.
والعجب: أنهم يستحبّون أن يصوم المرء أكثر من نصف الدهر، وأن يقوم أكثر من ثلث الليل، وقد صحّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يَصُمْ قط شهرًا كاملًا، ولا أكثر من نصف الدهر، ولا قام بأكثر من ثلاث عشرة ركعة، ولا أكثر من ثلث الليل، فلم يروا فعله -عليه السلام- ههنا حجة في كراهة ما زاد على صحّة نهيه عن الزيادة في الصوم، ومقدار ما يقام من الليل على أكثر من ذلك، وجعلوا فعله -عليه السلام- في أنه لم يعتمر في العام إلا مرّة مع حضّه على العمرة، والإكثار منها حجة في كراهة الزيادة على عمرة من العام، وهذا عجبٌ جدًّا!. المحلى (5/50-51).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
لم يُحْفَظ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه اعتمر في السَّنة إلا مرة واحدة، ولم يعتمر في سَنة مرتين.
فإن قيل: فبأي شيء يستحبون العمرة في السَّنة مرارًا؛ خصوصًا في رمضان، ثم لم يثبتوا ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
قيل: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يشتغل في العبادات بما هو أهم من العُمرة، ولم يكن يمكنه الجمع بين تلك العبادات وبين العمرة، فإنه لو اعتمر مرارًا لبادرت الأُمّة إلى ذلك، وكان يشق عليها، وقد كان يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا من العمل وهو يحب أن يعمله؛ خشية المشقة عليهم. عون المعبود (5/328).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وفي الحديث: الحثّ على إكثار العمرة، يؤخذ من قوله: «العمرة إلى العمرة ...» إلخ، ولكن هل معنى ذلك أن الإنسان يتردد إلى الْحِلِّ وهو في مكة ليأتي بعمرة؟
لا؛ لأن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- التَّركيَّة كسنته الفعلية، فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك هو بنفسه مع تمكنه من هذا وتوفره له؛ عُلم أنه ليس بمشروع. في غزوة الفتح متى دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة فاتحًا؟ في اليوم العشرين من رمضان، وأنهى ما يتعلَّق بالفتح في خلال أربعة أيام، وبقي عليه ستة أيام وهو في مكة قبل أن ينتهي شهر رمضان، وبإمكانه بكل سهولة أن يخرج إلى التنعيم ويأتي بعمرة، فهل فعل؟ لا، ما فعل، إذن ليس من المشروع وأنا في مكة أن أخرج إلى التنعيم وآتي بعمرة، حتى لو بقيت بعد قدومي إلى مكة شهرًا أو شهرين؛ فليس من المشروع أن أخرج إلى التنعيم، أو إلى غيره من الحلّ لآتي بعمرة، اعتمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما رجع من غزوة الطائف، ونزل بالجِعْرَانَة ليقسم الغنائم، دخل مكة ليلًا واعتمر وخرج من فوره ما بقي؛ ولهذا خفيت هذه العمرة على كثير من الناس فلم يعدوها في عُمَرِ النبي -صلى الله عليه وسلم-...
فإن قلتَ: أليس قد أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة أن تخرج إلى التنعيم وتأتي بعمرة؟
نقول: من كان على مثل حالها استحببنا له أن يفعل، أو على الأقل أبحنا له أن يفعل، وإلا فلا. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/323).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
هل نقول: اعتمر في الصباح والمساء لتكفِّر ما بينهما؟
لا؛ لأن الصحابة علموا بهذا، لكن ما عملوا على أنهم يكررون العمرة كل يوم أو كل أسبوع. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/211).
وقال النوويّ -رحمه الله-:
واعلم أن جميع السَّنة وقت للعمرة، فتصحّ في كلّ وقت منها، إلا في حقّ من هو متلبّسٌ بالحجّ، فلا يصحّ اعتماره حتى يفرغ من الحجّ، ولا تكره عندنا لغير الحاجّ في يوم عرفة، والأضحى، والتشريق، وسائر السَّنة، وبهذا قال مالك، وأحمد، وجماهير العلماء.
وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: تُكره في خمسة أيام: يوم عرفة، والنحر، وأيام التشريق.
وقال أبو يوسف -رحمه الله-: تكره في أربعة أيام: وهي عرفة، والتشريق. شرح النووي على صحيح مسلم (9/118).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبّسًا بأعمال الحجّ، إلا ما نُقل عن الحنفيّة أنه يكره في يوم عرفة، ويوم النحر، وأيّام التشريق، ونقل الأثرم عن أحمد: إذا اعتَمَر فلا بدّ أن يحلق، أو يقصّر، فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام؛ ليتمكّن من حلق الرأس فيها. فتح الباري (3/598).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
والأظهر: أنها مشروعة مطلقًا.
وفعله -صلى الله عليه وسلم- لها في أشهر الحج يَرُدُّ قول من قال بكراهتها فيها، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يعتمر عُمَرَهُ الأربع إلا في أشهر الحج كما هو معلوم. سبل السلام (1/600).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
عندي في استثناء الأيام التي ذكروا أن العمرة تُكره؛ فيها نَظَرٌ، فالذي يظهر: أنها تجوز في كلّ أيام السَّنة؛ إذ لا نصّ ولا إجماع في استثناء بعض الأيام المذكورة حتى نعتمد عليه في كراهتها فيه. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/391).
قوله: «كفارة لِمَا بينهما»:
قال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
«ما» من ألفاظ العموم، فيقتضي من جهة اللفظ: تكفير جميع ما يقع بينهما إلا ما خصَّهُ الدليل. المنتقى شرح الموطأ (2/234).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «كفارة لما بينهما» إشارة منه -صلى الله عليه وسلم- إلى أن كبار الطاعات يُكفِّر الله بها ما كان بين الطاعة منها والطاعة الأخرى؛ لأنه لم يقل: كفارة لصغار ذنوبه؛ بل أَطْلَقَ إطلاقًا يتناول الكبار والصغار. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/410).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله: «كفارة لما بينهما» يريد ما اجتُنِبَت الكبائر. شرح صحيح البخاري (4/435).
وقال ابن عبد البر -حمه الله-:
قال بعض المنتمين إلى العلم من أهل عصرنا: إن الكبائر والصغائر يكفرها الصلاة والطهارة، واحتج بظاهر حديث الصنابحي هذا وبمثله من الآثار، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فما ترون ذلك يُبقي من ذنوبه»، وما أشبه ذلك، وهذا جهل بيّن، وموافقة للمرجئة فيما ذهبوا إليه من ذلك، وكيف يجوز لذي لُبٍّ أن يحمل هذه الآثار على عمومها، وهو يسمع قول الله -عزّ وجلّ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} التحريم:8، وقوله -تبارك وتعالى-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} النور:31، في آيٍ كثيرة من كتابه، ولو كانت الطهارة والصلاة وأعمال البر مُكفِّرة للكبائر، والْمُتَطَهِّر المصلي غير ذاكر لذنبه الـمُوْبِق ولا قاصد إليه، ولا حضره في حينه ذلك أنه نادم عليه، ولا خطرت خطيئته المحيطة به بباله، لما كان لأمر الله -عزّ وجلّ- بالتوبة معنى، ولكان كل من توضأ وصلى يُشهَد له بالجنة بِأَثَرِ سَلَامِه من الصلاة، وإن ارتكب قبلها ما شاء من الموبقات الكبائر، وهذا لا يقوله أحد ممن له فهم صحيح، وقد أجمع المسلمون أن التوبة على المذنب فرض، والفروض لا يصح أداء شيء منها إلا بقصد ونية، واعتقاد أن لا عودة، فأما أن يصلي وهو غير ذاكر لما ارتكب من الكبائر، ولا نادم على ذلك فَمُحَال...، وهذا يُبيِّن لك ما ذكرنا، ويوضِّح لك أن الصغائر تُكَفَّر بالصلوات الخمس لمن اجتنب الكبائر، فيكون على هذا معنى قول الله -عزّ وجلّ: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} النساء:31 الصغائر بالصلاة والصوم والحج وأداء الفرائض وأعمال البر، وإن لم تجتنبوا الكبائر ولم تتوبوا منها، لم تنتفعوا بتكفير الصغائر إذا واقعتم الموبقات المهلكات. التمهيد (4/ 44 -48).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
فإن قيل: بأي دليل تخصه بالصغائر؟
قلنا: الحديث الصحيح؛ قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما اجتُنِبَت الكبائر». المسالِك في شرح مُوَطَّأ مالك (4/343).
وقال السندي -رحمه الله-:
والحديث خصه ابن عبد البر -رحمه الله- بالصغائر، وتُعقِّب بأن اجتناب الكبائر مُكفَّر؛ لقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ} النساء:31 الآية، فماذا تُكفِّر العمرة؟
قلتُ: هذا ليس بشيء؛ لأن الذي لا يجتنب الكبائر فصغائره تكفِّرها العمرة، ومن ليس له صغيرة أو صغائره مُكفَّرة بسبب آخر؛ فالعمرة له فضيلة. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/209).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «كفارة لما بينهما» «ما» اسم موصول يفيد العموم، فظاهره يشمل الصغائر والكبائر، ولكن...جمهور أهل العلم يرون أن مثل هذه الأحاديث المطلقة مقيدة باجتناب الكبائر؛ قياسًا على الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، قالوا: فإذا كانت هذه الفرائض التي هي أصول الإسلام لا يُكفَّر بها إلا الصغائر فما دونها من باب أولى. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/321-322).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
والمراد بالعمرة التي تُكفِّر، والحج الذي يُكفِّر، والصلاة التي تُكفِّر، والصيام الذي يُكفِّر، والجمعة التي تُكفِّر المؤدَّى على مراد الله -جلّ وعلا-. شرح الموطأ (73/5).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واستشكل بعضهم كون العمرة كفارة مع أن اجتناب الكبائر يُكفِّر، فماذا تُكفِّر العمرة؟
والجواب: أن تكفير العمرة مُقَيَّد بزمنها، وتكفير الاجتناب عامٌّ لجميع عُمْر العبد، فتغايرا من هذه الحيثية. فتح الباري (3/598).
قوله: «والحج المبرور»:
قال المازري -رحمه الله-:
قوله: «والحج المبرور»، وهو على وزن مفعول من البِرِّ.
يحتمل: أن يريد أن صاحبه أوقعه على وجه البِرِّ، وأصله ألا يتعدى إلا بحرف جر، إلا أن يريد بمبرور: وصف المصدر؛ فيتعدى حينئذٍ إليه، إذ كل ما لا يتعدى من الأفعال فإنه يتعدى إلى المصدر. المعلم بفوائد مسلم (2/113-114).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
هذا الكلام يعني: كلام المازري -رحمه الله- كله إنما يتوجه على أن معنى المبرور ما أشار إليه من أنه قصد به البِر، وأما على غيره من التأويلات فلا يحتاج إلى حرف تَعْدِيَة، فقد قيل: معنى «مبرور»: لا يخالطه شيء من مأثم.
وقيل: المبرور: المتقبَّل. وقيل: الذي لا رياء فيه ولا سمعة، ولا رفث ولا فسوق. وقيل: الذي لم تعقبه معصية. إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/461).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وأما قوله: «الحج المبرور» فهو الحج المتقبَّل، -والله أعلم-.
وقيل: الحج المبرور: الذي لا رياء فيه ولا سمعة، ولا رفث ولا فسوق، وكانت النفقة فيه من المال الطيب. الاستذكار (4/104).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وأما الحج المبرور: فقال علماؤنا: هو الذي لا رفث فيه ولا فسوق مع الصيانة من سائر المعاصي.
وقال أهل الإشارة: الحج المبرور هو الذي لم يتعقبه معصية.
والأول أرفق بالخلْق، وأظهر عند الفقهاء والسلف.
وكذلك قال أبو ذر للرجل الذي مر عليه وهو يريد الحج: استأنف العمل.
إشارة إلى أن ذنوبه قد حُطَّت، فصار كيوم ولدته أمه. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 561).
وقال ابن العربي -رحمه الله- أيضًا:
فإن قيل في قوله: «الحج المبرور»: وما هو؟
قيل: هو الذي لا يُعْصَى الله بعده أبدًا، ولا يُلَمُّ بذنب.
وفيه وجهٌ ثانٍ: وهو الذي لم يرفث ولم يفسق، وسَلِمَ وقت الحج من ذلك، وتمادى عليه إلى أن لقي الله وهو غير عاصٍ، فذلك هو الحج المبرور. المسالِك في شرح موطأ مالك (4/343).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الذي قاله ابن العربي -رحمه الله-، واستظهره الأُبّي هو الأرجح عندي، لكن بإبدال قوله: (بعده) بلفظ (فيه) يعني: أن الحج المبرور هو الذي ليس فيه رفث، ولا فسوق، بمعنى: أنه لا معصية في حال إيقاعه، بل اجتنب فيه المحظورات الشرعية حال أدائه. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/301).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى.
وهو: أنه الحج الذي وُفِّيَت أحكامه، ووقع موافقًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل. المفهم (3/463).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «والحج المبرور» الأصح الأشهر: أن المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، مأخوذ من البِرِّ وهو الطاعة.شرح النووي على صحيح مسلم (9/118-119).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«والحج المبرور» الذي لا يخالطه إثم، أو المقبول المقابَل بالثواب. التنوير شرح الجامع الصغير (7/410).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
المبرور: أي: المؤدَّى على نهج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الخالي من الرفث والفسوق والجدال. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام (4/ 3).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترط في الحجِّ أن يكون مبرورًا؛ أي: حجَّ بِرٍّ، وهو الذي جمع أوصافًا نذكرها الآن:
أولًا: أن يكون خالصًا لله -عزّ وجلّ- بألّا يحمل الإنسان على الحج طلب مال أو جاه أو فُرْجَة، أو لقب، أو ما أشبه ذلك، بل تكون نيته التقرب إلى الله -عزّ وجلّ-، والوصول إلى دار كرامته، وهذا شرط في كل عبادة كما هو معروف.
الشرط الثاني: أن يكون بمال حلال، فإن كان بمال حرام فإنه ليس بمبرور، حتى إن بعض العلماء يقول: إذا حج بمال حرام فإنه لا حج له؛ لأنه كالذي يصلي في أرض مغصوبة، وأنشدوا على ذلك:
إذا حججتَ بمالٍ أصله سُحْتٌ *** فما حججتَ ولكن حجَّت العِيْرُ
الشرط الثالث: أن يقوم الإنسان فيه بفعل ما يجب ليكون عبادة، فأما إذا لم يقم فيه بفعل ما يجب فليس بمبرور، كما يفعل بعض الناس اليوم يذهب ليحج فيوكِّل من يرمي عنه، ويبيت في مكة ويذبح هديًا عن المبيت في مكة، ويخرج من مزدلفة من منتصف الليل أو من صلاة المغرب والعشاء، يتتبع الرخص، ثم يقول: إنني حججت.
والذي يظهر -والعلم عند الله-: أن حال مثل هؤلاء أن يقول: لعبتُ لا حججتُ، أين الحج من رجل لا يبيت إلا في مكة، ويوكِّل من يرمي عنه الجمار، ويقول: أذبحُ هديًا لترك المبيت، ويتقدَّم من مزدلفة مبكرًا؟! إذا كان لا يمكنك أن تحج إلا على هذا الوجه فخيرٌ لك ألا تحج...
الشرط الرابع -لكون الحج مبرورًا-: أن يتجنب فيه المحظور؛ لقوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} البقرة: 197، ومن ذلك: ألا تحج المرأة إلا بمحرم، فإن حجت بغير محرم لم يكن حجها مبرورًا، بل قال بعض العلماء: لم يكن حجها مقبولًا؛ لأن هذا السفر سفر محرم، والمحرم لا يكون ظرفًا لعبادة صحيحة، فهي كالزمن المغصوب بالنسبة لها.
هل يشترط أن يكون الإنسان فيه أشعث أغبر؟
لا يشترط، ولكن هل يشترط ألا يزيل الإنسان عنه الشعث والغبر؛ لأن بين هذين فرقًا؟
ليس بشرط؛، ولهذا ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه كان يغتسل وهو محرم، ومعلوم أنه لم يغتسل من جنابة، وهذا يدل على أنه ليس من شرط المبرور أن يكون الإنسان أشعث أغبر، وأن الإنسان لو تنظف فلا حرج عليه.
هل يشترط للحج المبرور ألا يستعمل ما فيه الرَّفّاهية من مُبَرِّدَات وماء بارد، وسيارة مريحة أو لا؟
الظاهر: أنه لا يشترط، وأنه لا حرج على الإنسان أن يستعمل ما يريحه، وإن كان بعض الناس يقول: الأفضل إلا يتعرَّض لمثل هذه الرفاهية؛ لأنه قد يكون للشارع غرض بأن يكون الإنسان خشنًا؛ ولهذا يباهي الله بالواقفين بعرفة الملائكة يقول: «أتوني شُعثًا غُبرًا ضَاحِيْن». فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/322-323).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
فالحج المبرور له أوصاف خمسة:
الأول: أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى، لا رياء فيه ولا سمعة.
الثاني: أن تكون النفقة من مال حلال، قال النبي -صلّى الله عليه وسلّم-: «إن الله تعالى طيّب لا يقبل إلا طيبًا».
الثالث: البُعد عن المعاصي والآثام، والبدع والمخالفات؛ لأن ذلك إذا كان يُؤَثِّر على أيِّ عمل صالح، وقد يكون سببًا في عدم قَبوله، ففي الحج أولى؛ لما ورد فيه من النصوص، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} البقرة: 197.
الرابع: حُسن الخُلق ولين الجانب، والتواضع في مركبه ومنزله وتعامله مع الآخرين، بل وفي كل أحواله.
الخامس: تعظيم شعائر الله تعالى، فيتأكَّد في حق الحاج أن يُعَظِّم شعائر الله تعالى، ويستشعر فضل المشاعر وقيمتها، فيُؤَدِّي مناسكه على صفة التعظيم والإجلال والمحبة والخضوع لله رب العالمين.
وعلامة ذلك: أن يؤدي شعائر الحج بسكينة ووقار، ويتأنَّى في أفعاله وأقواله، ويحذر من العجلة التي عليها كثير من الناس في هذا الزمان، ويُعَوِّد نفسه الصبر على طاعة الله تعالى، فإن هذا أقرب إلى القبول وأعظم للأجر. منحة العلام شرح بلوغ المرام (ص: 120-121).
وقال عبيد الله الرحماني المباركفوري -رحمه الله-:
فإن قلتَ: المرتَّب على المبرور غير المرتَّب على عدم الرفث والفسق؛ لأن المرتَّب على المبرور هو دخول الجنة، وهو أخص من الرجوع بلا ذنب؛ لأن المراد بدخولها الدخول الأول، والدخول الأول لا يكون إلا مع مغفرة كل الذنوب السابقة واللاحقة، والرجوع بلا ذنب إنما هو تكفير السابقة.
قلتُ: وإذا فُسِّر المبرور بذلك فُسِّر الرجوع بلا ذنب بأنه كِنَاية عن دخول الجنة الدخول الأول المذكور.
قال ابن بزيزة -رحمه الله-: قال العلماء -رحمهم الله-: شرط الحج المبرور حِلِّيَّة النفقة فيه، وقيل لمالك: رجل سرق مالًا فتزوج به أَيُضَارِع الزنا؛ قال: إي، والذي لا إله إلا هو، وسُئل عمن حج بمال حرام؟ فقال: حجه مجزئ وهو آثم بسبب جنايته.
وبالحقيقة: لا يرقى إلى العالَم الْمُطَهَّر إلا الْمُطَهَّر. مرعاة المفاتيح (8/305).
قوله: «ليس له جزاء إلا الجنة»:
قال عبيد الله الرحماني المباركفوري -رحمه الله-:
«ليس له جزاء» أي: ثواب «إلا الجنة» بالرفع أو النصب وهو نحو: ليس الطِّيب إلا المسك، فإن بني تميم يرفعونه حملًا لها (أي: ليس) على (ما) في الإهمال عند انتقاض النفي، كما حَمَلَ أهل الحجاز (ما) على (ليس) في الإعمال عند استيفاء شروطها. مرعاة المفاتيح (8/306).
وقال المازري -رحمه الله-:
ومعنى «ليس له جزاء إلا الجنة» أي: لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، ولا بد أن يبلغ به إدخاله الجنة. المعلم بفوائد مسلم (2/113).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ليس له جزاء إلا الجنة»؛ لأنه أَجلّ الأعمال، فجزاؤه أكمل الجزاء. التنوير شرح الجامع الصغير (7/410).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
«ليس له جزاء إلا الجنة» يعني: أنه إذا زادت قيمته، وكثر مقداره، وغلا ثمنه، فلم يكن يقاومه شيء من الدنيا، ولا نفيس من أعراضها؛ فلذلك قال: «ليس له جزاء إلا الجنة»، ومعنى «ليس له جزاء إلا الجنة» فهذا عقد يشتمل على أحكام كثيرة: فإن الجنة هي دار النظر إلى الله تعالى، وهي مَقَرُّ الأمن من كل مَخُوْف، والنيل لكل مطلوب، والوصول إلى كل مُشْتَهى، والاجتماع لكل مُشْتَاق، إلى غير ذلك. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/410).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «ليس له جزاء إلا الجنة» يريد أن ما دونها ليس بجزاء له، وإن كانت العُمرة وغيرها من أفعال البِرِّ جزاؤها تكفير الذنوب؛ فإن الحج المبرور لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه؛ بل لا بد أن يبلغ به دخول الجنة.
وقيل: إنه أراد حج النافلة. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (12/215).
وقال السندي -رحمه الله-:
«ليس له جزاء إلا الجنة» أي: دخولها أولًا، وإلا فمطلق الدخول يكفي فيه الإيمان. حاشية السندي على سنن النسائي (5/112).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«ليس له جزاء إلا الجنة» أي: دخولها مع السابقين فهو مُكفِّر للكبائر. السراج المنير شرح الجامع الصغير (3/353).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«ليس له جزاء إلا الجنة» أي: لا يقتصر جزاؤه على تكفير بعض الذنوب، بل لا بد أن يدخل الجنة، ولازمه أن يُغْفَرَ له الذنوب كلها صغائرها وكبائرها، بل المتقدِّمة منها والمتأخِّرة. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (2/342).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
القبول أخص من الإجزاء؛ لأن القبول عبارة عن ترتُّب الثواب على الفعل، والإجزاء عبارة عن سقوط القضاء. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (15/48).
وقال السندي -رحمه الله-:
هذا الحديث من أدلة أن الحج يُغفَر به الكبائر -أيضًا-؛ لحديث: «رجع كيوم ولدته أمه»؛ بل هذا الحديث يفيد مغفرة ما تقدم من الذنوب وما تأخَّر. حاشية السندي على سنن النسائي (5/112).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الذي قاله السنديّ -رحمه الله- من تكفير الحجّ المبرور جميع الذنوب كبائرها وصغائرها هو الأرجح عندي؛ لوضوح حُجَّته. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/386).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله- أيضًا:
لكن لا يَعْتَمِدُ الإنسان على مثل هذا الفضل، ويغرق في الذنوب والمعاصي، ويسترسل فيها، ويقول: أحج ويُكفَّر عني!
لكن هل من بيَّت هذه النية يُوفَّق بترك الرفث والفسوق؟ هل يُوفَّق؟
لا يُوفَّق، فلا يُوفَّق لما رتب عليه هذه المغفرة؛ لأن بعض الناس يسترسل ويقول: والله غفور رحيم، ويحج ويمحو أثر الذنوب والمعاصي، كبائرها وصغائرها. التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (24/2).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
«ليس له جزاء إلاّ الجنة» يعني: أن الحج الكامل المستوفي لشروطه وأركانه وسننه ومستحباته، الخالص لوجه الله تعالى، المنفَق عليه من مال حلال، ليس له ثواب عند الله يوم القيامة إلَّا الفوز بالجنة، والنجاة من النار. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (3/153-154).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
من فوائد الحديث: أن الحج أفضل من العمرة، وقد ثبت في حديث مرسل: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمى العمرة حجًّا أصغر، كما جاء ذلك في حديث عمرو بن حزم المشهور. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/323).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «الحج المبرور ليس له جزاء» إلخ، الفرق بين العمرة والحج هنا ظاهر جدًّا؛ لأن أقصى ما تفيده العمرة: أن تكفِّر السيئة التي بين العمرة والعمرة الأخرى، أما هذا فيحصل به المطلوب، يعني: العمرة نجاة من المرغوب عنه، وهو السيئات وآثارها، أما هذا ففيه حصول المطلوب وهو الجنة. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/322).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
«ليس له جزاء إلا الجنة» زيادة فضل للحج عن الفضل الثابت بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «من حج للَّه فلم يَرفثْ ولم يفسُقْ رجع كيوم ولدته أمه». فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (4/ 4).
وقال الشيخ عبد الله العتيبي -حفظه الله-:
إنّ فضل العمرة دون فضل الحج؛ ولهذا عبَّر بأن العمرة تُكفِّر ما بينها وبين العمرة التي تليها، وأما الحج المبرور فليس له جزاء إلا الجنة، وهذا لا شك فيه؛ فالحج والعمرة لا يستويان لا في الأجر ولا في الوجوب، فالحج واجب بالنص والإجماع، والعمرة فيها خلاف...، والعمرة أقل أعمالًا؛ ولهذا كانت العمرة كفارة لما بينها وبين العمرة التي تليها. شرح كتاب الحج من بلوغ المرام (ص: 15).
وقال عثمان الكماخي -رحمه الله-:
وفي الحديث: أن أعمال البِرِّ قد تفضل بعضها على بعض في أوقات، وأن الشهور بعضها أفضل من بعض، والعمل في بعضها أفضل من بعض، وأن شهر رمضان يتضاعف فيه عمل البِرِّ وذلك دليل على عِظَمِ فضله، وأن الحج أفضل من العمرة؛ لما فيه من زيادة المشقة والعمل. المهيأ في كشف أسرار الموطأ(2/386).