الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

«بينما كلب يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كاد يَقْتُلُهُ العطَشُ، إذ رأته بَغِيٌّ من بَغَايَا بني إسرائيل، فنزعت مُوقَهَا فسقته فَغُفِرَ لها به».


رواه البخاري برقم: (3467)، واللفظ له، ومسلم برقم: (2245)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«يُطِيفُ»:
بِضَم أوله أي: يَدُور حولهَا. شرح السيوطي على مسلم (5/ 263).

«بِرَكِيَّةٍ»:
بفتح الراء، وكسر الكاف، وتشديد التحتانية: البئر مطوية أو غير مطوية، وغير المطوية يقال لها: جُبٌّ وقَلِيْبٌ، ولا يقال لها: بئر حتى تُطوى. فتح الباري لابن حجر (6/ 516).

«بَغِيٌّ»:
أي: فاجِرة (زانية)، وجمعها: البغايا. النهاية لابن الأثير (1/ 144).

«مُوقَهَا»:
الموق: الخُفُّ. غريب الحديث، لابن قتيبة (2/ 340).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
والموق: ‌الذي ‌يُلْبَسُ ‌فوق ‌الْخُفِّ، فارسي مُعَرَّب. لسان العرب (10/ 350)


شرح الحديث


قوله: «بينما كلبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «يُطِيْفُ» -بضم أوله-: من أطاف، يقال: أَطفت بالشيء إذا أَدمت المرور حوله.
قوله: «بِرَكِيَّة» -بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتانية-: البئر مطوية أو غير مطوية، وغير المطوية يقال لها: جُبٌّ وقَلِيْبٌ، ولا يقال لها: بئر حتى تطوى، وقيل: الرَّكِيُّ: البئر قبل أن تُطْوَى فإذا طُوِيَت فهي الطَّوِيّ. فتح الباري (6/ 516).

قوله: «كاد يَقْتُلُهُ العَطَشُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: قارب أنْ يُهلِكه. مرقاة المفاتيح (4/ 1339).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«كاد ‌يَقتله ‌العطش» لِشِدَّتِهِ، وفي رواية: «يأكل الثرى من العطش»، أي: التراب الندي. فيض القدير (4/ 406).

قوله: «إذ رأته بَغِيٌّ من بَغَايَا بني إسرائيل»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «بَغِيٌّ» -بفتح الموحدة وكسر المعجمة-: هي الزانية، وتُطْلق على الأمة مطلقًا. فتح الباري (6/ 516).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «بَغِيٌّ» -بفتح الباء الموحدة وكسر الغين المعجمة وتشديد الياء-: وهي الزانية، وتُجْمع على: بغايا. عمدة القاري (16/ 54).

قوله: «فنزعتْ مُوقَهَا فسَقته، فَغُفِرَ لها به»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «مُوْقَها» -بضم الميم وسكون الواو بعدها قاف-: هو الْخُفُّ، وقيل: ما يُلْبَس فوق الْخُفِّ. فتح الباري (6/ 516).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «مُوْقَها» -بضم الميم وسكون الواو وفي آخره قاف-، قال بعضهم: هو الخف.
قلتُ: لا، بل الْمُوق: هو الذي يُلْبَس فوق الْخُفّ، ويقال له: الجرموق أيضًا، وهو فارسي مُعرَّب. عمدة القاري (16/ 54).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«...فنزعت مُوقَها» -بضم الميم وسكون الواو وفتح القاف-: خُفَّها؛ فارسي مُعرَّب، أو هو الذي يُلْبَس فوق الْخُفّ وهو الجرموق، فملأته من الرَّكِيَّة، «فسقته» حتى روي «فغُفِرَ لها» -بضم الغين المعجمة وكسر الفاء مبنيًّا للمفعول- أي: غفر الله للبغي «به»، وسقطت لفظة: «به» للحموي والمستملي. إرشاد الساري (5/ 430).
وقال الشيخ محمد الأمين الهروي -رحمه الله-:
«فغُفِر لها» أي: لتلك البغي ذنوبها «به» أي: بسبب استقاء الماء في مُوْقِها وسَقْيَه إياه، أي: أُوْحِيَ الغفران لذنبها إلى نبي ذلك الزمان؛ إعلامًا بتوسيع رحمة الله تعالى، وتبشيرًا لها كما بشرت الكلب بسقيه، قوله: «فغُفِرَ لها» إن كان المراد منه: غفران الصغائر لها فهو جارٍ على الأصل العام المعروف، وهو قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هود: 114، فليس خاصًّا بها، وإن كان المراد منه: غفران جميع ذنوبها صغائرها وكبائرها؛ فإنه من رحمة الله التي وسعت كل شيء، ولا يمكن القياس عليه، وعلى كلا الاحتمالين لا دلالة في الحديث على الاجتراء على الذنوب، بحجة أن حسنة مثل حسنة سقي الكلب يكفر الذنوب كلها، ويُغْفَر له بذلك، وهذا ظاهر جدًّا، -والله أعلم-. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (22/ 381).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فغُفر لها» أي: بسبب سقيها للكلب على الوجه المشروح؛ فإنه تعالى يتجاوز عن الكبيرة بالعمل اليسير إذا شاء فضلًا منه. قال ابن العربي -رحمه الله-: وهذا الحديث يحتمل كونه قبل النهي عن قتل الكلاب، وكونه بعده؛ فإن كان قبله فليس بناسخ؛ لأنه إنما أمر بقتل كلاب المدينة لا البوادي على أنه وإن وجب قتله يجب سقيه، ولا يجمع عليه حَرُّ العطش والموت، ألا ترى أن المصطفى -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- لما أمر بقتل اليهود شكوا العطش فقال: «لا تجمعوا عليهم حَرَّ السيف والعطش» فسُقُوا، واستُدِلَّ به على طهارة سؤر الكلب؛ لأن ظاهره أنها سقت الكلب من خُفِّها، ومُنِعَ باحتمال أن تكون صبَّتْه في شيء فسقته، أو غَسَلَتْ خُفَّها بعد، أو لم تلبسه؛ على أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا، ولو قلنا به فمحله ما لم ينسخ. فيض القدير (4/ 406).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وهذه امرأة بَغِيٌّ، زانية، ترى كلبًا يلهث من العطش، فتأخذها الشفقة على الكلب فتخلع حذاءها، وتملؤه ماءً، وتسقي به الكلب، فيشكر الله لها، فيغفر لها زناها.
وقع ذلك في الأمم السابقة، ويحكيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، مُرغِّبًا في الإحسان إلى الحيوان، فيقول الصحابة: إذن لنا أجر في سقينا دوابِّنا؟ فيقول -صلى الله عليه وسلم-: نعم، إن في إروائكم لأي حيوان أجرًا وثوابًا. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (9/ 13).
وقال العيني -رحمه الله-:
وفيه: دليل على قبول عمل المرتكب للكبائر من المسلمين، وأن الله تعالى يتجاوز عن الكبيرة بالعمل اليسير من الخير تفضُّلًا منه. عمدة القاري (15/ 202).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقال أبو عبد الملك: هذا الحديث كان في بني إسرائيل، وأما الإسلام فقد أمر بقتل الكلاب.
وأما قوله: «في كُل كبد» فمخصوص ببعض البهائم مما لا ضرر فيه؛ لأن المأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يقوى ليزداد ضرره، وكذا قال النووي: إن عمومه مخصوص بالحيوان المحترم وهو ما لم يؤمر بقتله فيحصل الثواب بسقيه، ويلتحق به إطعامه، وغير ذلك من وجوه الإحسان إليه.
وقال ابن التين: لا يمتنع إجراؤه على عمومه، يعني: فيسقى ثم يقتل؛ لأنا أُمِرْنا بأن نحسن القتلة ونُهِيْنَا عن الْمُثْلة.
واستُدِلَّ به على طهارة سؤر الكلب...، ومما قيل في الرد على من استَدَلَّ به: إنه فعل بعض الناس ولا ُدرى هل هو كان ممن يُقتدى به أم لا؟ والجواب: أنا لم نحتج بمجرد الفعل المذكور؛ بل إذا فَرَّعْنَا على أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ فإنا لا نأخذ بكل ما ورد عنهم، بل إذا ساقه إمام شرعنا مساق المدح إن عُلِمَ ولم يُقَيِّدْه بقيد صح الاستدلال به. فتح الباري (5/ 42).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
النص في هذا الحديث: أن في الإحسان إلى البهائم المملوكات وغير المملوكات أجرًا عظيمًا؛ يُكفر الله به السيئات، والدليل أنّ في الإساءة إليها وزرًا بقدر ذلك؛ لأن الإحسان إليها إذا كان فيه الأجر ففي الإساءة إليها -لا محالة- الوزر.
وهذا الحديث عندي يعارض ما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- في قتل الكلاب. الاستذكار (8/ 370).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذا مصداق قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نَعله، والنار مثل ذلك»، عمل يسير شَكر الله به عامل هذا العمل، وغَفر له الذنوب، وأدخله الجنة. شرح رياض الصالحين (2/ 172).
قال ابن هبيرة -رحمه الله-:
فيه من الفقه: أن الرحمة في القلوب -حتى البهائم- سببُ خِيْرَةٍ وأجر، واستعطاف لرب السماء والأرض؛ فإنه يرحم من عباده الرحماء.
وفيه: أن رحمة الدواب -حتى الكلاب التي لا أجر في اقتنائها بل وزر- أجرٌ فدل على أن رحمة ما هو أكرم منها من الدواب كالشاة، والبقر وغيرها، فيها أجر، فذكر ذلك على عادته في الإتيان بجميع الكلم فقال: «في كل كبد رطبة أجر».
وفيه أيضًا من الفقه: أن لطف الله -عز وجل- ورحمته عباده تبلغ إلى أنَّ بغيًّا من البغايا المسرفات على نفوسهن بفجورهن مدة عمرها، رحمت في وقت واحد كبدًا رطبة، جرى مكان ذلك لها وسيلة إلى الله -عز وجل- فأسقط عنها ما كان منها في عمرها؛ لإنابة لحظةٍ في رحمة دابةٍ غير كريمةٍ، فكيف رحمة الآدميين المسلمين؟! فجعل الله -عز وجل- هذا حيث قدره وقضاه منيهة لعباده إلى يوم القيامة. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 412).
وقال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله-:
ومن الرحمة: رحمة المرأة البَغي حين سقت الكلب، الذي كان يأكل الثرى من العطش، فغفر الله لها بسبب تلك الرحمة...، ومن ‌ذلك ‌ما ‌هو ‌مشاهد ‌مجرب، أن من أحسن إلى بهائمه بالإطعام والسقي والملاحظة النافعة، أن الله يبارك له فيها، ومن أساء إليها: عوقب في الدنيا قبل الآخرة، وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} المائدة:32؛ وذلك لما في قلب الأول من القسوة والغلظة والشر، وما في قلب الآخر من الرحمة والرِّقَّة والرأفة؛ إذ هو بصدد إحياء كل من له قدرة على إحيائه من الناس، كما أن ما في قلب الأول من القسوة، مستعد لقتل النفوس كلها. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 190).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
...وقريب ‌من ‌هذا ‌ما ‌قام ‌بقلب ‌البغي التي رأت ذلك الكلب -وقد اشتد به العطش يأكل الثرى- فقام بقلبها ذلك الوقت -مع عدم الآلة، وعدم المعين وعدم من تُرَائِيْه بعملها- ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، وملء الماء في خُفِّها، ولم تعبأ بتعرُّضها للتَّلف، وحملها خُفَّها بفيها، وهو ملآن، حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الْخُفَّ بيدها حتى شرب، من غير أن ترجو منه جزاءً ولا شكورًا، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فغفر لها.
فهكذا الأعمال والعمال عند الله، والغافل في غفلة من هذا الإكسير الكيماوي، الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهبًا، -والله المستعان- مدارج السالكين (1/ 341).
قال ابن بطال -رحمه الله-:
في هذه الأحاديث: الحضُّ على استعمال الرّحمة للخلق كُلهم كافرهم ومؤمنهم، ولجميع البهائم، والرفق بها. وأنّ ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا، فينبغي لكل مؤمن عاقل: أن يرغب في الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها في أبناء جنسه وفي كل حيوان، فلم يخلقه الله عبثًا، وكل أحد مسؤول عما اسْتُرْعِيَه ومُلِّكه من إنسان أو بهيمة لا تقدر على النطق وتبيين ما بها من الضر، وكذلك ينبغي أن يَرحم كل بهيمة وإن كانت في غير مُلكه، ألا ترى أن الذي سقى الكلب الذي وجدهُ بالفلاة لم يكن له ملكًا فغفر الله له، بتكلفة النزول في البئر، وإخراجه الماء في خُفِّه وسقيه إياه، وكذلك كل ما في معنى السقي من الإطعام، إلا ترى قوله -عليه السلام-: «ما من مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة». شرح صحيح البخاري (9/ 219، 220).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
إذن نأخذ من هذه قاعدة، وهي: أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- إذا قصَّ علينا قصة من بني إسرائيل فذلك من أجل أن نعتبر بها، وأن نأخذ منها عبرة، وهذا كما قال الله -عز وجل-: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} يوسف: 111، فدل هذا على أن البهائم فيها أجر، كل بهيمة أحسنت لها بسقي، أو إطعام، أو وقاية من حر، أو وقاية من برد، سواء كانت لك أو لغيرك من بني آدم، أو كانت من السوائب، فإن لك في ذلك أجرًا عند الله -عز وجل-، هذا وهُنَّ بهائم؛ فكيف بالآدميين؟ إذا أحسنت إلى الآدميين كان أشد وأكثر أجرًا؛ ولهذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «من سقى مسلمًا على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم» يعني: لو كان ولدك الصغير وقف عند البرَّادة يقول لك: أريد ماء، وأسقيته وهو ظمآن، فقد سقيت مسلمًا على ظمأ، فإن الله يسقيك من الرحيق المختوم، أجر كثير، -ولله الحمد-. شرح رياض الصالحين (2/ 173).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
وهذا الحديث فيه: دليل على أن بعض الحسنات العظيمة قد يمحو الله بها الكبائر، فهذه زانية، ولكن هذه الحسنة العظيمة غفر الله لها بها هذه الكبيرة، وهذا قد يكون مخصِّصًا لقول الله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} النساء: 31، فإن الآية فيها: أن الله تعالى اشترط في تكفير السيئات اجتناب الكبائر؛ ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر». توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (6/ 402).


ابلاغ عن خطا