«يُبصِر أحدُكم القَذاةَ في عين أخيه، ويَنسى الْجِذْلَ أو الْجِذْعَ في عين نفسه».
رواه البخاري في الأدب المفرد برقم: (592) واللفظ له، وابن حبان في صحيحه برقم: (4597)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الترغيب برقم: (2331)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (33).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«القَذاة»:
ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو تِبْنٍ أو وَسَخٍ، أو غير ذلك... ضَرَبَه مثلًا لمن يرى الصغير من عيوب الناس ويُعَيِّرهم به، وفيه من العيوب ما نِسْبَتُه إليه كنِسبة الجِذْع إلى القَذاة. النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 30).
«الْجِذْل»:
بالكسرِ: أصْلُ الشَّجَرَةِ وغيرِها بعد ذَهابِ الفَرْعِ. القاموس المحيط (ص: 976).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الجِذْل بالكسر والفتح: أصل الشجرة يُقطع، وقد يُجعل العود جِذلًا. النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 251).
وقال الأزهري -رحمه الله-:
قال اللَّيْث: الجِذْلُ: أصْل كلّ شَجرة حِين يذهب رَأسهَا، تَقول: صَار الشَّيْء إِلَى جِذْلِه أَي: إِلَى أصْله. تهذيب اللغة (11/ 11).
«الْجِذْع»:
بالكسرِ ساقُ النَّخلةِ، والجمعُ جُذُوعٌ وأَجْذَاعٌ، والمراد: الشيء الكبير. المصباح المنير (1/ 94).
شرح الحديث
قوله: «يُبصِر أحدكم القَذاةَ في عين أخيه»:
قال الفيومي -رحمه الله-:
القَذَاة هو ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو تِبْنٍ أو وسخ، أو غير ذلك. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (10/ 109).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«يُبْصِرُ أحدكم القَذَى» جمع قَذَاة وهو ما يقع في العين، أو الماء من تراب ونحوه. التنوير شرح الجامع الصغير (11/ 193).
قوله: «وينسى الْجِذْلَ أو الْجِذْعَ في عين نفسه»:
قال الفيومي -رحمه الله-:
والجِذْعُ بالكسر والفتح أصل الشجرة، وقد يجعل العود جِذْعًا، معناه: يبصر القذى الذي هو من فضلات العين، وما يخرج منه، ويدع الجذع الذي ليس من العين، ولا يتولَّد منه كما يتولَّد القذى من العين، فهذا من أشد التوبيخ لمن ينظر في عيوب الناس الذي لا يُعرف منها إلا ما هو بيِّن، ويدع عيوبه التي يعلمها...فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (10/ 109).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ويَنْسَى الجِذْعَ» واحد جذوع النخل، «فِي عَيْنِه» كأنَّ الإنسان لنَقْصِه وحُبِّ نفسه يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه، فيُدركه مع خفائه، فيَعْمَى به عن عيبٍ في نفسه ظاهر لا خفاء به، مَثَلٌ ضُرِب لمن يرى الصغير من عيوب الناس ويُعيِّرهم به، وفيه من العيوب ما نِسْبَتُه إليه كنسبة الجِذْع إلى القَذاة، وذلك من أقبح القبائح وأفضح الفضائح، فرَحِمَ الله مَن حَفِظَ قلبه ولسانه، ولزم شأنه، وكَفَّ عن عِرْض أخيه، وأعرض عما لا يعنيه، فمَن حفظ هذه الوصية دامت سلامته، وقَلَّتْ ندامته؛ فتسليم الأحوال لأهلها أسْلَم، والله أعلى وأعلم، ولله در القائل:
أرَى كُلَّ إنسانٍ يرَى عيْبَ غيْرِهِ *** ويَعْمَى عن العيبِ الذي هُوَ فِيه
فلَا خيرَ فيمن لا يرى عيْبَ نفْسِه *** ويَعْمَى عنِ العيبِ الذي بأخِيه
وما ذُكر من أن الحديث هكذا هو ما وقفتُ عليه في نُسخ، وذكر ابن الأثير أن سياق الحديث: «يُبصر أحدكم القَذاة في عين أخيه، ولا يُبصر الجِذْل في عينه»، قالوا: والجِذْلُ بالكسر والفتح: أصل الشجر يُقطع، وقد يُجعل العود جذلًا.
هذا الحديث مَثَلٌ من أمثال العرب السائرة المتداولة.
وروي عنهم بألفاظ مختلفة، فمنها: أن رجلًا كان صُلِب أبوه في حَرْبٍ ثم تناول آخر وعَابَه، فقال له الآخر: يرى أحدكم القَذاة في عينه، ولا يرى الجِذْع معترضًا في است أبيه.
وفي لفظ: تُبصر القَذاة في عين أخيك، وتَدَعُ الجِذْع المعترِض في حلقك.
وفي لفظ: في استك.
وفي لفظ: في عينك.
فكل هذا أمثال متداولة بينهم. فيض القدير (6/ 456).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
هو مَثَلٌ لتدقيق الإنسان في النظر في عيوب الناس؛ حتى يعلم الخفي منها الذي لا يكاد أن يُعلم، وإعراضه عن عيب نفسه حتى لا يرى الأمر الواضح الذي لا يخفى على أحد، وهو إخبار في معْرِض الذم لمن كان كذلك.التنوير شرح الجامع الصغير (11/ 193).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
العبد المتَّقِي الخفي لا ينشغل بذنوب العباد وينسى نفسه؛ كما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يُبْصِرُ أحدكم الْقَذَاةَ في عين أخيه، وَيَنْسَى الْجِذْلَ، أَوِ الْجِذْعَ في عَيْنِهِ».
قَالَ أبو عُبيد: الْجِذْلُ: الْخَشَبَةُ الْعَالِيَةُ الْكَبِيرَةُ. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 103).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
فإنك إنْ نظرتَ إلى عيوبك استحييتَ أنْ تذكر غيرك بما هو فيك، وهو مثل قوله: «طوبى لمن شغَلَه عَيْبُه عن عيوب الناس»، وأحسن مَن قال:
في عيوب النفس شغلٌ شاغِلٌ *** عن عيوب الناسِ إنْ كنتَ عليمًا
فإذا فهمتَ بشيءٍ فيهمُ *** فاذْكُرَنْ نفسك إن كنتَ حليمًا.
وفي معناه عدة أحاديث، كحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: «إذا أردتَ أن تذكر عيوب الناس، فاذكر عيب نفسك». التنوير شرح الجامع الصغير (1/403- 404).
وقال نشوان الحميري -رحمه الله-:
أي: تعيبون الناسَ ولا تنقُدُون عيوبكم، فأخَذَ هذا المعنى بعضُهم فقال:
أَتُبْصرُ في العينِ منِّي القَذَى *** وفي عينكَ الجِذْعُ لا تُبصرُهْ
ولذلك قيل في تأويل الرؤيا: إنَّ القَذى ونحوه مما يصيب العين ضعفٌ في الدِّين. شمس العلوم (8/ 5411- 5412).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
اعلم أنَّ الله -عز وجل- إذا أراد بعبد خيرًا بصَّره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تَخْفَ عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القَذَى في عين أخيه، ولا يرى الجِذْع في عين نفسه، فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق:
الأول: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النّفس، مطَّلع على خفايا الآفات، ويُحَكِّمه في نفسه، ويتبع إشارته في مجاهدته...
الثاني: أن يطلب صديقًا صدوقًا بصيرًا متدينًا فيُنَصِّبه رقيبًا على نفسه؛ ليُلاحظ أحواله وأفعاله، فما كَرِهَ من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة يُنَبِّهُهُ عليه، فهكذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدِّين...
الطريق الثالث: أنْ يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه، فإن "عين السُّخْط تُبدي الْمَسَاويا"، ولعل انتفاع الإنسان بعدوٍّ مُشاحن يُذكِّره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مُداهِن يُثني عليه ويمدحه، ويُخفي عنه عيوبه، إلا أنَّ الطبع مجبول على تكذيب العدو، وحمل ما يقوله على الحسد، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه، فإن مَسَاوِيه لا بد وأن تنتشر على ألسنتهم.
الطريق الرابع: أنْ يُخالط الناس، فكل ما رآه مذمومًا فيما بين الخلق فليطالب نفسه به، ويَنسبها إليه، فإن المؤمن مرآة المؤمن، فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه، ويعلم أنَّ الطباع متقاربة في اتباع الهوى، فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر عن أصله، أو عن أعظم منه، أو عن شيء منه، فلْيَتَفقَّد نفسه، ويُطهِّرها من كل ما يذمُّه من غيره، وناهيك بهذا تأدُّيبًا، فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدِّب. إحياء علوم الدين (3/64- 65).
وقال الشيخ حسين بن عودة العوايشة -حفظه الله-:
وهذا لا يقتضي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ابتغاء وجه الله تعالى، ولكن لا تُفرِّغ نفسك لِنَقْد الأفراد والدعوات؛ حتى يُفضي الأمر بك إلى ودع ذكر الله تعالى والدعوة إلى الله، فيظل لسانك رطبًا بذكر الأفراد والجماعات، متلذذًا مستمتعًا بذلك، بزعم إصلاح الناس، والله -عز وجل- يقول: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} القيامة: 14- 15. شرح صحيح الأدب المفرد (2/237-238)
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
العاقل هو مَن ميَّز عيوب نفسه فغَالَبَها وسَعى في قَمعِها. والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه، إما لِقِلّة عِلمِه وتمييزهِ وضعف فكرته، وإمّا لأنه يُقدِّرُ أنّ عيوبه خِصال(مزايا حميدة)، وهذا أَشد عَيبٍ في الأرض.الأخلاق والسير في مداواة النفوس (ص: 66).
وقال ابن حبان -رحمه الله-:
الواجب على العاقل لزوم السلامة؛ بترك التجسس عَن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإنَّ مَن اشتغل بعيوبه عَن عيوب غيره أراح بدَنَه، ولم يُتعب قلبه، فكلما اطَّلع على عيبٍ لنفسه هان عَلَيْهِ مَا يرى مثله من أخيه، وإنَّ مَن اشتغل بعيوب الناس عَن عيوب نفسه عَمِي قلبه، وتعِبَ بدنه، وتعذَّر عَلَيْهِ ترك عيوب نفسه، وإنَّ مِن أَعْجَزِ الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعْجَز منه من عَابَهم بما فيه، من عاب الناس عَابُوه. روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 125).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وقد رُوي عن بعض السلف أنه قال: أدركتُ قومًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس، فذكر الناسُ لهم عيوبًا، وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوب، فكفُّوا عن عيوب الناس، فنُسِيت عيوبُهم، أو كما قال. جامع العلوم والحكم (2/ 291).
وقال الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم -رحمه الله-:
وفيه: أنَّ الإنسان لنَقْصِه، وحبِّ نفسه، يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه، فيدركه مع خفائه، فيعمى به عن عيبٍ في نفسه ظاهر، لا خفاء به، ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لِتَتَبُّع عيوب الناس لكفَّ عن أعراض الناس، وسدَّ الباب إلى الغيبة.
عجبتُ لمن يبكي على موت غيره *** دموعًا ولا يبكي على موته دما
وأعْجَبُ مِن ذا أن يرى عيبَ غيره *** عظيمًا وفي عينيه عن عَيْبِه عَمى. الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام (ص: 37).
وقال الخطيب البغدادي -رحمه الله-:
عن عون بن عبد الله قال: سمعتُ الحسن (البصري) يقول: ابن آدم، إنك لن تجد حقيقة الإيمان ما كنتَ تَعِيبُ الناس بعيبٍ هو فيك، حتى تبرأ بذلك العيب من نفسك فتُصْلحه، فلا تُصْلِحُ عيبًا إلا ترى عيبًا آخر، فيكون شغلُك خاصة نفسك، وكذلك أَحبّ ما يكون إلى الله إذا كنتَ كذلك. المنتخب من كتاب الزهد والرقائق (ص: 82).