الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«أحَبُّ البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها».


رواه مسلم برقم: (671)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«البلاد»:
البلد: المكان الْمُخْتَطُّ المحدود الْمُتَأَنِّس باجتماع قُطَّانه، وإقامتهم فيه. المفردات في غريب القرآن، للراغب (ص: 59).

«مساجدها»:
المساجد: موضع الصلاة والذِّكْر. المهيَّأ، للكماخي (1/207).

«أسواقها»:
السُّوق: يُذكَّر ويُؤنَّث، وهو الذي يُباع فيها، فقيل: سُمِّيت بذلك لما يُساق إليها من الأمتعة، وقيل: لقيام الناس فيها على ساقٍ. فتح الباري، لابن حجر (1/ 135).


شرح الحديث


قوله: «أحَبُّ البلاد إلى الله مساجدها»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
لأنها بيوت خُصَّت بالذِّكْر، وبُقَعٍ أُسِّسَت للتقوى، والعمل الصالح. إكمال المعلم (2/647).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
«أحَبُّ البلاد إلى الله مساجدها» إنما كانت المساجد أحب البقاع إلى الله -عز وجل- لذكر الله فيها، فإنها تكون أمانًا لغيرها. الإفصاح (8/153).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«أحَبُّ البلاد إلى الله مساجدها» أي: أحب بيوت البلاد، أو بقاعها، وإنما كان ذلك لما خُصّت به من العبادات والأذكار، واجتماع المؤمنين، وظهور شعائر الدين، وحضور الملائكة. المفهم (2/ 294-295).
وقال النووي -رحمه الله-:
«أحَبُّ البلاد إلى الله مساجدها»؛ لأنها بيوت الطاعات، وأساسها على التقوى. المنهاج (5/171).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أحب البلاد» أي: أحب أماكن البلاد، ويمكن أنْ يُراد بالبلد المأوى، فلا تقدير.
«إلى الله مساجدها»؛ لأنها بيوت الطاعة، وأساس التقوى، ومحل تنزلات الرحمة. فيض القدير (1/ 170).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«أحَبُّ البلاد» لعل تسمية المساجد والأسواق بالبلاد خصوصًا تلميح إلى قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} الأعراف: 58.
قال قتادة: «المؤمن سمع كتاب الله بعقله فوعاه، وانتفع به، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت، والكافر بخلافه»؛ وذلك لأن زوار المسجد: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} النور: 37، الآية. الكاشف عن حقائق السنن (3/931).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أحَبُّ البلاد إلى الله مساجدها»؛ لأنها محل فيوض الرحمة، وإدرار النعمة. فيض القدير (3/470).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
لأنها البيوت التي أَذِن اللهُ فيها أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه، بالتسبيح والتقديس والثناء عليه -جل وعلا-، ويقام فيها الصلاة، ويقرأ فيها القرآن، وينشر فيها العلوم، ويعرض فيها لنفحات الحي القيوم. دليل الفالحين (8/662).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
لأنها بيوته تعالى عُمِرَتْ لعبادته وطاعته، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} النور: 36، وقال: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} البقرة: 187، فمحبته لها لما تشتمل عليه من الطاعات.
ويحتمل: أن يراد أن أحب أهل البلاد أهل المساجد؛ إذ معنى محبة الله للبقاع محبة لأهل الطاعات، وهو حثٌّ على محبتها، كما ورد عن السبعة الذين يظلهم في ظله أنَّ أحدهم: «رجل قلبه معلَّق بالمساجد»، وعلى البقاء فيها. التحبير (1/463).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«أحَبُّ البلاد إلى الله مساجدها»؛ لأنَّها بيوت طاعته، وكفاها شرفًا أنها بيوت الله تضاف إليه؛ ولأنها محل أوليائه وأحبابه، وإليها تنزل ملائكته، ومنها بالأعمال الصالحات تصعد إلى سماواته. التنوير (1/391).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أحب البلاد إلى الله» البلاد: جمع بلد، وهو المواضع؛ يعني: أحب المواضع إلى الله تعالى المساجد؛ لأنها مواضعُ الصلاةِ والذكر. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 64).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
فالمساجد هي خير البلاد؛ وذلك لما يكون فيها من العمارة بذكر الله -عز وجل-، فالمساجد هي محل الطمأنينة، ومحل الذِّكْر، ومحل الصلاة، ومحل العبادة لله -عز وجل-، ومحل تلاوة القرآن، كل هذه من صفات المساجد. شرح الأربعين النووية (32/6).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله- أيضًا:
فالمساجد هي أفضل البقاع، وأحبها في كل البلدان؛ لأنها محل الذِّكْر والعبادة والطاعة، ومع ذلك: من صلى على الجنازة في المسجد لا يقال: إنَّ له ميزة على الصلاة عليه في غير المسجد؛ لأن أكثر ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة عليها أنه كان في غير المسجد، إذًا فالمراد: أنه لا يظن باعتبار أن المساجد أفضل البقاع أن الصلاة فيها على الجنازة أفضل من الصلاة عليها في خارج المساجد، وإنما يدل على أنَّ الصلاة عليها في المساجد سائغة، وفضل الصلاة في المسجد وميزتها إنما تكون في صلاة الجماعة، فهنا لها فضل وميزة على غيرها. شرح سنن أبي داود (368/39).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
لأنها محل للذكر، والعبادة، والتعليم، والتعلُّم. توفيق الرب المنعم (2/358).
وقالت حصة بنت عبد العزيز الصغير:
ليس في البقاع أفضل من المساجد، ولا يقال: إنَّ قبور الأنبياء والصالحين أفضل من المساجد، وفضلت المساجد بكونها بيوت الله التي بنيت لعبادته {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} الجن: 11، والمساجد الثلاثة لها فضل على ما سواها، حيث بناها أنبياء، ودعوا الناس إلى السفر إليها، وحرمة المسجد أعظم من حرمة سائر البقاع. إفراد أحاديث أسماء الله وصفاته (3/ 114).

قوله: «وأبغض البلاد إلى الله أسواقها»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
«وأبغض البلاد إلى الله أسواقها»؛ لأنها مخصوصة بطلب الدنيا، ومخادعة العباد، والإعراض عن ذكر الله، ومظانّ الأيْمان الفاجرة، وإذا كان معنى الحبِّ من الله، والبغض عائدًا إلى إرادته الخير أو الشر، أو فعله ذلك بمن أسعده الله، وأشقاه، استبان لك أنَّ المساجد مواضع نزول رحمة الله وفضله، والأسواق على الضد منها. إكمال المعلم (2/647).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وأما الأسواق فإنَّ الغالب عليها القول الخالي عن ذكر الله...، والغالب عليها بُعْدُ السلامة من الأيمان الفاجرة، ووصف السلع بما ليس فيها من الصفات الباطلة، وخداع، وخَتْل، وخِلَابَة، وغِشٌّ، ورِبًا، واطِّراح لما شرعه الله من الإيجاب والقبول، وغير ذلك. الإفصاح (8/153).
وقال القرطبي -رحمه الله-:
وإنما كانت الأسواق أبغض البلاد إلى الله؛ لأنها مخصوصة بطلب الدنيا، ومطالب العباد، والإعراض عن ذكر الله؛ ولأنها مكان الأيمان الفاجرة، وهي معركة الشيطان، وبها يركز رايته. المفهم (2/ 295).
وقال النووي -رحمه الله-:
لأنها محل الغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة، وإخلاف الوعد، والإعراض عن ذكر الله، وغير ذلك.
والحبُّ والبغضُّ من الله تعالى: إرادته الخير والشر، أو فعله ذلك بمن أسعده أو أشقاه تأويل صفة المحبة والبغض بإرادته سبحانه للخير والشر تأويل الأشاعرة، وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون المحبة صفة حقيقيَّة لله تعالى على ما يليق بجلاله، فلا تقتضي نقصًا ولا تشبيهًا، كما يثبتون لازم تلك المحبة وهي إرادته سبحانه إكرام من يحبه وإثابته، والمساجد محل نزول الرحمة، والأسواق ضدها. المنهاج (5/171).
وقال المُظهري -رحمه الله-:
وأبغضُ المواضع إلى الله الأسواق؛ لأنها مواضعُ الغَفلة والحرص والطمع والخيانة. المفاتيح (2/64).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وأبغض البلاد إلى الله أسواقها»، وسبب البغض أنها محل للفحش والخداع، والربا والأيمان الكاذبة، واختلاف الوعد، والإِعراض عن ذكر الله تعالى، وغير ذلك مما في معناه...
وأراد بمحبة المساجد حب ما يقع فيها من ذكر، وتلاوة كتابه، والاعتكاف، ونشر العلم والصلوات، وببغض الأسواق بغض ما فيها من غش وخديعة وخيانة وسوء معاملة، مع كون أهلها لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، ولا يغُضُّون أبصارهم عن المحارم. دليل الفالحين (8/663).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأبغض البلاد إلى الله أسواقها»؛ لأنها محل الشياطين، وموضع الكذب والأيمان الفاجرة، والفحش والتفحُّش، والمعاملات الباطلة.
وحبه تعالى للبقاع وبغضه لها: حبه لأهلها والساكنين بها، وبغضه لهم ولمن يلازمها. التنوير (1/391).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
وقُصَّاد الأسواق شياطين الجن والإنس من الغَفَلة الذين غلبهم الحرص والشَّرَهُ؛ وذلك لا يزيد إلا بُعدًا من الله ومن أوليائه، ولا يُوْرِثُ إلا دُنُوًّا من الشيطان، وحزبه، اللهم إلا من يعمد إلى طلب الحلال الذي يصون به دينه وعرضه، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} البقرة: 173. الكاشف عن حقائق السنن (3/931).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وهذا بطريق الأغلبية، وإلا فقد يُقصد المسجد بقصد نحو الغيبة، وقد يُدخل السوق لطلب الحلال؛ ولذا قيل: «كن ممن يكون في السوق وقلبه في المسجد، لا بالعكس»، والجمع بين القلب والقالب في المسجد أكمل. مرقاة المفاتيح (2/591).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قرن المساجد بالأسواق مع أن غيرها قد يكون شرًّا منها؛ ليبين أنَّ الديني يدفعه الأمر الدنيوي، فكأنه قيل: خير البقاع مخلصة لذكر الله، مسلمة من الشوائب الدنيوية. فيض القدير (3/470).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
فالمراد: محبة وبغض ما يقع فيهما.
وقيل: المعنى أي: من يمكث في المساجد أحب إلى الله ممن يمكث في غيرها؛ إذ المحبة الإثابة، ولا معنى لإثابة نفس المساجد، فالمراد: الماكث فيها لذكر الله، أو اعتكاف، أو نحوهما.
وكذا المراد: بغض من في الأسواق؛ لتعاطيه الأيمان الكاذبة، والغش، والأعراض الفانية؛ لا بغض نفس الأسواق، نظير ما ورد في مدح الدنيا وذمها، فالمراد: مدح من قام بحقوق الله تعالى فيها، وذم ضده. مرعاة المفاتيح (1/116).
وقال الشيخ أحمد حطيبة -حفظه الله-:
فلا تشبه المسجد بالسوق أبدًا، فالمسجد بيت الله -عز وجل- يجب عليك أن تحترمه وتعظمه، والسوق مكان الشيطان، وفيه يرفع رايته.
ففي السوق الكذب، والغدر، والخداع، والغش، والخيانة، وأكل أموال الناس بالباطل، وفيه هَيْشَاتٌ وصخب وضجيج.
أما المسجد فلا يكون كذلك أبدًا؛ ولذلك نهانا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البيع والشراء في المسجد، وقال لنا: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا». شرح الترغيب والترهيب (2/5).


ابلاغ عن خطا