«مَن نَسِيَ وهو صائم فأكل أو شرب، فَلْيُتِمَّ صومه، فإِنما أَطْعَمَهُ الله وسَقاهُ».
رواه البخاري برقم: (1933)، ومسلم برقم: (1155) واللفظ له، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «مَنْ نَسِيَ وهو صائمٌ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «مَن نَسِيَ» أي: أنه في الصوم. مرقاة المفاتيح (4/ 1390).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
قوله: «مَنْ» أيْ: أيّ شخصٍ ذكرٍ أو أنثى. «نَسِيَ وهو» أي: والحال أنَّه «صائم» سواء كان الصَّوم فرضًا أو نفلًا. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 511-512).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«مَن نسي» أي: صومه. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 414).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
النسيان ضرورة، والأفعال الضرورية غير مضافة في الحُكْم إلى فاعلها، وهو غير مُؤاخَذ بها. أعلام الحديث (2/ 960).
قوله: «فأكلَ أو شَرِبَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «فأكل أو شرب»، وفي رواية البخاري: «فأكل وشرب». مرقاة المفاتيح (4/ 1390).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
«فأكل أو شرب» سواءً كان الأكل أو الشرب قليلًا أو كثيرًا. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 512).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«فأكل أو شرب» سواءً كان قليلًا أو كثيرًا، كما رجَّحه النووي؛ لظاهر إطلاق الحديث. مرعاة المفاتيح (6/ 492).
وقال النووي -رحمه الله-:
إذا أكل أو شرب... أو فعل غير ذلك من منافيات الصوم ناسيًا لم يفطر عندنا، سواء قلَّ ذلك أم كثر هذا هو المذهب والمنصوص، وبه قطع المصنف (الشيرازي صاحب المهذب) والجمهور من العراقيين وغيرهم، وذكر الخراسانيون في أكل الناسي إذا كثر وجهين ككلام الناسي في الصلاة إذا كَثُر، والمذهب: أنه لا يفطر هنا وجهًا واحدًا؛ لعموم الأحاديث السابقة؛ ولأنه قد يستمر به النسيان حتى يأكل كثيرًا، ويَنْدُر ذلك في الكلام في الصلاة. المجموع شرح المهذب (6/ 324).
وقال العيني -رحمه الله-:
لا فرق عندنا وعند الشافعي بين القليل والكثير، وقال الرافعي: فيه وجهان، كالوجهين في بطلان الصلاة بالكلام الكثير. عمدة القاري (11/ 18).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد روى أحمد لهذا الحديث سببًا، فأخرج من طريق أم حكيم بنت دينار، عن مولاتها أم إسحاق: أنها كانت عند النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فأُتِيَ بقصعة من ثَرِيْد، فأكلتْ معه، ثم تذكرتْ أنها كانت صائمة، فقال لها ذو اليدين: الآن بعدما شبعتِ؟! فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَتِمِّيْ صومكِ، فإنما هو رزقٌ ساقه الله إليكِ»، وفي هذا ردٌّ على مَن فرَّق بين قليل الأكل وكثيره. فتح الباري (4/ 157).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
إطلاق الحديث يدلُّ على أنَّه لا يفطر وإنْ أكل كثيرًا، وقال مالك: يبطل الصوم، وفي الكثير قولٌ للشافعي. شرح المصابيح (2/ 521).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «فأكل أو شرب» خصَّهما من بين المفطرات لندرة غيرهما كالجماع. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 414).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «فأكل وشَرِبَ» ظاهره اختصاص الحُكْم المذكور بالأكل والشرب دون سائر المفطرات، وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث: «مَن أفطر» فيعم الجماع. البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/ 56).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وتعليق الحُكْم بالأكل والشرب لا يقتضي من حيث هو مخالفة في غيره؛ لأنه تعليق الحُكْم باللقب، فلا يدل على نفيه عما عداه، أو لأنه تعليق الحُكْم بالغالب، فإنَّ نسيان الجماع نادر بالنسبة إليه، والتخصيص بالغالب لا يقتضي مفهومًا.
وقد اختلف الفقهاء في جماع الناسي هل يُوجِب الفساد على قولنا: إنَّ أكل الناسي لا يوجبه؟ واختلف أيضًا القائلون بالفساد هل يُوجِب الكفارة؟ مع اتفاقهم على أكل الناسي لا يوجبها، ومدار الكل على قصور حالة المجامِع ناسيًا عن حالة الأكل ناسيًا فيما يتعلَّق بالعذر والنسيان، ومَن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه فإنما طريقه القياس، والقياس مع الفارق مُتعذِّر، إلا إذا بيَّن القائسُ أنَّ الوصف الفارق مُلْغَىً. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (ص: 270-271).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وقد عرفتَ أنَّ ذلك أي: قياس الجماع على الأكل والشرب في النسيان مدلول عليه بالعموم، وفي رواية: «مَن أفطر»، وإنما خُصَّ الأكل والشرب في الرواية الأخرى؛ لكونهما أغلب وقوعًا؛ ولعدم الاستغناء عنهما غالبًا. البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/ 56).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وكذلك هذا في الجماع إذا كان منه في الصوم ناسيًا. أعلام الحديث (2/ 961).
قوله: «فَلْيُتِمَّ صومَهُ»:
قال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «فليتم صومه»، وفي رواية التِّرمذيِّ من طريق قتادة عن ابن سيرين: «فلا يفطر». البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/ 56-57).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
«صومَه» مفعول «يُتِم» فسمَّاه -صلى اللَّه عليه وسلم- صومًا، والظاهر: حملُهُ على الحقيقة الشرعية، وإذا كان صومًا وقع مجْزِيًّا، ويلزم من ذلك عدم وجوب القضاء. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 512).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «فليتم صومه» ولا يَظنُّ أنه قد بطل بالأكل والشرب ولو كان كثيرًا. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 414).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فليتم صومه» يدل على مذهبنا من وجوب إتمامه فرضًا أو نفلًا، فاندفع تقييد ابن حجر بقوله: وجوبًا عليه إنْ كان فرضًا، وفي رواية سندها صحيح أو حسن: «مَن أفطر في شهر رمضان ناسيًا، فلا قضاء عليه ولا كفارة»؛ للخبر المشهور: «رُفِعَ عن أُمَّتِي الخطأ والنسيان، وما استُكْرِهُوا عليه». مرقاة المفاتيح (4/ 1390).
وقال ابن الهمام -رحمه الله-:
إلا فيما إذا أكل ناسيًا، فقيل له: أنت صائم، فلم يتذكر واستمر، ثم تذكر، فإنه يفطر عند أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ لأنه أُخْبِر بأنَّ الأكل حرام عليه، وخبر الواحد حُجَّة في الديانات، فكان يجب أنْ يلتفت إلى تأمُّل الحال، وقال زُفَر والحسن: لا يفطر؛ لأنه ناسٍ. فتح القدير (2/ 327).
وقال ابن الهمام -رحمه الله- أيضًا:
وحمْلُهُ على أنَّ المراد بالصوم: اللغوي؛ فيكون أمرًا بالإمساك بقية يومه كالحائض إذا طهُرت في أثناء اليوم، ونحوه: مدفوع:
أولًا: بأنَّ الاتفاق على أنَّ الحمل على المفهوم الشرعي حيث أمكن في لفظ الشارع واجب، فإنْ قيل: يجب ذلك للدليل على البطلان، وهو القياس الذي ذكرناه.
قلنا: حقيقة النَّصِّ مُقدَّم على القياس لو تَمَّ، فكيف وهو لا يَتِمّ، فإنه لا يلزم من البطلان مع النسيان فيما له هيئة مُذكِّرة، البطلان معه فيما لا مُذكِّر فيه، وهيئة الإحرام والاعتكاف والصلاة مُذكِّرة، فإنها تخالف الهيئة العادية، ولا كذلك الصوم، والنسيان غالب للإنسان، فلا يلزم من عدم عذره بالنسيان مع تلك، عدم عذره به مع الصوم.
وثانيًا: بأنَّ نفس اللفظ يدفعه وهو قوله: «فليتم صومه» وصومه إنما كان الشرعي، فإتمام ذلك إنما يكون بالشرعي.
وثالثًا: بأنَّ في صحيح ابن حبان وسنن الدارقطني: «أنَّ رجلًا سأل رسول الله -صلى اللّه عليه وسلم- فقال: إني كنتُ صائمًا، فأكلتُ وشربتُ ناسيًا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: أَتِمّ صومك، فإن الله أطعمك وسقاك»، وفي لفظ: «ولا قضاء عليك»، ورواه البزار بلفظ الجماعة، وزاد فيه: «ولا تفطر». فتح القدير (2/327- 328).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
هذا (أي: الحديث) صريح في الرَّدِّ على مالك -رحمه الله-، فإنه يقول: إنَّ الناسي إذا أكل بطل صومه. كشف المشكل (3/ 485).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: لا يبطل الصومُ بالأكل والشرب ناسيًا، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد، وقال مالك: يبطل الصومُ بالأكل والشرب ناسيًا. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 27).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقال الداودي: لعل مالكًا لم يبلغه الحديث، أو أَوَّلَه على رفْع الإثم. فتح الباري (4/ 155).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: دلالة لمذهب الأكثرين: أنَّ الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسيًا لا يفطر، وممن قال بهذا: الشافعي وأبو حنيفة وداود وآخرون، وقال ربيعة ومالك: يفسد صومه، وعليه القضاء دون الكفارة، وقال عطاء والأوزاعي والليث: يجب القضاء في الجماع دون الأكل، وقال أحمد: يجب في الجماع القضاء والكفارة، ولا شيء في الأكل. شرح النووي على مسلم (8/ 35).
وقال المازري -رحمه الله-:
تعلَّق المخالف في إسقاط القضاء عمَّنْ أكل في رمضان ناسيًا بظاهر هذا الخبر، ومَحْمَلُهُ عند المالكية الموجبين للقضاء: على نَفْيِ الحرج والإثم بنسيانه. المعلم بفوائد مسلم (2/ 63).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
احتجَّ به (أي: هذا الحديث) مَن أسقط القضاء عمن أفطر ناسيًا في رمضان، وهو الشافعي وغيره، وخالفهم في ذلك مالك وغيره، ولهؤلاء أن يقولوا بموجب ذلك أي: هذا الحديث إذ لم يتعرَّض فيه للقضاء، بل الذي تعرَّض له: سقوط المؤاخذة عمن أفطر ناسيًا، والأمر بِمُضِيِّه على صومه وإتمامه، وهم يقولون بكل ذلك، فأما القضاء فلا بدَّ له منه؛ إذ المطلوب صيام يوم تامٍّ لا يقع فيه خُرْم، ولم يأتِ به، فهو باقٍ عليه، هذا عذر أصحابنا عن هذا الحديث الذي جاء بنص كتاب مسلم، وفي كتاب الدارقطني لهذا الحديث مساقٌ أَنَصُّ من هذا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا قال: «إذا أكل الصائم ناسيًا أو شرب ناسيًا، فإنما هو رزقٌ ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه»، قال الدارقطني في إسناده: إسناد صحيح، وكلهم ثقات، وفي طريق آخر: «مَن أفطر في شهر رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه، ولا كفارة»، وهو صحيح أيضًا.
وهذه النصوص لا تقبل ذلك الاحتمال، والشأن في صحتها؛ فإنْ صحَّت وجب الأخذ بها، وحُكِمَ بسقوط القضاء. المفهم(3/ 221).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
اختلف الفقهاء في أكل الناسي للصوم هل يُوجِب الفساد أم لا؟ فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يُوجِب.
وذهب مالك إلى إيجاب القضاء وهو القياس، فإنَّ الصوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات، والقاعدة تقتضي أنَّ النسيان لا يُؤثِّر في طلب المأمورات، وعمدة مَن لم يُوجِب القضاء: هذا الحديث وما في معناه، أو ما يقاربه، فإنه أَمَرَ بالإتمام، وسَمَّى الذي يَتِمَّ صومًا، وظاهره: حمْلُهُ على الحقيقة الشرعية، وإذا كان صومًا وقع مجزئًّا، ويلزم من ذلك عدم وجوب القضاء، والمخالِف حمله على أنَّ المراد إتمام صورة الصوم، وهو متفق عليه، ويُجاب بما ذكرناه من حمْل الصوم على الحقيقة الشرعية، وإذا دار اللفظ بين حمله على المعنى اللغوي والشرعي، كان حمله على الشرعي أولى، اللهم إلا أنْ يكون ثَمَّ دليل خارج يقوي به هذا التأويل المرجوح، فيُعمَل به. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (ص: 270).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
والحديث دليل على أنَّ مَن أكل أو شرب أو جامع ناسيًا لصومه، فإنه لا يفطره ذلك؛ لدلالة قوله: «فليتم صومه» على أنه صائم حقيقة، وهذا قول الجمهور وزيد بن علي والباقر وأحمد بن عيسى والإمام يحيى والفريقين.
وذهب غيرهم إلى أنه يفطر، قالوا: لأن الإمساك عن المفطرات ركنُ الصوم، فحكمه حكم من نسي ركنًا من الصلاة، فإنها تجب عليه الإعادة، وإن كان ناسيًا، وتأولوا قوله: «فليتم صومه» بأنَّ المراد: فَلْيُتِمّ إمساكه عن المفطرات.
وأُجِيب بأن قوله: «فلا قضاء عليه ولا كفارة» صريح في صحة صومه، وعدم قضائه له، وقد أخرج الدارقطني إسقاط القضاء في رواية أبي رافع وسعيد المقبري والوليد بن عبد الرحمن وعطاء بن يسار كلهم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وأفتى به جماعة من الصحابة، منهم علي وزيد بن ثابت وأبو هريرة وابن عمر -رضي الله عنهم- كما قاله ابن المنذر وابن حزم.
وفي سقوط القضاء أحاديث يَشُدُّ بعضها بعضًا، ويتم الاحتجاج بها، وأما القياس على الصلاة فهو قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابلة النص، على أنه منازَع في الأصل، وقد أخرج أحمد عن مولاةٍ لبعض الصحابيات: «أنها كانت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأُتِيَ بقصعة من ثريد، فأكلتْ منها، ثم تذكرتْ أنها كانت صائمة، فقال لها ذو اليدين: الآن بعد ما شَبِعْتِ؟! فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: أَتِمِّيْ صومكِ، فإنما هو رزقٌ ساقه الله إليكِ»، وروى عبد الرزاق: «أنَّ إنسانًا جاء إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- فقال له: أصبحتُ صائمًا وطعِمْتُ؟ فقال: لا بأس، قال: ثم دخلتُ على إنسان فنسيتُ فطعِمْتُ؟ قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: أنت إنسان لم تتعوَّد الصيام». سبل السلام (1/572- 573).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث فيه دلالة على أنَّ الأكل والشرب في حال النسيان لا يُفَطِّران؛ لأنَّ ظاهر قوله: «فليتم صومه» أنَّ الصوم باقٍ، فلو كان قد أفطر وإنما أمره بالإمساك لحرمة اليوم كما قاله منْ تأَوَّل الحديث لَقَالَ: فليمسك عن الأكل؛ لأنَّ الصوم الشرعي هو ما له حُكْم الصحة، ويجب حمل اللفظ على حقيقته الشرعية ما لم تظهر قرينة صارفة عن ذلك، وقد ذهب إلى هذا الجمهور.
والخلاف في ذلك للقاسمية ومالك وابن أبي ليلى فقالوا: إنه قد أفطر بذلك؛ لأنَّ الصوم ركنه: الإمساك عن المفطرات، فحكمه حُكْم من نسي ركعة من الصَّلاة، فإنَّه يجب عليه الإعادة لما فات: الركن، وإن كان ناسيًا، قالوا: والحديث متأوَّل بأنَّ المعنى من قوله: «فليتم صومه» هو الأمر له بالإمساك لحُرمة اليوم وإنْ وجب عليه القضاء.
وأُجِيْب عن ذلك: بأن رواية الحاكم المذكورة في الأصل مُصرِّحة بصحة الصوم، وعدم وجوب القضاء، وهي حُجَّة واضحة، وإنما قال ابن العربي -رحمه الله-: لَيْته صَحَّ فَتَبِعْتُهُ وأقول به، وأما مالك فلا يلزمه القَول به؛ لأنَّ خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لم يُعمل به، وقد جاء الحديث الأول الموافق للقاعدة في رفع الإثم، فعملنا به، وأما الثاني فلا يوافقها فلم يعمل به، انتهى كلامه.
ومراده: أنَّ حديث: «فلا قضاء عليه ولا كفارة» مخالِف للقواعد، فإنَّ القاعدة الْمُتَأَصِّلَة أنه: إذا فات ركن الشيء لم يُعْتَبر حكمه. البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/ 57-58).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
واعتذر بعضُ المالكية عن الحديث بأنه خبر واحد، مخالِف للقاعدة، وهو اعتذار باطل، والحديث قاعدة مستقلة في الصيام، ولو فُتح باب رَدِّ الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل، ولَرَدَّ مَن شاء ما شاء...
ومن الغرائب: تمسُّك بعض المتأخرين في فساد الصوم، ووجوب القضاء بما وقع في حديث المجَامِع بلفظ: «واقضِ يومًا مكانه» قال: ولم يسأله هل جامع عامدًا أو ناسيًا؟ وهذا يرُدُّهُ ما وقع في أول الحديث، فإنه عند سعيد بن منصور بلفظ: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تُبْ إلى الله واستغفره، وتصدق واقضِ يومًا مكانه»، والتوبة والاستغفار إنما يكونان عن العمد لا عن الخطأ، وأيضًا بعد تسليم تنزيل ترك الاستفصال منزلة العموم يكون حديث الباب مُخصِّصًا له، فلم يبقَ ما يُوجِب ترك العمل بالحديث.
وأما اعتذار ابن دقيق العيد عن الحديث بأنَّ الصوم قد فات ركنه، وهو من باب المأمورات، والقاعدة: أنَّ النسيان لا يُؤثِّر في المأمورات، فيُجاب عنه: بأنَّ غاية هذه القاعدة الْمُدَّعاة: أنَّ تكون بمنزلة الدليل، فيكون حديث الباب مُخصِّصًا لها. نيل الأوطار (4/ 245).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: كيف وجْه الاستدلال بهذا الحديث على أنَّ الأكل والشرب ناسيًا لا يُوجِب شيئًا، ولا ينقض صومه؟
قلتُ: قوله: «فَلْيُتِمّ» أمر بالإتمام، وسُمِّي الذي يُتِمُّه صومًا، والحمل على الحقيقة الشرعية هو الوجه. عمدة القاري (11/ 18).
قوله: «فإِنما أَطْعَمَهُ الله وسَقاهُ»:
قال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «إِنما أطعمه الله وسقاه» في رواية التِّرمذيِّ: «إِنما هو رزقٌ ساقه الله إِليه». البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/ 57).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«إنما» للحصر، أي: ما أطعمه ولا سقاه أحدٌ إلا الله، فدل على أنَّ هذا النسيان من الله، ومن لطفه في حق عباده؛ تيسيرًا عليهم، ورفعًا للحرج، وعلى هذا قضاء الصلاة بعد النسيان. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1592).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فإنما» تعليل لكون الناسي لا يفطر، ووجه ذلك: أنَّ الرزق لما كان من الله، وليس فيه للعبد تَحَيُّل، فلا يُنسب إليه، شُبِّهَ الأكل ناسيًا به؛ لأنه لا صُنْع للعبد فيه، وإلا فالأكل متعمدًا حيث جاز له الفطر، رِزْقٌ من الله تعالى بإجماع العلماء، وكذلك هو رِزْق وإنْ لم يَجُزْ له الفطر على مذهب أهل السنة، وقد يَستدِل بمفهوم هذا الحديث من يقول: بأنَّ الحرام لا يُسمَّى رزقًا، وهو مذهب المعتزلة، والمسألة مقرَّرة في الأصول. عمدة القاري (11/ 18).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «إنَّما أطعمه الله» المعنى: أنه لم يأكل وهو ذاكر، إنما أطعمه الله وسقاه، ولا يعْقُب إطعام الله لعبده حرج، ولا نقص في عبادة، ولا حرمان من خير، فكان ما أطعمه الله صدقة عليه، واحتسب له بصيامه، وهذا الحديث يحتج به أحمد، وهو حجة الفقهاء كلهم في صحة صوم الآكل والشارب ناسيًا، وأنه لا يقضِ؛ سوى مالك وحده؛ فإنه يُوجِب عليه القضاء. الإفصاح عن معاني الصحاح (7/ 184).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ثم لما لم يكن أَكله وشربه باختياره المقتضي لفساد صومه، بل لأجل إنسائه تعالى له لطفًا به، وتيسيرًا عليه، بدفع الحرج عن نفسه، علَّله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «فإنما أطعمه الله وسقاه». مرقاة المفاتيح (4/ 1390).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «فإنما أطعمه الله وسقاه»... أُخِذَ منه أنه لا قضاء عليه، وأوجب القضاء طائفة، ورُدَّ ما قالوه بما في رواية الدارقطني وابن حبان وابن خزيمة بلفظ: «فلا قضاء عليه».
والحديث نصٌّ في الأكل والشرب، وإلحاق الجماع بهما بعيدٌ؛ لفقد الجامع الْمُعْتَدِّ به. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 414).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «فإنما أطعمه الله تعالى وسقاه» يعني: أنَّه لما أفطر ناسيًا لم يُنسب إليه من ذلك الفطر شيء، وتمحَّضت نسبة الإطعام والسقي إلى الله تعالى؛ إذ هو فعله؛ ولذلك قال في بعض رواياته: «فإنما هو رزقٌ ساقه الله إليه». المفهم (3/ 221).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
قوله: «فإنَّما أطعمه الله وسقاه» يُستدَل به على صحة الصوم، فإنَّ فيه إشعارًا بأنَّ الفعل الصادر منه مسلوب الإضافة إليه، والحُكْم بالفطر يلزمه الإضافة إليه، والذين قالوا بالإفطار حملوا ذلك على أنَّ المراد: الإخبار برفع الإثم عنه، وعدم المؤاخذة به. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (ص: 270).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «فإنما أطعمه الله وسقاه» هو كناية عن عدم الإثم؛ لأن الفعل إذا كان من الله كان الإثم مُنتفِيًا.نيل الأوطار (4/ 245-246).
وينظر للاستفادة الرواية الأخرى من (هنا)
من (هنا)