الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

«إنَّ الدنيا حُلْوَة خَضِرَة، وإنَّ الله مُستخلِفُكُم فيها، فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء»، وفي حديث ابن بشار: «لِيَنْظُرَ كيف تعملون؟».


رواه مسلم برقم: (2742)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. 


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«الدُّنيا»:
تأنيث (أدنى)، ثم غُلِّبَتْ على هذه الدار؛ لدناءتها وخِسَّتها، أو لدُنُوِّها إلى الزوال. شرح المصابيح، لابن الملك (1/ 16).

«خَضِرَةٌ»:
بفتح الخاء، وكسر الضاد المعجمتين، أي: غَضَّة ناعمة طرِيَّة. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 41).

«حُلْوَةٌ»:
بالضم، والحلاوة: ضدُّ المرارة. المحكم والمحيط الأعظم(4/ 3).

«مُسْتَخْلِفُكُم»:
الخليفة: مَن استُخْلِف مكان مَنْ قبله، ويقوم مقامه. العين (4/ 267).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
أي: جعلكم خُلفاء فيها عمن كان قبلكم؛ فإنها لم تَصِلْ إلى قوم إلا بعد ذهاب آخرين. المفهم (7/ 312).

«فتنة»:
الفاء والتاء والنون أصلٌ صحيح، يدل على ابتلاء واختبار، من ذلك: الفتنة. مقاييس اللغة (4/ 472).


شرح الحديث


قوله: «إنَّ الدنيا حُلْوةٌ خَضِرَةٌ»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
أي: مُستطابة في ذوقها، مُعْجِبَة في منظرها، كالثمر المستَحْلَى المعجِب المرأَى. المفهم (7/ 312/313).
وقال النووي -رحمه الله-:
ومعنى: «الدنيا خَضِرَة حُلْوَة» يحتمل: أن المراد به شيئان:
أحدهما: حسْنُها للنفوس، ونضارتُها ولذَّتُها، كالفاكهة الخضراء الحلوة، فإنَّ النفوس تطلبها طلبًا حثيثًا؛ فكذا الدنيا.
والثاني: سرعة فنائها، كالشيء الأخضر في هذين الوصفين. شرح النووي على مسلم (17/ 55).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أي: مُشتهاة، والنفوس إليها مائلة جدًا.شرح المشكاة (9/ 2772).
وقال -رحمه الله- أيضًا:
أي: طيِّبَة مُزَيَّنَةٌ في عيونكم وقلوبكم، أي: جعل الله الدنيا مُزَيَّنَة لكم ابتلاءً واختبارًا. شرح المشكاة (7/ 2260).
وقال -رحمه الله- أَيضًا:
كناية عن كونها غرَّارَة، يفتتن الناس بلونها وطعمها، وليس تحتها طائل. شرح المشكاة (10/ 3265).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وإِنّما وصفها بالخضرة؛ لأن العرب تسمي الشيء الناعم خَضِرًا، أو لتشبُّهِهَا بالخضروات في سرعة زوالها. مرقاة المفاتيح(5/ 2044).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: مُشْتَهاة مُوْنِقَهٌ، تُعجِب الناظر، فمن استكثر منها أهلَكَتْه، كالبهيمة إذا أكثرت من أكل الزرع الأخضر. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 12).
وقال -رحمه الله- أيضًا:
مُسْتَحْلَاةُ الطَّعْمِ. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 13).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: حُلْوة المذاق، صعبة الفراق، قال في (المطامح): فيه استعارة مجازِيَّة، ومعجزة نبوية، فخُضْرَتُها عبارة عن زهرتها وحسنها، وحلاوتُها كناية عن كونها محَبَّبَة للنفوس، مُزَيَّنَة للناظرين، وهو إخبار عن غيب واقع.فيض القدير (1/ 243).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«إنَّ الدنيا حُلوةٌ خَضِرَةٌ» أي: ناعمةٌ طَرِيَّةٌ؛ يعني: الدنيا طيِّبة مليحة في عيون الناس، وقلوبهم، لا يشبعون من جمع المال، ومن الجاه.
وفيه: تنبيهٌ على شدة انْجِذَاب النفوس إليها؛ لأن كل واحد من هذَين الوصفَين تميل إليه النفوسُ، فإذا اجتمعتا كانت إليه أَمْيَلَ. شرح المصابيح (5/ 371).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إنَّ الدنيا حُلْوةٌ خَضِرة» أقول: أنَّثَ الخبر؛ لأن الدنيا مؤنثة، وشبهها في الرغبة فيها، والميل إليها، ومحبتها، وحرص النفوس عليها بالفاكهة الْمُسْتَلَذَّة، فإنَّ كلًّا من الخضرة والحلو مرغوب فيه على انفراده، فكيف إذا اجتمعا؟!
والمراد بالدنيا: كل ما فيه لَذَّة للنفوس من شهواتها ولذَّاتها الحسنة وغير الحسنة. والإخبار عنها بما ذكر تحذير عن الاغترار بها. التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 404).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
الْخَضِرُ نوعٌ من البَقُول، ليس من أحرارها وجيدها، فشبه الدنيا بالرغبة فيها، والميل إليها بالفاكهة الحلوة الخَضِرَة، فإن الحلو مرغوب فيه من حيث الذوق، والأخضر مرغوب فيه من حيث النظر، فإذا اجتمعا زادت الرغبة.
وفيه: إشارة إلى عدم بقائها، وهو من التشبيه المطوي فيه الأداة. قيل: والفرق بين هذا النوع والاستعارة أن هذا لا يتغير حسنه إذا ظهرت الأداة، فإن قولك: (المال خَضِرَة في الحسن) كقولك: (المال كالخضرة)، ولا كذلك الاستعارة؛ فإن قولك: (رأيتُ أسدًا يرمي) ليس كقولك: (رأيتُ رجلًا كأسد) ذكره العاقولي. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 256).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: إخباره عنها بخضرتها وحلاوتها يناقضه إخباره في عدة أخبار بقذارتها، وأن الله جعل البول والغائط مثلًا لها؟
قلتُ: لا منافاة، فإنها جيفة قَذِرَة في مرأى البصائر، وحُلْوَة خَضِرَة في مرأى الأبصار، فذكر أنها جيفة قذرة للتنفير، وهنا كونها حُلْوَة خَضِرَة للتحذير، فكأنه قال: لا تغُرَّنَّكم بحلاوتها وخضرتها، فإنَّ حلاوتها في الحقيقة مرارة، وخضرتها يبس، فلله دَرُّ كلام المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما أبدعه! فيض القدير (1/ 243).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فقال: «إنَّ الدنيا حلوة خضرة» حُلْوَة في المذاق، خَضِرَة في المرأى، والشيء إذا كان خَضِرًا حلوًا، فإنَّ العين تطلبه أولًا، ثم تطلبه النفس ثانيًا، والشيء إذا اجتمع فيه طلب العين، وطلب النفس، فإنه يوشك للإنسان أن يقع فيه، فالدنيا حُلْوَة في مذاقها، خضرة في مرآها، فيغتر الإنسان بها، وينهمك فيها، ويجعلها أكبر همه. شرح رياض الصالحين (1/ 524).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
فأطيب ما يُذَاق وأفضل ما يُذَاق الحلو، وأفضل الألوان الخضرة، فهذه الدنيا تتشكَّل للناس وتستهويهم وتغرُّهم بزخرفها، فتبدو كأنها حُلْوَة خَضِرَة، وإلا مثل هذا لا ينطلي على من عرف حقيقة الدنيا، وأنها ملعونة؛ لكنها تبدو للناس بهذا الشكل، حُلْوَة خَضِرَة، فعلى الإنسان أن يحذر منها، وأن لا ينجرف إلى ما أُودع فيها. شرح جوامع الأخبار (9/ 5).

قوله: «وإنَّ اللهَ مُستَخْلِفَكُم فيها»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
الاستخلاف: إقامة الغير مقام نفسه. شرح المشكاة (7/ 2260).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ الله مستخلفكم فيها» أي: جعلكم فيها خُلفاء ممن كان قبلكم؛ فإنها لم تصل إلى قوم إلا بعد ذهاب آخرين. المفهم (7/ 312).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «وإنَّ الله مستخلفكم»: الاستخلاف: إقامةُ أحدٍ مقام أحدٍ؛ يعني: جعل الله الدنيا في أيديكم، فينظر: هل تتصرفون كما يحبُّ ويرضى بالتصدق وأداء الزكاة ووجوب البر، أم تعصونه بصرف ما أعطاكم من المال في الفواحش؟ المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 11).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: أنتم بمنزلة الوكلاء في التصرف فيها، وإنما هي في الحقيقة لله تعالى. مرقاة المفاتيح (5/ 2044).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: ‌جاعلكم ‌خُلفاء ‌في ‌الدّنيا ‌أي: ‌أنتم ‌بمنزلة ‌الوكلاء ‌في ‌التّصرف فيها، وإِنما هي في الحقيقة لله تعالى. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 2044).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وإنَّ الله مستخلِفكم فيها» بكسر اللام، أي: جعلكم خلفاء في الدنيا، أي: أنتم بمنزلة الوكلاء فيها.
وقيل: معناه: جعلكم خلفاء ممن كان قبلكم، فإنها لم تصل إلى قوم إلا بعد آخرين. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 256).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «مستخلفكم فيها» أقول: هو مأخوذ من قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} الأعراف: 129، ومن قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} النور: 55، الآية، أي: يجعلكم خَلَفًا عن سلف، ويُمكِّن لكم فيها، فناظر كيف تعملون فيما استخلفكم فيه؟ وهو عالم بما تعملون، لكنه أراد إبراز علمه اليقين إلى عين اليقين، وهو تحذير من الاغترار بالدنيا.
وقد امتنَّ الله على عباده في عدة آيات بأنه جعلهم خلائف الأرض، وخلائف في الأرض، كما قالت الرسل لأممهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} الأعراف: 69، كما قاله هود لقومه، وكما قاله صالح لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} الأعراف: 74، الآية.
وفي هذه الأخبار منه تعالى ومن رسوله -صلى الله عليه وسلم- تزهيد، وأنها كانت تحت يد أقوام فارقوها، كذلك أنتم مفارقون لها؛ ولذا قيل:
إذا أنت لا تدري متى أنت ميت *** وقبرك لا تدري بأي مكان؟
فحسبك قول الناس فيما ملكته *** لقد كان هذا مرة لفلانِ
وهو نظير قوله: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} الحديد: 7. التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/405).

قوله: «فينظرَ كيف تعملون؟»:
قال أبو العباس القرطبي-رحمه الله-:
قوله: «فينظر كيف تعملون؟» أي: يبصر أعمالكم، فيجازي كلًّا بعمله؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فَشَرٌّ. المفهم (7/ 312).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أي: فينظر هل تتصرفون فيها كما يحب ويرضى، أو تسخطونه وتتصرفون فيها بغير ما يحب ويرضى؟ شرح المشكاة (7/ 2260).
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
جاعلكم خلفاء من كان قبلكم، وقد أعطى ما في أيديهم إياكم، فينظر كيف تعتبرون بحالهم، وتتدبرون في مآلهم؟ مرقاة المفاتيح(5/ 2044).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فينظر» أي: فيعلم علم مشاهدة وعيان «كيف تعملون؟» من إنفاقها في مراضيه، فتُثَابون، أو في مساخطه فتأثمون، فإن الجزاء إنما يترتب على ما يبدو في عالم الشهادة من الأعمال كما تقدم، أو «فينظر كيف تعملون؟» أي: أتعتبرون بحالهم وتتدبرون في مآلهم؟ دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 256).

قوله: «فاتَّقوا الدُّنيا»:
قال الطيبي-رحمه الله-:
أي: احذروا من الاغترار بما في الدنيا؛ فإنه في وشك الزوال. شرح المشكاة (7/ 2260).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فاتقوا الدنيا» أي: احذروا من الاغترار بما فيها من الجاه والمال، فإنها في وشك الزوال، واقنعوا فيها بما يعينكم على حسن المآل، فإنه لَحَلَالُهَا حساب، ولَحَرَامُهَا عذاب. مرقاة المفاتيح (5/2044-2045).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فاتقوا الدنيا» أي: من ميلكم إلى زهرتها وحلاوتها وخضرتها عما يُطلَب منكم؛ من الوقوف عند ما أُبيح لكم دون ما حظر عليكم، والفاء فيه فصيحة، أي: إذا علمتم أن ما تعملون فيها بمرأى من الله تعالى، فاتقوه في ذلك. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/ 383).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
«فاتقوا الدنيا» أي: احذروا زيادتها على قدر الحاجة المعينة للدِّين، النافعة في الأخرى. تحفة الأحوذي (6/ 356).
وقال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله-:
أخبر -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث بحال الدنيا، وما هي عليه من الوصف الذي يروق الناظرين والذائقين، ثم أخبر أنَّ الله جعلها محنة وابتلاء للعباد، ثم أمر بفعل الأسباب التي تقي من الوقوع في فتنتها. بهجة قلوب الأبرار (ص: 177).

قوله: «واتَّقوا النِّساء»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
واحذروا فتنة النساء فإنهن أول فتنة بني إسرائيل، وفتنتهن على الرجال أشد كل فتنة، والمحنة بهن أعظم كل محنة؛ لأن النفوس مجبولة على الميل إليهن، وعلى اتباع أهوائهن، مع نقص عقولهن، وفساد آرائهن، ومن مَلَكَ قيادَه سفيهٌ ناقصٌ، فَجَدُّهُ -حضُّه- ناكص. المفهم (7/ 312/313).
قال الطيبي -رحمه الله-:
احذروا أن تميلوا إلى النساء بالحرام. شرح المشكاة (7/ 2260).
وقال العيني -رحمه الله-:
غالبًا (الزوجة) تُرغِّب زوجها عن طلب الدِّين، وأي فساد أضَرُّ من ذلك؟! عمدة القاري (20/ 90).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«واتقوا النساء» أي: اجتنبوا الافتتان بهن، أي: أن يمنعكم التمتع بهن لاستيلاء محبتهن عن القيام بأداء حقوق العبودية، والتقرُّب إلى مراضي الله تعالى، فإنَّ بمقدار محبة السوي، والركون إليه البعد عن المولى، ويدخل فيهن كما قال المصنف: الزوجات، وهن أكثر فتنة؛ لدوام فتنتهن، وابتلاء أكثر الناس بِهِنَّ. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 256).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «واتقوا النساء» أقول: تخصيصٌ بعد التعميم، من باب عطف {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} البقرة: 98، على الملائكة؛ لبيان شرفهما، وهنا خَصَّهُنَّ مع دخولهن في الدنيا، زيادة للتحذير من فتنتهن، فهن أعظم شهوات الدنيا؛ ولذا قدَّم تعالى ذكرهن في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} آل عمران: 14، الآية، فقدمهن على الستة الأشياء التي ذكرها في الآية، فإن القناطير المقنطرة أحد الستة، وإنما بينت بأنها الذهب والفضة، وقدمهن -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «حبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب» الحديث.
والفتنة: هي الامتحان، والابتلاء، والاختبار. التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 406).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«واتقوا النساء» أي: احذروهن، وهذا يشمل الحذر من المرأة في كيدها مع زوجها، ويشمل أيضًا الحذر من النساء وفتنتهن. شرح رياض الصالحين (1/ 525).
وقال النووي -رحمه الله-:
وتدخل في النساء الزوجات وغيرهن، وأكثرهن فتنة: الزوجات؛ لدوام فتنتهن، وابتلاء أكثر الناس بهن. شرح النووي على مسلم (17/ 55).

قوله: «فإنَّ أوَّل فتنة بني إسرائيل كانت في النِّساء»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
أول فتنة في بني إسرائيل: أنَّ رجلًا منهم اسمه (عاميل) طلب منه ابن أخيه -وقيل: ابن عمه- أن يُزَوِّجَه ابنته فلم يزوجها منه، فقتله؛ لينكح ابنته، وقيل: لينكح زوجته، وهو الذي نزلت فيه قصة البقرة، والله أعلم بصحته.شرح المشكاة (7/ 2261).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- (معلقًا على ما ذكر الطيبي):
لكن حَمل الحديث عليه يحتاج إلى صحة نقل، وثبوت رواية. مرقاة المفاتيح (5/ 2045).
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» أي: في شأنهن وأمرهن. وهو تخصيصٌ بعد تعميم؛ إشارة إلى أنها أضرُّ ما في الدنيا من البلايا. مرقاة المفاتيح (5/ 2045).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» أي: بسببهن، فهو كحديث: «عُذِّبت امرأة في هِرَّة» قال شارح «الأنوار السنية» يحتمل: أن يكون إشارة إلى قصة هاروت وماروت؛ لأنهما فُتنا بسبب امرأة من بني إسرائيل.
ويحتمل: أن يكون إشارة إلى قصة بلعام بن باعوراء؛ لأنه إنما هلك بمطاوعة زوجته، وبسببهن هلك كثير من الفضلاء. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 256).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» أقول: لا أعرف أول فتنة بني إسرائيل بالنساء، فمن عرفه فليلحقه، ولكن أول فتنة في الكون كانت من أول امرأة فيه، فإنَّ حوَّاء أم البشر هي حسَّنت لآدم أبي البشر أكله من الشجرة التي كانت سببًا لأعظم الفتن من الخروج من الجنة، وتحمُّل فتن الدنيا، وكانت أول فتنة في الدنيا من النساء؛ فكان قتل هابيل وهو أول دم سفك على وجه الأرض بسبب النساء.
أما الأول: فإنه أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن مسعود وناس من الصحابة قصة طويلة، ومنها: أنه قال إبليس: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} طه: 120، فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم، كُلْ، فإني قد أكلت فلم يضرني؛ {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} طه: 121، والروايات في هذا واسعة.
وأما الثاني: فإنه أخرج ابن جرير، عن ابن مسعود وناس من الصحابة: أنه كان لا يُولَد لآدم مولود إلا ومعه جارية، فكان يُزوج غلام هذا البطن جارية البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام البطن الآخر، حتى ولد له اثنان، يقال لهما: هابيل وقابيل، وكان قابيل أكبرهما، وكانت له أخت أحسن من أخت هابيل، وكان هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه... الحديث، إلى أن قال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي فقتله، كما حكاه الله. التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 406-407).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» فافتتنوا في النساء، فضلوا وأضلوا -والعياذ بالله-؛ ولذلك نجد أعداءنا وأعداء ديننا، أعداء شريعة الله -عز وجل- يُركِّزون اليوم على مسألة النساء وتبرجهن، واختلاطهن بالرجال، ومشاركتهن للرجال في الأعمال، حتى يصبح الناس كأنهم الحمير، لا يهمهم إلا بطونهم وفروجهم -والعياذ بالله-، وتصبح النساء وكأنهن دُمَى، أي: صور، لا يهتم الناس إلا بشكل المرأة، كيف يزينونها، وكيف يجملونها، وكيف يأتون لها بالمجملات والمحسنات، وما يتعلق بالشعر، وما يتعلق بالجِلد، ونتف الشعر والساق والذراع والوجه، وكل شيء، حتى يجعلوا أكبر هم النساء أن تكون المرأة كالصورة من البلاستيك، لا يهمها عبادة، ولا يهمها أولاد.
ثم إنَّ أعداءنا أعداء دين الله، وأعداء شريعته، وأعداء الحياء يريدون أن يقحموا المرأة في وظائف الرجال، حتى يُضَيِّقوا على الرجال الخناق، ويجعلوا الشباب يتسَكَّعون في الأسواق، ليس لهم شغل، ويحصل من فراغهم هذا شر كبير، وفتنة عظيمة. شرح رياض الصالحين (1/ 525).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» أول فتنتهم كانت في النساء، ثم بعد ذلك استُدرِجوا في المعاصي بعد هذه الفتنة، وزاولوا غيرها من الفتن إلى أن خرجوا من دينهم، -والله المستعان-. شرح جوامع الأخبار (9/ 5).

قوله: وفي حديث ابن بشار: «لينظر كيف تعملون؟»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «وَفِي حَدِيثِ ابْنِ بَشَّارٍ» يعني: محمد بن بشَّار شيخه الثاني «لِيَنْظُرَ كيف تعملون؟» أشار به على اختلاف شيخيه في هذه اللفظة، فمحمد بن المثنَّى رواه بلفظ: «فينظر»، ورواه محمد بن بشَّار بلفظ: «لينظر»، ولا خلاف في المعنى، بل الغرض بيان الاختلاف؛ أداء للأمانة العلميّة، فيؤدّي كلّ لفظة كما سمعها من شيخه، وهذا من ورع المحدّثين، واحتياطاتهم، فللَّه درّهم، ما أشدّ ورعهم، وتقواهم، -والله تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (42/ 497).
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
في فوائده -أي: هذا الحديث-:
منها: بيان ما كان عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من الشفقة بأمته، حيث كان يُحذّرهم مما يكون سبب هلاكهم في الدنيا والآخرة، فقد حذّرهم في هذا الحديث عن الافتتان بالدنيا والنساء.
ومنها: مشروعيّة ضرب الأمثال؛ لإيضاح المسائل.
ومنها: بيان كون الدنيا حسنة المنظر، حلوة المذاق؛ لكنها سريعة الزوال، فلا ينبغي لعاقل الاغترار بزخارفها.
ومنها: التحذير من الافتتان بالنساء، فإنهنّ أخطر ما يغترّ بهنّ الرجال؛ ولذا قدّمنهنّ الله -عزَّ وجلَّ- في تعداد شهوات النفس، فقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} الآية، آل عمران: 14، كما إشارة إلى عِظَم فتنتهنّ، فالواجب على العاقل أن يأخذ الحذر منهنّ، ومن الدنيا، فيجتنب الميل إليهنّ، فيسلك مسلك التوسّط في ذلك، لا تفريط ولا إفراط.
ومنها: ما قاله في (الفتح): وفي الحديث: أنَّ الفتنة بالنساء أشدّ من الفتنة بغيرهنّ، ويشهد له قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} آل عمران: 14، فجعلهنّ من حب الشهوات، وبدأ بهنّ قبل بقية الأنواع؛ إشارةً إلى أنهنّ الأصل في ذلك، ويقع في المشاهدة حبّ الرجل ولده من امرأته التي هي عنده أكثر من حبه ولده من غيرها، ومن أمثلة ذلك: قصة النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- في الهبة، وقد قال بعض الحكماء: النساء شرّ كلُّهنّ، وأشرّ ما فيهنّ عدم الاستغناء عنهنّ، ومع أنَّها ناقصة العقل والدين تحمل الرجل على تعاطي ما فيه نقص العقل والدين، كَشَغْلِهِ عن طلب أمور الدين، وحمله على التهالك على طلب الدنيا، وذلك أشدّ الفساد. انتهى، -والله تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (42/ 498).


ابلاغ عن خطا