«أُنزل أو أُنزلتْ عليَّ آياتٌ لم يُرَ مثلُهُن قَطُّ: المـُعَوِّذَتَيْن».
وفي رواية أيضًا: «ألم ترَ آياتٍ أُنزلت الليلة لم يُرَ مثلُهُن قَطُّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس}».
رواه مسلم برقم: (814)، من حديث عُقبةَ بن عَامِر -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«آيَاتٌ»:
جمع آية: وهي قرآن مركَّب من جُمَلٍ ذو مَبْدأ ومقطع، ومندرِج في سورة، وأصلها: العلامة، ... أو الجماعة؛ لأنها جماعة كلمات.
وقيل: الآية: طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها وما بعدها. وقيل: هي الواحدة من المعدودات في السور؛ سمّيت بها لأنها علامة على صدق مَن أتى بها، وعلى عجز المتحدَّى بها.
وقيل: لأنها علامة على انقطاع ما قبلها من الكلام، وانقطاعها مما بعدها.كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم (1/ 76).
«قَطُّ»:
بفتح القاف، وضم الطاء المهملة المشددة، ظرفٌ لاستغراق ما مضى من الزمان، بمعنى: أبدًا. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/ 293).
«المـُعَوِّذَتَيْن»:
تثنية مُعَوِّذَة، اسم فاعل من عَوّذَ يُعوِّذ تعويذًا، إذا قال: أُعِيذُك بالله من كل شر.
وأراد بالمعوِّذتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} الناس: 1، سُمِّيتَا بذلك؛ لأنهما عوَّذَتَا صاحبهما، أي: عَصَمَتاه من كل سوء. المصباح المنير (ص: 225)، وذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/ 308).
«أعوذُ»:
أي: ألجأ وألوذ. كشف المشكل (4/ 141).
«الفَلَق»:
كُلّ ما فَلَقَهُ الرّبُّ فهو فلق. قال الحسن: الفَلق كُل ما انفلق عن شيء: كالصُّبح والحَبّ والنَّوى. قال الزجاج: وإذا تأملت الخَلق بانَ لك أنّ أَكثرهُ عن انفلاقٍ، كالأرض بالنبات والسّحاب بالمطر..مجموع الفتاوى لابن تيمية(17/504)
شرح الحديث
قوله: «أُنزل أو أُنزلتْ عليَّ آياتٌ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «أَوْ أُنْزِلَتْ» (أو) للشكّ من الراوي. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (16/ 440).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أُنزل أو أُنزلتْ» الشك من إسماعيل بن أبي خالد، أو من قيس بن أبي حازم. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 177).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أُنزل عليَّ آياتٌ» أي: إحدى عشرة آية. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 280).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وقوله: «أُنزل عليَّ آياتٌ» هذا يدل على أنَّ المُعوِّذتين من القرآن، خلافًا للبعض. شرح المصابيح (3/ 28).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقوله: «آياتٌ أُنْزِلتْ» دليل واضح على أنهما من القرآن، وردٌّ على من تأوَّل على ابن مسعود غير ذلك، وردٌّ على من زعم أنَّ لفظة {قُل} ليست من السورتين، وإنما أُمِرَ -عليه السلام- أن يقول، فقال، وهو شيء روي في حديث تأوَّله بعض الملاحدة على هذا، وكتْبها في المصحف، والإجماع على أنها من القرآن يردُّ قولهم. إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/ 182-183).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قال عياض: فيه ردٌّ على مَن نَسَبَ إلى ابن مسعود كونهما ليستا من القرآن، وعلى مَن زعم أن لفظ {قُلْ} ليس من القرآن، وإنما أُمِرَ أن يقول.
قلتُ: أما الرد على مَن نَسَب إلى ابن مسعود فلا يخفى أنه لا دليل عليه؛ لأنه روي عن غيره أنه قال ذلك. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 280-281).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: بيان عِظَم فضل هاتين السورتين، وقد سبق قريبًا الخلاف في إطلاق تفضيل بعض القرآن على بعض.
وفيه: دليل واضح على كونهما من القرآن، وردٌّ على مَن نَسَب إلى ابن مسعود خلاف هذا.
وفيه: أنَّ لفظة {قُلْ} من القرآن ثابتة من أول السورتين بعد البسملة، وقد أجمعت الأُمَّة على هذا كله. شرح النووي على مسلم (6/ 96-97).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
أجمع المسلمون على أنَّ المعوِّذتين والفاتحة وسائر السور المكتوبة في المصحف قرآن، وأن من جحد شيئًا منه كفر، وما نُقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل، ليس بصحيح عنه، قال ابن حزم في أول كتابه المحلى: هذا كذب على ابن مسعود موضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زرٍّ عن ابن مسعود، وفيها الفاتحة والمعوذتان. المجموع شرح المهذب (3/ 396).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد تأوَّل القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب الانتصار، وتبِعَه عياض وغيره ما حُكي عن ابن مسعود، فقال: لم يُنكِر ابن مسعود كونهما من القرآن، وإنما أنكر إثباتهما في المصحف، فإنه كان يرى أن لا يُكتب في المصحف شيئًا إلا إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ في كتابته فيه، وكأنه لم يَبْلُغْه الإذن في ذلك.
قال: فهذا تأويل منه، وليس جحدًا لكونهما قرآنًا، وهو تأويل حسن، إلا أن الرواية الصحيحة الصريحة التي ذكرتُها تدفع ذلك، حيث جاء فيها: «ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله»، نعم يمكن حمل لفظ كتاب الله على المصحف، فيتمشى التأويل المذكور.
وقال غير القاضي: لم يكن اختلاف ابن مسعود مع غيره في قرآنِيَّتِهِما، وإنما كان في صفة من صفاتهما، انتهى.
وغاية ما في هذا: أنه أَبْهَم ما بيَّنه القاضي، ومَن تأمَّل سياق الطُّرق التي أوردتُها للحديث استبعد هذا الجمع.
وأما قول النووي في شرح المهذب: أجمع المسلمون على أنَّ المعوِّذتين والفاتحة من القرآن، وأن مَن جَحَد منهما شيئًا كفر، وما نُقل عن ابن مسعود باطل، ليس بصحيح، ففيه نظر، وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد ابن حزم، فقال في أوائل المحلى: ما نُقل عن ابن مسعود من إنكار قرآنية المعوِّذتين، فهو كذب باطل.
وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره: الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل. والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يُقبل، بل الرواية صحيحة، والتأويل محتمل، والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر فهو مخدوش، وإن أراد استقراره فهو مقبول، وقد قال ابن الصباغ في الكلام على مانعي الزكاة: وإنما قاتلهم أبو بكر على منع الزكاة، ولم يقل: إنهم كفروا بذلك، وإنما لم يكفروا؛ لأن الإجماع لم يكن استقر، قال: ونحن الآن نُكفِّر مَن جَحَدها، قال: وكذلك ما نُقل عن ابن مسعود في المعوِّذتين، يعني: أنه لم يثبت عنده القطع بذلك، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك.
وقد استشكل هذا الموضع الفخر الرازي فقال: إن قلنا: إن كونهما من القرآن كان متواترًا في عصر ابن مسعود لَزِمَ تكفير من أنكرهما، وإن قلنا: إن كونهما من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لَزِمَ أن بعض القرآن لم يتواتر، قال: وهذه عُقدة صعبة.
وأُجِيْبَ: باحتمال أنه كان متواترًا في عصر ابن مسعود، لكن لم يتواتر عند ابن مسعود، فانْحَلَّت العقدة بعون الله تعالى. فتح الباري (8/ 743).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: لبعضٍ ممن لا يعتد به، ففي جواهر الفقه: يَكْفُر من أنكر كون المعوذتين من القرآن غير مُؤَوِّل، وقال بعض المتأخرين: كَفَرَ مطلقًا أوَّلَ أو لم يُؤَوِّل، وفي بعض الفتاوي: في إنكار المعوِّذتين من القرآن اختلاف المشايخ، والصحيح: أنه كفر، كذا في مفتاح السعادة، والصحيح ما قال في الخلاصة: رجل قال: المعوِّذتان ليستا من القرآن، لا يكفر، هكذا رُوي عن ابن مسعود، وأُبي بن كعب: أنهما قالا: ليستا من القرآن، وقال بعض المتأخرين: يكفر؛ لانعقاد الإجماع بعد الصَّدر الأول على أنهما من القرآن.
والصحيح: القول الأول: أنه لا يكفر؛ لأن الإجماع المتأخر لا يرفع الاختلاف في الصَّدر الأول.
وقال ابن حجر: وما أفاده الحديث أن المعوِّذتين من القرآن أجمع عليه الأُمَّة، وما نُقل عن ابن مسعود مما يخالف ذلك إمّا مكذوب عليه على رأي، وإمّا صحيح عنه كما قاله بعض الحفاظ، لكنه نُفي عنه باعتبار علمه، ثم أجمعوا على خلاف نفيه.
وعلى أن لفظ {قُلْ} بعد البسملة في أول السورتين من القرآن، وقد أجمعت الأُمَّة على ذلك. مرقاة المفاتيح (6/491- 492).
وقال المازري -رحمه الله-:
ويُحْمَل أيضًا ما رُوي من إسقاط المعوِّذتين من مصحفه -أي ابن مسعود- على أنه اعتقد أنه لا يلزمه أن يكتب كل ما كان من القرآن، وإنما يكتب منه ما كان له فيه غرض، وكأنَّ المعوذتين لقصرهما، وكثرة دورهما في الصلاة، والتعوذ بهما عند سائر الناس، اشتهرت بذلك اشتهارًا استغنى معه عن إثبات ذلك في المصحف. المعلم بفوائد مسلم (1/ 465).
وقال العيني -رحمه الله-:
وقد رُوي عن ابن مسعود أنهما لَيْستا من القرآن، والصحيح: أنهما من القرآن، وإنما لم يَثبتا في مصحف ابن مسعود؛ للأَمْن عن نسيانهما؛ لأنهما تجريان على لسان كل إنسان؛ وإلا فهما من القرآن. شرح أبي داود (5/ 380).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند: أنه كان عبد الله يَحُكُّ المعوِّذتين من المصحف ويقول: "إنهما ليستا من كتاب الله".
قال البزار: لم يتابِع ابنَ مسعود على ذلك أحدٌ من الصحابة، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قرأ بهما في الصلاة. التحبير لإيضاح معاني التيسير (2/ 468).
قوله: «لم يُرَ مثلُهُن»:
قال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لم يُرَ مثلهن» ضبطنا (نَرَ) بالنون المفتوحة، وبالياء المضمومة، وكلاهما صحيح. شرح صحيح مسلم(6/ 96-97).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«لم يُر مثلهن قط» أي: لم يُوجَد آياتٌ كلُّهن تعويذٌ للقارئ من شرِّ الأشرار غير هاتين السورتين. شرح المصابيح (3/ 27).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «لم يُرَ مثلُهُن» أي: في بابهما، وهو التعوُّذ، وهو بصيغة المفعول، ورَفْع «مثلُهن»، وفي نسخة بالخِطَاب على صيغة الفاعل، ونَصْب «مثلَهن». مرقاة المفاتيح (4/ 1467).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«لم يُرَ مثلُهن» من جهة الفضل..، والأظهر: أنَّ المراد لم تكن سورةٌ آياتها كلها تعويذ من شر الأشرار وغيرهما، وعلى الأول فلا يُعارض ما تقدَّم في آية الكرسي؛ لأن تلك آية واحدة، وهذه آيات، أو يقال: إنه عام مخصوص، أو يقال: ضَمُّ هذا إلى ذلك يُنْتِجُ أن الجميع سواء في الفضل، ذكره الأُبِّي. فيض القدير (3/ 56).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«لم يُر» بالمثناة التحتية مضمومة والراء، «مثلُهُن» من جهة القِصَر، والأظهر: أنَّ المراد فيما أُنْزِلْنَ لأَجْله، وهو الاستعاذة، ودفع الأعين، وكفاية شر الحاسد في العائن، والنفاثات وغيرها. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 280-281).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«لم يُرَ مثلُهُن» بالبناء للمفعول أيضًا، و«مثلُهن» نائب فاعله، والجملة في محل جر صفة بعد صفة، أو في محل نصب حال...
والمعنى: أنه لم يُنزل الله تعالى عليَّ فيما مضى من الزمان مثل هؤلاء الآيات في بابهن، وهو الاستعاذة، يعني: أنه لم يكن آياتُ سورةٍ كُلُّهُنَّ تعويذ للقارئ غير هاتين السورتين، ففي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ من أعين الجانّ، وأعين الإنسان، فلما نزلت المعوِّذتان أخذ بهما، وترك ما سواهما» أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح؛ ولما سُحِر استشفى بهما؛ وإنما كان كذلك لأنهما من الجوامع في هذا الباب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/ 328).
وقال الشيخ فيصل ابن مبارك -رحمه الله-:
قوله: «لم يُرَ مثلُهن» أي: في التعويذ، وقد استعاذ بهما -صلَّى الله عليه وسلَّم- لما سَحَرَهُ لبيد بن الأعصم، فذهب عنه ذلك بالكلية. تطريز رياض الصالحين (ص: 592).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
وقوله: «لم يُرَ مثلُهن» أي: في باب التعوذ؛ فإن فيهما تعوذًا من المكاره الظاهرة والباطنة على أبلغ وجه، وأوكده. لمعات التنقيح (4/ 551).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«لم يُرَ مثلُهن» أي: في زمن من الأزمنة الماضية، يعني: في بابهن، وهو التعويذ. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 177).
وفي الرواية الأخرى: «ألم ترَ آياتٍ أُنزلت الليلة؟»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ألم تر؟» بصيغة المعلوم في أكثر النسخ.. أي: ألم تعلم؟ مرقاة المفاتيح (4/ 1467).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ألم تُرَ؟» على بناء المجهول، من الإراءة. شرح المصابيح (3/ 27).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «ألم ترَ؟» هي كلمة تعجب وتعجيب؛ ولذلك بيَّن معنى التعجب بقوله: «لم يُرَ مثلهن». شرح المشكاة (5/ 1650).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«ألم تر آياتٍ أُنزلت الليلة؟» الرؤية المراد منها العِلم، والاستفهام تقريري حاصله: إثبات ما بعد النفي، أي: أعلم آيات أنزلت الليلة، لم «يُرَ» أي: لم يُعلم مثلُهن في عِظَم الأجْر، وثواب القراءة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/ 622-623).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ألم تَر؟» يا عقبة، كلمة تعجُّب، أي: تَعجب من «آيات أُنزلت» عليَّ هذه «الليلة» يعني: البارحة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 176).
قوله: «قَطُّ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «قَطُّ» لتأكيد النفي في الماضي. مرقاة المفاتيح (4/ 1467).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «قَطُّ» من ظروف الزمان، تُستعمل للماضي، وقد تقدَّم قول شيخنا عبد الباسط المِنَاسِيّ -رحمه الله تعالى- في ضبطها:
وَخَمْسَةً جَعَلَ مَنْ قَطُّ ضَبَطْ *** قَطُّ وَقُطُّ قَطِّ ثُمَّ قَطُ قَطْ. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/ 328).
قوله: «المـُعَوِّذَتَيْن»:
قال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «المعوِّذتين» هكذا هو في جميع النُّسخ، وهو صحيح، وهو منصوب بفعل محذوف، أي: أعني المعوِّذتين، وهو بكسر الواو. شرح النووي على مسلم (6/ 96-97).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وفي أحداث الطلاب من يقول: المعوَّذتين بفتح الواو، والصواب الكسر. كشف المشكل (4/ 141).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
«المعوِّذتين» بكسر الواو المشددة، أي: سورة الفلق، وسورة الناس، وهما مدنيتان، وقيل: مكيتان، والأُولى خمس آيات، والثانية ست آيات. تحفة الأحوذي (9/ 213).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
والمعوِّذتان بكسر الواو، سورة الفلق، وتالِيَتُها؛ لأَن مبدأَ كل واحدة منهما: {قُلْ أَعُوذُ}. لسان العرب (4/ 3163).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
والمعوِّذات: جمعُ مُعوِّذة، اسم فاعل، وتسمية الصَّمَد مُعوِّذة تغليب. التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 218).
وقال المظهري -رحمه الله-:
سُمِّيتا مُعوِّذتين؛ لأنهما تُزيلان وتدفعان الآفةَ من قارئهما. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 178).
وفي الرواية الأخرى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} الناس: 1»:
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، الصبح؛ لأن الليل يُفْلق عنه، وفي الْمَثَل: هو أَبْيَنُ مِن فَلَقِ الصبح. أو الخَلْق؛ لأنه فَلَق عنهم ظُلمة العدَم. أو جهنم، أو جُبٌّ، أو سِجْنٌ، أو بيتٌ فيها (أي جهنم) إذا فُتح صاح أهل النار من شدة حرِّه، أو ما ينفلق من النوى والحَبِّ، أو ما ينفلق من الأرض عن النبات، أو الجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد.
وقيل: فَلَقَ القلوب بالأفهام، حتى وصلت إلى الدلائل والأعلام، والمراد هنا السورة بكمالها، وهكذا فيما يأتي.
و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} الناس: 1، أي: مُربيهم، وخصه به تشريفًا، ولاختصاص التَّوَسْوُس بهم، فالاستعاذة واقعة من شر الموَسْوِسِ في صدور الناس، فكأنه قيل: أعوذ من شر الموَسْوِسِ إلى الناس بربهم.
وقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يتعوَّذ من شر الجان والإنسان، بغيرهما، فلما نزلتا ترك التعوُّذ بما سواهما؛ ولما سُحِرَ استشفى بهما.
هذا وقد بيَّن بهذا الخبر عِظَم فضل هاتين السورتين، وأن لفظة {قُلْ} من القرآن، وعليه الإجماع، قال عياض: وفيه رد على من نسب لابن مسعود كونهما ليستا من القرآن، وعلى من زعم أن لفظ {قُلْ} ليس من السورتين، وإنما أُمِرَ أن يقول فقال. فيض القدير (3/ 56).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
فإن قلتَ: فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر، والمأمور به، فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} الناس:1، ومعلوم أنه إذا قيل: قل: الحمد لله، وقل: سبحان الله، فإن امتثاله أن يقول: الحمد لله، وسبحان الله، ولا يقول: قل: سبحان الله؟
قلتُ: هذا هو السؤال الذي أورده أُبي بن كعب على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعينه، وأجابه عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال البخاري في صحيحه: حدثنا قتيبة، ثنا سفيان عن عاصم وعبدة عن زِرٍّ، قال: سألتُ أُبي بن كعب عن المعوِّذتين، فقال: سألتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «قيل لي، فقلت»، فنحن نقول كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رواه البخاري، ثم قال: حدثنا علي بن عبد الله ثنا سفيان ثنا عبدة بن أبي لبابة عن زِرِّ بن حُبَيش، وحدثنا عاصم عن زِرٍّ قال: سألتُ أُبي بن كعب قلت: أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، فقال: إني سألتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «قيل لي فقلت: قل»، فنحن نقول كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قلتُ: مفعول القول محذوف، وتقديره: قيل لي: قل، أو قيل لي: هذا اللفظ، فقلت كما قيل لي.
وتحت هذا السر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس له في القرآن إلا بلاغهُ، لا أنه هو أنْشَأَه مِن قِبَل نفسه، بل هو المبلِّغ له عن الله، وقد قال الله له: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، فكان يقتضي البلاغ التام أن يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، كما قال الله، وهذا هو المعنى الذي أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه بقوله: «قيل لي فقلت» أي: إني لستُ مبتدئًا، بل أنا مبلِّغ، أقول كما يقال لي، وأُبَلِّغُ كلام ربي كما أنزله إلي.
-فصلوات الله وسلامه عليه-، لقد بلَّغَ الرسالة، وأدى الأمانة، وقال كما قيل له، فكَفَانا وشَفَانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول: هذا القرآن العربي، وهذا النظم كلامه ابتدأ هو به، ففي هذا الحديث أَبْيَنُ الرد لهذا القول، وأنه -صلى الله عليه وسلم- بلَّغ القول الذي أُمر بتبليغه على وجهه ولفظه، حتى إنه لما قيل له: قل، قال هو: قل؛ لأنه مبلِّغ مَحْضٌ، وما على الرسول إلا البلاغ. بدائع الفوائد (2/202- 203)
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، أي: سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، وليس المقصود الآية؛ لقوله: «آيات». فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/ 623).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
وقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} الناس: 1، خبر مبتدأ محذوف، أي: هي -أي تلك الآيات- {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1... الخ. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 176).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
والظاهر: أن البسملة فيهما ليست من آياتهما، ويوافق ما عليه المحققون من أصحابنا: أنها نزلت للفصل بين السور، وورد أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يتعوَّذ من عين الجان، وعين الإنسان، فلما نزلت أخذ بهما، وترك ما سواهما، ولما سُحِرَ -عليه الصلاة والسلام- استشفى بهما. مرقاة المفاتيح (4/ 1467).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ثم أبان ذلك بقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، الصبح؛ لأن الليل ينفلق عنه، وفيه: الحَبُّ والنَّوى الْمُنْفَلق بالإنبات، وقيل غير ذلك، ولا مانع من أنه أُريد كل ما يتعلَّق بالقدرة الإلهية.
والمراد: إلى آخر السورة، إما أنه أطْلَقَه عليها من إطلاق الجزء على الكُلِّ، أو لأنها مُسمَّاة بهذا اللفظ، ومثله قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} الناس: 1، أي مُرَبِّيهم، وخَصَّهم تشريفًا لهم. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 280-281).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
فيه بيان عِظَمِ فضل هاتين السورتين، وأن لفظ: {قُلْ} من القرآن ثابت أول السورتين بعد البسملة، وقد أجمعت الأمة على ذلك. التحبير لإيضاح معاني التيسير (2/ 466).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
من فوائد الحديث:
- بيان عِظَمِ فضل هاتين السورتين، وقد سبق اختلاف أهل العلم في جواز إطلاق تفضيل بعض سور القرآن على بعض، وترجيح الراجح من ذلك، وهو الجواز.
- أنَّ فيه دليلًا واضحًا على كون هاتين السورتين من القرآن.
- أن لفظة {قُلْ} من القرآن ثابتة في أول السورتين بعد البسملة، وقد أجمعت الأُمَّة على ذلك، كما قاله النوويُّ. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (16/ 428).