«كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عمل عملًا أَثْبَتَهُ، وكان إذا نام من الليل أو مرض صلَّى من النهار ثِنْتَي عشرة ركعة».
رواه مسلم برقم: (746)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَثْبَتَهُ»:
أي: لزمه ودام عليه. مشارق الأنوار، للقاضي عياض (1/128).
شرح الحديث
قولها: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عمل عملًا أَثْبَتَهُ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«كان إذا عمل عملًا أَثْبَتَهُ» أي: أَحْكَمَ عمله بأن يعمل في كل شيء بحيث يُداوم دَوَام أمثاله؛ وذلك محافظة على ما يحبه ربه ويرضاه؛ لقوله في الحديث الْمَارِّ: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتْقِنه». فيض القدير (5/150).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«كان إذا عمل عملًا» دِيْنِيًّا أو دُنْيَويًّا «أثبته» أَتْقَنَه وأَحْكَمَ عمله، فـ«إن الله يحب من العبد إذا عمل عملًا أن يُتْقِنه»...؛ لأن خلافه عمل العَجْلَان وهو مذموم، أو المراد: الديني، والإثبات: المداومة عليه. التنوير شرح الجامع الصغير (8/435-426).
وقال الشيخ صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
قولها: «أَثْبَتَه» أي: جعله ثابتًا غير متروك، وذلك بالمداومة والمواظبة عليه. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (1/471).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عمل عملًا» من الأعمال الصالحة «أَثْبَتَه» أي: جعله ثابتًا غير متروك. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (9/400).
قولها: «وكان إذا نام من الليل أو مرض، صلَّى من النهار ثِنْتَي عشرة ركعة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«كان إذا نام من الليل» عن تَهَجُّده، «أو مَرِض» فمنعه المرض منه، «صلى» بدل ما فاته منه «من النهار» أي: فيه، «ثنتي عشرة ركعة» أي: وإذا شُفِيَ يصلي بدل تَهَجُّده كل ليلة ثنتي عشرة ركعة. فيض القدير (5/162).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«ثنتي عشرة ركعة» يحتمل: أنه يأتي بها قضاءً لما فاته من نافلة الليل، فيُؤْخَذ منه: ندب قضاء النفل المؤَقَّت.
ويحتمل: أنه لحوز ثوابه عوضًا عما فات من صلاة الليل لا قضاءً عنه. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (6/647).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«كان إذا نام من الليل» عن وِرْدِه «أو مَرِضَ» فلم يأتِ بتَهَجُّده عَوَّضَ الفائِتَ «من النهار ثنتي عشرة ركعة»؛ كأنها عِدَّة ما فاته.
وفيه: أنه يُندَب قضاء فائت الليل بالنهار. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 450).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«صلى بالنهار» أي: في أَوَّله ما بين طلوع الشمس إلى الزوال، «ثِنْتَيْ عشرة ركعة» قيل: ثمان منها صلاة الليل، وأربع صلاة الضحى. مرعاة المفاتيح (4/266).
وقال عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«صلى من النهار ثِنْتَي عشرة ركعة» أي: فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ كما في حديث عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا: «من نام عن حِزْبِه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ كُتِبَ له كأنما قرأه من الليل» رواه مسلم. تحفة الأحوذي (2/ 430).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«صلى من النهار ثِنْتَي عشرة ركعة» تعني: أنه يواظب عليها لا يمنعه منها مانع. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (9/399).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله- أيضًا:
«وكان» -صلى الله عليه وسلم- «إذا نام من» نوافل «الليل، أو مَرِضَ» عنها، «صلى من» نوافل «النهار» المؤكدة «ثنتي عشرة ركعة». الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (9/400)
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثِنْتَي عشرة ركعة» تعني: أنه -صلى الله عليه وسلم- إذا منعه من قيام الليل مانع صلى بالنهار ثِنْتَي عشرة ركعة؛ بدلًا مما فاته من قيام الليل، وهو ظاهر في كونه يقتصر في القضاء على ثِنْتَي عشرة ركعة فقط، وإنما لم تذكر الوتر؛ لأنه لم يقْضِهِ، والظاهر أنه لم يَفُتْهُ، فلَعَلَّه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا طرأ عليه ما يُفَوِّت صلاة الليل بادر بالوتر فأوتر في أول الليل، وأخَّرَ غيره فقضاه بالنهار.
قد يَحْتَجُّ بهذا الحديث بعضهم: على عدم مشروعية قضاء الوتر وهو غلط؛ لأنه ليس صريحًا في كونه -صلى الله عليه وسلم- فاته الوتر، بل الظاهر أنه لم يَفُتْهُ، بل صلَّاه بالليل، وإنما فاته التهجد غير الوتر، والصحيح: أنه إذا فات الوتر يُقضى؛ لما أخرجه أبو داود في سننه بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من نام عن وِتْرِهِ أو نَسِيَهُ فلْيُصَلِّه إذا ذكره»، ولدخوله في عموم ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من نَسِيَ صلاة فلْيُصَلِّها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك»؛ فَتَبَصَّر. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (15/544-545).
وقال النووي -رحمه الله-:
هذا دليل على استحباب المحافظة على الأوراد، وأنها إذا فاتت تُقْضى. شرح النووي على مسلم (6/ 27).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفيه: دليل على استحباب المحافظة على الأوراد المؤقتة، وأنها تقضى. شرح سنن أبي داود (6/552).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وقد اختلف العلماء في قضاء الوتر إذا فات.
فقالت طائفة: لا يقضى، وهو قول أبي حنيفة ومالك، ورواية عن أحمد وإسحاق، وأحد قولي الشافعي، وحكاه أحمد عن أكثر العلماء.
ويروى عن النخعي: أنه لا يقضى بعد صلاة الفجر، وعن الشعبي.
وقالت طائفة: يقضى، وهو قول الثوري والليث بن سعد، والمشهور عن الشافعي، ورواية عن أحمد.
والصحيح عند أصحاب الشافعي: أن الخلاف في قضاء الوتر والسنن الرواتب سواء.
ومنهم من قال: يقضى ما يستقل بنفسه كالوتر، دون ما هو تبع كالسنن الرواتب.
والمنصوص عن أحمد وإسحاق: أنه يقضى السنن الرواتب دون الوتر إذا صلى الفجر ولم يُوْتِر، ونَصَّ عليه في رواية غير واحد من أصحابه.
واستدل من قال: لا يقضى الوتر بـ«أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا نام أو شغله مرض أو غيره عن قيام الليل صلى بالنهار ثِنْتَي عشرة ركعة» خرجه مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها-، فدل على أنه كان يقضي التهجد دون الوتر.
ويُجاب عن هذا: بأنه يحتمل أنه كان إذا كان له عذر يُوْتِر قبل أن ينام، فلم يكن يفوته الوتر حينئذٍ، هذا في حال المرض ونحوه ظاهر، وأما في حال غَلَبَةِ النوم فيه نظر.
وخرَّج النسائي حديث عائشة -رضي الله عنها-، ولفظه: «كان إذا لم يُصَلِّ من الليل مَنَعَهُ من ذلك نوم غَلَبَهُ عنه أو وجع، صلى من النهار ثلاث عشرة ركعة»، فإن كانت هذه الرواية محفوظة: دلت على أنه كان يقضي الوتر.
واستثنى إسحاق: أن يكون نام عن الوتر وصلاة الفجر حتى طلعت الشمس، فقال: يقضي الوتر، ثم يصلي سنة الفجر، ثم يصلي المفروضة، وقد ورد في هذا حديث ذكرناه في قضاء الصلوات.
وخرَّجه النسائي من حديث محمد بن المـُنْتَشِر، عن أبيه، أنه كان في منزل (في سنن النسائي: مسجد) عمرو بن شُرَحْبِيل، فأُقيمت الصلاة، فجعلوا ينتظرونه، فجاء فقال: إني كنتُ أُوْتِر، وقال: سُئل عبد الله (أي: ابن مسعود -رضي الله عنه-): هل بعد الأذان وتر؟ قال: نعم. فتح الباري (9/157-158).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
«صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة» فيه مشروعية قضاء الوتر. نيل الأوطار (3/49).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
فيه: استحباب قضاء الفوائت من النوافل المؤَقَّتة، وكانت صلاته -صلى اللّه عليه وسلم- بالليل إحدى عشرة ركعة. تطريز رياض الصالحين (ص: 667).
وقال فيصل ابن المبارك -رحمه الله- أيضًا:
في هذا الحديث: دليل على مشروعية قضاء صلاة الليل، وكذلك سائر النوافل. تطريز رياض الصالحين (ص: 124).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وفي حديث عائشة -رضي الله عنها-...: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا ترك قيام الليل من وَجَعٍ أو غيره صَلَّى من النهار ثِنْتَي عشرة ركعة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُوْتِر بإحدى عشرة ركعة، فإذا مضى الليل ولم يُوْتِر لِنَوْم أو شِبْهَهُ فإنه يقضي هذه الصلاة، لكن لما فات وقت الوتر صار المشروع أن يجعله شَفعًا.
بناء على ذلك: فمن كان يُوْتِر بثلاث ونام عن وِتْرِهِ فَلْيُصَلِّ في النهار أربعًا، وإذا كان يوتر بخمس فليصلِّ ستًّا، وإن كان يوتر بسبع فليصلِّ ثماني، وإن كان يُوْتِر بتسع فلْيُصَلِّ عشرًا، وإن كان يُوْتِر بإحدى عشرة ركعة فلْيُصَلِّ اثْنَتَي عشرة ركعة، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله.
وفي هذا: دليل على فائدة مهمة وهي: أنَّ العبادة الْمؤَقَّتة إذا فاتت عن وقتها لِعُذْر فإنها تُقضى، أما العبادة المربوطة بسبب فإنه إذا زال سببها لا تُقضى، ومن ذلك: سنة الوضوء مثلًا، إذا توضأ الإنسان فإن من السُّنة أن يصلي ركعتين، فإذا نَسِيَ ولم يذكر إلا بعد مُدَّة طويلة سقطت عنه، وكذلك إذا دخل المسجد وجلس ناسيًا ولم يذكر إلا بعد مُدَّة طويلة؛ فإن تحية المسجد تسقط عنه؛ لأن المقرون بسبب لا بد أن يكون مواليًا للسبب، فإن فصل بينهما سقط، -والله الموفق-. شرح رياض الصالحين (2/247).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
«صلى في النهار ثِنْتَيْ عشرة ركعة»؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان يواظب في أكثر أحيانه على إحدى عشرة ركعة، فكان يقضي ما هو الأكمل والأكثر، يقضي ثِنْتَي عشرة ركعة، وعلى هذا: فإذا كان من عادة الإنسان أنه يُوْتِر بثلاث ولم يَقُم فإنه يقضي بالنهار أربعًا ولا يقضي ثلاثًا، وإذا كان من عادته أن يُوْتِر بخمس يقضي ستًّا، وهلم جرًّا.
ولكن متى يقضي؟
يقضيه فيما بين طلوع الشمس وارتفاعها إلى زوال الشمس، كما يدل على ذلك حديث عمر -رضي الله عنه- فيمن فاته ورده أو جزؤه في الليل أو شيء منه أنه يقضيه في النهار بالضحى، فيقضي ذلك في الضحى، فإن نسي ولم يتذكر إلا بعد الظهر قضاه بعد الظهر، لعموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من نام عن صلاة أو نَسِيَها فلْيُصَلِّها إذا ذكرها». شرح رياض الصالحين (5/215).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
القول الراجح عندي: قول من قال: يُقضى الوتر مطلقًا؛ لحديث: «من نام عن صلاة أو نسيها فلْيُصَلِّها إذا ذكرها»؛ فإن لفظ: «صلاة» نكرة في سياق الشرط؛ فيدخل فيه الوتر وغيره، مما له وقت مُعَيَّن.
وأما الاستدلال بحديث أبي سعيد -رضي الله عنه-، فغير مُتَّجِه؛ لأن في سنده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، وهو ضعيف، وقد خالفه أخوه عبد الله بن زيد، وهو صدوق، فيه لِيْن، فرواه عن أبيه، عن النبي -صلى اللّه عليه وسلم- مرسلًا، بلفظ: «من نام عن وِتْرِهِ، فلْيُصَلِّ إذا أصبح»، قال الترمذي: وهذا أصح من الحديث الأول، يعني: حديث عبد الرحمن المتقدِّم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (18/22).
قال الشيخ عبد الرحمن العقل -حفظه الله-:
قال الأوزاعي -رحمه الله-: يقضيه (أي: وِرْدَهُ) نهارًا، وبالليل ما لم يدخل وقت الوتر بصلاة العشاء الآخرة، ولا يقضيه بعد ذلك؛ لئلا يجتمع وِتْرَان في ليلة.شرح كتاب الصيام من البلوغ (ص: 84).
وقال الشيخ عبد الرحمن العقل -حفظه الله- أيضًا:
وأما خبر عائشة -رضي الله عنها- فقد قيل: ليس فيه نفي الوتر، فلَعَلَّه أوتر أول الليل مُقْتَصِرًا على أقل العدد؛ لِغَلَبَةِ النوم أو الوجع، فلما أصبح صلى قيام الليل، وفي التوجيه نَظَر، ويبْعُدُ حَمْلُ حديث عائشة -رضي الله عنها- على أنه أوتر أول الليل؛ فإن هذا الأمر لو حدث لَبَيَّنَتْ ذلك عائشة -رضي الله عنها-؛ فإن هذا الحكم من الأهمية بمكان، والظاهر: أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يُوْتِر...، وقول عائشة -رضي الله عنها-: «صلى من النهار ثِنْتَيْ عشرة ركعة» يدل على ذلك، فإنه لو أوتر أول الليل لَصَلَّى من النهار عشر ركعات، فقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: «ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة» متفق عليه.
ويجاب عن حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- بأنه لم يَقُلْ بِعُمُوْمِهِ أحد من الصحابة، والمنقول عن بعضهم: الوتر بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح، فيحمل الحديث على قضاء الوتر في هذا الوقت، فإنه لا تعارض بين قوله -صلى الله عليه وسلم- وفعله، -والله أعلم-. شرح كتاب الصيام من البلوغ (ص: 84).