الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«‌مَن ‌مات ‌وعليه ‌دينارٌ أو دِرهمٌ، قُضِيَ من حسناته، ليس ثَمَّ دينارٌ ولا درهمٌ».


رواه أحمد برقم: (5385)، وابن ماجه برقم: (2414) واللفظ له، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (6546)، صحيح الترغيب برقم: (1803).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«دِيْنَارٌ أو دِرْهَمٌ»:
الدِّيْنَارُ: اسم للمَضْرُوب المدَوَّر من الذهب.
والدِّرْهَمُ: اسم للمَضْرُوب المدَوَّر من الفضة. المغرب في ترتيب المعرب (ص: 163).

«قَضَى»:
قضاء الشيء: إحكامُه وإمضاؤه، والفراغ منه، وبه سمي القاضي؛ لأنه إذا حكم فقد فرغ ما بين الخصمين. الغريبين في القرآن والحديث، الهروي (5/ 1556).
والقضاء: الفصل في الحكم... ومنه: قضى القاضي بين الخصوم، أي: قطع بينهم في الحكم.
ومن ذلك: قد قضى فلان دَيْنَه، تأويله: أنه قد قطع ما لِغَريمه عليه، وأدَّاه إليه، وقطع ما بينه وبينه.تاج العروس للزبيدي (39/ 310).


شرح الحديث


قوله: «‌مَن ‌مات ‌وعليه ‌دينارٌ أو دِرهمٌ»:
قال الشيخ محمد الأمين الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «‌وعليه دينار أو درهم » أي: دَينًا. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (14/ 127).

قوله: «‌قُضِيَ من حسناته، ليس ثَمَّ دينارٌ ولا درهمٌ»:
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «‌قُضي من حسناته» أي: أُخذ من حسناته، ويُعطى للدائن في مقابلة دينه. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 77).
وقال ابن حجر-رحمه الله-:
والمراد بالحسنات: الثواب عليها، وبالسيئات: العقاب عليها. وقد اسْتُشْكِل إعطاء الثواب وهو لا يتناهى في مقابلة العقاب وهو مُتناهٍ. وأجيب: بأنه محمول على أن الذي يُعطاه صاحب الحق من أصل الثواب ما يوازي العقوبة عن السيئة، وأما ما زاد على ذلك بفضل الله فإنه يبقى لصاحبه. فتح الباري (11/ 397).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «‌من حسناته» أي: من ثوابها، فيُزاد على ثواب المظلوم. قيل: ثواب الحسنة خالدٌ أبدًا غير متناهٍ، وجزاء السيئة من الظلم غيره متناهٍ، فكيف يقع غير المتناهي موقع المتناهي؟ وكيف يقوم مقامه فيصير المظلوم ظالمًا؟
وأُجِيب: بأنه يُعطى خصمُه من أصل ثواب الحسنة ما يوازي عقوبة سيئته، إذ الزائد عليه فضل من الله -عز وجل- عليه خاصة.
فإن لم تكن للظالم حسنات أُخذ من أصل سيئات أخيه، فيُحط عليه، فيُزاد في عقابه.
قيل: ما التوفيق بينه وبين قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الأنعام: 461، وغيرها؟
وأُجيب: بأنه لا تعارض بينهما؛ لأنه إنما يُعاقب بسبب ظلمه، أو معناه: لا تَزِرُ باختياره وإرادته. عمدة القاري (23/ 112).
وقال الشيخ محمد الأمين الإتيوبي -رحمه الله-:
«‌قُضِي من حسناته» للدائن، وأُعطي له بقدر دينه، «‌ليس ثمَّ‌» أي: في يوم القيامة «‌دينار ولا درهم» يُقضى للدائن. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (14/ 127).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فإن لم تفِ حسناته أُخذ من سيئات خصمه، فأُلقيت عليه، ثم طُرح في النار، كما جاء في خبر آخر.
وأما مَن نيَّته الوفاء، ولم يقضِ عنه الإِمام، ولا تمكَّن منه، فإنه لا تُؤخذ من حسناته، بل يُعوضُ الله عنه غريمه في الآخرة.
(ليس يومئذٍ) أي: يوم الأخذ، وهو يوم القيامة «‌دينار ولا درهم» حتى يقضي غريمه عينَ مالِه الذي في ذمته.
وهذا تحريض على نية القضاء. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 157).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
الذي لم ينو قضاءه هو الذي يُؤخذ من حسناته، وظاهره ولو قضاه عنه الإِمام، أو غيره، وأنه بنفس النية يُؤخذ من حسناته. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 157).
وقال -رحمه الله-:
«‌وليس له ثمة دينار ولا درهم» يُقضى منه ما عليه، ولا تسمح النفس بالعفو؛ لأنه يوم يحتاج فيه كلٌّ إلى مالِه عند الناس. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 243).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
لأن الدينارَ والدرهمَ لا يُوجدان فيه -أي: يومِ القيامة-. شرح المصابيح (5/ 359).
قال ابن حجر-رحمه الله-:
ولا تعارض بين هذا حديث المفلس وبين قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الأنعام: 164؛ لأنه إنما يُعاقَب بسبب فعله وظلمه، ولم يعاقب بغير جناية منه، بل بجنايته، فقُوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله تعالى في عباده. فتح الباري (5/ 102).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وفي حديث ابن مسعود عند أبي نعيم: «‌يُؤخذ بيد العبد، فيُنْصَبُ على رؤوس الناس، ويُنادى عليه: هذا فلان ابن فلان، فمن كان له حق فليأتِ، فيأتون، فيقول الرب: آتِ هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب، فَنِيَت الدنيا فمِن أين أُوتِيهِم؟ فيقول للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة، وأعطوا كل إنسان بقدر طِلْبَتَه، فإن كان ناجيًا، وفَضَلَ من حسناته مثقال حبة من خردل، ضاعَفَها الله تعالى حتى يُدخله بها الجنة‌». إرشاد الساري (9/ 311).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وقد استُشكل ذلك بأنه كيف يُعطى الثواب، وهو لا يتناهى في مقابلة العقاب وهو يتناهى، يعني على القول بخروج الموحدين من النار؟
وأجاب البيهقي: بأنه يُعطى من حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته من غير المضاعفة التي يضاعف الله تعالى بها الحسنات؛ لأن ذلك من محض الفضل الذي يخصُّ الله تعالى به من يشاء من عباده.
وهذا فيمن مات غير ناوٍ لقضاء دَينه، وأما من مات وهو ينوي القضاء فإنَّ الله يقضي عنه. سبل السلام (2/ 338).
قال ابن حجر الهيتمي-رحمه الله-:
الكبيرة الخامسة والسادسة بعد المائتين: الاستدانة مع نيَّته عدم الوفاء، أو عدم رجائه بأن لم يضطر، ولا كان له جهة ظاهرة يفي منها، والدائن جاهل بحاله.
أخرج البخاري -رحمه الله- وغيره: «مَن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله». والطبراني -رحمه الله-: «مَن ادَّانَ دَيْنًا وهو ينوي أن يُؤدِّيه أدَّاهُ الله عنه يوم القيامة، ومن اسْتَدَان دَيْنًا وهو ينوي ألا يُؤدِّيه فمات قال الله -عز وجل-له يوم القيامة: ظننتَ أني لا آخذ لعبدٍ بحقه؟! فيؤخذ من حسناته فيُجعل في حسنات الآخر، فإن لم تكن له حسنات أُخِذ من سيئات الآخر فيُجعل عليه» ...، «من مات وعليه درهم أو دينار قُضي من حسناته، ليس ثَمَّ دينار ولا درهم» ...، ولا شك أن من أخذ دَينًا لا يرجو له وفاء من جهة ظاهره، والدائن جاهل بحاله، فقد خدع الآخِذ منه حتى أعطاه مالَه؛ إذ لولا خديعته له لم يعطه له، وجميع التغليظات في الدَّين المذكورة في هذه الأحاديث وغيرها ينبغي حملها على إحدى هاتين الصورتين اللتين ذكرتهما في الترجمة، أو على ما لو استَدَانَه ليصرفه في معصية. وما جاء فيه من التخفيف كالإعانة، والقضاء عنه وغيرهما، ينبغي حمله على ما لو استدَانَه في طاعةٍ ناويًا أداءَه، وله وجهة ظاهرة يؤدي منها، أو والدائن عالم بحاله. الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 410- 414).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
يعني: ولا ينوي قضاءه، أو لم يترك له وفاء، «‌فليس بالدينار ولا بالدرهم» معناه: أنه لا يمكنه قضاؤه بالدينار، ولا بالدرهم؛ حيث لا دينار ولا درهم هناك، ولكنه يدفع لغريمه من حسناته، فإذا لم تكْفِ تحمَّل من سيئات غريمه بقدر ما يكفي، نعوذ بالله من ذلك.
أما إذا استدان لحاجة ناويًا السداد، ولم يمكنه لكونه فقيرًا، ومات على ذلك، فالله تعالى يُرضي غرماءه، ويُوفي عنه. الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (15/ 87).
قال محمد عبد العزيز الخَوْلي -رحمه الله-:
«... ليس ثَمّ دينار ولا درهم مِن قَبل أن يُؤخذ لأخيه من حسناته» ...
ما أجمل العدل وإيتاء كُلّ ذِي حقّ حقه! وما أحسن الوئام يجمع شمل المسلمين، ويقوي رابطتهم، ويشد أواصر وحدتهم! وما أجدرهم أن يصدروا في أعمالهم عن حب يتبادلونه، وإخلاص يفيض عليهم هناءة وسعادة، وما أشقاهم إذا لبسوا ثياب النمور، واضْطَغَنُوا بالإحَن والبغضاء، واستشعروا الغِلَّ والضَّغن كل يبغي الشر لأخيه، ويود لو الْتَهَم ما في يده، وأودى بطارِفِه وتَالِدِه، واستأثر دون الآخر بالخير ومَرافق الحياة. ماذا يرجو الظالم من ظلمه؟ وماذا يرتجي لعاقبته؟ وما الذي أعدّه يوم يُقتص منه، ويؤخذ للمظلوم بحقه؟الأدب النبوي (ص: 282).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في الدنيا يمكن أنْ يتحلل الإنسان مِن المظالم التي عليه؛ بأدائها إلى أهلها، أو استحلالهم منها.
لكن في الآخرة ليس هناك شيء إلا الأعمال الصالحة، فإذا كان يوم القيامة اقتص من الظالم للمظلوم من حسناته؛ يُؤخذ من حسناته التي هي رأس ماله في ذلك اليوم، فإن بقي منه شيء وإلا أُخذ من سيئات المظلوم، وحمُلت على الظالم -والعياذ بالله-، فازداد بذلك سيئاتٍ إلى سيئاته. شرح رياض الصالحين (2/ 509).


ابلاغ عن خطا