عن عُقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: اتَّبَعْتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو راكبٌ، فوضعتُ يدي على قَدَمِه، فقلتُ: أَقْرِئْنِي يا رسول الله سورة هود، وسورة يوسف، فقال: «لن تقرأ شيئًا أَبْلَغَ عند الله من {قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ}، و{قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}».
رواه أحمد برقم: (17341)، والنسائي برقم: (953)، ورقم: (5439) واللفظ له.
صحيح الجامع برقم: (5217)، صحيح سنن النسائي برقم: (953).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«اتَّبَعْتُ»:
أي: سِرْتُ وراءه. شرح صحيح البخاري، للسفيري(45/ 1).
«أَبْلَغَ عند الله»:
أي: أَتَمَّ، والمعنى: لن تقرأ أَتَمَّ فِي باب التَّعَوُّذِ لدفع السُّوءِ وَغَيْرِهِ من سُور كلام الله بمثل هاتين السورتين. مرقاة المفاتيح، للقاري (4/ 1486).
«أَعُوذُ»:
أي: أَعْتَصِمُ وألْتَجِئُ. مرقاة المفاتيح (2/ 627).
«الفَلَق»:
كُلّ ما فَلَقَهُ الرّبُّ فهو فَلق. قال الحسن: الفَلق كُل ما انفلق عن شيء: كالصُّبح والحَبّ والنَّوى. قال الزجاج: وإذا تأملت الخَلق بانَ لك أنّ أكثرهُ عن انفلاقٍ، كالأرض بالنبات والسّحاب بالمطر. مجموع الفتاوى لابن تيمية (17/504)
شرح الحديث
قوله: «قال: اتَّبعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو راكب، فوضعتُ يدي على قدَمِهِ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «اتَّبعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» قد بيَّن فيما يأتي للمصنف في كتاب الاستعاذة أنه كان في طريق مكة. وفي رواية: أنه كان في غزوة.
فيُحتمل: أنْ يكون ذلك في غزوة الفتح، ويُحتمل: أنْ تتعدَّد الواقعة، والله تعالى أعلم.
«وهو راكبٌ» جملة حالية، من المفعول. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/ 320).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«عن عُقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: كُنت أَقُودُ برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- زمام ناقته في السفر»، وللنسائي: «اتَّبعتُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو راكب».
وفيه: دليل على أنَّ التلميذ يتقرَّب إلى الله تعالى بخدمة شيخه، ويعلم أنَّ ذُلَّهُ لشيخه عزٌّ، وخضوعَه فخرٌ له، وتواضعَه رفعةٌ، وأخَذَ ابنُ عباس مع جلالته، وعلو مرتبته بركاب زيد بن ثابت الأنصاري، قال: "هكذا أُمرنا أن نتواضع لمن نتعلَّم منه". شرح سنن أبي داود (7/ 172).
قوله: «فقلتُ: أَقْرِئْنِي يا رسول الله سورة هود وسورة يوسف»:
قال القاري -رحمه الله-:
«أَقْرِئْنِي» بفتح الهمزة، وكسر الراء. مرقاة المفاتيح (4/ 1493).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«أَقْرِئْنِي» أمرٌ من الإقراء. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (6/ 57).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
«أَقْرِئْنِي» من الإقراء، وهو تعليم القرآن. الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (18/ 333).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فقلتُ: أَقْرِئْنِي يا رسول الله سورة هود»، هود: اسم نبي -عليه السلام- عربي؛ ولهذا ينْصَرِفُ، وسُمِّيت السورة باسمه؛ لأنها تتحدَّث عن قصته...
وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.
وقيل: هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن عم أبي عاد. انتهى بيضاوي.
«وسورة يوسف» وهو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام-، سُمِّيت السورة باسمه لما ذكرنا. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/ 320-321).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
كان يرغب أنْ يُعلِّمه سورة هود وسورة يوسف...؛ لما فيهما من القصص والطول. الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (18/ 349).
قوله: فقال: «لن تقرأ شيئًا أَبْلَغَ عند الله من {قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ}، و{قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فقال -صلى الله عليه وسلم-: لن تقرأ شيئًا أَبْلَغَ عند الله» زاد في كتاب الاستعاذة: «عز وجلّ».
«من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} الناس: 1».
والمراد: أنه لا تَقْرَأُ بشيء أعظم في باب الاستعاذة من هاتين السورتين؛ لما يأتي في كتاب الاستعاذة من طريق ابن عجلان، عن سعيد المقبري عن عقبة -رضي الله عنه- وفيه: «... ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذٌ بمثلهما»، فلا ينافي هذا ما ثبت من أفضلية فاتحة الكتاب وآية الكرسي. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/ 321).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «لن تقرأ شيئًا أَبْلَغَ عند الله» أي: أتمَّ وأعْظَمَ في باب التعوُّذ لدفع السوء وغيره، وهذا لفظ النسائي وأحمد في رواية.
وللدارمي وأحمد في رواية أخرى: «لن تقرأ من القرآن سورةً أَحَبَّ إلى الله، ولا أَبْلَغَ عنده»، وكذا عند ابن حبان والحاكم. مرعاة المفاتيح (7/ 240).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «لن تقرأ شيئًا أَبْلَغَ» بيان لتقييد السؤال المطلق، أي: أَأَقْرأُ سورة هود وسورة يوسف لدفع السوء عني؟ فقال: «لن تقرأ شيئًا أَبْلَغَ لدفع السوء من هاتين السورتين»، ويؤيده قوله في حديث عقبة أيضًا: «تعوَّذْ بهما؛ ما تعوَّذ مُتعوِّذ بمثلهما». شرح المشكاة (5/ 1671).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«لن تقرأ شيئًا أَبْلَغ» أي: أتمَّ في التعوُّذ «عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} الناس: 1»، والمراد: التحريضُ على التعوُّذ بهاتَين السورتَين. شرح المصابيح (3/ 47).
وقال القاري -رحمه الله-:
والمعنى: ليس تعويذٌ مثلهما، بل هما أفضل التعاويذ، وفي رواية له أيضًا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: «اقْرَأْ بهما كلَّما نمْتَ، وكلَّما قُمْتَ».مرقاة المفاتيح (7/ 2886).
وقال القاري -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «لن تقرأ شيئًا أَبْلَغَ» أي: أتمَّ في باب التعوُّذ لدفع السوء وغيره، «عند الله» أي: في سُوَرِ كلامه، أو في حُكمه، بمقتضى قضائه وقدره. مرقاة المفاتيح (4/ 1486).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
«قال: لن تقرأ شيئًا أَبْلَغَ» أي: في باب التعوذ. لمعات التنقيح (4/ 569).
وقال الشيخ محمد بن علي بن آدم الإتيوبي -رحمه الله-:
فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها، بأَوْجَزِ لفظ، وأَجْمَعِه، وأَدَلِّهِ على المراد، وأَعَمِّهِ استعاذةً، بحيث لم يبق شرّ من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما.
فإن سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة:
أحدها: شر المخلوقات التي لها شرّ عمومًا.
الثاني: شر الغاسق إذا وقب.
الثالث: شر النفاثات في العقد.
الرابع: شر الحاسد إذا حسد. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (16/ 436).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وفي المعوِّذتين: الاستعاذةُ مِن كل مكروه جملةً وتفصيلاً، فإنَّ الاستعاذَة مِن شَرِّ ما خلق تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يُستعاذ منه، سواء أكان في الأجسام أو الأرواح، والاستعاذَةَ مِن شَرِّ الغاسق وهو اللَّيل، وآيتِهِ وهو القمر إذا غاب، تتضمن الاستعاذةَ مِن شَرِّ ما ينتشِرُ فيه من الأرواح الخبيثة التي كان نورُ النهار يحولُ بينها وبين الانتشار، فلما أظلم الليل عليها، وغاب القمرُ، انتشرت وعاثت.
والاستعاذة مِن شَرِّ النفاثات في العُقد تتضمن الاستعاذة من شَرِّ السَّواحِرِ وسِحْرِهِنَّ.
والاستعاذة مِن شَرِّ الحاسد تتضمن الاستعاذَة مِن النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها.
والسورةُ الثانية: تتضمن الاستعاذة مِن شَرِّ شياطين الإنس والجن، فقد جمَعَت السورتان الاستعاذة من كُلِّ شَرٍّ، ولهما شأنٌ عظيم في الاحتراس والتحصُّن من الشرور قبل وقوعها؛ ولهذا أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- عُقبةَ بن عامر بقراءتهما عَقِبَ كُلِّ صلاةٍ، ذكره الترمذي في جامعه، وفي هذا سِرٌ عظيم في استدفاع الشرورِ من الصلاة إلى الصلاة.
وقال: «ما تَعَوَّذ المتعوِّذون بمثلهما»، وقد ذُكر أنه -صلى الله عليه وسلم- سُحِرَ في إحدى عشرةَ عُقدة، وأنَّ جبريلَ نزل عليه بهما، فجعَلَ كُلَّما قرأ آية منهما انحلَّتْ عُقدة، حتى انحلَّتْ العُقَد كُلُّها، وكأنما أُنْشِطَ من عِقَال. الطب النبوي (ص:134- 135).
وقال ابن القيم -رحمه الله- أيضًا:
قراءة هاتين السورتين فإن لهما تأثيرًا عجيبًا...؛ ولهذا قال النبي: «ما تَعوَّذ المتعوِّذون بمثلهما»، وقد كان يعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأَمَر عُقبة أن يقرأ بهما دُبُر كُلّ صلاة، وتقدَّم قوله: «إنّ مَن قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثًا حين يمسي، وثلاثًا حين يصبح كَفَتْهُ مِن كُل شيء». بدائع الفوائد (2/ 268).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)