الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«ما نَقَصَتْ صدقةٌ مِن مالٍ، وما زَادَ اللهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عِزًّا، وما تواضع أَحدٌ للهِ إلَّا ‌رَفَعَهُ اللهُ».


رواه مسلم برقم: (2588)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«عِزًّا»:
عَزَّ فلان يَعِزُّ عِزًّا وعِزَّةً وعَزازَةً أيضًا، أي: صار عَزيزًا، أي: قَوِيَ بعد ذِلَّة. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (3/ 885).
وقال ابن فارس -رحمه الله-:
العِزُّ: خلاف الذُّلِّ. وعَزَّ الشيء: إذا لم يُقْدَر عليه، وعزَزْتُ فلانًا على أمره: إذا غلبته. مجمل اللغة (ص: 613).  


شرح الحديث


قوله: «مَا نَقَصَتْ صَدقةٌ مِن مَالٍ»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «مَا نَقَصت صَدقَةٌ مِن مالٍ» «مِن» هذه يُحتَمل: أن تكون زائدة، أي: ما نَقَصت صَدقةٌ مالًا، ويُحتَمل: أن تكون صِلةٌ لـ «نَقَصت»، والمفعول الأول محذوفٌ، أي: ما نَقَصَت شيئًا مِن مالٍ. شرح المشكاة (5/ 1540).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«مَا نَقَصَتْ صَدقةٌ مِن مَالٍ»: فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه بِقَدر ما نَقص منه يزيده الله فيه ويُنَمِّيْهِ وَيُكَثِّرُهُ.
والثاني: أنَّه وإن نَقص في نفسه ففي الثواب والأجر عنها ما يجبر ذلك النقص بإضعافه. إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 59).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
معنى قوله: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» أي: ‌لا ‌تُنقِصُ ‌الصَّدقةُ المالَ؛ لأنَّه مالٌ مباركٌ فيه، إذا أُدِّيَتْ زكاتُهُ، وتطَوَّع منه صاحبُهُ؛ لأنَّ الصدقة تُضَاعَف إلى سبعِمَائَةِ ضِعفٍ، ويجدها صاحبُها وقت الحاجة إليها كجَبَل أحُدٍ مُضاعفةً أضْعَافًا كثيرةً؛ فأيُّ نقصانٍ مع هذا؟! الاستذكار (8/ 612).
وقال النووي -رحمه الله-:
«ما نَقَصَتْ صدقةٌ من مالٍ» ذَكروا فيه وجهين:
أحدهما: معناه: أنَّه يُبَارَك فيه، ويَدفع عنه المَضَرَّات؛ فَينجَبِر نَقص الصورةِ بالبركةِ الخَفِيَّةِ، وهذا مُدرَكٌ بالحِسِّ والعادة.
والثاني: أنَّه وإن نَقصَت صُورته كان في الثَّواب المُرَتَّب عليه جَبرٌ لِنَقصه، وزيادةٌ إلى أضعافٍ كثيرةٍ. شرح مسلم (16/ 141).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«ما نَقَصَتْ صدقةٌ من مالٍ» قيل: هو عَائدٌ إلى الدنيا بالبركة فيه ودَفع الْمُفسدات، وقيل: إلى الآخرة بالثَّواب والتَّضعيف. الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج (5/ 522).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
هذا الحديث يَدُلُّ على أنَّ الصَّدقة لا تَنقُص من المال، والمراد بذلك: أنها لا تَنقُص منه من حيث المعنى، أنَّ الله يُبارك في ذلك المال الذي تَصدَّق به بما ينفع منه، ويُوفِّر وجُوهه في الخرج أضعافَ تلك الصَّدقة، وقد يكون ذلك صَدقة، فإنه حدثني والدي -رحمه الله- قال: قَفلت من الحجِّ، فلما وصلتُ إلى فَيْدٍ (منزلٌ بطريق مكة، نصف طريق الحاجُّ من الكوفة إلى مكة)، وزَنت ما كان في خِرقَتي، وكان مبلغه ثلاث دنانير ودانقين، أو قال: ودانقًا، ثم قال: إنِّي أنفَقتُ من ذلك منذُ كنتُ بفيد إلى أن جئتُ العِراق، ثمَّ وَزَنتُه فكان مثل ما وَزنتُه بفيدٍ من غيرِ أن يَنقُص.
وأما أنا فَحصل لي مرةً مقدار من الحنطةِ، فأخرجتُ منها فيما أظنُّ قريبًا من رُبعها أو ثُلثها، ثم كِلتُ الباقي فلم يَنقُص شيئًا فيما أظُنُّ، فأمَّا من حيث المعاني، فإنَّ ذلك فيما لا أُحصيه كثرةً. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/174- 175).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«ما نَقَصَتْ صدقةٌ من مالٍ» قد اعتَرَض معترِضٌ، فقال: كيف يُخبِر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما يُنافي الحقائق، ونحن نعلم أنَّ مَن تَصَدَّق مِن دينارٍ بقيراطٍ نَقَص؟
فأجاب العلماء فقالوا: إنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يَقصد هذا، وإنَّما أراد أنَّ البَركة تَخلُف الجزء الْمُنفصل فيكون كأنَّه لم يَزل.
ووقع لي في هذا جوابٌ آخر يَنطبق على أصل السؤال، فقلتُ: للإنسان دَاران، فإذا نَقل بعضَ ماله بالصَّدقة إلى الدارِ الأُخرى لم يَنقُص ماله حقيقةً، وقد جاء في الحديث: «فَيُرَبِّيهَا لأحَدِكم حَتى تَكون كالجبلِ»، وَصار كمن بَعث بعضَ ماله إلى إحدى دَارَيه، أو قَسَمه في صندوقين، فيُرَاد من هذا أنَّ ما خَرج منك لم يَخرُج عنك. كشف المشكل (3/ 586).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «ما نَقَصَتْ صدقةٌ من مالٍ» يريد -والله أعلم-: أنَّ الصَّدقة لا تُنقِص المال؛ لأن ما يُنفَق في الصَّدقة فالعِوَض عنه مِن الأجر، وهو مع ذلك ‌سَبَبٌ ‌لِتنميةِ ‌المالِ وحفظه. المنتقى شرح الموطأ (7/ 324).
وقال القاري -رحمه الله-:
«مَا نَقَصت صَدقَةٌ» «ما» نافية و«مِن» في قوله: «مِن مَالٍ» زائدة أو تبعيضية أو بيانية، أي: ما نَقَصَت صَدقةٌ مَالًا أو بعضَ مالٍ أو شيئًا من مالٍ؛ بل تَزيد أضعَاف ما يُعْطى منه؛ بأن يَنجَبِر بالبَرَكَة الخَفيَّة أو بالعطيَّة الجليَّة، أو بالمثُوبة العَليَّة. مرقاة المفاتيح (4/ 1334).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ما نَقَصَتْ صدقةٌ من مالٍ» يَعني: لا يَنقُص المال بالصَّدقة، بل يَزيد خَيره وبَرَكَته، ويُرزَق صاحبُها أضعَاف ما أعطَى. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 530).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فَسَّر العُلماء عدم النَّقص بمعنيين:
الأول: أنَّه يُبَارك له فيه ويُدفع عنه الآفات، فيجبَر نَقص الصورة بالبركة الخفية.
والثاني: أنَّه يَحصُل بالثَّواب الحاصِل عن الصَّدقة جُبرَان نَقص عَينِها، فكأنَّ الصَّدقة لم تُنقِص المَالَ؛ لِمَا يَكتُب الله من مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها إلى أضعَافٍ كثيرةٍ.
قلتُ: والمعنى الثالث: أنَّه تعالى يُخلِفُها بِعِوَضٍ يظهر به عدم نَقص المال، بل ربما زادته، ودليله: قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ ‌يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} سبأ: 39، وهو مجرَّبٌ مَحسوسٌ. سبل السلام (8/280- 281).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «ما نَقَصَتْ صدقةٌ من مالٍ»؛ لأن ما نقص بالصدقة يخلفه الله ببدل من عنده، قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ ‌يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} سبأ: 39؛ ولأن ما يبقى بعد الصدقة يبارك الله فيه؛ حتى يقوم القليل مقام الكثير، فينجبر النقص الظاهر بالبركة الخفية، يضاف إلى ذلك الأجر المرتَّب على الصدقة في الدنيا؛ من احترام الناس وإكرامهم وتقديرهم للمُتصدِّق، والذي يترتَّب في الآخرة من الأضعاف المضاعفة في الثواب، فالصدقة بجنب كل هذا الكسب كأنها ليست بشيء، وأنَّ العائد أكثر مما أنفق وتصدَّق. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (4/ 187).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«ما نَقَصَتْ صدقةٌ من مالٍ» يعني: الإنسَان إذا تَصدَّق فإنَّ الشَّيطان يقولُ له: أنتَ إذا تَصَدَّقتَ نَقَص مالُك، عندك مائة ريال إذا تَصدَّقتَ بعشرةٍ لم يكن عندك إلا تُسعون، إذًا نَقَص المال فلا تتصدَّق، كلَّما تَصدَّقتَ يَنقُص مالُك.
ولكن من لا يَنطق عن الهوى يقول: إنَّ الصدقة لا تنقص المال، لا تنقصه، لماذا؟ قد تنقصه كمًّا، لكنَّها تَزيدُه كيفًا وبركةً، ورُبَما هذه العشرة يأتي بدلها مائة، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ ‌يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} سبأ: 39، أي: يَجعل لكم خَلَفًا عنه عاجلًا، وأجرًا وثوابًا آجلًا، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ ‌سَبْعَ ‌سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} البقرة: 261 ...، ويَزيد العامَّة على قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَا نَقَصت صَدقَةٌ مِن مالٍ» يَجري على أَلْسِنَة العامَّة قولهم: بل تزده، وهذه لا صِحة لها، فلم تَصح عن الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وإنَّما الذي صح عنه -صلى الله عليه وسلم- قوله: «مَا نَقَصت صَدقَةٌ مِن مالٍ».
فالزِّيادة التي تَحصُل بَدل الصدقة إمَّا كَمِّيَّةً وإمَّا كيفيَّةً.
مثال الكَمِّيَّة: أنَّ الله تعالى يَفتح لك بابًا من الرزق ما كان في حسابك، والكَيفيَّة: أنْ يُنزل الله لك البَرَكَة فيما بَقي من مالِك. شرح رياض الصالحين (3/ 407، 408).

قوله: «ومَا زَادَ اللهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عِزًّا»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
فيه وجهان:
أحدهما: ظاهره أنَّ مَن عُرِف بالصَّفح والعَفو سَاد وعَظُم في القلوب وزاد عِزُّه.
الثاني: أن يَكون أجرُه على ذلك في الآخرة وعِزَّتُه هناك. إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 59).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«وما زَادَ اللهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عِزًّا» قيل: في الدنيا، وقيل: في الآخرة. الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج (5/ 522).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «وما زَادَ اللهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عِزًّا» يَعني: لو ظَلم أحدٌ أحدًا، ويَقدِر المَظلوم على الانتقام من الظالم فيَعفو عنه يَزيد الله عِزَّه؛ بسبب هذا العفو. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 530).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله: «وما زَادَ اللهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عِزًّا» وذاك؛ لأنَّ العَافِيَ في مَقام الوَاهب والْمُتَصَدِّق، فَيُعَز بذلك. كشف المشكل (3/ 586).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «وما زَادَ اللهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عِزًّا»؛ فإنَّ العَفو عِزٌّ في وقته، وبعد ذلك، فما زَاد به أحدٌ إلا عزًّا، وإذا وَسوس الشيطان للمسلم بأنَّ هذا يُخرِجه الناس مَخرج الذُّلِّ؛ فتلك خديعةٌ منه، فكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دواءٌ لذلك الداء. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 174).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «وما زَادَ اللهُ عبدًا بعفوٍ» يُريد: بالتَجاوز عنه بمعونة الله -عزَّ وجلَّ- مما له قِصاصٌ وانتصارٌ، «إلا عزًّا» يُرِيد: رفعةً في قلوب الناس، وقوةً على الانتصار، قال -تبارك وتعالى-: {‌ثُمَّ ‌بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} الحج: 60. المنتقى شرح الموطأ (7/ 324).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ومَا زَادَ اللهُ عَبدًا بعفوٍ» الباء للسببية؛ أي: بِسَبب أن يَعفو ذلك العبد عمَّن ظلمه مع قُدرَتِه على الانتقام منه، «إلَّا عِزًّا» أي: زادَ عِزًّا ورِفعةً. شرح المصابيح (2/ 462).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفي قوله: «وما زَادَ اللهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عِزًّا» حَثٌّ على العَفو عن المسيءِ، وعَدم مُجازاته على إساءته وإنْ كانت جائزةٌ، قال تعالى: {فَمَنْ ‌عَفَا ‌وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} الشورى: 40.
وفيه: أنَّه يَجعل الله تعالى للعافي عِزًّا وعَظمةً في القلوب؛ لأنه بالانتصاف يَظُنُّ أنَّه يَعظُم ويُصان جانبه، ويُهاب، ويَظُنُّ أنَّ الإغْضَاء والعَفو لا يَحصل به ذلك، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه يَزداد بالعفو عزًّا. سبل السلام (8/281).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وما زَادَ اللهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عِزًّا» إذا جَنى عليك أحدٌ وظلمك في مَالِك، أو في بَدنك، أو في أهلِك، أو في حقٍّ من حقوقِك، فإنَّ النَّفس شَحيحةٌ تأبى إلا أن تَنتقم منه، وأنْ تأخذ بحقك، وهذا لك، قال تعالى: {فَمَنِ ‌اعْتَدَى ‌عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ‌اعْتَدَى ‌عَلَيْكُمْ} البقرة: 194، وقال تعالى: {وَإِنْ ‌عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} النحل: 126، ولا يُلام الإنسان على ذلك، لكن إذا هَمَّ بالعفو وحدَّث نفسه بالعفو قالت له نفسه الأمَّارة بالسوء: إنَّ هذا ذُلٌّ وضَعفٌ، كيف تعفو عن شخص جنى عليك أو اعتدى عليك؟!
فيقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «ومَا زَادَ اللهُ عَبدًا بعفوٍ إلَّا عِزًّا» والعِزُّ ضِدَّ الذُّلِّ، والذي تُحدِّثُك به نَفسك أنَّك إذا عَفوتَ فقد ذَللتَ أمام مَن اعتدى عليك، فهذا مِن خِداع النَّفس الأمَّارة بالسوء ونهيها عن الخير، فإنَّ الله تعالى يُثِيبك على عفوك هذا، فاللَّه لا يَزيدُك إلَّا عِزًّا ورِفعةً في الدنيا والآخرة. شرح رياض الصالحين (3/ 408، 409).
قال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله- أيضًا:
ولكن ينبغي أنْ يُعلم أنّ المغفرة لمن أَساء إليك ليست محمودةٌ على الإطلاق؛ فإن الله تعالي قيّد هذا بأن يكون العفو مقرونًا بالإصلاح فقال: {فَمَنْ ‌عَفَا ‌وَأَصْلَحَ ‌فَأَجْرُهُ عَلَىَ اللَّهِ} الشورى: 40، أمّا إذا لم يكن في العفو والمغفرة إصلاح فلا تَعفٌ ولا تغفر.
مثال ذلك: لو كان الذي أَساء إليك شخصا معروفا بالشرِّ والفساد، وأَنك لو عفوتَ عنه لكان في ذلك زيادة في شَرّهِ، ففي هذه الحال الأفضل أنْ لا تعفو عنه، بل تأخذ بحقّك مِن أجل الإصلاح، أمّا إذا كان الشخص ‌إذا ‌عفوت ‌عنه ‌لم ‌يترتب ‌على العفو عنه مفسدة؛ فإن العفو أفضل؛ لأن الله يقول: {فَمَنْ ‌عَفَا ‌وَأَصْلَحَ ‌فَأَجْرُهُ عَلَىَ اللَّهِ} الشورى: 40، وإذا كان أَجرك على الله لكان خيرًا لك مِن أن يكون ذلك بمُعاوَضَةٍ تأخذ مِن أعمال صاحبك الصالحة.شرح رياض الصالحين(1/180)

قوله: «وما ‌تواضع أحدٌ لله إلَّا ‌رفعهُ اللهُ»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ الله تعالى يَمنحه ذلك في الدنيا جزاءً على تواضعه له، وأنَّ تَواضعه يُثبِت له في القُلوب مَحبَّةً ومكانةً وعِزَّةً.
والثاني: أن يكون ذلك ثَوابه في الآخرة على تَواضعه.
وهذه الوجوه كُلها في الدنيا ظاهرةً موجودةً، وقد صدق -عليه السلام- فيما أخبر منها، وقد يكون جَمَع الوجهين في جميعِها، وكان هذا كله تنبيهًا على رَدِّ قولِ مَن يقول: الصَّبر والحِلْم الذُّلُّ، ومن قاله من الْجُلّة (الكبار رفيعو القدر)؛ فإنَّما أرادَ به شبهه في الاحتمال وعدم الانتصار. إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 59).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: « وما ‌تواضع أحدٌ لله إلَّا ‌رفعهُ اللهُ » فيه وجهان:
أحدهما: يَرفعه في الدنيا ويُثبِت له بِتواضعه في القلوب منزلةً، ويَرفعه الله عند النَّاس ويُجِلُّ مكانه.
والثاني: أنَّ المراد ثوابه في الآخرة، ورفعه فيها؛ بتواضعه في الدنيا.
قال العُلماء: وهذه الأوجُه في الألفاظ الثَّلاثة موجودةٌ في العادة معروفةٌ، وقد يكون المراد الوجهين معًا في جميعها في الدنيا والآخرة، -والله أعلم-. شرح مسلم (16/141، 142).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«وما ‌تواضع أحدٌ لله إلَّا ‌رفعهُ اللهُ» والتَّواضُع والانكِسار والتَّذَلل، ونَقيضه الكِبر والتَّرفُع، والتَواضع يقتضي متواضَعًا له؛ فإنَّ الْمُتَوَاضَع له هو الله -عزَّ وجلَّ- أو مَن أمر الله بالتواضعِ له كالرسولِ، والإمامِ، والحاكم،ِ والعالمِ، والوالدِ، فهذا التوَاضع الواجب الْمَحمودُ الذي يرفع الله به صاحبه في الدنيا والآخرة، وأمَّا التَواضع لسائرِ الخلق فالأصل فيه أنَّه محمودٌ فيه، ومندوب إليه، ومرغوبٌ فيه؛ إذا قصد به وجه الله تعالى، ومَن كان كذلك رَفع الله قدره في القلوبِ، وطيَّب ذكرهُ في الأفواه، ورفع درجته في الآخرة، وأمَّا التواضع لأهل الدُّنيا ولأهل الظلم؛ فذلك هو الذل الذي لا عِزَّ معه، والحسنة التي لا رفعة معها؛ بل يترتب عليها ذُلُّ الآخرة، وكلُّ صَفقةٍ خاسرةٍ، -نعوذُ بالله من ذلك-. السراج المنير شرح الجامع الصغير (4/ 225).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وأما قوله: «وما ‌تواضع أحدٌ لله إلَّا ‌رفعهُ اللهُ» فقوله: «لله» يَعني: ألَّا يكون تواضعه لأهل الدنيا، ثمَّ يَتَكبر على أهل الدِّين، ولكن يَتواضع لله فيرفعه الله -جلَّ جلاله-. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 174).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وقوله: «وما ‌تواضع أحدٌ لله إلَّا ‌رفعهُ اللهُ» أي: رَفَعَ قَدْرَه في القُلوب؛ لإخلاصه في التواضع. كشف المشكل (3/ 586).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وما ‌تواضعَ أحدٌ للهِ» مِن المؤمنين رِقًّا وعبوديةً في ائتمار أمره، والانتهاء عن نهيه، ومشاهدته لِحقارة النَّفس، ونفي التعجب عنها «إلا رفعه الله» في الدنيا؛ بأن يُثبِتَ له في القلوب -بِتواضعه- منزلةً عندَ النَّاس، ويُجِلّ مكانه، وكذا في الآخرة على سرير خُلدٍ لا يَفَنى، ومِنبر مُلكٍ لا يبلى، ومَن تَواضع لله في تَحمُّل مُؤَن خَلقِه، كفاه الله مُؤْنَة ما يرفعه إلى هذه المقام، ومَن تَواضع في قَبولِ الحقِّ ممن دونَه، قَبِل الله منه مدخول طاعاته، ونفعه بقليل حسناته، وزَاد في ‌رِفعَة درجاته، وحفظه بِمُعَقِّبَات رحمته من بين يديه ومن خلفه.
واعلم أنَّ من جِبِلَّةِ الإنسان الشُحَّ بالمال، ومشابهة السَّبْعِيَّة من إيثار الغضب والانتقام، والاسترسال في الكِبر الذي هو نتائج الشَّيطنة، فأراد الشارع أن يَقلَعَهَا من نُسخِها، فحثَّ أولًا: على الصَّدَقة؛ ليتحلى بالسخاء والكرم.
وثانيًا: على العفو؛ ليَتْعَزَّز بِعِزِّ الحِلْم والوقار.
وثالثًا: على التَواضع؛ ليَرفع دَرَجَاتِهِ في الدَّارين. فيض القدير (5/ 503).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
في قوله: «وما ‌تواضعَ أحدٌ للهِ» بأنْ أنَزل نفسه عن مرتبةٍ يستحقُّها لرجاءِ التقرُّب إلى الله دون غرض غيره «إلَّا ‌رَفَعَهُ اللهُ» إمَّا رَفعه في الدنيا، وإمَّا رَفعه في الأخرى، قلتُ: ولا مانع من الجمع كما نقله النووي عن العلماء. مرقاة المفاتيح (4/ 1334).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفي قوله: «وما ‌تواضعَ أحدٌ للهِ» أَي: لأجل ما أعدَّه الله للمتواضعين، «إلَّا ‌رَفَعَهُ اللهُ»: دليلٌ على أنَّ التواضع سبب للرِّفعةِ في الدَّارين لإطلاقه.
وفي الحديثٍ حثٌّ على الصَّدقة، وعلى العفو، وعلى التواضع، وهذه من أمهات مكارم الأخلاق. سبل السلام (8/281).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«وما ‌تواضعَ أحدٌ للهِ» أي: لأجل أنَّه يُحِب التواضع ويرضاهُ من أخلاق فاعله، «إلَّا ‌رَفَعَهُ اللهُ» في الدنيا والآخرة، والتكبر سبب لضِدِّ ذلك، وكذا من تواضع لأوامر الله واتبعها؛ بل هو أعلى أنواع التواضع. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 516).
وقال السعدي -رحمه الله-:
«وما ‌تواضعَ أحدٌ للهِ» تَنبيهٌ على حسنِ القَصد والإخلاص لله في تواضعه؛ لأن كثيرًا من النَّاس قد يُظهِر التواضع للأغنياء ليُصيب من دنياهم، أو للرؤساء لينال بسببهم مَطلوبه، وقد يُظهر التواضع رياءً وسُمعةً، وكل هذه أغراض فاسدةٌ، لا ينفع العبد إلا التواضع لله تقربًا إليه، وطلبًا لثوابه، وإحسانًا إلى الخلق؛ فَكمال الإحسان وروحه: الإخلاص لله. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص:92).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«وما ‌تواضعَ أحدٌ للهِ إلا رفعه» التَّواضع: مُشتقٌّ مِن الضِّعة -بكسر الضاد- وهي: الهوان، والمراد بالتَّواضع: إظهار التَّنَزل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه، وقيل: هو تَعظيمُ مَن فوقه لفضله...، وفي التواضع قال الطبري -رحمه الله-: في التَّواضع مصلحةُ الدِّين والدنيا، فإن النَّاس لو استعملوه في الدنيا لزالت بينهم الشحناء، ولاستراحوا من تعب الْمُباهاة والمفاخرة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 65).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«ومَا ‌تواضعَ أحدٌ لله إلَّا ‌رفَعَهُ اللهُ» وهذه الرِّفعة تكونُ بسببِ التواضع والتضامن، والتهاون، ولكن الإنسان يَظن أنَّه إذا تواضع نَزَل، ولكن الأمر بالعكس، إذا تواضعتَ لله فإنَّ الله تعالى يرفعك.
وقوله: «تواضع لله» لها معنيان:
المعنى الأول: أن تَتَواضع لله بالعبادة، وتخضع لله وتَنقاد لأمر الله.
المعنى الثاني: أن تَتَواضع لعباد الله من أجلِ الله، وكلاهما سببٌ للرفعةِ، وسواءٌ تواضعتَ لله بامتثال أمره واجتناب نَهيه وذَللتَ له وعبَدته، أو تواضعتَ لعباد الله من أجلِ الله لا خوفًا منهم، ولا مداراةً لهم، ولا طلبًا لمالٍ أو غيره، إنما تتواضع من أجل الله -عزَّ وجلَّ-، فإن الله تعالى يَرفَعك في الدنيا أو في الآخرة. شرح رياض الصالحين (3/ 409).
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-:
هذا الحديث: احتوى على فضل الصَّدقة، والعَفو والتَّواضع، وبيان ثمراتها العاجلة والآجلة، وأنَّ كل ما يَتَوهَّمه الْمُتَوهِّم من نقص الصدقة للمال، ومنافاة العفو للعِزِّ، والتواضع للرفعة، وهْمٌ غالط، وظنٌّ كاذب، فالصَّدقة لا تُنقِص المال؛ لأنه لو فُرِض أنَّه نَقصَ من جهة، فقد زاد من جهاتٍ أُخَر؛ فإن الصدقة تُباركُ المال، وتَدفع عنه الآفات وتُنَمِّيْه، وتفتح للمتصدِّق من أبواب الرزق، وأسباب الزِّيادة أمورًا ما تُفْتَح على غيره، فهل يقابل ذلك النَّقص بعض هذه الثمرات الجليلة؟
وهذه الثلاث المذكورات في هذا الحديث: مُقدمات صفات المحسنين، فهذا محسنٌ في ماله، ودفع حاجة المحتاجين، وهذا محسنٌ بالعفو عن جنايات المسيئين، وهذا محسنٌ إليهم بحلمه وتواضعه، وحسن خُلُقه مع الناس أجمعين. وهؤلاء قد وَسِعوا النَّاس بأخلاقهم وإحسانهم، ورفعهم الله، فصار لهم المَحل الأشرف بين العباد، مع ما يَدَّخر الله لهم من الثواب. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 91، 92).


ابلاغ عن خطا