«إذا رَأَيْتُمُ الهلالَ فصُومُوا، وإذا رَأَيْتُمُوهُ فأَفْطِرُوا، فإِنْ غُمَّ عليكم، فصُومُوا ثلاثينَ يومًا».
رواه البخاري برقم: (1909)، ومسلم برقم: (1081) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«غُمَّ»:
بضم المعجمة، وتشديد الميم: أي: حال بين الهلال وبينكم سحاب، أو نحوه. نيل الأوطار (4/ 225).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
يُقالُ: غُمَّ علينا الهلالُ: إذا حال دُون رُؤيته غَيْم، أو نحوه، مِنْ غَمَمْتُ الشيءَ: إذا غطَّيْتَه. النهاية (3/ 388).
شرح الحديث
قوله: «إذا رَأَيْتُمُ الهلالَ فصُومُوا»:
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «إذا رأيتم الهلالَ» أي: هلال رمضان، «فصوموا» لا دلالة فيه على النهي عن الصوم قبله لا منطوقًا، وهو ظاهر، ولا مفهومًا؛ لأن الأمر للإيجاب، فمفهومه عدم الوجوب قبله وهذا حق، لا النهي عن الصوم قبله. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 507-508).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
قوله: «إذا رأيتم الهلال» أي: هلال رمضان «فصوموا». منحة الباري بشرح صحيح البخاري (4/ 348).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «إذا رأيتم الهلال» أي: هلال رمضان، والهلال: هو القمر أول استهلاله.
«فصوموا» رمضان لرؤيته، سواء تم عدد شعبان ثلاثين أم لا. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (10/57- 58).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله- أيضًا:
«إذا رأيتم الهلالَ» أي: هلال رمضان، «فصوموا» أمر وجوب مُحَتّم. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (10/ 60).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
إنَّه (أي: الحديث) يدل على تعليق الحُكْم بالرؤية، ولا يراد بذلك رؤية كل فرد، بل مُطلَق الرؤية.
ويُستدَل به على عدم تعليق الحكم بالحساب الذي يراه المنجِّمون، وعن بعض المتقدِّمين: أنَّه رأى العمل به، ورَكَنَ إليه بعضُ البغداديين من المالكية، وقال به بعض أكابر الشافعية بالنسبة إلى صاحب الحساب، وقد استُشنع هذا؛ لما حُكِيَ عن مُطَرِّف بن عبد الله من المتقدِّمين، قال بعضهم: ليته لم يَقُلْهُ.
والذي أقولُ به: إنَّ الحساب لا يجوز أنْ يُعتمد عليه في الصوم؛ لمفارقة القمر للشمس على ما يراه المنجِّمون من تقدُّم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم أو يومين، فإنَّ ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله تعالى.
وأما إذا دلَّ الحساب على أنَّ الهلال قد طلع من الأفق على وجهٍ يُرى، لولا وجود المانع، كالغيم مثلًا، فهذا يقتضي الوجوب؛ لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية بشرط من اللزوم؛ لأن الاتفاق على أنَّ المحبوس في المطمورة (حفرة تحفر تحت الأرض) إذا علم بإكمال العدة، أو بالاجتهاد بالأمارات: أنَّ اليوم من رمضان وجب عليه الصوم، وإنْ لم يرَ الهلال، ولا أخبره مَن رآه. إحكام الأحكام (2/ 8).
وقال الشيخ عبد الرحمن السحيم -رحمه الله-:
قوله: «فصوموا» يعني: انووا الصيام؛ لأن الليل ليس محلًّا للصيام، وفيه: دليل على وجوب تبييت نية الصيام من الليل. إتحاف الكرام بشرح عمد الأحكام (26/ 1).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
ليس المراد: رؤية جميع الناس، بحيث يحتاج كل فرد إلى رؤيته، بل المعتبر رؤية بعضهم، وهو العدد الذي تثبت به الحقوق، وهو عدلان، إلا أنه يُكْتَفَى في ثبوت هلال رمضان بعدل واحد، يشهد عند القاضي.
وقالت طائفة منهم البغوي: ويجب الصوم أيضًا على من أخبره موثوق به بالرؤية، وإنْ لم يذكره عند القاضي، ويكفي في الشهادة: أشهد أني رأيتُ الهلال، لا أنْ يقول: غدًا من رمضان؛ لأنه قد يعتقد دخوله بسبب لا يوافقه عليه المشهود عنده، بأنْ يكون أخذه من حساب، أو يكون حنفيًا يرى إيجاب الصوم ليلة الغيم، أو غير ذلك. إرشاد الساري (3/ 356).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قال علماؤنا: الصوم يجب بطريقين:
أحدهما: الرُّؤْيَةُ العامَّة، مثل أنْ يراه العدد الكثير، والجمُّ الغفير، فهذا لا يفتقر فيه إلى تعديل؛ لأنَّه من باب الخَبَرِ المتواتر، نَصَّ عليه ابن عبد الحكم؛ لأنَّ باب الشهادة من باب الإخبار، والرُّؤْيَةُ إذا كانت فَاشِيَةً صِيْمَ بغير خلاف، وإنْ كان الغيم قُبِلَ فيه الشهادة بغير خلاف، وإنْ كان الصَّحو والنَّظر عسير، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا يُقْبَل الواحد، وقبِلَهُ أبو ثَوْر، وأمَّا الصَّوم، فاتَّفَقَ هؤلاء على قَبُولِ الواحدِ فيه، إلا مالكًا خاصة، فإنَّه رَدَّه، وأجاز أبو حنيفة فيه شهادة الواحد والمرأة والعبد.
وسبب الخلاف فيه: هل هذا من باب الإخبار أو من باب الشَّهادة؟ وما كان طريقه السَّماع يُقْبَل فيه الواحد، كالخَبَر عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه حَكَمَ بحُكْمٍ من الأحكام، وما كان يختصُّ به بعض الأشخاص كالقول: هذا عبد هذا، وشبه ذلك، فيُقْبَل فيه اثنان.
والطَّريق الثَّاني: لا يخلو أنْ تكون السماء مُغِيْمَة أو مُصْحِيَة، فأيَّهما كان فلا يقبل فيهما إلَّا شاهدان، وبه قال الشافعي في الفِطْر، وخالف في الصَّوم.
ودليلنا: أنَّه أحد طرفَي الشَّهر، فافتقر إلى شاهِدَيْن كالطَّرف الثاني.
وأمَّا قول أبي ثَوْر: يُفْطَرُ ويُصَام بشاهد واحدٍ؛ لأنَّه من باب الخبر، قلنا: إنَّ هذه شهادة تفتقرُ إلى العدد كسائر الشَّهادات.
فإنْ كانت السَّماء مُصْحِيَة، فمَالِك وجمهور أصحابه والشافعي على قَبُولِ عَدْليْنِ، فأمَّا العامَّة فهو أنْ يرى الهلال الجمُّ الغفير، والعدد الكثير -كما تقدَّم- حتى يقع بذلك العلم الضروري، فهذا لا خلاف في وجوب الصَّوم لمن رآه ولمن لم يَرَهُ، فهذا يخرج عن حكم الشَّهادة إلى حُكم الخبر المستفيض، وذلك مثل أنْ تكون القرية الكبيرة يَرَى أهلها الهلال، فيراه منهم الرجال والنِّساء والعبيد، ممن لا يمكن منهم التَّواطؤ على باطل، فيلزم النَّاس الصوم. المسالك في شرح موطأ مالك (4/152- 154).
قوله: «وإذا رأيتموه فأفطروا»:
قال السندي -رحمه الله-:
«وإذا رأيتموه» أي: هلال شوال، ففي الضمير استخدامٌ، «فأفطروا» ليس المراد: الإفطار من وقت الرؤية حتى يلزم أنْ يفطر قبل الغروب إذا رأى الهلال في ذلك الوقت، كما أنَّه ليس المراد: الصوم من وقت الرؤية، بل المراد: الإفطار والصوم على الوجه المشروع، فلا بد في كل منهما من معرفة ذلك الوقت. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 508).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«وإذا رأيتموه» أي: هلال شوال، «فأفطروا» -بهمزة قطع-، أي: في اليوم الأول منه. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (4/ 348).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «وإذا رأيتموه» أي: رأيتم هلال شوال، «فأفطروا» من رمضان، سواء تم عدده ثلاثين أم لا، هذا في أيام الصحو، فإنْ رُئِيَ هلال رمضان وجب الصوم، سواء كمل شعبان ثلاثين يومًا أم لا، وإنْ رُئِيَ هلال شوال وجب الفطر، سواء كمل رمضان ثلاثين يومًا أم لا، هذا إذا لم يستتر الهلال بالغيم ونحوه، كالغبار. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (10/ 58).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «وإذا رأيتموه» أي: هلال شوال، «فأفطروا» وجوبًا؛ لحرمة صيام يوم العيد. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (10/ 60).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
في رواية الشافعي: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا»، وفي رواية الموطأ: «لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه»، ولفظ رواية الشافعي أحسن موقعًا في هذا المقام؛ وذلك أنَّ الحديث مسُوق لبيان فرض الصوم، والأمر أنَّ ذلك مُقترن بوقت مخصوص عن الصوم، مُترتّب على وجود ذلك الوقت، فإذا شرع في الصوم؛ فكان تقديم ذكر رؤية الهلال على ذكر الصوم أولى؛ ليكون مطابقًا للوجود، ثم إذا كان الغرض الأمر بالصوم فذكره بلفظ الأمر مُرتَّبًا على شرطه أولى من ذكره بلفظ النهي مُقدَّمًا في الذكر على شرطه. الشافي في شرح مسند الشافعي (3/ 166).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
لا خلاف في أنَّ الخطاب في «صوموا» و «لا تصوموا» للأمة، ولكن الخطاب في «تروا» لا يقصد به جميع أفرادها قطعًا، وإنما المراد: حتى يثبت برؤية عدل منكم، أو برؤية عدلين منكم، أو برؤية جمع منكم، خلاف بين الفقهاء على أقوال كثيرة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (4/ 503).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إذا رأيتموه» أي: إذا وُجِدَت فيما بينكم الرؤية، فيدل هذا على أنَّ رؤية بلد رؤية لجميع أهل البلاد، فيلزم الحكم، وقيل: لا يُعْتَبَرُ؛ لأن قوله: «إذا رأيتموه» خطاب لأناس مخصوصين به.
وفي المسألة أقوال ليس على أحدها دليل ناهِضٌ، والأقرب: لزوم أهل بلد الرؤية، وما يتصل بها من الجهات التي على سمتها. سبل السلام (1/558- 559).
قوله: «فإِنْ غُمَّ عليكم»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإن غُمَّ» أي: أمْرُ الشهر، أو هلاله، «عليكم» أي: بغيم ونحوه. مرقاة المفاتيح (4/ 1373).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «فإنْ غُمَّ» بتشديد الميم، أي: حال بينكم أو بين الهلال غيم رقيق. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 508).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فإنْ غُمَّ عليكم» أي: غُطِيَّ الهلال بغيم، من غَمَمْتُ الشيءَ: إذا غَطَّيْتُه، وفيه ضمير الهلال، ويجوز أنْ يُسْنَدَ إلى الجار والمجرور، بمعنى: إنْ كنتم مغمومًا عليكم، وترك ذِكْر الهلال للاستغناء عنه. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1579).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فإنْ غُمَّ» أي: خُفِي عليكم الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، وغُطِّي بغيم. شرح المصابيح (2/ 508).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فإنْ غُمَّ عليكم» أي: فإنْ خَفِيَ عليكم هلالُ رمضانَ بعد مُضِيِّ تسعة وعشرين يومًا من شعبان. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 13).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«غُمَّ عَلَيْكُمْ» أي: غطَّاه شيء من السحاب أو غيم، أو غيره، فلم يظهر. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 191).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «فإنْ غُمَّ عليكم» ظاهره: أنَّه أراد فإنْ غُمَّ عليكم فأكملوا عدة الشهر الذي أنتم فيه ثلاثين، يُبَيِّن ذلك: أنَّه قال مثل ذلك في الفطر، ولا خلاف أنَّه أراد: إنْ غُمَّ عليكم هلال شوال، فلا بد أنْ يكمل عدد رمضان ثلاثين، وإنما ورد هذا في النهي عن الصوم والفطر حتى يُرى الهلال الموجِب للصوم، أو يُرى الهلال الموجِب للفطر، فإنْ غُمَّ علينا أحدهما، فهذا حكمه؛ لأنَّ هذا الشرط وارد بعدهما، فيجب أنْ يكون راجعًا إليهما، فيجب أنْ يَكْمُلَ العدد ثلاثين، وذلك إنما يكون في آخر الشهر الذي يَكْمُل، فمعناه: وأنْ يُكْمِلَ الشهر الذي هو فيه مَن غُمَّ عليه الهلال ثلاثين.
على أنَّه قد ورد ذلك مُفسَّرًا في حديث أبي هريرة فقال -صلى الله عليه وسلم-: «فإنْ غُمَّ عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين». المنتقى شرح الموطأ (2/ 38-39).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فإنْ غُمَّ عليكم» أي: سُتر عنكم الهلال بغيم ونحوه؛ أي: حَالَكم عن رؤيته غيم أو قَتَرَةٌ مثلًا، و«غُمَّ» بضم أوله على صيغة المبني للمجهول، وفيه ضمير يعود على الهلال، سواء كان الهلال هلال رمضان، أو هلال شوال؛ أي: فإنْ خَفِي عليكم الهلال بعد تسعة وعشرين. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (10/ 58).
قوله: «فَصُومُوا ثلاثينَ يومًا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فصوموا» أي: فكَمِّلوا صيام رمضان «ثلاثين يومًا»؛ لأنَّ الأصل عدم طلوع الهلال.
وقوله: «فصوموا» أي: صوم رمضان، وليس المراد: الصوم من وقت الرؤية، وقوله: «فأفطروا» أي: من صوم رمضان، وليس المراد: الإفطار من وقت الرؤية، بل المراد: الصوم والإفطار على الوجه المشروع، فاللازم في كل منهما معرفة ذلك الوقت. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (10/ 60-61).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فصوموا ثلاثين يومًا»، وفي الرواية الآتية: «فَعُدُّوا ثلاثينَ» أي: عُدُّوا ثلاثين يومًا من شعبان، فصوموا بعدها. البحر المحيط الثجاج(20/ 414).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فصوموا ثلاثين يومًا»، ومنه يُؤخَذ أنَّه إذا أُكْمِلَتْ عدة الثلاثين ولم يُرَ الهلال وجب الفطر، سواء كان رؤية رمضان من واحد، أو من أكثر منه، وهو كذلك لإِكمال العدة بحجة شرعية، وما يلزم عليه من ثبوت شوال بواحد، يُجاب عنه بأنَّ الشيء يثبت ضمنًا بما لا يثبت به مستقلًا. دليل الفالحين (7/ 32).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإنْ غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا» هذه الرواية صريحة في إغمام هلال شوال. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 195).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
قوله: «فصوموا ثلاثين يومًا» أي: فإنْ غُمَّ عليكم في نهاية رمضان، فصوموا اليوم المتمِّمَ للثلاثين، وهو معنى: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ} البقرة: 185. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (4/ 500).