«التُّؤَدَةُ في كُلِّ شيءٍ إلا في عملِ الآخرة».
رواه أبو داود برقم: (4810) واللفظ له، والحاكم في المستدرك برقم: (213)، والبيهقي في السُّنن الكبرى برقم: (20803) بزيادة: «خَيْرٌ»، من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (3009)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1794).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«التُّؤَدَةُ»:
بضم الفوقانية المثناة، وفتح الهمزة، ودال مهملة: التَّأَنِّي. التنوير شرح الجامع الصغير، للصنعاني(5/ 111).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«التُّؤَدَةُ» التَّأَنِّي، والسكون. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (3/ 269).
شرح الحديث
قوله: «التُّؤَدَةُ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«التُّؤَدَةُ» التَّأَني، والتَّثَبُّت، وترك العَجلة، والتَّثْبِيت...، وهو فضل ونعمة من اللَّه، يعطيه من شاء من عباده، ويدل على هذا رواية أبي يعلى: «التَّأَنّي من اللَّه، والعَجَلة من الشيطان»، وأصل التاء في التُّؤَدَةِ مُبْدَلة من الواو. شرح سنن أبي داود (18/ 486).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«التُّؤَدَةُ» مِن أَنَاءَ في الأمر، وهي الأَنَاةُ...، وهذا في الأمور التي لم يُعيِّن الشارع أوقاتها. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 548).
قوله: «في كُل شيء خَيْرٌ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«في كُل شيء» يريد من أعمال الدنيا، «خيرٌ» أي: حَسَنة محمودة. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 111).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«في كل شيء» أي: من الأعمال، «خير» أي: مُستحسَن. مرقاة المفاتيح (8/ 3164).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
«في كل شيء» أي: من الأعمال، أي: خير. عون المعبود شرح سنن أبي داود (10/ 332).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
وذلك أنَّ الأمور الدنيوية لا يُعلَم عواقبها في ابتدائها، وأنها محمودة العواقب حتى يتعجَّل فيها، أو مذمومة فيتأخَّر عنها، بخلاف الأمور الأخروية؛ لقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} البقرة: 148، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} آل عمران: 133. شرح المشكاة (10/ 3224).
قوله: «إلا في عمل الآخرة»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «إلا في عمل الآخرة» فإنها غير محمودة؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} البقرة: 148، ونحوه. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 111).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
المعنى: أنَّ التَّأني في كل شيء مُستَحْسَن، إلا في أَمر الآخرة. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (3/ 269).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
لأن في تأخير الخيرات آفات، ورُوي: أن أكثر صياح أهل النار من تسويف العمل. مرقاة المفاتيح (8/ 3164).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«إلا في الآخرة» هذا عام في كُل أعمال الآخرة أنّ المبادرة إليها أفضل من التأخير، بخلاف حالات الاستثناء المعدودة، كما رَوى المزي في التهذيب في ترجمة محمد بن موسى عن مشيخة من قومه: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «الأَنَاةُ في كل شيء إلا في ثلاث: إذا صِيْحَ في خيل اللَّه، وإذا نُودي بالصلاة، وإذا كانت الجنازة».
وفي حديث حاتم الأصم: «العَجَلَةُ من الشيطان إلا في خمسة، فإنها من سُنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إطعام الطعام، وتجهيز الميت، وتزويج البِكْر، وقضاء الدَّين، والتوبة من الذنب». شرح سنن أبي داود (18/ 486-487).
وقال الغزاليُّ في قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} البقرة: 268:
ينبغي للمؤمن إذا تَحَرَّكَتْ له داعيةُ البذْلِ أن يجيب الخاطر الأول، ولا يتوقَّف؛ فإنَّ الشيطان يَعِدُهُ الفقر، ويخوفه، ويصده عنه.
حُكي أنَّ أبا الحسن البوشنجي كان ذات يوم في الخلاء، فدعا تلميذًا له، وقال: انزع عني القميص وادفعه إلى فلان، فقال: هلَّا صبرت حتى تخرج؟ قال: لم آمن على نفسي أن تتغيَّر، وكان قد خطر لي بَذْلُه. إحياء علوم الدين بتصرف يسير (3/ 262).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
التُّؤدَة مطلوبة في كًل شيء إلا في عمل الآخرة، فإنه يُبادَر فيها، ويُحْرَص عليها، ولا يُتَهاون فيها، ولا تُتْركُ الفرصة لاقتناء ما يعود على الإنسان بالخير.
يعني: أنَّ أمور الدنيا يتأنَّى الإنسان ويتروَّى فيها، وأما بالنسبة لأمور الآخرة فلا يتأنَّى فيها، بل يُقْدِم ويُسَارع، وهذا يدلُّنا على أنَّ أمور الآخرة لا بد فيها من منافسة ومسابقة، ولا بد فيها من الجِدِّ والاجتهاد، ولا بد فيها من اغتنام الفرص، وعدم التساهل، بخلاف أمور الدنيا، فالإنسان يتأنَّى، وقد يكون في التأني الخير الكثير، بخلاف العَجَلة؛ فإنه قد يترتب عليها شيء من الضرر، فأمور الدنيا التأني والتروي فيها لا شك أنه خير للإنسان. شرح سنن أبي داود (ص: 2).
وقال الرّاغب -رحمه الله-:
فإن قيل: لو كانت -العَجلة- مذمومة لما قال موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} طه: 84، قيل: موسى -عليه السلام- أورد ذلك على سبيل الاعتذار؛ إبانةً أنه قصد فعلًا محمودًا وإنْ تحرَّى العجلة فيه، ومَن قَصَدَ فعلًا محمودًا فقد يُعذَر في وقوع ما يكره منه. والمسارعة في الخير هي أن يتدرج الإِنسان في ازدياد المعرفة بفضله، واختياره، والسرور بتعاطيه، وتقديمه على الأمور الدنيوية، وأن لا تُؤخِّره عن أول وقتِ إمكان فِعْله، وعلى ذلك قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} الحديد: 21، ومدح تعالى قومًا فقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} الواقعة: 10، أي: يسابقون بهممهم وأبدانهم، فلذلك كرَّره؛ ولمراعاة المسارعة، وكون بعض المسارعين أعلى منزلة من بعض. تفسير الراغب الأصفهاني (2/ 809).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
والفرق بين المبادرة والعَجَلة: أنَّ المبادرة انتهاز الفرصة في وقتها، ولا يتركها، حتى إذا فاتَت طَلَبَها، فهو لا يطلب الأمور في أدبارها، ولا قَبْل وقتها، بل إذا حضَر وقتُها بادر إليها، ووثب عليها وُثُوب الأسد على فريسته، فهو بمنزلة من يُبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال نُضْجِهَا وإدْرَاكها.
والعَجَلة: طلب أخذ الشيء قبل وقته، فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها كلها، فالمبادرة وسَطٌ بين خُلقين مذمومين:
أحدهما: التفريط والإضاعة.
والثاني: الاستعجال قبل الوقت؛ ولهذا كانت العَجَلة من الشيطان، فإنها خِفَّةٌ وطَيْشٌ وحِدَّة في العبد، تمنعه من التَّثَبُّت والوقار والحِلْم، وتُوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعًا من الشرور، وتمنعه أنواعًا من الخير، وهي قرين الندامة، فقَلَّ مَن استعجل إلا نَدِمَ، كما أنَّ الكسل قرين الفَوْت والإضاعة. الروح (ص: 258).
وقال الشيخ سعيد بن وهف القحطاني -رحمه الله-:
وهذا التسابق إلى الطاعات ليس داخلًا في العجلة المذمومة، بل بيَّن لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ «التُّؤَدَةُ في كلِّ شيءٍ خيرٌ إلَّاَّ في عملِ الآخرة»، وما أحسن ما وُصِفَ به يونس بن عُبيدٍ -رحمه الله-! أنه كان لا يحضره أمرٌ من الله إلا كان له مستعدًا، فهو مثلًا على وضوءٍ دائمًا؛ لئلا يتأخَّر عن صلاة نافلة، أو فريضة متى حضر وقتها، وهو أيضًا زاهدٌ في دنياه، وقد كَتَبَ وصيته استعدادًا للموت، أو للخروج للجهاد، وهكذا.
فإنْ استطعت ألا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل، كما أوصاك، ولا تكن ممن يسبق غيره إلى الدنيا، ويتأخَّر عنهم في أعمال الآخرة. الخشوع في الصلاة في ضوء الكتاب والسنة (ص: 146-147).
وقال الشيخ عُمر المقبل -حفظه الله- بعد أن ذَكر أثر الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:
هذا تصحيحٌ من الفاروق لمفهومٍ قد يختلط على بعض الناس؛ ذلك أنَّ العرب اتَّفقت على ذمِّ العجلة من حيث الجملة، وكانت العرب تكنيها أمَّ النَّدامات، ولهم في ذلك الحكم المنثورة، والأشعار المشهورة، إلا أنَّ هذا المفهوم - كما يقول الفاروق - لا ينبغي أن يُجرى على أمر الآخرة، بل العجلة-أي: المبادرة-إليه محمودةٌ ومطلوبةٌ؛ لأنَّ الإنسان لا يدري متى ينقطع أجله، فعليه أن يبادر ولا يتأنَّى.مواعظ الصحابة(ص:30)