الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«إنَّ أُمتي أُمّة ‌مَرْحُومَةٌ ليس عليها في الآخرة عذاب، إنما عذابها في الدنيا: القتل والبَلابِل والزَّلَازِل».


رواه أحمد برقم: (19678) واللفظ له، وأبو داود برقم: (4278)، والحاكم في المستدرك برقم: (7649)، والطبراني في الأوسط برقم: (974)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم: (9342) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (1396)، وصحيح سنن أبي داود برقم: (4278).


شرح مختصر الحديث


خَصَّ اللهُ تَعالَى هذِهِ الأُمَّةَ المحَمَّديَّةَ بِكَرَاماتٍ، مِنْها: ما جاءَ في قولِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في هَذا الحديث: «إنَّ أُمَّتي» والمرادُ: عموم أُمَّتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- «أمَّةٌ مرْحُومةٌ» أي: مَخصُوصةٌ بالرَّحمةِ والرَّأفَةِ بِهَا، بِعَكْسِ الأمَمِ السَّابقَةِ التي ضُرِبَت عليهم الآصارُ والأثقالُ؛ ولِهَذا جاءَ نبيُّهَا رحمةً للعالمينَ، وسمِّي نَبيِّ المرْحمَةِ.
وقد نَفَى عنها العذابَ في الآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: «ليسَ عَليها عذَابٌ في الآخِرَةِ» وهَذَا باعتبارِ المجموعِ لا مِن حيثُ الأَفْرَادِ؛ لأنَّه قدَ ثَبَتَ أنَّ منهم مَن يَدخلُ النَّارَ للتَّطهيرِ، أو يَكونُ المرادُ: أنَّ مَن عُذِّبَ منهم لا يُعذَّبُ كعذابِ الكَافِرينَ، أو يُحملُ عَلى مَن لم يَأتِ منهم بِكبيرةٍ، وإلا فمَن ارتكبَ كبيرةً فهو تحتَ المشيئةِ؛ لقولِ اللهِ تَعالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48.
ثمَّ قالَ: «إنَّما عذابُهَا في الدنيا: القتلُ» بحيثُ يقتلُ بعضُهُم بعضًا، أو يقتُلُهم غيرُهُم، وفي هذا إشارة إلى مَا سيقَعُ بيْنهم مِن حُروبٍ وفتنٍ واختلافٍ، «والبلابلُ» وهي عامَّةٌ في المصائب كلها، «والزَّلازِلُ» وهِي: إمَّا تَحَرُّك الأرضِ وَاضْطِرَابُهَا ، أو مُطْلَقُ الشَّدائِد والأَهْوَال، وهذا يدلُّ عَلَى أنَّ غَالِبَ هَذَهِ الأُمَّةِ يُجْزَونَ بأعمالِهِم في الدُّنيا: بالمحنِ والأمراضِ وأنواعِ البلايا، ولا شكَّ أنَّ عذابَ الدُّنيا أَهْوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ.


غريب الحديث


«البَلابِل»:
الهموم والأَحزان. المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث لأبي موسى المديني (1/ 184).


شرح الحديث


قوله: «إنَّ أمتي أمة ‌مَرْحُومَة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أُمَّتي هذه» أي: أمة الإجابة الموجودة ذهنًا المعهودة معنىً، كأنها المذكورة حسًّا، «أمة مرحومة» أي: رحمة زائدة على سائر الأمم؛ لكون نبيهم رحمة للعالمين، بل مسمى بنبي الرحمة، وهم خير أمة. مرقاة المفاتيح (8/ 3372).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«أمة مرحومة» خصص... للموجودين من أمته، وهم أهل قرنه عموم أمته -صلى اللَّه عليه وسلم- التي تعم الموجودين والقرون الحادثة بعده، وفي هذا تشريفُ وتمييزُ فضله لقرنه الذي هو فيهم، أنهم لا عذاب عليهم في الآخرة، كما خصص في الحديث قبله بضمير الخطاب الذي هو للموحدين في قوله: «إن حسبكم» في دفع العذاب عنكم في الآخرة القتل في الدنيا؛ إذ هو طُهْرَة لكم، وفي معنى القرن: الموحِّدُون التابعون لهم بإحسان...، وأما غيرهم من أمته فإنه إذا قتل أو زنى أو سرق يستحق العذاب في الآخرة، إلا أن يتوب، أو يعفو اللَّه عنه، كما تقدم، هذا ما ظهر لي، ويحتمل غير ذلك، -واللَّه أعلم-.
وقوله: «أمة مرحومة» أي: جماعة مخصوصة بالرحمة الشاملة، فإنَّ الأمة تطلق على الجماعة؛ بل على الواحد المنفرد بدين، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: «قِسُّ بن ساعدة يبعثه اللَّه يوم القيامة أمة وحده». شرح سنن أبي داود (17/ 54-55).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أمتي هذه» أي: الموجودين الآن -كما عليه ابن رسلان- وهم قرنه، ويحتمل: إرادة أمة الإجابة، «أمة مرحومة» أي: جماعة مخصوصة بمزيد الرحمة وإتمام النعمة، موسومة بذلك في الكتب المتقدمة. فيض القدير (2/ 185).
قال الكلاباذي -رحمه الله-:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ ‌أمتي ‌أمة ‌مرحومة إنما جُعِل عذابها في القتل والزلازل والفتن»؛ فلما كان اختلافهم فيما دون التوحيد من الشرائع التي يجوز الاختلاف فيها، والاختلاف فيها رحمة للمسلمين، وتوسعة من الله تعالى؛ لئلا يضيق بهم الأمر، ولا يحملوا ما لا يطيقون من إصابة الحق الذي هو وهن الحق؛ كما قال -عزَّ وجلَّ-: {لَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} البقرة: 286. بحر الفوائد (ص: 315).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
وهذه الرحمة هي المشار إليها بقوله تعالى: {‌وَرَحْمَتِي ‌وَسِعَتْ ‌كُلَّ ‌شَيْءٍ ‌فَسَأَكْتُبُهَا ‌لِلَّذِينَ ‌يَتَّقُونَ} الأعراف: 156 إلى قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الأعراف: 157، أراد موسى -عليه السلام- أن يخص هذه الرحمة بأمته، فأجابه تعالى بأنها مختصة بأمة النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم-، وإنْ شئتَ فجَّرتَ ذهنك في الآيات لتقف على سر ما ذكرتُ. شرح المشكاة (11/ 3399).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أمتي هذه أمة مرحومة» بَيَّنَ ذلك بقوله: «ليس عليها عذاب في الآخرة»؛ بل يُعَجّل لها ما يكفر عنها الذنوب. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 239).
وقال السندي -رحمه الله-:
وقد ورد في شأن أمة نوح -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- يغفر لكم من ذنوبكم بـ (من) التبعيضية، نعم قد علم أنَّ المغفرة مقيدة بمشيئة الله، لكن المطلوب بيان أنَّ الغالب في حق هؤلاء هو المغفرة عمومًا، بسبب ما وقع عليهم من المصائب، بخلاف غيرهم من الأمم، -والله تعالى أعلم-. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (4/ 222).

وقوله: «ليس عليها في الآخرة عذاب»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: شديد، «في الآخرة» بل غالب عذابهم أنهم مجزيون بأعمالهم في الدنيا بالمحن والأمراض وأنواع البلايا، كما حقق في قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} النساء: 123. مرقاة المفاتيح (8/ 3372).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ليس عليها عذاب في الآخرة» بمعنى: أنّ مَن عُذِّب منهم لا يحس بألم النار؛ لأنهم إذا دخلوها أُمِيْتُوا فيها، وزَعْم أنَّ المراد: لا عذاب عليها في عموم الأعضاء؛ لكون أعضاء الوضوء لا تمسها النار تكلُّف مستغنىً عنه. فيض القدير (2/ 185).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ليس عليها عذاب في الآخرة» تأويله: أنَّ المراد: مَن اقتدى به -صلى الله عليه وسلم- كما ينبغي، ويحبُّه قولًا وعملًا، أو يكون المراد: عذاب دائم؛ لأن مَن فعلَ كبيرةً فقد استحق العذابَ، ثم أمرُه إلى الله؛ إن شاء الله عاقبه، وإن شاء عفا عنه. شرح المصابيح (5/ 476).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ليس عليها عذاب في الآخرة» لا في جهنم، ولا فيما قبلها، بل كلهم رضي اللَّه عنهم وغفر لهم، لكن «عذابها في الدنيا» كثرة الفتن التي كانت في زمانهم أي: الصحابة على تفسيره المراد بالأمة هنا: الصحابة. شرح سنن أبي داود (17/ 54-55).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ولا يخفى عليك أنَّ هذا كله مما لا يدفع الإشكال، فإنه لا شك عند أرباب الحال أنَّ رحمة هذه الأمة إنما هي على وجه الكمال، وإنما الكلام في أن هذا الحديث بظاهره يدل على أن أحدًا منهم لا يعذب في الآخرة، وقد تواترت الأحاديث في أن جماعة هذه الأمة من أهل الكبائر يعذبون في النار، ثم يخرجون إِما بالشفاعة، وإما بعفو الملك الغفار، وهذا منطوق الحديث، ومعناه المأخوذ من ألفاظه ومبناه، وليس بمفهومه المتعارف المختلف في اعتباره حتى يصح قوله: أن هذا المفهوم مهجور، بل المراد بمفهومه في كلام المظهِر المعلوم في العبارة.
ثم قول الطيبي -رحمه الله-: وليست هذه الخاصية -وهي كفارة الذنوب بالبلية- لسائر الأمم تحتاج إلى دليل مثبت، ولا عبرة بما فُهِم من المفهوم من قوله: «عذابها في الدنيا الفتن» إلى آخره، فإنه قابل للتقييد بكون وقوع عذابها بها غالبًا. مرقاة المفاتيح (8/ 3373).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ليس عليها عذاب في الآخرة» بل يُعجَّل لها ما يكفِّر عنها الذنوب. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 239).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
وأعلم أنَّ هذه الأحاديث وأمثالها في فضل الأمة هي للمجموع من حيث هو، فلا ينافيه خروج أفراد منه، وهذا مثل أحاديث: عصمتها عن الضلال؛ فإنه للمجموع لا للأفراد، وبهذا تجتمع الأحاديث المخوِّفة والمبشِّرة. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 240).

قوله: «إنما عذابها في الدنيا القتل والبَلابِل والزَّلَازِل»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«القتل» أي: بغير حق، وقيل: الحديث خاصٌّ بجماعة لم تأتِ كبيرة، ويمكن أن تكون الإشارة إلى جماعة خاصة من الأمة، وهم المشاهدون من الصحابة، أو المشيئة مقدرة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48. مرقاة المفاتيح (8/ 3372).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «البلابل» هي الهموم والأحزان، وبلبلة الصدر: وسواسه. حاشية السندي على مسند أحمد (4/488).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«والزلازل» جمع زلزلة، وأصلها: تحرك الأرض واضطرابها من احتباس البخار فيها لِغِلَظِه أو لتكاثف وجه الأرض، ثم استُعْمِلَت في الشدائد والأهوال...فيض القدير (2/ 185).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إنما ‌عذابها ‌في ‌الدنيا» فيما بينها، وإذاقة بعضها بأس بعض، «والزلازل» التي تُفْزِع أهلها، «والقتل والبلايا» عامٌّ للمصائب كلها. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 239).
وقال السهيلي -رحمه الله-:
فإذا كانت الفتن سببًا لصرف عذاب الآخرة عن الأمة، فما خاب دعاؤه لهم. الروض ‌الأُنُف (1/ 210).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «والزلازل» فقد وقعت في زمن الصحابة، وصلُّوا لها، قال البيهقي: صح عن ابن عباس عن عبد اللَّه بن الحارث عنه: أنه صلى في زلزلة بالبصرة، فأطال. شرح سنن أبي داود (17/ 55).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«والزلازل» أي: الشدائد ولأهوال...، وعذاب الدنيا أخفُّ من عذاب الآخرة. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 339).
وقال المظهري -رحمه الله-:
هذا الحديث مشكل؛ لأن ‌مفهومه: ‌أن ‌لا ‌يُعَذَّبَ ‌أحد مِن أُمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيلزم أن لا يُعَذَّب من قتل من المسلمين أعدادًا كثيرة، وسرق أموالهم وآذاهم وقذفهم، وفعل الكبائر كُلها، ومعلوم أن هذا لم يَقُل به أَحدٌّ، وقد جاءت أحاديث بتعذيب الزاني والقاتل بغير الحق والقاذف، وغيرهم من أصحاب الكبائر.
وتأويل هذا الحديث: أن قوله: «أمتي هذه أمة مرحومة» أراد بهم: مَن اقتداه (أي: اقتدى به) -صلى الله عليه وسلم- كما ينبغي، ويحب الله ورسوله، فأمّا من فعل كبيرة فقد استحق العذاب، ثم أُمره إلى الله تعالى، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 340- 341).
قال الطيبي -رحمه الله- (بعد نقل كلام المظهر -رحمه الله- السابق):
أقول: الحديث وارد في مَدح أُمته -صلى الله عليه وسلم- واختصاصهم من بين سائر الأمم بعناية الله تعالى ورحمته عليهم، وأنهم إن أصيبوا بمصيبة في الدنيا حتى الشوكة يشاكها، أن الله يكفر بها في الآخرة ذنبًا من ذنوبه، وليست هذه الخاصية لسائر الأمم، ويؤيدهُ ذِكر هذه وتعقيبها بقوله: «مرحومة»؛ فإنه يدل على مزيد تميزهم بعناية الله ورحمته. شرح المشكاة (11/ 3399).
وقال المناوي-رحمه الله-:
شأن الأمم السابقة يجري على طريق العدل وأساس الربوبية، وشأن هذه الأمة يجري على منهج الفضل والألوهية، فمن ثَمَّ ظهرتْ في بني إسرائيل السياحة والرهبانية، وعليهم في شريعتهم الأغلال والآصار، وظهرتْ في هذه الأمة السماحة والصديقية، ففك عنهم الأغلال ووضع عنهم الآصار. فيض القدير (2/ 185).


ابلاغ عن خطا