«إنّ الله يَحمي عَبْدَهُ المؤمن الدنيا وهو يُحِبُّهُ كما تَحْمُونَ مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه».
رواه أحمد برقم: (23627) واللفظ له، من حديث محمود بن لبيد -رضي الله عنه-، والحاكم في المستدرك برقم: (7465)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (1814)، صحيح الترغيب برقم: (3179).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يَحْمِي»:
حَمَيْتُهُ حِمايَةٌ: إذا دفعتُ عنه. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (6/ 2319).
وقال ابن منظور-رحمه الله-:
وحَمى المريض ما يضرّهُ حِمية: مَنعه إِياهُ، واحتمى هو مِن ذلك وتحمّى: امتنع. لسان العرب (14/ 198).
شرح الحديث
قوله: «إِنَّ الله يَحْمِي عَبْدَهُ المُؤْمِنَ الدنيا»:
قال حطيبة -حفظه الله-:
والحمية: الامتناع، أي: يمنع عبده المؤمن من الدنيا. شرح الترغيب والترهيب (48/ 5).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
قالوا: وحمية الله لعبده المؤمن عن الدنيا: إنما هو من محبته له وكرامته، قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد -رضي الله عنه-: أن رسول الله قال: «إن الله -تبارك وتعالى- يحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه، كما تحمون مرضاكم الطعام والشراب، تخافون عليهم»، قالوا: وقلَّ أن يقع إعطاء الدنيا وتوسعتها إلا استدراجًا من الله، لا إكرامًا ومحبة لمن أعطاه، قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رشدين بن سعد عن حرملة بن عمران التُّجِيبِيِّ، عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر -رضى الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه، وما يحب، فإنما هو استدراج»، ثم تلا قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} الأنعام: 44 الآية، قالوا: ولهوان الدنيا على الله مَنَعَها أكثر أوليائه وأَحِبَّائه. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 201).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«عبده المؤمن» أضافه إليه؛ للتشريف. فيض القدير (2/ 260).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«يَحمي عَبْدَهُ المؤمن الدنيا» من نعيمها وحظِّها العاجل. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 341).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«إِنَّ اللهَ يَحمي عَبْدَهُ المؤمن الدنيا» أي: ما زاد على قَدرِ كفايته. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 385).
وقال الملا القاري -رحمه الله-:
«يَحمي عَبْدَهُ المؤمن الدنيا» أي: حفظه من مال الدنيا ومناصبها، وما يضر بدينه، وينقصه في العُقبى.
قال الأشرف: أي: منعه عنها، ووقاهُ من أن يتَلَوَّث بزينتها؛ كيلا يمرض قلبه بداء محبتها. مرقاة المفاتيح (8/ 3286).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«يَحمي عَبْدَهُ المؤمن الدنيا» أي: يمنعه منها ويقيه أن يتَلَوَّث بدنسها؛ كيلا يمرض قلبه بداء حبها وممارستها. فيض القدير (2/ 260).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
أي: يحفظه من مال الدنيا ومناصها، ويبعده عما يضر بدينه منها. فيض القدير (2/ 262).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
اعلم: أن الذم الوارد في الكتاب والسنة في الدنيا ليس راجعًا لزمانها، وهو الليل والنهار؛ فإن الله تعالى جعلهما خِلْفة لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكورًا، ولا لمكانها وهو الأرض؛ لأن الله تعالى جعلها لنا مِهادًا، ولا إلى ما أودعه تعالى فيها من الجمادات والحيوانات؛ لأن ذلك كله من نعمه تعالى على عباده، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} البقرة: 29، وإنما هو راجع إلى الاشتغال بما فيها عما خلقنا لأجله من عبادته تعالى، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات: 56. الفتح المبين بشرح الأربعين (ص: 503).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
«إنَّ الله يحمي عبده المؤمن الدنيا؛ كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب».
ويروى في مناجاة موسى نحو هذا، ذكره أحمد في الزهد، فهذا فيمن يضره الغنى، ويصلحه الفقر، كما في الحديث الآخر: «نِعْمَ المال الصالح للرجل الصالح»، وكما أنَّ الأقوال في المسألة ثلاثة؛ فالناس ثلاثة أصناف:
غني وهو: من ملك ما يفضل عن حاجته.
وفقير وهو: من لا يقدر على تمام كفايته.
وقسم ثالث: وهو من يملك وفق كفايته؛ ولهذا كان في أكابر الأنبياء والمرسلين، والسابقين الأولين من كان غنيًا؛ كإبراهيم الخليل وأيوب وداود وسليمان، وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وأسعد بن زرارة، وأبي أيوب الأنصاري وعبادة بن الصامت ونحوهم ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين. مجموع الفتاوى (11/ 124).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
والغيرة من صفات الرب -جل جلاله-، والأصل فيها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} الأعراف: 33، ومن غيرته تعالى لعبده وعليه يحميه مما يضره في آخرته، كما في الترمذي وغيره مرفوعًا: «إن الله يحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب». روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 295).
قوله: «وهو يُحبه»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«وهو يُحبه» فما حماه إياها إلا محبة له. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 342).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«وهو يُحبه» أي: والحال أنه يُحبه أي: يريد له الخير. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 385).
وقال العزيزي -رحمه الله- أيضًا:
فإذا كان العبد كلما طلب أمرًا من أمور الدنيا عَسُرَ عليه، وإذا طلب أمرًا من أمور الآخرة يُسِّرَ له، فذلك علامة على أن الله تعالى أراد له الخير. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 385).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وفي الحديث: «إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب»، وفي مناجاة موسى المأثورة عن وهب التي رواها الإمام أحمد في كتاب الزهد يقول الله تعالى: إني لأذود أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائها، كما يذود الراعي الشفيق إِبِلَه عن مراتع الهلكة، وإني لأجنبهم سكونها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إِبِلَه عن مبارك العُرَّة، وما ذلك لهوانهم عليَّ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالمـًا موفرًا لم تَكْلُمْهُ الدنيا، ولم يُطْفِئْهُ الهوى، وإنما شفاء المريض بزوال مرضه، بل بزوال ذلك الحب. أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 24).
وقال حطيبة -حفظه الله-:
والله أعلم أنّ هذا العبد لو نال هذا المال فلعله يشقى، ويصير تعيسًا في الدنيا والآخرة، ولعله يفتن به، فإذا بالله لِحُبِّه له يحرمه من هذا المال، فلا يناله، فلعله يحزن إن فاته، ويؤجر على حزنه، ويؤجر على همه وحزنه، ويوم القيامة يجد الطريق إلى الجنة مفتوحًا له، ولو أنه أخذ هذا المال فلعل طريق الجنة يغلق عنه فلا يدخلها. شرح الترغيب والترهيب (48/ 5).
قوله: «كما تَحْمُونَ مريضكم والشراب»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«كما تَحْمُونَ مريضكم الطعام والشراب» أي: من تناول الطعام «وَالشَّرَابَ». فيض القدير (2/ 262).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«كما تَحْمُونَ مريضكم الطعام والشراب» كما يَحمي المريضَ أهلُه الطعامَ، أي: الطعام الْمُضِرَّ؛ لئلا يزيد مرضه بتناوله. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 385).
وقال المناوي -رحمه الله-:
لئلا يزيد مرض بدنه بتناوله؛ فهو إنما يحميه لعاقبة محمودة، وأحوال سديدة مسعودة، وما تقول في الوالد المشفق الغني إذا منع ولده رُطَبَة، أو تفاحة يأكلها وهو أَرْمَد، ويسلمه إلى معلم غليظ يابس، ويحبسه طول النهار عنده ويضجره، ويحمله إلى الحجام ليحجمه فيوجعه ويقلقه، أتراه فعل ذلك به؛ لبخل أو هوان به، أو قصد إيذاء له؟ لكن لما علم أن صلاحه فيه، وأن بهذا التعب القليل يصل إلى خير كثير، ونفع عظيم، وما تقول في الطبيب الحاذق المحب إذا منع المريض شربة ماء وهو ظمآن، وسقاه شربة دواء كريه أَقَصْدُه إيذاء؟ بل هو نصح وإحسان، لما علم أن في إعطائه شهوة ساعة هلاكه رأسًا. فيض القدير (2/ 260).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: لئلا يزيد مرضه بشربه، ولا ينظر إلى رأي العليل من طلب الماء وحبه، مع أن الماء أرخص شيء غالبًا، فلا يتصور فيه البخل؛ خصوصًا بالنسبة إلى المريض الذي يَحِنُّ عليه كل أحد، والحاصل: أن الحكمة تقتضي أن المحبوب عند أهله وآله يكون ممنوعًا من كل شيء يضُرُّه في حاله.
وفي رواية...: «إن الله يحمي عبده المؤمن كما يحمي الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة»، وهذا المعنى مقتبس من التنزيل، وهو قوله: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} الأعراف: 151. مرقاة المفاتيح (8/ 3286).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وذلك أنهم يحمونه منه؛ خشية من زيادة العلة، أو تأخّر بُرْئِهَا عن ظن منهم لذلك، والرب تعالى يعلم أنه لا يأتي من الدنيا إليه إلا ضُره الضُّرَّ الذي لا نسبة لضر طعام المريض إليه، فإنها تضر قلبه وقالبه، ودنياه وآخرته، فإذا أحبه حماه، كما أن من أحب مريضه حماه عما يضرُّه. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 341).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«كما تَحْمُونَ مريضكم الطعام والشراب»، والغرض من التشبيه الواقع في هاتين الجملتين: بيان كمال الاعتناء والشفقة والمحبة. فيض القدير (2/ 260).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قال وهب: إن الله -عز وجل- قال لموسى -عليه السلام-: إني لأذود أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إِبِلَه عن مبارك العُرَّة، وما ذلك لهوانهم عليَّ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالمـًا موفرًا لم تَكْلُمْه الدنيا.
ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي عن قتادة بن النعمان، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله إذا أحب عبدًا حماه عن الدنيا، كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء» وخرجه الحاكم ولفظه: «إن الله ليحمي عبده الدنيا وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب، تخافون عليه». جامع العلوم والحكم (2/ 190).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
يحمي سقيمه؛ أي: مريضه المستسقي من الماء؛ كيلا يزيد مرضه بشربه. شرح المصابيح (5/ 416).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وفيه: إشارة إلى حرص أهل الدنيا وَشَرَهِهِم ِكالمستسقي لا يصبر عن الماء ولا يَرْتَوِي. لمعات التنقيح (8/ 469).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وذلك لأنه تعالى أعلم بما يصلح عباده، فمنهم من لو أعطاه الدنيا لأفسد فيها، وضر نفسه، فحماه الله ذلك لتكمل صحة إيمانه، كما يحمي المريض عن الماء لتكمل صحته، وقد أشار الله إلى هذا بقوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} الشورى: 27. التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 418).
قوله: «تخافون عليه»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«تخافون عليه» أي: لكونكم تخافون عليه من تناول ما يؤذيه منهما. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 261).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
لئلا يزيد مرضه بتناوله. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 261).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«تخافون عليه» أي: لكونكم تخافون عليه من تناول ما يؤذيه منها، أي: والحال أنكم تخافون عليه من ذلك؛ وذلك لأنه -سبحانه وتعالى- خلق عباده على أوصاف شَتَّى:
فمنهم القوي والضعيف والوضيع والشريف، فمن علم من قلبه قوة على حمل أعباء الفقر الذي هو أشد البلاء، وصبر على تجرع مرارته أفقره في الدنيا؛ ليرفعه على الأغنياء في العقبى.
ومن علم ضعفه، وعدم احتماله، وأنّ الفقر ينسيه ربّه صرفه عنه؛ لأَنه لا يُحب أن عبده ينساه، أو ينظر إلى من سواه، -فسبحان الحكيم العليم-.
تنبيه: قال في (الحِكم): رُبما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، متى فتح لك باب الفهم في المنع عاد المنع هو عين العطاء، متى أعطاك أشهدك بره، ومتى منعك أشهدك قهره؛ فهو في كل ذلك مُتَعَرِّف إليك، ومقبل بوجود لطفه عليك، إنما يؤلمك المنع؛ لعدم فهمك عن الله فيه.
تنبيه: قال العارف الجيلاني -رحمه الله-: للنفس حالان، ولا ثالث لهما: حال عافية، وحال بلاء، فإن كانت في بلاء فشأنها غالبًا الجزع والشكوى والاعتراض والتهمة لله بغير صبر، ولا رضا ولا موافقة، بل محض سوء أدب، وشرك بالخلق والأسباب.
وإن كانت في عافية ونعمة، فالأشر والبطر، واتباع الشهوات، كلما نالت شهوة تبعت أخرى، وتطلب أعلى منها، وكلما أعطيت ما طلبت توقع صاحبها في تعب لا غاية له.
وشأنها إذا كانت بلاء لا تتمنى إلا كشفه، وتنسى كل نعيم ولذة، فإذا شفيت رجعت إلى رعونتها وأشرها وبطرها وإعراضها عن الطاعة، وتنسى ما كانت فيه من البلاء، فربما ردَّت إلى ما كانت فيه من البلاء عقوبة؛ وذلك رحمة من الله بها ليكُفَّها عن المخالفة، فالبلاء أولى بها، ولو أنها لم ترجع لرذائلها لكنها جهلت فلم تعلم ما فيه صلاحها. فيض القدير (2/262).