«قيل: يا رسول الله، أَيُّ الدعاء أَسْمَعُ؟ قال: جَوْفَ الليلِ الآخرِ، ودُبُرَ الصلوات المكتوباتِ».
رواه الترمذي برقم: (3499)، والنسائي في الكبرى برقم: (9856)، من حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه-.
صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1648)، مشكاة المصابيح برقم: (1231).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَسْمَعُ»:
أي: أقرب إلى الإجابة، وأسرع إجابة. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/262).
«جَوْفَ الليل»:
الجوف: مِن كُل شيْء باطِنه الذي يقبل الشّغل والفراغ...، ومن الليل ثُلُثَهُ الأخير.المعجم الوسيط(1/١٤٨).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
وهو الجُزء الخامس مِن أَسْدَاسِ الليل.النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير(1/316).
«دُبُرَ الصلواتِ»:
دُبُر كلِّ شيءٍ خلاف قُبُله.العين، للفراهيدي(8/31).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
دُبر كُلّ شيء: وراءه وعقِبه، والمراد به: الفراغ من الصلوات. جامع الأصول في أحاديث الرسول (4/141)
شرح الحديث
قوله: «قيل: يا رسول الله، أَيُّ الدعاءِ أَسْمَعُ؟»:
قال البيضاوي -رحمه الله-:
أرجى وأقرب إلى الإجابة. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 366).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«أَسْمَعُ» أقربُ إلى أن يَسْمَعَه الله تعالى، أي: يقبلَه. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 276).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أي: أرجى للإجابة، فالسمع هو الذي يَرِدُ بمعنى الإجابة مجازًا؛ لأن القول المسموع على الحقيقة هو ما يقترن بالقبول من السامع. شرح المشكاة (4/ 1208).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
أي: أوفق للاستماع، وأولى بالاستجابة. شرح المصابيح (2/ 49).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
«أَيُّ الدعاء أسمع؟» أي: أقرب بالإجابة. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (7/ 641).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«أسمع» اسم تفضيل بمعنى المفعول، أي: أقرب وأسرع إجابة، والسمع يجيء بمعنى الإجابة، كما يقال: سمع الأمير قوله، أي: أجاب دعاءه، وأعطى سؤاله. لمعات التنقيح (3/ 98- 99).
قوله: «قال: جَوْفَ الليل الآخِر»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
«جَوْفَ الليل الآخِر» وردت الرواية فيها بالرفع والنصب، والرفع أكثر، فمن رفع فقد جعل المضاف إليه مكان المضاف المحذوف في الإعراب، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} يوسف: 82، والتقدير: دعاء جوف الليل الآخِر.
ومن نصب فعلى الظرف، أي: الدّعاء جوف، ويجوز فيه الجر على مذهب مَن يرى حذف المضاف، وترك المضاف إليه على إعرابه، ولم ترد به الرواية.
«والآخِر» على الأحوال الثلاث تتبع «جوف» في إعرابه. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 262- 263).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«جوف الليل» إنما يستقيم جوابًا إذا أُضمر في السؤال اسم الزمان، كما فعله صاحب النهاية، حيث قال: أي الساعات أسمع؟ قال: جوف الليل الآخِر، أي: أوفق لاستماع الدعاء فيه، وأولى بالاستجابة، وهو من باب: نهاره صائم، وليله قائم.
أو يضمر في الجواب الدعاء، كما صنع التوربشتي، قال: قوله: «أيُّ الدعاء أسمع؟» معناه: أي الدعاء أقرب إلى الإجابة، أو أسرع إجابة؟
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «جوفُ الليل» تقديره: دعاء جوف الليل الآخِر، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه مرفوعًا، وُروي: «جوفَ الليل» بالنصب على الظرف، أي: الدعاء في جوف الليل، ويجوز فيه الجر على مذهب من يرى حذف المضاف، وترك المضاف إليه على إعرابه.
وأما «الآخِر» ففي الأحوال الثلاث يتبع «جوف» في إعرابه.شرح المشكاة (3/ 1061).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
قال: «جَوْفَ الليل» نصب على الظرفية، خبر مبتدأ محذوف، «الآخِر» صفته، أي: الدعاء في الجوف الأخير من الليل.
أو رفع وهو أكثرُ رواية على حذف مضاف وإقامته مقامه، أي: دعاء جوف الليل الأخير أسمع؛ يعني: ثلثه الأخير، وهو أول الجزء الخامس من أسداس الليل، وقيل: وسط النصف الأخير. شرح المصابيح (2/ 49).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«الآخِر» صفة لـ«جوف الليل» على أنْ يُنصَّف الليل، ويُجعَل لكل نصف جوف، والقُرْب يحصل في جوف النصف الثاني، وابتداؤه يكون من الثلث الأخير، وهو وقت القيام للتهجد. شرح المشكاة (4/ 1208).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«جوف الليل» أي: دعاء جوف الليل أسمع، ورُوي بنصب جوف على الظرفية، أي: في جوفه...
قيل: والجوف الآخِر من الليل هو وسْط النصف الآخِر من الليل، -بسكون السين لا بالتحريك-. مرقاة المفاتيح (2/ 768).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«جوف الليل» أي: وسطه، وتقدَّم في شرح حديث داود: أنَّ أفضل القيام قيام الثلث بعد نوم النصف، وينام السدس الأخير، وإنما كان ذلك حينئذٍ، لكمال التوجه وفقد العلائق والعوائق؛ لأنه وقت التجليات الإِلهية، وتَنزُّل الفيوض الربانية. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 303).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
قد قيل: عن جوف الليل إذا أطلق فالمراد به وسطه، وجوف الليل رُوي، بالرفع والنصب، والرفع أكثر، ومَن رفع جعل المضاف إليه مكان المضاف المحذوف في الإعراب، التقدير: دعاء جوف الليل، ومن نصب فعلى الظرفية، أي: الدعاء جوف الليل، ويجوز الجر على ترك المضاف إليه في إعرابه، وكذلك «الآخِر» بالثلاث، والآخِر صفة جوف، -والله أعلم-. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (7/ 641).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«جوف الليل الآخِر» يعني: آخر الليل؛ وذلك لأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟ فينبغي للإنسان أن يجتهد بالدعاء في هذا الجزء من الليل رجاء الإجابة. شرح رياض الصالحين (6/ 55).
قوله: «وَدُبُرَ الصلواتِ المكتوباتِ»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«ودُبُرَ الصلواتِ المكتوباتِ» أي: عقيبها، عطف على «جوف». شرح المصابيح (2/ 169).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
ودُبُر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا (ابن تيمية) يرجِّح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه، فقال: دُبر كُل شيء منه، كدبر الحيوان. زاد المعاد (1/ 295).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ودُبُرَ الصلواتِ المكتوباتِ» عطف على «جوف» تابع له في الإعراب.
الأكثرون على استحباب الدعاء مطلقًا، وقيل: السكوت عن الدعاء أفضل رضا بما سبق به القضاء، وقيل: يدعو بلسانه، ويرضى بجنانه.مرقاة المفاتيح (2/ 768).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وَدُبُرَ» -بضمتين-، أي: عقب «الصلوات المكتوبات» أي: الفرائض؛ وذلك لأن الصلاة مُناجاة العبد لربه، ومحل مسألته من فضله، وبعد تمام العمل يظهر الأمل. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 303).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
ويستحب الدعاء بعد الصلاة؛ لما روى الترمذي أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل «أَيُّ الدعاء أَسْمَعُ؟» أي: أقرب إلى الإجابة، قال: «جَوْفَ الليل الآخِر، وَدُبُرَ الصلوات المكتوبات»، ويندب الإسرار به وبالذكر إلا أن يكون إمامًا يريد تعليم الحاضرين. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (7/ 479).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وأما حديث أبي أمامة قيل: يا رسول الله، أيُّ الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الآخِر، ودبر الصلوات المكتوبة»؛ فهذا يجب أن لا يخص ما بعد السلام، بل لا بد أن يتناول ما قبل السلام، وإن قيل: إنه يعم ما قبل السلام وما بعده، لكن ذلك لا يستلزم أن يكون دعاء الإمام والمأموم جميعًا بعد السلام سنة، كما لا يلزم مثل ذلك قبل السلام، بل إذا دعا كل واحد وحده بعد السلام فهذا لا يخالف السنة، وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل: «لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كل صلاة أن تقول: اللهم أَعِنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» يتناول ما قبل السلام، ويتناول ما بعده أيضًا كما تقدَّم، فإن معاذًا كان يصلي إمامًا بقومه كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي إمامًا، وقد بعثه إلى اليمن معلمًا لهم، فلو كان هذا مشروعًا للإمام والمأموم مجتمعين على ذلك كدعاء القنوت، لكان يقول: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك، فلما ذكره بصيغة الإفراد، عُلِمَ أنه لا يشرع للإمام والمأموم ذلك بصيغة الجمع.
ومما يوضح ذلك: ما في الصحيح عن البراء بن عازب، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: «ربي قني عذابك يوم تبعث عبادك، أو يوم تجمع عبادك»؛ فهذا فيه دعاؤه -صلى الله عليه وسلم- بصيغة الإفراد كما في حديث معاذ، وكلاهما إمام، وفيه أنه كان يستقبل المأمومين، وأنه لا يدعو بصيغة الجمع. مجموع الفتاوى (22/ 492).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين، فلم يكن ذلك من هديه -صلى الله عليه وسلم- أصلًا، ولا رُوِيَ عنه بإسناد صحيح ولا حسن.
وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر، فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضًا من السنة بعدهما، -والله أعلم-.
وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، وهذا هو اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربه، يناجيه ما دام في الصلاة، فإذا سلَّم منها انقطعت تلك المناجاة، وزال ذلك الموقف بين يديه والقرب منه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه، ثم يسأله إذا انصرف عنه؟ ولا ريب أنَّ عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلي.
إلا أن هاهنا نكتة لطيفة، وهو: أن المصلي إذا فرغ من صلاته، وذكر الله وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة، استُحِبَّ له أن يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك، ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقيب هذه العبادة الثانية، لا لكونه دبر الصلاة، فإن كل مَن ذكر الله وحمده وأثنى عليه وصلى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استُحِبَّ له الدعاء عقيب ذلك، كما في حديث فضالة بن عبيد: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ليُصَلِّ على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم ليَدْعُ بما شاء» قال الترمذي: حديث صحيح. زاد المعاد (1/ 249-250).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفَهِمَ كثير ممن لقيناهُ من الحنابلة: أنَّ مراد ابن القيم: نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقًا، وليس كذلك، فإنَّ حاصل كلامه أنه نفاهُ بقيد استمرار استقبال القبلة، وإيراده بعد السلام، أما إذا انْفَتَلَ بوجهه وقدَّم الأذكار المشروعة؛ فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذٍ. فتح الباري (11/134).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
واستحب أصحابنا، وأصحاب الشافعي: الدعاء عقب الصلوات، وذكره بعض الشافعية اتفاقًا.
واستدلوا بحديث أبي أمامة، قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّ الدعاء أَسْمَعُ؟ قال: جَوْفَ الليل الآخِر، وَدُبُرَ الصلوات المكتوبات» خرَّجه الإمام أحمد والترمذي، وحسَّنه.
وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث معاذٍ: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: «لا تَدَعَنَّ دُبُر كل صلاةٍ تقول: اللهم أَعِنِّي على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك».
وقال طائفةٌ من أصحابنا، ومن الشافعية: يدعو الإمام للمأمومين عقب صلاة الفجر والعصر؛ لأنه لا تنفل بعدهما، فظاهر كلامهم: أنه يجهر به، ويُؤمِّنون عليه، وفي ذلك نظرٌ.
وقد ذكرنا فيما تقدم حديث دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- عقب الصلاة جهرًا، وأنه لا يصح، ولم يصح في ذلك شيءٌ عن السلف.
والمنقول عن الإمام أحمد: أنه كان يجهر ببعض الذكر عقب الصلاة، ثم يُسِرُّ بالباقي، ويعقد التسبيح والتكبير والتحميد سرًّا، ويدعو سرًّا.
ومن الفقهاء من يستحب للإمام الدعاء للمأمومين عَقب كُل صلاة، وليس في ذلك سنةٌ ولا أثرٌ يتبع، -والله أعلم-. فتح الباري (7/ 417).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قال القرافي: كَره مالك وجماعة الدعاء لأئمة المساجد.
وقال صاحب الإِقليد: لم يجيء في الأحاديث المشهورة ذكر الدعاء إِثْر الصلاة، وإنما ورد الذكر والتهليل، فيجوز أن يكون ذلك دعاء كما جاء: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة: لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له»؛ ولذلك اقتصر في المذهب على الذِّكر بعد الفراغ من الصلاة، ولم يذكر الدعاء.
والدعاء إِثْر المكتوبة مرجو الإِجابة، ذكر عبد الحق من حديث أبي إمامة؛ أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أيُّ الدعاء أسمع؟ قال: شطر الليل الآخِر، أدبار الصلوات المكتوبات» قلتُ: أخرجه الترمذي وحسنه.
ونقل النووي في شرح المهذب: الاتفاق على استحباب الدعاء بعد السلام أيضًا؛ قال: وما اعتاده الناس، أو كثير منهم من تخصيص دعاء الإِمام بصلاتي الصبح والعصر فلا أصل له، وإن كان الماوردي أشار إليه.
قلتُ: وقول صاحب الإِقليد: إنهُ لم يجيء في الأحاديث المشهورة ذكر الدعاء عقب الصلاة فيه نظر؛ ففي صحيح مسلم من حديث علي -رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سلَّم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمتُ وما أخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أسرفتُ وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخر لا إله إلَّا أنت».
وفي رواية له: أنه كان يقول هذا بين التشهد والتسليم.
وروى أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عن معاذ -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيده وقال: «يا معاذ، والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تَدَعَنَّ دبر كل صلاة تقول: اللهم أَعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك». الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 11- 14).
وقال المغربي -رحمه الله-:
واعلم أنَّ الدعاء يتأكد استحبابه عقيب الصلوات، وقد روى الترمذي من حديث أبي أمامة قال: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل، وأدبار الصلوات المكتوبات».
وعقد البخاري في الصحيح: باب الدعاء بعد الصلوات المكتوبات.
وزعم بعض العلماء: أن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع، متمسكًا بالحديث الذي أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن الحارث عن عائشة -رضي الله عنهما-: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يلبث إلا قدر ما يقول: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام»...
ويجاب عن حديث مسلم بأن المراد بالنفي المذكور نفي استمراره جالسًا على هيئته قبل السلام إلا مقدار ما يقول ما ذُكر، وبينت أنه كان إذا صلى أقبل بوجهه على أصحابه، فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقول بعد أن يقبل بوجهه على أصحابه، وهذا ما قاله ابن القيم من النفي مطلقًا؛ بأن ذلك قد ثبت عن معاذ بن جبل: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يا معاذ، إني والله أحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم.
وحديث أبي بكرة في قوله: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وعذاب القبر؛ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو بهن دبر كل صلاة»، أخرجه أحمد والترمذي والنسائي، وصححه الحاكم.
وحديث زيد بن أرقم: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو بهن في دُبر كل صلاة: «اللهم ربنا ورب كل شيء» الحديث أخرجه أبو داود والنسائي.
وحديث صهيب رفعه: كان يقول إذا انصرف من الصلاة: «اللهم أصلح لي ديني» الحديث، أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان وغيره.
وأما التأويل بأن المراد بهذه دُبر الصلوات هو: أن يكون بعد التشهد قبل السلام، فإنه قد ورد الأمر بالذِّكر دُبر الصلاة، والمراد به: بعد التسليم إجماعًا، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه، وقد فهم بعض الحنابلة من كلام ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقًا، وليس كذلك، فإنَّ كلامه إنما هو قبل الأذكار، وأما بعد الأذكار فيدعو. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 444-446).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ويتأكد الدعاء بعد الصلاة المكتوبة؛ لحديث الترمذي عن أبي أمامة قال: يا رسول الله، أيُّ الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل، وأدبار الصلوات المكتوبات».سبل السلام(8/ 308).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وفيه: تصريح بأن جوف الليل، ودبر الصلوات المكتوبات من أوقات الإجابة. نيل الأوطار (4/ 427).
وقال محمد أنور شاه الكشميري -رحمه الله-:
واعلم أنَّ الأدعية بهذه الهيئة الكذائية لم تَثْبُت عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولم يَثْبُت عنه رفع الأيدي دُبُر الصلوات في الدعوات إلا أقل قليل، ومع ذلك وَرَدَت فيه ترغيباتٌ قوليةٌ، والأمر في مثله: أن لا يُحْكَم عليه بالبدعة، فهذه الأدعية في زماننا ليست بسنةٍ بمعنى ثبوتها عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وليست ببدعة بمعنى عدم أصلها في الدين.
والوجه فيه: ما ذكرته في رسالتي: (نيل الفرقدين): أنَّ أكثر دعاء النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كان على شاكلة الذِّكر، لا يزال لسانه رَطِبَاً به، ويَبْسُطه على الحالات المتواردة على الإنسان من الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، ويتفكَّرون في خلق السماوات والأرض.
ومثل هذا في دوام الذكر على الأطوار لا ينبغي له أن يَقْصُر أمره على الرفع، فإنه حالةٌ خاصةٌ لمقصد جزئي، وهو دعاء المسألة، فإن ذُقْتَ هذا، نفِّس عن كُرَبٍ ضَاقَ بِهَا الصدر، لا أن الرفعَ بدعةٌ، فقد هَدَى إليه في قوليات كثيرة، وفعله بعد الصلاة قليلًا، وهكذا شأنه في باب الأذكار والأوراد، اختار لنفسه ما اختاره الله له، وبقي أشياء رَغَّب فيها للأمة، فإن التزم أحد منا الدعاء بعد الصلاة برفع اليد، فقد عَمِلَ بما رغَّب فيه، وإن لم يكثره بنفسه، فاعلم ذلك. فيض الباري على صحيح البخاري (2/ 213).
وقال محمد أنور شاه الكشميري -رحمه الله- أيضًا:
لا ريبَ أن الأدعيةَ دُبُر الصلوات قد تواترت تواترًا لا يُنْكَرُ، أمَّا رفعُ الأيدي، فثبت بعد النافلة مرَّةً، أو مرَّتين، فألحق بها الفقهاءُ المكتوبةَ أيضًا، وذهب ابن تيمية، وابن القيِّم إلى كونه بدعةً، بقي أن المواظبةَ على أمرٍ لم يَثْبُت عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إلَّا مرَّةً، أو مرَّتين، كيف هي؟ فتلك هي الشاكلةُ في جميع المستحَبَّات، فإنها تَثْبُتُ طورًا فطورًا، ثم الأمةُ تواظبُ عليها.
نعم نَحْكُمُ بكونها بدعةً إذا أفضى الأمرُ إلى النكير على من تَرَكَهَا. فيض الباري على صحيح البخاري (6/ 225).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وأدبار الصلوات»، يعني: أواخرها، وهذا قد أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ذكر التشهد، ثم قال بعد ذلك: «ثم ليتخير من الدعاء ما يشاء».
وليس المراد بأدبار الصلوات هي ما بعد السلام؛ لأن ما بعد السلام في الصلوات هو ليس محل دعاء، إنما هو محل ذكر؛ لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} النساء: 103، ولكن المراد بأدبار الصلوات المكتوبة: أواخرها. شرح رياض الصالحين (6/ - 56).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
لا أعلم أني قلتُ: إنَّ الدعاء بعد الفريضة بدعة، هكذا على الإطلاق، ولكني أقول: إنَّ المحافظة على الدعاء بعد الفريضة والنافلة كلتيهما ليس بسنة بل هو بدعة؛ لأن المحافظة عليه يلحقه بالسنة الراتبة؛ سواء كان قبل الأذكار الواردة بعد الصلاة أم بعدها.
وأما فعله أحيانًا فأرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان الأولى تركه؛ لأن الله تعالى لم يشرع بعد الصلاة سوى الذّكر؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} النساء: 103، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرشد إلى الدعاء بعد الصلاة، وإنما أرشد إلى الدعاء بعد التشهد قبل التسليم، وكما أن هذا هو المسموع أثرًا فهو الأليق نظرًا؛ لكون المصلي يدعو ربه حين مناجاته له في الصلاة قبل الانصراف.
فأما ما ذكرتم من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلّى الله عليه وسلم- سئل أيُّ الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الآخِر، ودبر الصلوات المكتوبات»؛ فقد أَعَلَّهُ ابن معين بأنه من رواية عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة ولم يسمع منه، وعلى تقدير سلامته من العلة، فالمراد بدبر الصلوات: آخرها قبل التسليم، وهذا وإن كان خلاف المتبادر، لكن يؤيده أن الله جعل ما بعد انتهاء الصلاة ذكرًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- جعل ما بين التشهد والتسليم دعاء.
وأما حديث أم سلمة -رضي الله عنها-: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: إذا صلى الصبح حين يسلم: «اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملاً متقبلًا» ففيه مولى أم سلمة وهو مجهول، وحديث المجهول غير مقبول حتى تعلم حاله.
وأما سؤالكم عن دبر الصلاة هل هو بعدها أو قبل السلام؟
فدبر الصلاة يطلق على آخرها قبل السلام، وعلى ما بعد السلام، لكن حسب التتبع يتبين أن ما قُيِّد بدبر الصلاة إن كان دعاء فهو قبل السلام، وإن كان ذكرًا فهو بعد السلام؛ بناء على ما سبق من الآية والحديث، وهذه قاعدة مفيدة.
وأما حديث فضالة بن عبيد: فذاك في التشهد في الصلاة، وليس بعد الفراغ منها كما يفيده سياقه في مشكاة المصابيح قال: «بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعداً إذ دخل رجل فصلى، فقال: اللهم اغفر لي وارحمني، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عجلتَ أيها المصلي، إذا صليتَ فقعدتَ فاحمد الله بما هو أهله وصلِّ عليّ ثم ادْعُهُ».
فالمراد بالقعود -والله أعلم-: القعود للتشهد، ثم اطلعتُ عليه في زاد المعاد كذلك، مع احتمال أن يكون المراد بالصلاة هنا: معناها اللغوي، فإنها قد تأتي في السنة مرادًا بها ذلك، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا دُعِيَ أحدكم فليُجِبْ، فإن كان صائمًا فليُصَلِّ وإن كان مفطراً فليَطْعَم»؛ فإن المراد بالصلاة هنا: الدعاء؛ كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} التوبة: 103، أي: ادعُ لهم بذلك. مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (13/ 276-278).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
والدُبُر يشمل الدعاء بعد التشهد الأخير في نفس الصلاة، وبعد التحلل منها بالسلام. توضيح الأحكام من بلوغ المرام (7/ 556).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
دبر الصلوات المكتوبة يحتمل معنيين:
الأول: أن يكون قبل السلام؛ لأن ذلك يقال له: دُبر.
والثاني: أن يكون بعد الصلاة، فإن ذلك يقال له: دُبر، وقد جاء ذكر الدُبر مرادًا به هذا وهذا، فالدّبر آخر الشيء، أو ما يلي آخر الشيء، فما قبل الصلاة يقال له: في دبرها؛ لأنه في آخرها، وما بعدها يقال له: دبرها؛ لأنه يلي آخرها، فالإنسان له أن يدعو قبل السلام، وله أن يدعو بعد صلاته. شرح سنن أبي داود (363/ 13).